رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 55 الثلاثاء 31/10/2023
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الخامس والخمسون
تم النشر يوم الثلاثاء
31/10/2023
بداخل السيارة، بعدما قطع "صلاح" مسافة كبيرة، مبتعدًا عن ذلك المكان الباعث على كل ما هو مخيف في نفسها، بدأ إحساس الأمان يتخلل داخلها من جديد، وعادت خفقات قلبها إلى وتيرتها الطبيعية، وقتئذٍ بدأ تجوس التساؤلات بعقلها، بشأن معرفته لأمر اختطافها، ولم تجد بدا من كتم فضولها، وسريعًا ما حولت نظرها له، وسألته بصوت بدا عاديًا ولكنه مليئًا بالتحير:
-انت عرفت منين انهم خطفوني؟
حول نظره لها بانتباه لتساؤلها، ثم أجابها بإيضاح:
-بعد ماسيبتك، روحتلهم..
عاد بنظره إلى الطريق أمامه، وقد لمح بطرف عينيه ما لاح من استغراب على وجهها من قوله، وتابع بتوضيح متزايد:
-قلت اجس النبض، واعرف اللي ناويين عليه بالظبط، واحاول اعمل اي حاجة امنعهم بيها أو اعطلهم حتى.
استرعى اهتمامها وثبتت نظرها عليه وهي تسأله:
-وعملت حاجة؟
انتقل بنظره بينها وبين الطريق، وقد ارتسمت بسمة مرحة على وجهه، قبل أن يقول بتشفٍ:
-لا مانا ملحقتش الحقيقة، خبر القبض على توفيق جالنا ووقتها كله ركب عربيته وخلع.
تشكلت بسمة صغيره على شفتيها، ولا تنكر تشفيها هي الأخرى بنجاح مخطط "عاصم"، بالقبض على ذلك الوغد، بينما أطنب "صلاح" مستحوذًا على انتباهها ثانيةً:
-بس اللي عرفته وانا هناك ان توفيق كان شاكك فيكي وكان مراقبك، ورجالته شافوكي لما روحتي لعاصم البيت.
سددها بنظرة غريبة مع قوله الأخير، جعلتها تتوتر قليلًا، وكأنما قد مسكها بالجُرم المشهود، ولكن تلك الربكة تطايرت حينما أكمل بجدية:
-واما خدت واديت معاهم في الكلام، عرفت إن توفيق قايلهم يجيبوكي على المخزن القديم، وهو لما يخلص استلام الشحنة هيجي على هناك ويتعامل معاكي بنفسه.
تنهدت بارتياح، وكأنه ثقلًا وقد انزاح عنها، مرددة بوجوم:
-الحمد لله إنه اتمسك، خلصنا منه ومن شره.
سكت كل منهما من بعد ذلك، وكل واحد فيهما يخامره أفكار ومشاعر متضاربة، فهو لا يفهم موقفه المنزعج من ذهابها لبيت "عاصم" ليلًا، وحميته التي اتقدت داخله حينما تخيل مساس هؤلاء الأوغاد بها، إنما هي غلب عليها في ذلك الوقت شعور الامتنان، للماكث جوارها، والذي لم يأبه بما قد يتعرض له على إيديهم في سبيل إنقاذها، التفتت له وعيناها تناظره بنظرة عرفان بالجميل، ثم شكرته بنبرة صوتها المميزة:
-شكرا يا صلاح.
انفرجت شفتيها ببسمة رجولية جذابة، مع نظرة ملتمعة، نفذت إلى داخل عينيها، ركزت هي كامل حواسها معها، بينما هو تعمق بها رغم الثواني القليلة التي ظل خلالها التواصل البصري قائمًا بينهما، ممَ جعلها تحيد بحدقتيها من غرابة الشعور، لاذت بصمتها وهي تحاول ألا تشغل عقلها بتفسير معنى تلك النظرات. ومرة أخرى كسر هو حاجز الصمت، متسائلًا:
-اوصلك فين دلوقتي؟
لتوها انتبهت إلى أنها لم تحدد وجهة معينة، وعندما فكرت في ذلك، تذكرت وجهتها السابقة قبل اختطافها، غامت عيناها بالحزن، وأخبرته بصوت يحمل الأسى:
-المستشفى اللي فيها عاصم.
❈-❈-❈
على مقربة من غرفة العناية المركزة، التي يرقد بها أخيه، وقف بوجهه المتعب وعيناه التي أحاطها السواد، وكأنه لم ينم منذ زمن، وليس يومًا واحدًا، ولكن ما مر به الساعات الماضية، يضاهي مصائب دهرًا كاملًا. انتبه أثناء تيهه وشروده إلى وجود أحدهم جواره، رفع رأسه المطأطأ نحو صاحب الوجه المألوف، الذي تذكره على الفور حينما بدأ في التكلم إليه، قائلًا بمؤازرة:
-شد حيلك يا دكتور عز، إن شاء الله ربنا هيقومه بالسلامة.
هز رأسه له بإيماءة بسيطة، مرددًا بإنهاك:
-إن شاء الله، شكرا لمجيتك يا مجد بيه.
أراد أن يزيل ذلك التكليف، وأخبره بصوت ودود:
-عاصم كان في يوم من الايام صاحبي، يعني احنا بينا عشرة واللي حصله مأثر فيا حتى لو في بينا مشاكل.
تحرج "عز الدين" من ذوقه، فقد سبق وأبلغه أخوه بالعداء الذي افتعله هو بينهم، بسيره خلف شيطان نفسه، وتنفيذًا لأهواء والده، وكيف مسهم أذاه وضره لأكثر من مرة. حز ذلك في قلبه، وخشى من عقاب المولى له على ما سبق من أعماله، فأذى الغير مشترط بمسامحته، طالعه بنظرة ما تزال على حرجها، وسأله:
-مسامحه؟
انتاب "مجد" التفاجؤ من سؤاله، وضم ما بين حاجبيه في صورة فسرها الآخر بأنها استنكار، لذا سارع في استجداء عطفه:
-انا عارف انه أذاك، ومحدش يقدر يلومك لو مسامحتوش، بس هو كان ندم على عمله معاكم، ودلوقتي هو بين ايدين ربنا، و..
منع تفوهه بالمزيد، قائلًا بتسامح بوجهه البشوش:
-أنا مسامحه في أي حاجة عملها فيا، وربنا يسامحنا كلنا.
بالكاد تشكلت بسمة ممتنة على وجهه، ربت حينها "مجد" على كتفه، وتركه ليتوجه إلى "داليا" ليقدم لها مواساته. عاد "عز الدين" للبقاء بمفرده، مع ما تضمره روحه من حزن ترسخ بها حد النجاع، مرة أخرى استرعى انتباهه تقدم أحد منه، ولكن تلك المرة كانت صوت الخطوات التي تقترب منه لحذاء أنثوي، وما إن رفع بصره لتفقد تلك القادمة منه، حتى هتفت هي بصوت شبه لاهث:
-دكتور عز.
رد عليها بهدوء ونظراته تتفحص باستغراب ذلك الخوف المنبجس من وجهها:
-ايوه!
استنتجت من نظراته، عدم تعرفه عليها، لذا عرفت بنفسها ببعض التوتر:
-انا مي.. مي شاهين.
تحولت تعبيراته فور نطقها باسمها إلى التفور، وبغير ترحيب لوجودها تشدق:
-اهلا.
حاولت التغاضي عن نظراته المزعوجة من قدومها، وأخبرته بخوف حقيقي:
-عاصم.. انا جاية اتطمن على عاصم.
اعترى الحنق وجهه، واسترقى بعينيه نظرة على بداية الردهة حيث توجد غرفة العناية المركزة، متفقدًا وقوف "داليا" أمامها، وعندما اطمأن من عدم وجودها، عاد ببصره إليها، وهتف بانزعاج:
-مراته موجودة، وعاصم لسه خارج من العمليات، الوضع صعب ومش ناقص مشاكل.
سريعًا ما نفت تفكيره عن نفسها، وقالت له بصدق:
-انا مش جاية اعمل مشاكل، انا جاية اتطمن عليه بس، وهمشي بعدها على طول.
بنفس النبرة الهجومية، أخبرها:
-انتي فعلا عملتي مشاكل مش لسه هتعملي، عاصم وداليا قبل الحادثة كانوا متخانقين خناقة كبيرة بسببك.
رفعت حاجبيه مشدوهة من اتهامه، وهتفت يتفاجؤ:
-بسببي انا؟
أكد على كلامه، مدمدمًا بصوت عمل على ألا يرتفع حتى لا يجذب العيون لهما:
-ايوه بسببك انتي، داليا شافتك وانتي خارجة من عنده، وشافتك وانتي بتحضنيه، وفسرت اللي شافته بشكل تاني خالص، واتخانقت مع عاصم لما رحلها.
تحركت بؤبؤا عينيها بتلبك، وابدت حسن نواياها، مرددة:
-انا مكانش قصدي اتسبب في مشكلة بينهم، انا روحتله والله عشان احذره من اللي توفيق كان ناوي عليه، توفيق كان مخطط يقتله بقاله فترة، والتنفيذ كان امبارح، ولو مكنتش عرفته باللي بيدبروه ليه من ورا ضهره كانوا نجحوا في إنهم يقتلوه.
توسعت عيناه بصدمة، وسألها:
-كانوا هيقتلوا عاصم؟
أومأت برأسها وعيناه تفيضان حزنًا وهي تقول بإسهاب:
-ايوه، كانوا عاملينله كمين على الطريق قبل الشركة بتاعته، وانا بعد ماسيبته عرفت التفاصيل دي ورنيت عليه ومردش، وقتها انا رنيت عليك وانت قلتلي انه رايح الشركة، ففهمت إنهم اللي مدبرين الموضوع ده وكلموه عشان يروحلهم على هناك ويعرفوا يخلصوا عليه.
ناظرها بنظرة متوجسة، وسألها باشتفاف:
-وعاصم يعرف بالكلام ده؟
هزت رأسه مؤكدة، وهي تجيب عليه:
-ايوه انا رنيت عليه بعد ما قفلت معاك، ورد عليا وعرفته.
استنتج ممَ قالته سبب استدارته المبهم بسيارته بغتة، والمتسبب في اصطدام السيارة الأخرى به، أوغر قلبه ذلك، فهو كان يحاول أن ينفذ بجلده من فخهم المنصوب، ولكنه لم يستطع أن ينجُ ببدنه من حادث كان غير متوقعٍ، وقال بشجن:
-عشان كده كان لف بالعربية فجأة.
حلت صدمة لحظية فوق وجهها، ثم سألته بمَ استنبطته من عبارته:
-الحادثة حصلت وقتها؟
أومأ لها بالإيجاب، ليزيد ذلك من شعورها بالذنب نحوه، وقالت ببؤس:
-الظاهر كده كل المصايب اللي حصلتله من ساعة ما ظهرت في حياته تاني كانت بسببي.
فرت دمعة من عينيها مسحتها على الفور، وتابعت بأسى:
-بس انا خلاص همشي ومش هظهر في حياته تاني.
ضمت شفتيها بحزن قبل أن تضيف بصوت مختنق من تحاملها على نفسها غصة البكاء:
-كل اللي بتمنى أنه يحصل قبل ما اسافر بس ان عاصم يقوم بالسلامة، ويرجع لمراته وولاده.
رؤيته للحزن والقهر الممتلئ به وجهها، أجبرته على التخفيف من حدته، وهجومه معها، وخاطبها بلين ولكن بتعبيرات جادة:
-لو ده اللي بتتمنيه فعلا، يبقى تصلحي اللي بوظتيه.
حدقت به بغير فهم لعدة لحظات، وقبل أن يوضح لها مقصده، ظهرت "داليا" أمامها، من على بُعد عدة أمتار، في بداية الرواق، لم تنتبه هي لوجودها، لكونها كانت مرتكزة ببصرها على "عاصم"، الظاهر من خلف الحاجز الزجاجي، ووقتئذٍ فهمت ما يودها "عز الدين" أن تفعله.
❈-❈-❈
في بادئ الأمر ترددت في الذهاب إليها، لتبرئة "عاصم" من ذنب الخيانة، ليس لإنها تخشى تحمل كامل الذنب فيمَ آل إليه زواجهما، ولكنها كانت خائفة من محادثتها في ذلك الوقت الحرج، فلربما تثور، أو تنهار، وهي لا تود أن يلقى عليها الذنب في ذلك أيضًا، ولكنها في الأخير حسمت أمرها، فهي من تسببت في حدوث فجوة بينهما، وهي من ينبغي أن تزيلها كذلك.
تقدمت منها وهي ما تزال في نفس موضعها، تطالع زوجها بوجه منطفيء، اختفت منه كل معالم الحياة، عندما أصبحت بجانبها حولت نظرها له، هيئته الواهنة جعلتها تشعر بألم وخز قلبها، ولكنها أجبرت نفسها على الارتكاز ببصرها على الأخرى، ختى تنتهي ما أتت إليه لأجله.
فركت يديها ببعضهما ببعض التوتر، وحتى تسترعي انتباهها حمحمت بخفة، وبالطبع حولت لها "داليا" عينيها. ظنت وقتئذٍ أنها ستغضب لرؤيتها، وربما ستهجم عليها لخنقها، ولكنها صدمتها حينما ناظرتها بنظرة غير متأثرة برؤيتها، ثم عادت للنظر إلى زوجها مرة أخرى، ولكنها رددت بعد ذلك بصوت فاتر خالٍ من الحياة:
-جاية ليه؟ مش كفاية إنك شاركتيني فيه، عايزه كمان تشاركيني في حزني عليه.
اختلج وجهها تعبيرات الحزن، وعلقت على ما قالته بهدوء:
-الحاجة الوحيدة اللي ممكن فعلا اشاركك فيها هي حزني على عاصم، لكن غير كده مفيش حاجة، انا عمري ما شاركتك فيه.
التفت لها وأمارات التهكم اعتلت وجهها الشاحب، وعقبت بغير تصديق يحمل السخرية:
-إيه ندمانه ان حياتنا اتدمرت بسببك، فقلتي تيجي تقولي كلمتين بالكدب ترضي بيهم ضميرك.
سارعت بالنفي بإيماءة من رأسها، تبعها قولها:
-انا مش بكدب، دي الحقيقة، انا وعاصم مفيش أي حاجة بينا.
اشتد وجهها بعض الشيء وهي تكذب ادعائها:
-كان ممكن اصدق، لو مكنتش شوفت بعيني.
سارعت في سؤالها ببعض الاستنكار:
-شوفتي ايه؟
قبل أن ترد عليها "داليا" صارحتها هي:
-شوفتيني أول مرة وانا بحضنه! لكن مشوفتيش وهو بيبعدني عنه ولا سمعتي اللي قاله، وتاني مرة شوفتيني وانا اللي بحضنه برضه، بس المرة دي مبعدنيش لإني كنت بودعه عشان مسافرة، يعني في المرتين أنا اللي حضنته وانا اللي قربت، هو إيه اللي عمله؟
اعتلى عدم التصديق عينيها، وسألتها بتكذيب واضح:
-وتقدري تقولي كنتي عنده وقتها ليه؟ ولا هتقولي برضه عشان كنتي بتودعيه؟
توقعت ذلك التساؤل من البداية، وأجابتها:
-توفيق كان مخطط انه يقتل عاصم، وانا روحتله عشان احذره.
لاحت الصدمة بعينيها التي فغرتهما فور وقوع ذلك الخبر المفجع، بينما تابعت الأخرى في مصارحتها:
-وعلى فكرة عاصم لا شافني ولا كلمني من آخر مرة اتخانق معايا فيها بسبب اللي عملته وقلته قدامك، غير امبارح.
ابتأست تعبيراتها وهي تسترسل بصدق:
-وقبل كده انا اللي كنت بحاول ارجعله، وهو مقبلش.
سحبت نفسًا مطولًا، وزفرته سريعًا قبل أن تكمل بأسى:
-اكرهيني انا زي ما تحبي، لكن عاصم معملش حاجة تخليكي تزعلي منه أو تقسي عليه، لإنه اختارك انتي، وبيحبك انتي.
زاغت بنظرها عنها، حتى أنها لم تنتبه إلى رحيلها، فرأسها بدأ يستجمع ما قاله "عاصم" الليلة الماضية، والذي أصرت على تكذيبه، وبما قالته هي الآن أُثبت صدقه، واتضح أنها هي الظالمة من بينهما، وليس العكس كما كانت تعتقد، بذلك ظهرت براءته، وبذلك انكشف أنها هي من هدمت حياتهم، عادت للنظر له، ودموعها تنهمر، وطلب منه العفو بقلب ينفطر:
-سامحني.
❈-❈-❈
مضى اليومان اللذان بقى "عاصم" خلالهما تحت تأثير المخدر والمسكنات ببطء شديد، تآكل بأعصاب الجميع، وجعلهم تحت وطأة الهواجس والأفكار المهلكة. حاول "عز الدين" مرارًا إقناع "داليا" بالعودة إلى البيت لإراحة جسدها، وتناول أدويتها، ولكنها في كل مرة كانت ترفض رفضًا قاطعًا، وأصرت على البقاء بالشفى مع "عاصم" في غرفة مجاورة، بينما هو كان ينبغي أن يعود للاطمئنان على طفله، وزوجته التي باتت في مرحلة متقدمة للغاية من الحمل، حيث إنها قد تعذر عليها الذهاب إلى المشفى مجددًا بعد ليلة الحادث، والتي بقت حينها لثلاث ساعات فقط، وذلك لعدم مقدرتها على تحمل أي نوع من الإرهاق في تلك المرحلة.
انتهى سريعًا من الاستحمام، وتبديل الثياب الملطخة بدماء أخيه، وخلال وضعه في حقيبة قماشية بعد الأغراض التي تحتاجها زوجة أخيه، انتبه إلى أمارات وجه زوجته، التي تعبر عن وجع تحاول كتمه، أو ربما مواراته عنه، بسبب ملاحظته عند مجيئه للتعب البادي عليها، وأرجح الظن أنه بوادر آلام الولادة، التي يحفظها عن ظهر قلب من ولادتها السابقة، ولكنها نفت الأمر، وطمأنته حينها على استقرار وضعها. ولكن تكرار ذلك التوجع، والآلام، لا يوحي بشيء غير توقعه. أغلق سحاب الحقيبة وسألها بأعين متفقدة:
-متأكدة إنك كويسة يا زينة؟
مسدت بيدها فوق بطنها المتكور، وردت عليه مطمئنة إياه بصوت واهن بعض الشيء:
-أيوه يا حبيبي متخافش، دي شدة بطن عادية بتجيلي كل يوم.
وضع الحقيبة أرضًا واقترب منها قائلًا بعد أن أمسك بيده كفها:
-أنا خايف لتكون ولادة.
نفت ظنه بإيماءة من رأسه وهي تلتقط أنفاسها، وأخبرته:
-لأ مش ولادة، لسه معادي الأسبوع الجاي.
شعر بالتردد حيال تركها، ولكنه في نفس الآن ينبغي أن يعود إلى المشفى، ويكون جوار "داليا" خلال إفاقة أخيه. ضغط بيده فوق كفها باحتواء، ثم شدد عليها:
-طب لو التعب زاد عليكي كلميني.
رسكت بسمة متعبة فوق شفتيها، تبعها قولها الداعم:
-متقلقش عليا، شد حيلك انت، وابقى كلمني طمني.
أومأ له بالموافقة، قائلًا:
-حاضر.
أتبعه ذلك اقترابه منها، مقبلًا مقدمة رأسها، في حين قالت هي له:
-لا إله إلا الله.
ابستم لها بحنوٍ، ورد عليها وهو يمسح بيده فوق ذراعها:
-محمد رسول الله.
نهض من جوارها، ملتقطًا الحقيبة وغادر الغرفة وهي يشيعها بنظرات قلقة، بادلته بأخرى مطمئنة، حتى اخرج وغلق الباب من خلفه، تاركة العنان لإظهار التوجع من الآلام التي تنتقل من منطقة أسفل الظهر، إلى منطقة البطن، وبالرغم من أن تلك الآلام تزول بين الحين والآخر، إلا أن تكرارها لا يطمئنها.
❈-❈-❈
بخارج غرفة العناية المُركزة، أتت اللحظة المنتظرة، والتي سيترتب عليها مصيره المجهول، راقب كل من "عز الدين" و"داليا" بأعين مرتبكة، وأنفاس مضطربة، متهدجة، تقدم الطبيب منهما، بعدما أملى على اثنين من الممرضين بمَ سيحتاج إليه في الداخل، وقف قبالتهما، وفرق نظراته بينهما وهو يخبرهما بنبرة جادة:
-احنا هنفوقه دلوقتي.
ابتلع "عز الدين" ريقة بتوتر، في حين تساءلت "داليا" بلهفة:
-وهو هيفوق بعدها علطول؟
ارتكز بنظره عليها، ورد بطريقة عملية:
-بيبقى بشكل تدريجي، بس كتعبير عن الإفاقة بيفتح عينيه أو يحركها على الأقل.
تردد للحظ قبل أن يضيف، ولكنه رأى أن يخبرهما بكافة الاحتمالات الجائزة، وتابع بتنبيه:
-بس لازم تعرفوا، إن في حالات عمليات جراحة الدماغ بالذات، بيبقى في احتمال من اتنين بيحصل وقت إيقاظ المريض، يا إما هيفوق بشكل طبيعي، يا إما..
ظهر القلق على محياهما، وسارع "عز الدين" في التساؤل بتوجس:
-يا إما إيه؟
ضم فمه لحظيًا، ثم أجابه مكرهًا:
-يا إما هيدخل في غيبوبة.
أصاب "داليا" الذعر من تلك الاحتمالية القابضة، وهتفت على الفور بهلع:
-لأ لأ عاصم هيبقى كويس وهيفوق إن شاء الله، مش كده يا عز؟
تساءلت بالأخير وهي تنظر إلى أخ زوجها بعينين مرتعبتين، ونظرات مستغيثة، حينها أومأ لها بتأكيد، وردد بتضرع:
-إن شاء الله.
لاح الأسف على وجهه، وقال لهما بعملية:
-أنا بعرفكم عشان تبقوا جاهزين لأي حاجة هتحصل.
تسلل الخوف لقلبه ولكنه حاول أن يواري ذلك عن عينا زوجة أخيه، وأخبر الطبيب:
-اتكل على الله يا دكتور واحنا متعشمين في ربنا خير.
رد عليه بإيجاز وهو يشرع في التحرك:
-ونعم بالله، عن إذنكم.
عند انتهائه أشار إلى الممرضين باتباعه، ودلف إلى داخل وهما من خلفه، وفي تلك الأثناء ظل الاثنان واقفين، تحاصرهما المخاوف، ويقتلهما مرور الوقت المهلك للأعصاب، استند "عز الدين" بظهره على الحائط خلفه، وتقدم منه في تلك اللحظة "جاسم"، الذي أتى رفقة "رفيف" منذ بضعة دقائق، ربت فوق كتفه بنوع من الدعم، اغتصب ابتسامة صغيرة لم يتأثر وجهه بها حينها، وأخفض بنظراته المتوترة إلى أسفل، ولسانه لم يتوقف عن الدعاء، بينما شعرت "داليا" بالدوار داهمها بغتة" من كثرة خوفها، والأدرينالين المتدفق في عروقها، لذلك جلست على مقعد، لتستعيد اتزانها، وبجوارها "رفيف" تحاول طمأنتها.
بالداخل بدأ الطبيب في إيقاف أدوية التخدير، التي تنفذ عبر أنابيب الاستنشاق مع الأكسجين من الجهاز التنفسي، مع مراقبة جهاز القلب والتحقق من استجابته، مع مرور اللحظات، بدأ جفنيه يتحركان، ممَ جعل الطبيب يبتسم في سرور، ويتابع التقدم المحرز بعينين منتبهتين، بعد بعض الوقت وجدوا عينيه تفتحان بتثاقلٍ، وببطءٍ شديد، كأجراء آمن عملوا على ألا تكون الإضاءة عالية، حتى لا تتأثر عيناه بها، وألا يعيقا فتحها بشكل سليم، ومع ذلك لم يكن في مقدوره النظر في تلك الإضاءة الخفيضة، ولكنه شيئًا فشيء اعتاد عليها، وظلت عيناه مفتوحتين دون أن يرمش، حينها اتسعت ابتسامتهم، وتهللت وجوههم، ألا أن تلك الفرحة لم تدُم كثيرًا، فقد انهالا جفنيه ثانيةً، وصاحب ذلك اضراب مفاجئ في ضربات القلب، جعل التوتر يتسلل لعروقهم، وبدأوا في تفقد السبب.
أصواتهم كانت كالهمهمات الغير مفهومة، والمتداخلة، والتي كانت كأنما آتية من مكان بعيد. مرة أخرى انفتحت عيناه، ولكنه تلك المرة وجد نفسه في مكان آخر، غير الأول الذي لم يتعرف عليه، ولا على الأوجه الذي اختطف النظر بها. المكان الحالي كان غريبًا كذلك، ولكنه في نفس الآن مليء بالألفة، وكأنه يعرفه، أو ربما يخصه وهو لا يذكر، الحشائش الخضراء جعلته يشعر بالارتياح، والهدوء الذي يعم المكان بعث السلام في نفسه، وظل يسير بخطوات متفقدة، ومعجبة بالطبيعة الدافئة، وقعت عيناه خلال ذلك على طفلين جالسين أسفل شجرة كبيرة، ورودها تتداخل بها العديد من الألوان الزاهية.
كانا تقريبا في عمر الخامسة، يرتديان ملابس بيضاء اللون، استرعيا اهتمامه، واستغرب من تواجدهما في ذلك المكان الواسع بمفردهما، وقرر وقتئذٍ أن يتوجه إليهما، وعندما اقترب وجد أنهما فتى له خصلات شقراء، وفتاة تملك شعر بني، جمالهما جذب نظره منذ الوهلة الأولى، وابتسامتهما أجبرت شفتيه على التبسم، ولكن قبل أن يصل إليهما، انتبه إلى ظهور طفلين آخرين في ذات العمر على ميمنته، وعندما دقق النظر بهما اتضح له أنهما ابنيه، خفق قلبه بسعادة لرؤيتهما في ذلك العمر، وقد ازداد جمالًا فوق جمالهما، مد ذراعاهما له، يحثاه على التقدم منهما، تحفز في وقفته، ومال جسده نحو التوجه إليهما، ولكنه قبل الذهاب انتبه إلى إشارة الطفلين الآخرين، نحو وجود شيء خلفه.
استرعى انتباهه ما يُشار عليه، واستدار بجسده، ظهرت أمارات صدمة يتخللها سهادة غامرة على وجهه، فور رؤيته لوالدته، تفتح له ذراعيها، تساقطت دموعه، وبدأت قدميه في السير نحو ببطء أخذ في التزايد، ولكن تسمرت قدميه بغتة، حيمما وقع على سمعه صوت "داليا" يُنادي من خلفه:
-عاصم.
التفت على الفور إلى مصدر الصوت، وجدها محاوطة طفليها بذراعيها، وتناشده بنظراتها للقدوم إليها، حينئذٍ وقف كالمشتت في المنتصف، متخبطًا بين رغبته في الارتماء بحضن والدته، وبين الذهاب إلى زوجته وطفليه، الذي لا يسعه العيش دونهم، ظل يقدم ساق ويؤخر الأخرى، إلى أن حسم قراره بالذهاب إلى والدته، فقد كان مشتاقًا لأخذ عناقًا واحدًا منها، والذي شجعه هو انضمام الطفلين المجهولين لها، وبالطبع عاد للسير نحوها، متحاملًا شعور الوجع الذي انتابه من بكاء طفليه ونداء زوجته المتكرر، مد لها يده لتمسك بها، وفي اللحظة الأخيرة، قبل أن تتلامس اليدان، وقع على سمعه صوت طفولي رقيق، مرددًا من خلفه جعل قلبه يخفق بقوة:
-بابا.
خفق قلبه بقوة إثرًا لذلك الصوت، والتفت متفقدًا صاحبه، انتبه إلى ظهور طفلة تصغر توأميه بقليل من خلفهما، كانت بهية الوجه بهيئة ملائكية تسر الناظرين، ضحكتها كانت غاية في الجمال، إلى حد لم يستطع إبعاد عينيه عنها، ولكنه عجز عن أخذ خطوة نحوها، وفي نفس الأثناء عادت الأصوات المتداخلة في الظهور، مدخلة إياه في حالة من التشتت والتيه.
عجز الأطباء عن السيطرة على الوضع الحالي، كما فشلوا في استثارته، أو تحفيز وعيه، لعدم استجابته الكاملة لسائر المحاولات، وما ضاعف من ربكتهم هو ضعف نبض القلب المفاجئ، وحينها هتف أحد الممرضين:
-نبض القلب ضعف.
ممرض آخر بجانبه، أخبرهم بتوتر ملحوظ:
-مبيستجبش لأي محفزات.
بعد عدة محاولات منهم لجعله يقوم برد فعل يستعيد به وعيه، زفر الطبيب بجزع ثم هتف بأسف:
-فقد الوعي.
بالخارج عندما زادت مدة وجودهم بالداخل، بدأ القلق ينهش بهم، وازدادت حدة خفقاتهم، ذرع "عز الدين" الغرفة جيئة وذهابًا من شدة توتره، بينما "داليا" كان تتنفس بوتيرة سريعة، ليس فقط من خوفها، وإنما من توجع هاجم أسفل بطنها بغتةً، جعلها تنهج من تحاملها على نفسها، ولكنها وصلت إلى حد لم تعد تتحمل تلك الآلام القوية، والقاسية، وتفلتت منها صرخة أصابتهم جميعًا بالتفاجؤ، وألجمتهم في موضعهم للحظات، كانت الأسبق في التحكم في صدمتها من بينهم هي "رفيف" التي أسرعت نحوها، وسألتها بقلق:
-في إيه مالك؟
لم تستطع الرد عليها من شدة الألم، وغادر حلقها صرخة أخرى، جعلت "عز الدين" يهرع نحوها، وما كاد يستفسر منها عمَ يؤلمها، وجد "رفيف" تتساءل بذعر وهي تنظر أسفل قدم "داليا":
-إيه الدم ده!
توسعت عينا "عز الدين" وازداد هلعه مع تكرار صراخها، وهتف يستغيث بمن حوله:
-دكتور بسرعة.
اقترب منهم على الفور بضعة ممرضين، برفقتهم سرير متحرك، ساعدوها على التمدد عليه، وقد ازداد التوتر السائد فيمَ بينهم، وفي تلك اللحظة، و"عز الدين" يسير في الرواق بجوار السرير الذي وضعت عليه زوجة أخيه، شعر باهتزاز هاتفه في جيبه، أخرجه بأعصاب متلبكة، واجدًا المتصل زوجته، شعر بالقلق وعلى الفور استقبل المكالمة، وعندما آتاه صوت والدته، سألها بجزع:
-في إيه يا ماما؟
توسعت عيناه ممَ قالته، وعصف الخوف بقلبة، مرددًا بصدمة:
-زينة بتولد!