رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 50
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الخمسون
تسللت ابتسامة غبطة فوق وجهه شيئًا فشيء، مع خاطرات نفسه عن التي باتت بين ليلة وضحاها زوجته. من المفترض أن تكون سعادته لتحقيق غايته في الزواج بها، مقتصرةً على كونه سيظفر بمآربه في الحصول على المكانة الاجتماعية المرموقة، والمنصب العالي في إمبراطورية "توفيق" العريقة، التي سترثها وحيدته من بعده، وسيكون كل شيء بصفته زوجها بعد مرور السنوات تحت إمرته، ولكن للغرابة فرحته كانت نابعة من صك ملكيته عليها هي برباط الزواج المقدس.
فقد تلاشت كل أهدافه من صفحة عقله فور إتمام مراسم كتب الكتاب، ولم يركز خلال ذلك على شيء سواها، فقد تركزت كامل حواسه معها، ومع البهجة المرسومة على محياها. من البداية لم يكن في حسبانه تلك المشاعر التي نبضت بداخل قلبه، والتي شتته عن مسعاه الحقيقي، وجعلته ينأى بتفكيره عن شرور نفسه، ومطامعها بشكل مفاجئ، وينشغل بشأن آخر، ألا وهو ظفره بها وبقربها المفعم بكل ما هو طيب، والذي أضاف رونقًا بديعًا لحياته، ساعده على اكتشاف أهواء قلبه، التي يصعب على المحب بعد إيجادها، مغالبتها ونكرانها.
ولكن السؤال المهم الحين، والذي يشغل عقله، هل تخلى بذلك عن رغبته فيما سعى له من البداية؟ أم أن شرارات الحب وبزوغ أحاسيسه في الوجدان هي المسيطرة على تفكيره الآن، وبعد انطفائها وخمود لهيبها سيعود إلى سابق تفكيره اتباعًا لشيطان نفسه؟ تعكر صفوه فور تطرق ذلك السؤال لرأسه، كما أنه جعله يتماوج بين شعورين، الأول هو تصميمه في نيل رغباته المتمثلة في المال، الجاه، وأخيرا الحب، والثاني هو خوفه من اكتشاف "سما" لاستغلاله لها من البداية في سبيل تحقيق تلك الأهداف الدنيئة، وبهذا سيتحطم قلبها.
فرك وجهه بيديه، ونهض عن جلسته المسترخية، في صالة بيته، بالفعل قد توقف عن العمل في شركة "عاصم"، بعد عراكهما في بيت زوجته، لحسن حظه مر الأمر دون أن يصل خبر به لحماه، ولكن هذا ما يقلقه، فقد توقع أن يبلغه باعتدائه على زوجته، وينتقل الاشتباك بينهما على ما حدث، فبالبطبع أول شيء سيأتي بتفكيره أن يكون ذلك باتفاق مع "توفيق، وعلى الرغم من ارتيابه حيال صمته المبهم، إلا أنه خدم مصالحه في سريان زواجه دون عراقيل.
فهو إلى الحين لا يسعه اختلاق كذبة مدروسة، يقنع بها "توفيق" كسبب وجيه لتركه المفاجئ للعمل مع الآخر. ولكن امتناع "عاصم" عن إفشاء ما اقترفه لـ"توفيق" إلى الحين، من المؤكد أنه سيكون ورائه تفكير انتقامي يجب أن يهيئ نفسه للتصدي له. صدح صوت هاتفه المحمول، الموضوع في جيب بنطاله البيتي، أثناء إعداده للقهوة، وبينما يصب السائل الساخن في الكوب، أخرجه من جيبه، وحينما أبصر اسم خطيبته المدون على شاشته، تشكلت بسمة محبة على وجهه، وضع الهاتف فوق أذنه بعد ان استقبل المكالمة، وقال بلطافة:
-ايوه يا حبيبتي.
توقفت يداه عن سكب القهوة، عندما أتاه صوتها المرتعد:
-كرم!
ضم ما بين حاجبيه بقلق وعلى الفور سألها بقلق:
-مالك يا سما؟
بنبرة تزايد بها الهلع أخبرته:
-كرم الحقني، في ناس خاطفني، كرم..
توسعت عيناه برهبة، خاصة عند ابتعاد صوتها، وهتف بارتعاب:
-ألــو، سـمـا!
بدلًا من أن يستمع صوت خطيبته، نفذ عبر سمعه صوت رجولي، مهددًا:
-الباشا بيقولك اللي انت منجحتش فيه من وراه ومعرفتش تعمله، هو هيعمله بعلمك وفي اللي يخصك.
دب الرعب بقلبه فور ترجمته لمضمون عبارته، وما ساعده على التغلب على صدمته، هو تعرفه على صاحب الصوت، الذي كان لكبير حرس "عاصم"، وذراعه الأيمن، حيث إنه يوجد معرفة سابقة بينهما. وقبل أن ينهي المكالمة، هتف مستوقفًا إياه:
-حسين استنى، متقفلش السكة، استنى يا حسين.
سأله "حسين" بنبرة فاترة:
-عايز إيه يا كرم؟
تهدجت أنفاسه وهو يخبره بعجز:
-حسين اللي معاك دي مراتي.
اعتذر منه بصوت جامد ولكنه بدا مغلوبًا على أمره:
-سامحني يا كرم، دي أوامر، وانت عارف الباشا بيعمل إيه مع اللي بيخالف كلمته.
بتلهف مشبع بالخوف أخبره:
-أنا هكلم عاصم، متخليش حد يقرب منها وأنا هتفاهم معاه..
وما لبث أن لاحقه بنفس اللهجة المرتاعة:
-ولو عايز فلوس هدفعلك اللي انت عايزه، بس محدش يقرب منها يا حسين لحد ما اتفاهم مع عاصم.
بعد لحظتي صمت تآكلا به، تكلم "حسين" بموافقة مؤقتة:
-معاك ساعة يا كرم، لو محدش بلغني بغير اللي اتطلب مني، غصب عني هنفذ، ومتزعلش مني وقتها.
هز رأسه بإيماءات متتالية وهو يقول له بعجلة ولهوجة:
-تمام تمام، بس لوقتها محدش يلمسها، لو حد حط إيده عليها مش هيحصل طيب يا حسين.
لم يترك نفسه يغرق في دوامة تخبطه وهواجسه المخيفة، وسارع في الذهاب لغرفته ليبدل ثيابه، فلن يكون أمامه سوى المواجهة، فقد صدق حدسه، وصابت شكوكه، وهذا ما كان يرتب له "عاصم" الأيام الماضية، وهو الانتقام منه في من باتت زوجته، ولكن هل سيثأر لمحاولة اعتداء باءت بالفشل، باغتصابها وانتهاك حرمة جسدها؟ وما ذنبها هي فيمَ أشركها به؟ هل لأنها زوجته وهذا جزاء ما اقترفه؟ أم لأنها ابنة "توفيق" وهذا انتقامًا منه جراء إيذائه الذي طال زوجته؟
❈-❈-❈
استخدامه لنفس الأسلوب الملتوي للانتقام منه، تلك المرة كان مبررًا، إرهابه وبعث المخاوف بداخله حيال تنفيذ تهديده باغتصاب زوجته، كان كافيًا لجعله يمر بنفس الشعور، وتحين الفرصة، التي أتت بغير ترتيب مسبق، ستجعله تحت وطأة نفس الإحساس المميت، كونها أضحت زوجته، والمساس بشرفها سيكون بمثابة ضربة قاتلة له. على كرسي مكتبه الوثير، مسترخيًا في جلسته، منتظرًا اللحظة المنشودة، المتمثلة في مجيء "كرم"، بهيئة ذليلة يطلب عفوه وصفحه حتى يطلق سراح زوجته، وهذه ستكون نقطة ضعفه الذي سيستغلها لمصالحه.
لم تمر سوى بضعة دقائق، وانفرج ثغر "عاصم" ببسمة متسلية، بعدما أخبرته سكرتيرته بمجيء "كرم" ورغبته في الدخول إليه، وأعطى لها أمره بالسماح له بالولوج. لم تخبت بسمته وهو يتابع تقدمه بعينين متشفيتين، إلى أن صار قبالته هاتفًا بعصبية:
-سما ملهاش دعوة بحاجة يا عاصم، ماتدخلهاش في اللي بينا.
رغمًا عنه استلذ برؤيته على تلك الحالة المرتعدة، وبينما ينهض عن جلسته علق بعنجهية تخالطها الكراهية:
-وداليا كان ليها دعوة لما دخلتها في شغلك مع توفيق؟
سارع في النفي معترفًا وهو مرتكز ببصره عليه أثناء سيره نحوه:
-أنا مدخلتش داليا في شغلي مع توفيق، دي كانت وساخة مني أنا.
اعترافه كان بمثابة عذر أقبح من ذنب، أخرج "عاصم" عن طور هدوئه المزعوم، وفي لحظة كانت قبضته مستقرة فوق فكه، وهو يسبه بأشنع الألفاظ النابية:
-يا (...) يا (...).
ترنح جسده من قوة اللكمة، ولكنه حاول الحفاظ على ثباته، وبعدما اتزن في وقفته، قال له:
-خد حقك مني يا عاصم، اعمل اللي انت عايزه فيا إن شالله تطلع روحي في إيدك بس خرج سما من اللي بينا.
لاحت بسمة خبيثة على فمه وهو يعلق ببرود مثير لأعصاب الآخر:
-وانت متخيل إني ممكن اريحك واعمل اللي انت عايزه! امال أنا تاعب نفسي وخاطفها ليه من الأول؟
ازداد الخوف تآكلًا بأعصابه، خاصة مع التصميم الظاهر بعبارته على عدم ترك زوجته، وهذا ما جعله يردف بنبرة منفعلة:
-أنا معملتش حاجة مع داليا، واللي عملته وأنا شارب انت خدت حقه مني في وقتها، وعايز تاخده تاني أنا قدامك أهو، اعمل اللي انت عايزه ومش هدافع عن نفسي، بس خرج مراتي منها يا عاصم.
التوى فمه بسخرية على حمئته الذكورية، وعقب بلهجة أكثر قتامة:
-وأما انت دكر أوي كده ومش متحمل حد يقرب من مراتك، بتبص في اللي في إيد غيرك ليه؟ بتحط إيدك النجسة دي على شرف غيرك ليه يا (...)؟
لكمة أخرى أكثر قوة، أصابت الجانب الآخر من وجهه، جعلته يميل بوجهه، كاتمًا آنة تألمة، كز على أسنانه، وتحامل على نفسه شعور المهانة، وبعدما عاد بعينيه الحمراوتين إليه، اعتذر منه بعجز:
-غلطة ومش هتتكرر يا عاصم.
بنفس الأسلوب المهين ضرب بيده جانب وجهه وهو يعلق:
-لا يا روح امك انت تغلط مع أي حد، إلا مع عاصم الصباحي واللي يخصه، وبالذات مراتي، دي خط احمر يا نجس.
لكزه في صدره مع سبابه الأخير، لم يكن يملك "كرم" في ذلك الوقت أي وسيلة للخروج من ذلك المأذق، غير أن يشحذ طاقته ليكظم غضبه، ويستطيع أن يجعله يعدل عن قراره، فهذه نتيجة خطأه، وهو من يجب أن يتحملها وحده. كبت انفعاله وأردف مبررًا:
-مكنتش اعرف ان انتوا لسه متجوزين.
احتقنت عيناه، وقابل تبريره الضعيف بهدير منفعل:
-وحتى لو متطلقين تخصني، واللي يخصني لا انت ولا غيرك مسموح إنه يقرب منه.
اختنق صدره من إخفاقه في جعله يتقبل اعتذاره، ويطلق سراح زوجته، وبصوت مستاء ردد:
-أوعدك إني مش هقرب من داليا تاني.
حدجه بعينين تقدحان شررًا وهو يعلق باستخفاف:
-ليه وهو انت فاكر إنك تقدر تقرب من داليا تاني يا كرم!
دنا بوجهه منه وأضاف بتهديد صريح:
-صدقني انت لو فكرت بس أو جه في دماغك إن عينك تيجي عليها، مفيش حاجة هتمنعني وقتها من إني اخد روحك بإيدي.
تحولت نظراته للإجرام وهو يضيف بغير تهاون:
-وخليك عارف إن اللي عملته فيك ميجيش حاجة جنب اللي كنت ناوي اعمله، اللي رحمك ونجدك يوميها من تحت إيدي تعب مراتي، لو كان عليا كنت جبت أجلك وقتها وملكش عندي دية.
وقف محله كالضائع، يناظر توجهه للجلوس على الأريكة المقابلة بنظرات تائهة، خالية الوفاض، مرور الوقت يقوده للجنون، وبمجرد جلوسه سأله بهوان:
-عايزني اعمل إيه عشان اصلح غلطتي وتسيب سما؟
وضع ساق فوق الأخرى، مسترخيًا في جلسته بطريقة متغطرسة، ومن علياه رد عليه ببرود:
-غلطتك! هي غلطة واحدة؟ دي غلطات يا راجل، ولو عدتهالك المرادي يبقى أنا اللي (...) واستاهل كل اللي عملته وغدرك ليا من ورا ضهري.
دنا منه وهو يعترف بخطئه قائلًا بندم يمتزج بالرجاء:
-انت ليك حق متعديليش غلطاتي، وأنا بعترف إني خنتك واتحالفت مع توفيق ضدك وكنت ببلغه أخبارك، عايز تولع فيا مش هقولك بتعمل إيه، بس بلاش مراتي.
بنفس الأسلوب المثير للأعصاب رد عليه:
-ماهو مش هحس إني خدت حقي منك صح غير بمراتك، وده اللي هيعرفك غلطتك ومش هيخليك تكررها تاني، مش المفروض برضه تعرف بتغلط مع مين يا كرم، ولا إيه؟
ردد عبارته الأخيرة وهو يريح يده على ظهر الأريكة، قاصدًا إحراق أعصابه، وقد أصاب هدفه حينما وجده ركع أمامه، ممسكًا بيده قاصدًا تقبيلها، وهو يتوسله بذل بالغ:
-أبوس إيدك يا عاصم..
سحب يده قبل أن يصل إليها فمه، بينما تابع الآخر توسله:
-انت راجل وعارف قد إيه بتوجع، بلاش مراتي وهعملك اللي انت عايزه.
عند ذلك الحد رأى أنه قد وصله لهدفه، وعلى فور تفوهه بعبارته الأخيرة، هتف بجمود صارم:
-توفيق.
❈-❈-❈
من البداية اختطافه لها لم يكن لرغبة منه في إيذائها، وإنما لسببين آخرين، الأول لجعله يجرب نفس الشعور المهلك لرجولته كذكر عاجزًا عن حماية امرأته، والثاني لاتخاذها طعمًا لجعله يقع في المصيدة، ومن هنا يستطيع مساومته مقابل عدم المساس بزوجته وإطلاقه سراحها، وكان اشتراطه أن يقدم له لائحة بأخبار الصفقات الخاصة ب"توفيق"، المقتصرة على أعماله الغير شرعية، خاصة القادمة منها، مع ذكر موعد تسليم شحنات، المواد التي يتم إدخالها في الدواء، والممنوعة بأمر من وزارة الصحة، وكذلك المكان المتفق عليه، وهذه التفاصيل الدقيقة بالتحديد لم يكن لدي "كرم" أي علم حوله، لاقتصار عمله على نقل أخبار "عاصم"، ولم يثق فيه "توفيق" ثقة كاملة بعد لنقله إلى مرحلة أخرى.
ظن "عاصم" في بادئ الأمر أنه يتلاعب معه، ويتهرب من إعطائه تلك المعلومات الخطيرة، ولكنه أعاد النظر في حكمه عندما أعطى له بطاقة ذاكرة، أخرجها من هاتفه، يوجد عليها الكثير من المعلومات الأخرى، حول صفقات سابقة، إن تم تقديمها إلى النيابة، سيوضع "توفيق" تحت المحاكمة الفورية، ولكنه لم يرد ذلك الدليل فحسب، لعلمه بأن باستطاعة محاميه تبرئته من أي تهمة ستنسب إليه، حتى إن حكم عليه بالسجن المؤبد، كما حدث بقضية والده، لهذا أراد أن يكون القبض عليه متلبسًا، حتى لا يكون هناك أي سبيل لخروجه مجددًا من السجن، وبذاك يتخلص منه نهائيًا.
عندما صمم على شرطه، طلب منه "كرم" أن يعطيه مهلةً، بضعة أيام فحسب، حتى يستيطع تحري تلك التفاصيل، وسيأتي له بالخبر اليقين، ولثقته المعدومة به، حتى يضمن أنه يقوم بخداعه من وراء ظهره، سجل له بعض الاعترافات، عن أعمال "توفيق" المشبوهة، صوت وصورة، وهدده بتسليهما مع بطاقة الذاكرة إلى الشرطة، إن لم ينفذ شرطه، ولكنه إن فعل العكس ونفذ المطلوب منه، لن يشركه في أي شيء آخر وبذلك ستنتهي عداوته معه، بلا أي اعتراض وافق "كرم" على مساومته، طالما أنه سيكون خارج دائرة الخطر، وسيحول دون المساس بزوجته. عندما حصل "عاصم" على مبتغاه أخبره بمكان تواجدها، بعد أن هاتف كبير حرسه، وأعطى له الأمر بترك "سما" وإعطائها لزوجها حين وصوله إليهم، وعلى فور ذلك غادر لجلبها.
عندما علم "عز الدين" برحيله، أتى إلى أخيه ليعلم منه عن كيفية سريان الخطة، التي رسمها معه من يومين، وما دار بينهما. وبعدما انتهى "عاصم" من قص ما حدث، استعرض "عز الدين" ما سرده عليه في رأسه، وبعد تفكير دام لعدة لحظات، في بعض الأبعاد، سأله بشك:
-طب وانت تضمن منين إنه ميروحش يقول لتوفيق إنك خطفت بنته؟
بغير أن تتأثر تعبيراته رد عليه بثقة:
-هيخاف، أنا عارف كرم.
ثقته لم تزيل قلق "عز الدين" الذي هتف بغير اتفاق:
-افرض مخافش، وخصوصا إنه عارف إن توفيق وضعه أقوى منك.
تمسك "عاصم" برأيه، ورد عليه مستضيحًا وجهة نظره:
-كرم استحالة يدخل توفيق في الحوار اللي حصل، وخصوصا إنه اعترف إن اللي عمله مع داليا مش باتفاق مع توفيق، يعني كده لعب بديله من وراه وهو زي الاهبل سلمه بنته وجوزهاله، شوف بقى توفيق لو عرف وقتها ممكن يعمل معاه إيه.
اقتنع قليلًا بما قال، ولكن لخوفه ممَ قد يرتبه الشيطان المدعو بـ"توفيق" لأخيه إن علم باختطافه لابنته، الشكوك ما تزال تؤرق مضجعه، وبنفس التفكير القلق أردف:
-يعني مش ممكن يعمل أي تحويرة على حماه ويخليه يقف في صفه.
رد عليه بعقلانية:
-توفيق مش غبي عشان حد يحور عليه، وكرم عارف كده كويس أوي، يعني هيحسب ألف مرة قبل ما يعمل حركة غبية زي دي.
هدوئه آثار غيظه، وهتف باستنكار:
-انا مش عارف انت متطمن كده ازاي ومصدق الواد ده في كلامه معاك.
أخبره بنفس النبرة المستخدمة من بداية الحديث:
-عشان كرم جبان يا عز، اللي هيفرق معاه دلوقتي أنه يخرج نفسه برا الحوارات دي من غير ما يتأذى.
قبل أن يعلق أخيه بافتراض يشوبه القلق، أضاف:
-ده غير إنه عارف إني سجلتله كل الكلام اللي قاله عن شغل توفيق، وكمان معايا الماموري اللي موجود عليها معلومات عن كام صفقة أخيرة، واللي لو توفيق عرف بيهم مش هيتردد لحظة إنه يخلص عليه.
ضم فمه بتفكير فيمَ قاله، حتى طرأ برأسه أمر آخر تساءل عنه:
-طب مراته لو اتكلمت مع ابوها وقالتله على خطفك ليها، هتتصرف ازاي؟
لم يشغل عقله بالتفكير في حل لتلك الاحتمالية جائزة الحدوث، حيث إن الآخر أخبره بأنه سيتولى أمرها، لهذا رد عليه بتريث:
-دي بتاعة كرم بقى، وهو اللي هيتصرف مش انا.
سأله بلمحة من الاستنكار:
-وانت متخيل إنه هيقدر يمنعها إنها تحكي اللي حصل لابوها؟
منع الشكوك من اللعب برأسه، خاصة وأنه لا يثق بقدرة "كرم" على حل تلك المعضلة، وأخبره وهو يعود بجسده للخلف، مستريحًا في جلسته:
-خلينا مستنين، وكل حاجة هتبان لواحدها.
❈-❈-❈
ببيت مهجور، في منطقة مقفرة، احتجزوا "سما"، دون أن يقرب منها أحد، حتى جاءتهم الأوامر من رب عملهم بتركها لزوجها. عند وصوله استبقوه بالخارج، وأرسل "حسين" واحدًا من الرجال المتواجدين لإحضارها، بضع لحظات واختلج قلبه في صدره فور خروجها له، فقد كانت متهدلة الكتفين، ومنكسة الرأس، ويظهر عليها معالم الرهبة، هتف باسمها وهو يركض نحوها، وكأن الحياة دبت في جسدها، رفعت وجهها لتجده مقبلًا عليها، وقبل أن تفق من صدمة وجوده، وجدت نفسها بداخل أحضانه، أطبق بقوة على جسدها، وهو يتنفس الصعداء لرؤيتها سالمة، ولا يوجد عليها أي آثار لاعتداء، ولكن قلبه ما يزال ملتاعًا، ينهش به المخاوف، بغير أن يبعدها عنه، سألها:
-انتي كويسة؟
جسدها كان ينتفض بارتعاشات متكررة، وصوتها كان مختنقًا بنهنهات البكاء المتخوفة، وبعد عدة محاولات فاشلة لإخراج الكلمات على نحو صحيح دون تقطع، ردت عليه بصوت مهزوز:
-ايوه.. ايوه كويسة.
ضمها إليه بذراعيه، التي كانتا تمسحان فوق ظهرها، محاولًا بعث الطمأنينة إليها، وبعدما هدأ ارتجافها، فصل العناق قليلًا، حتى يتسنى له رؤية وجهها، وسألها بترقب:
-حد فيهم لمسك؟
أومأت بالنفي، ورغمًا عنها انهمرت دموعها ثانية، فالخوف الذي عايشته أثناء اختطافهم لها، وجلبها لذلك المكان المخيف يصعب عليها تخطيه. أعادها ثانية لأحضانه، واحتواها بين ذراعيها، الممسدتين فوق شعرها وظهرها، مهدئًا ومطمئنًا، وقال لها بصوت دافء بالقرب من أذنها:
-اهدي يا حبيبتي، اهدي، أنا معاكي خلاص.
لم يكف جسدها عن الارتعاش، مما أشعره بالتأذي وحز في قلبه انهيارها، والخوف البادي عليها، وبنفس النبرة اللينة أطنب:
-محصلش حاجة، ششش، خلاص، خلاص أنا معاكي، اهدي.
بعد مرور بضعة لحظات، هدأ جسدها، وبدأت تستعيد سكينتها، حسنها أبعدها عن حضنه وسألها باستشفاف:
-أحسن؟
أومأت برأسه بهزات متتالية بالإيحاب، ثم لاحقته متسائلة بصوت مبحوح:
-مين دول يا كرم؟ وكانوا عايزين مني إيه؟
ظهر الضيق على وجهه، فقد انتقل للمرحلة الأصعب بدون أن يرتب ما يُقال بعد، وختى يتهرب من الرد في تلك اللحظة، قال لها وهو يسحبها من يدها برفق نحو موضع سيارته:
-هقولك في الطريق، يلا بينا من هنا.
بعد قطعه لمسافة كبيرة، مبتعدًا عن ذلك المكان القابض، عادت إلى طورها الطبيعي، وتلاشى خوفها، ولكن التساؤلات لم تتوقف عن الدوي برأسها، وكلما سألته عن أي سؤال عن هوية تلك الجماعة، وعن سبب خطفهم لها، يتحجج بقيادته، حتى فقدت قدرتها على التحكم بأعصابها، ووصلت إلى ذروة انفعالها وهي تكرر نفس الأسئلة:
-لو سمحت يا كرم رد على سؤالي، عرفني مين الناس دول وكانوا عايزين مني إيه؟
رأى أن إرجائه للرد على تساؤلاتها يثير أعصابه، خاصة وأن ما تعرضت له ما يزال تأثيره واضحًا على انفعالاتها، لذلك قرر إعطائها الإجابات المنتظرة، ضغط على مكابح السيارة مهدئًا من سرعتها، ثم توقف على جانب الطريق. حول نظره لها بعدما زفر نفسًا مطولًا، ثم قال لها:
-حاضر هعرفك، بس عايزك تسمعيني للآخر وتصدقي كل الكلام اللي هقولهولك.
استشعرت من عبارته وجود خطب خطير، وقبل أن تغرق في شكوكها تابع بما ضاعف من ريبتها:
-أنا هكيلك كل حاجة، احنا داخلين على جواز، وأنا مش عايز ابدأ حياتي معاكي على كدب.
في البداية أخبرها بسبب اختطاف تلك الأشخاص لها، الذي يجمع بين رب عملهم ووالدها عداوة قديمة، ذاكرًا الأمر الذي كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير بالنسبة لـ"عاصم"، وهو اعتدائه على زوجته، الذي كان يكن لها نوع من الإعجاب، ويرغب بها بصورة غير أخلاقية، ولكن السبب الأكبر والأول هو رغبته في التخلص من والدها، ومن هنا بدأ في سرد أسباب العداء بينهما بما يتضمن حقيقة عمله الغير مشروع، الذي يزاوله منذ أكثر من عشرين عامًا، وهي صناعته لأدوية مغشوشة، متلاعبًا في المواد الفعالة بها، بما يشمل استيراده لخامات داوئية لا تتوافق مع المواصفات الدولية لتصنيع الدواء، انتهاءً بإخبارها بتسليمه لـ"عاصم" بطاقة الذاكرة التي تحتوي على تقارير أصلية تثبت عدم صحة الأدوية المصنعة في شركاته، غير التقاير المزيفة التي تُقدم إلى وزارة الصحة لأخذ التصاريح دون وجود عوائق. وخلال سرده كان يتفحص بعينيه تأثير ما يقوله على أمارات وجهها، وما إن انتهى حتى هتفت بصدمة:
-بابا!
لم يؤثر بها الجزء المتضمن لخسانته لها، بقدر الجظء الذي يشمل حقيقة عمل والدها المتواري عن الأنظار. زاغت بعينيها عنه ورددت بنفس النبرة المصدومة:
-ده شغل بابا!
اعتلى وجهه الشفقة عليها، خاصة وأنها كانت تظن أن والدها جنى كل تلك الثروة بنزاهة وكفاح، حتى خشى من أن تقودها صدمتها لتكذيبه، لذلك قال لها:
-عارف إن اللي حكيته أكيد صدمك، وصعب تصدقيه، بس صدقيني كل اللي قلته حقيقة مفيش فيه كلمة كدب.
لم يسع عقلها التصديق، وهدرت بصوت ارتفع بجنون:
-لأ مستحيل، مستحيل بابا يعمل كده.
حاول السيطرة على ما اعتبره فقدان أعصابها، وهتف:
-سما..
لم تعطِه مجالًا لمحادثتها، وباضطراب اتضح من كافة إيماءاتها قاطعته:
-أنا لازم اسأله، لازم افهم منه ازاي يعمل كده، ازاي يشتغل الشغل ده ازاي.
عند قولها بذلك، دب الرعب داخله من عواقب فضح أمره لوالدها، وهدر بقوة حتى يجذب انتباهها:
-سما اهدي واسمعيني.
ما إن وجهت نظرها له حتى أخبرها بلهجة جادة:
-توفيق بيه لو عرف إني حكيتلك حاجة مش هيتراجع عن إنه يقتلني.
فغرت عيناها بصدمة تمتزج بالخوف، في حين أضاف هو بتنبيه:
-مش هينفع تسأليه ولا هينفع تحكيله حاجة من اللي قلتهالك، توفيق بيه مش هيرحمني، ووقتها مش هتخسري ابوكي بس، هتخسريني انا كمان.
تشتت عقلها، ولم تجد غير البكاء لتعبر به عن تأثير وقع ما علمته على نفسها. تحدرت دموعها أمام عينيه، وكان على يقين بأنه لا يوجد ما يمكن قوله للتخفيف عنها، ولكن عندما مد يده للربت على ذراعها، ابتعدت بجسدها عنه، مما جعله ينظر لها بتفاجؤ من فعلتها، وظن أن السبب في ذلك راجعًا إلى إعطائه لـ"عاصم" ما يدين والدها، والذي سينجم عنه دخوله السجن. أنزل يده وخاطبها بعجز بعد تنهيدة متعبة:
-انتي ممكن تبقي شايفة دلوقتي إن انا السبب في إنه يدخل السجن، بس صدقيني أنا مكانش في إيدي حاجة عشان اخلصك واخلص نفسي غير إني اعمل كده.
انهيارها كان لسبب أكبر من مجرد دخول والده للسجن، وهو انغماشه في ذلك العمل المشين، وبصوت ما يزال على تيهه غمغمت:
-ليه يعمل كده؟ هو مش محتاج اللي هيجيله من ورا الشغل ده.
ازدادت أنفاسه من شدة اختناقها، وعلى صوتها حد الصراخ وهو تضيف:
-لـيـه يعمل كده؟ لــيــه؟
ضم شفتاه في أسف، وعجز عن التهوين عنها، عاد برأسه للخلف وهو يزفر بضيق، وبعد مضي عدة لحظات لم يستطيع أن يؤثر الصمت، فهو كذلك مشتتًا ولا يدري ما الذي عليه فعله في تلك الورطة الذي أقحم نفسه بها، وعاود التكلم بتخبط:
-في صفقة هتم قريب، معرفش تفاصيلها ولا المعاد بالظبط، مطلوب مني إني اعرف عاصم عنها، أنا مش عايز أكون السبب في وجعك وقهرتك لما تشوفي ابوكي وهو مقبوض عليه.
بغير أن ينظر لها زفر باختناق ثم أكمل:
-بس أنا حتى لو مقدرتش اعرف معاد تسليم الشحنة الجاية والمكان ومبلغتش عاصم بيهم، هو كده كده هيسلم اللي معاه للشرطة، وهيقبضوا على "توفيق" بيه في كل الأحوال، الفرق الوحيد وقتها إنه هيعرف إن انا اللي ورا كل ده وهيخلص عليا.
اغمضت عينيها ودموعها ما تزال تنساب، ولا تدري على من عليها أن تحزن، على والدها الذي تاجر بأرواح الناس، أم خطيبها الذي سيتعرض للاغتيال إن علم والدها بخيانته له، أم على نفسها التي تعرضت للاستغلال والخيانة والتدمير، وخرجت محطمة من بين ذلك الخضم من الصدمات. بينما هو لم يستطع التفكير في حل ينتشله من ذلك المأذق الذي وُضع فيه، حول نظره إليها وحدثها بتشتت:
-أنا مش لاقي حل تاني، ولو في حل تاني قدامك يخليني متكلمش وهيحمي حياتي عرفيني بيه وانا هعمله.
كأنها فقدت القدرة على الكلام، كل ما كانت تفعله هو البكاء المرير، وعندما لم يحصل منها على الرد، ضرب بيده عجلة القيادة وهو يهدر بندم:
-أنا مش عارف إيه اللي دخلني في كل ده، أنا الغلطان من الأول إني دخلت نفسي في الدايرة دي، إيه اللي خدته دلوقتي؟ إيه اللي خدته غير إني عرضتك وعرضت نفسي لكل ده، أنا ندمان بجد، ندمان.
فسرت جملته الأخيرة على إنه نادم على الارتباط بها، ونظرت له بعينين يشيع فيهما العتاب، تدارك هو حينها ما فهمته من قوله، وخاطبها على الفور بصدق:
-متبصليش كده يا سما، علاقتنا الحاجة الوحيدة اللي مش ندمان عليها، ويمكن جوازنا هو المكسب الوحيد اللي خرجت بيه.
صدر منها ضحكة خافتة مشوبة بالاستهزاء، فهو قد استغل تلك العلاقة لأهدافه الخاصة، والإن يريد إيهامه بأن زواجهما هو المكسب الذي ظفر به! وأين كان تلك المشاعر وهو يقبل على خيانتها! وكيف تصدق مشاعره ناحيتها وأخرى كانت تشغل تفكير ويرغب بها! أبعدت نظرها للناحية الأخرى وهي تذرف مزيدًا من الدموع الحارقة، آلمت قلبه، وأشعرته بمزيدًا من الندم، وبنفس النبرة الصادقة قال لها:
-عارف إن ليكي حق متسامحينيش، وليكي حق كمان تشوفيني واحد خاين وزبالة وأناني وبتاع مصلحته، بس صدقيني بعد اللي حصل ده عرفت مكانتك في قلبي ومبقتش عايز غيرك.
مد يده ممسكًا بكفها، وتابع:
-أنا بحبك بجد وعايز اكمل معاكي، ومش عشان أي هدف في دماغي ولا إيه اللي هوصله من وراكي.
حولت عينيها الغائمتين بالدموع له، وكأن قلبها قد مات به الشعور، أو ربما اعترافه قد أتى متأخرًا، لدرجة أنها لم تشعر بلذته. سحبت يدها من بين قبضته، وتركت السيارة تحت نظراته النادمة، متابعًا سيرها إلى إن توقفت سيارة أجرى، استقلتها وغادرت حتى اختفت من أمام مرمى بصره، ولم يبقَ له في تلك الأثناء غير شعور الفقد والخسارة، ففي حقيقة الأمر الرغبة في الحصول على كل شيء، تقود في الأخير إلى اللاشيء.
❈-❈-❈
أكثر ما يمكن أن يخيف الآباء عندما تصبح حياتهم على المحك، هو احتمالية تركهم لأطفالهم بمفردهم، يجابهون المستقبل المجهول بدونهم. تمكن من "داليا" شعورها بالخوف على أطفالها، فكيف ستصير حياتهم إن وافتها المنية أثناء ولادتها؟ هل سيشكل عدم وجودها فارقًا عندهم؟ هل سيكون في مقدور "عاصم" بمفرده الاعتناء بهم في غيابها؟ أم سيضني عليهم بأقل حق لهم؟ ألا وهي مشاعر أبوته. تخشى أن ينشأوا في حياة جافة، قاسية، حتى يصبحوا فاقدين للمعنى الحقيقي لروح العائلة؟
جلست على كرسي مجاور لسرير الرضيعين، تناظرهم بعينين تفيضان دمعًا، مجرد التفكير في احتمالية تركها لهما، تجعل قلبها يحترق في صدرها، حتى لم يعد في مقدورها احتمال ذلك الشعور القاسي، وارتفع صوت نحيبها الذي يتخلله الشهقات الممزقة لحلقها، وفي تلك اللحظة ولج "عاصم" الغرفة. مجيئه لم يكن مفاجئًا، فقد أخبرها عبر الهاتف بتعريجه عليها في نهاية اليوم، لرؤية الطفلين قبل عودته للبيت. جحظت عيناه بتفاجؤ عندما وقع على سمعه صوت بكائها، واندفع نحوها بقلب دب به القلق، وحينما بات مقابلًا لها، هتف باسمها:
-داليا!
رفعت وجهها الباكي له، وعيناها ما تزال تذرف الدموع، ما ضاعف من خوفها، وسألها على الفور:
-في إيه؟ بتعيطي ليه؟ إيه اللي حصل؟
من موضعها وبعد محاولات عدة لتثبيط بكائها، لإخراج الكلمات من فمها، طلبت منه راجيةً:
-عاصم لو بتحبني بجد خلي بالك من ولادنا لو جرالي حاجة.
كل المخاوف التي كان يحاول محقها من داخله الفترة الماضية، انبثق بقوة فوق وجهه، وعاتبها بصوت منهك:
-ليه الكلام ده دلوقتي يا داليا؟ حرام عليكي.
حرك رأسه للجانب وهو يزفر بتعب، وقد شاع في وجهه كل معالم الخوف، ثم انحنى جالسًا على ركبتيه أمامها، وأمسك بيديها وهو يتوسلها:
-متزوديش قلقي أبوس إيدك أنا بحاول اطمن نفسي بالعافية.
حركت رأسها بالسلب قبل أن تقول له بصوتها المنتحب:
-أنا مش هعرف اضحك على نفسي، أنا حالتي صعبة فعلا ومكانش ينفع اكمل في الحمل..
سحبت إحدى يديها من بين كفيه، ووضعتها فوق بطنها المتكورة، تستشعر نبض جنينها، وتابعت برجفة أصابت صوتها:
-بس انا مقدرتش افرط فيه، ده حتة مني ومنك، ابننا، ازاي كنت اختار حياتي على حساب حياته واموته بعد ما حسيت بقلبه بينبض جوايا؟
بلل شفتيه وهو يحاول التماسك أمام كل تلك الدوافع التي تقوده للانهيار، وطلب منها برفق:
-طب اهدي ممكن.
بعدما هدأ بكائها، سألها بعينين متفقدتين:
-هو سامح قالك حاجة هي اللي خوفتك كده؟
أجابته بوجه كئيب تتفشى به التعاسة:
-سامح بيحاول يطمني على قد مايقدر عشان حالتي متسوءش وهو أصلا قلقان ومش متطمن.
مسح بيده فوق ذراعها بحنوٍ، ثم قال لها بكلمات يحاول عن طريقها بعث الثقة بكليهما:
-خلي عندك إيمان بربنا يا داليا، أنا متأكد أن هو مش هيضرني فيكي.
ما قاله لم يثبط خوفها على مجرى حياة أطفالها، وطلبت منه بعينين متوسلتين:
-أوعدني يا عاصم إنك هتاخد بالك منهم، ومن البيبي اللي هيجي هو ملهوش ذنب في حاجة.
وثب عن الأرض بصورة منفعلة، وهتف باختناق:
-يا داليا أرجوكي أنا مش متحمل.
نهضت هي الأخرى، ووقفت قبالته، وكررت الطلب بإلحاح:
-أوعدني يا عاصم.
من الصعب عليه تحمل تحدثها عن وفاتها، ولم يستطع أن يجاريها في ذلك الكلام الموجع، وغير مجري الحديث طالبًا منها:
-طيب ممكن ترتاحي دلوقتي وا..
قاطعته قائلة بتصميم:
-أنا مش هرتاح إلا لما توعدني.
أبعد عينيه عن عينيها التي تناشده بقطع وعد سيقطع قلبه لأشلاء، ولكنه لم ترحمه وتابعت في توسلها:
-بلاش تخليهم يتما الأب، كفاية هيخسروا امهم، عوضهم انت عن غيابي وخليك حنين معاهم، متقساش عليهم وحبهم، لو بتحبني بجد اعمل كده.
التمعت عيناه –التي يتهرب بهما من النظر إليها- بالدموع، ولكن وجهه عبر عن بكائه المكتوم، ولسانه ما يزال رافضًا التفوه بما تريد، حينئذ أمسكت بثيابه تهزه وهي تهدر بانفعال:
-اوعدني يا عاصم انك هتعمل كده.
من ضغطها عليه فقد القدرة على التحامل على نفسه، وسقطت دموعه وهو يهتف بنفس درجة صوتها المنفعلة:
-اوعدك يا داليا اوعدك.
تبادلا النظرات بعيونهما الدامعة للحظة قبل أن يرتميا في أحضان بعضهما البعض، يبكيان لأول مرة على نفس السبب، ويتشاركان نفس الوجع، وبعدما استكانا كل منهما إلى حد جعل في مقدوره التكلم، وأعاد وعده عليها:
-اوعدك اني هعمل كده وانتي معايا..
أزاد في قوة ضمته، كأنه يود لصقها به، حتى لا تفترق عنه بأي صورة كانت، وأضاف بنفس النبرة المختنقة:
-احنا هنربيهم سوا، محدش فينا هيبعد عنهم، انتي مش هتسيبيهم ولا هتسيبيني.