-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 53 الخميس 26/10/2023

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الثالث والخمسون

تم النشر بتاريخ

26/10/2023



دموعها لم تتوقف عن الانسياب، منذ ألقى كلماته المنفعلة، والمقلقة، وغادر من بعدها، تاركًا إياها متلفة الأعصاب، فماذا فعلت هي لكل تلك العصبية المفرطة؟ لقد بات يتحول بدرجة مهيبة كلما أتت على ذكر صديقتها، خوفه عليها أضحى خانقًا، وانفعاله أصبح لا يُطاق، ولكن ما يفوق ضيقها وحنقها الحين، هو خوفها، فلا هي تعرف إلى أين ذهب، ولا هو يجيب على هاتفه. ظلت بأعصاب متوترة تكرر الاتصال، وهي تدعو بداخلها أن يجيب، يخبره فقط عن وجهته، ويطمئنها بأنه لن يرتكب أي فعل طائش، ويغلق حينها الهاتف كيفما يريد، ولكنه بتلك الطريقة يجعلها على حافة الانهيار. عندما استمعت إلى صافرة انتهاء المكالمة، عاودت الاتصال والعبرات تسيل من عينيها بلا توقف، وبجوارها كانت تجلس زوجة أخيها، تحاول تهدئتها، بقولها الحاني وهي تمسد على ذراعها:


-اهدي يا رفيف أرجوكي، دلوقتي جاسم هيرجع.


أنزلت الهاتف عن أذنها، بعدما انتهت المكالمة دون أن يجيب ثانية، والتفت لها بعينيها الحمراوتين، والدامعتين، قائلةً بانتحاب:


-انا معرفش هو بيعمل كده ليه يا طيف، انا بقيت باخد بالي من حقوقه، وبحاول على قد ما قدر اصلح غلطي واعوضه عن تقصيري معاه الفترة اللي فاتت، ليه هو مش مقدر ده ولما اجيب سيرة داليا يضخم الموضوع ويقلبها بخناقة ويضغط على أعصابي بكلامه بالشكل ده.


ظهر الأسف على وجه "طيف"، وعلى الرغم من اتفاقها مع ما قالته "رفيف"، إلا أنها لم تحبذ أن تظهر اعتراضها على رد فعل زوجها المُبالغ فيه، وبررت له ما فعله من وجهة نظره المُبررة، مرددة:


-هو خايف عليكي يا رفيف، مش عايز حاجة تحصل تعرض حياتك للخطر تاني.


كفكفت عبراتها بمنديل انتشلته من العلبة الموضوعة على الطاولة أمامها، وعلقت بعد عدة لحظات بصوت ما يزال يحمل بحة البكاء:


-مفيش حاجة هتحصل تعرض حياتي للخطر يا طيف  وهو لازم يفهم كده، ويصدق إن عاصم اتغير، ومبقاش عايز حاجة غير إن مراته ترجعله، وولاده يبقوا في حضنه.


سحبت نفسًا عميقًا، تثبط به بكاءها، ثم تابعت:


-عاصم ندم بجد ورجع عن الطريق اللي كان ماشي فيه بسبب باباه، وربنا بيسامح، ليه هو مش قادر يسامحه أو حتى ينسى اللي حصل منه، ويخلينا نعيش في هدوء.


بطريقتها الحكيمة العقلانية عقبت:


-انتي شوفتي كل ده وحكمتي عقلك، وقدرتي تسامحي، لكن هو مشافش حاجة تخليه يتطمن من ناحية عاصم، ومش مطالب إنه يسامحه على حاجة عملها ومعتذرش حتى عليها أو بين ندمه سواء ليه أو لحد فينا.


تفهمت ما أوضحتها له من مبررات منطقية، ولكنها اعترضت على جزئية بعينها، مُردفةً:


-كل ده مالهوش علاقة بداليا، واحدة لجأتلي في وقت انهيارها، ومحتاجاني اطبطب عليها وأواسيها في عز ضعفها، وده واجبي ناحيتها بحكم صداقتنا، هي ملهاش غيري وانا لازم اروحلها واكون جنبها في وقت زي ده.


ترقرق الدمع بعينيها ثانيةً، ويداها ما تزالان يرتعشان من كثرة توترها، الناجم عمَ قاله زوجها قبل رحيله منذ دقائق، وأطنبت باختناق:


-وباللي هو عمله وبعد اللي قاله مبقاش فيا أعصاب اتحرك، ولا قادرة اروح في حتة من غير ما اعرف هو راح فين، ولا دماغه هتوصله لإيه.


رأسها بدأ في إيلامها، فمؤخرًا، منذ حادثتها، وكرد فعل لأي ضغط عصبي تتعرض له، يزأر بألم لا يزول إلا بعد فترة من هدوئها، وفي الحالات الأشد تحتاج إلى تناول أدويتها الموصوفة من طبيبها حتى تخف حدة الوجع. 


وهو على علم جيدًا بحالتها الصحية، لمَ إذن يفتعل الشجارات بينهما، التي تتسبب في ذلك النوع من الألم، ما الخطأ فيمَ ارتكبته صديقتها، كون "رفيف" الشخص الوحيد، الذي فكرت في مهاتفته، ليكون بقربها، في أشد لحظاتها انهيارًا، فهي صديقة طفولتها، والوحيدة التي تستطيع مشاركتها شعورها.


من الطبيعي عند سماعها لصوت بكاءها وانهيارها عبر الهاتف، ألا تتحمل البقاء محلها، وتتركها تجابه الأحزان الموجعة بمفردها، ولكن هذا بالتحديد ما تسبب في نشوب شجارًا آخرًا، بينها وبين زوجها، اللذين يحاولان بالأساس مؤخرًا رأب الصدع الذي حدث في علاقتهما، لنفس السبب. 


في تلك الأثناء كان الاثنان ببيت "مجد"، يقضيان اليوم رفقته هو وزوجته، كزيارة متفق عليها، وبعد بعض الكلمات الابتدائية، التي كانت تحاول "رفيف" عن طريقها وصف حالة صديقتها لزوجها، وطلب الإذن لهذا بالذهاب لها، هب واقفًا ووجهه في لحظة اشتد بغضب واضح، هادرًا باستهجان شديد:


-تاني يا رفيف، تاني؟


قابلت عصبيته بهدوء لتمتص غضبه، مرددة بلهجة مستعطفة:


-يا جاسم داليا منهارة، انا مش هقدر اسيبها وهي في الحالة دي.


بعصبية أشد هتف وقد تشنج جسده بصورة توحي بازدياد انفعاله:


-أنا تعبت معاكي يا رفيف، تعبت.


انتفض جسده من دمدمته القوية، بينمت لم يلبث هو أن أضاف بنفس الصوت الحاد:


-أعصابي تعبت بسبب خوفي وقلقي عليكي طول الوقت، وبسبب إنك مصممة ترمي نفسك جوا جُحر واحد شيطان، وعايزاني ابقى متطمن واديكي الإذن تروحي لحد عنده، كأنك بتطلبي مني اني اسمحلك تروحي للموت برجليكي.


نهضت عن جلستها، وتوقفت أمامه وهي محافظة على طور هدوئه، وخاطبته:


-انت ليه مش عايز تصدق ان عاصم اتغير، ومبقاش بيفكر يئذي حد فينا.


لاح الاستنكار على وجهه، وبتهكم واضح علق:


-انتي عايزاني اصدق ان واحد زي ده اتغير، بأمارة إيه فهميني انتي كده.


بدأت تفقد القدرة في ضبط أعصابها، من عناده، ووقوفه حائلًا دون ذهابها لمساندة صديقتها، ولكنها تمسكت بآخر ذرات تحكمها في نفسها، وأخبرته باستسلام:


-مش عايز تصدق متصدقش، انا كل اللي يهمني في كل ده داليا بس.


لم تكن تعلم أن تضامنها المتزايد مع صديقتها أكثر ما يثير غضبه، كونه –من وجهة نظره- محفوفًا بالمخاطر، بصفتها زوجة من يهدد حياة زوجته، احتقنت عيناه على فور سماعه لما فاهت به، وبسخط جلي صاح بها:


-داليا دي انا معدتش عايزك تعرفيها أصلا، صحوبيتك ليها هتجيب أجلك.


ما نطق به جعل هدوءها المزعوم يتبخر، ويحل محله انفعال اندلع بغتة مع قولها الرافض:


-وانا عمري ما هسيبها يا جاسم، ومتحاوليش معايا في الموضوع ده بالذات عشان مش هتقدر تجبرني ابعد عنها.


علم من عصبيتها، أنها لن تستجيب لأوامره، بانفصالها عن صديقتها، مهما فعل، وفي غمرة غضبه الأهوج، طرأ بعقله تفكير متهور، رأى أنه الوسيلة الوحيدة لحمايتها، ودفع الخطر عنها، ناظرها بنظرة غريبة ثم أخبرها بغموض:


-تمام خليكي معاها، انا فعلا مش هقدر اجبرك على حاجة، لكن اقدر اعمل اللي يحميكي.


استرابت من الجزء الناقص بحديثه، ألا وهو ما سيقبل على فعله، وتساءلت بحاحبين معقودين:


-اللي هو إيه؟


اعتلى عينية كره شديد، وأجابها بعدائية بالغة:


-اقتل عاصم.


برقت عيناها ممَ فاه به، في حين تابع هو:


-عشان تعرفي تعيشي انتي، واعرف انا كمان اعيش من غير خوفي وقلقي عليكي طول الوقت.


تعقدت ملامحها بخوف حقيقي من أفكاره المتهورة، وهتفت محاولة إعادته إلى رشده، قائلةً:


-جاسم ارجوك شيل الافكار دي من دماغك، انا بجد تعبت.


اشتدت عضلات وجهه وهو يصيح بغير تعقل:


-مش انتي عايزه تبقي جنب صاحبتك، روحي، انا مش ممانع، بس لو عاصم مات النهارده اعرفي ان انا اللي هبقى قاتله.


تحرك من أمامها بعدما فاه بتلك الكلمات المريبة، آخذًا خطواته نحو باب الفيلا، حينئذٍ حولت نظرها نحو أخيها، المتابع للحديث برمته من البداية، وناظرته بنظرة تناشده بأن يلحق به قبل أن تقول:


-مجد..


قاطعها قبل أن تتم عبارتها، مخبرًا إياها بثبات يحمل بعض الضيق:


-سيبيه، مش هيعمل حاجة، هو محتاج يقعد مع نفسه يمكن يهدا ويرجع لعقله.


وضعت يدها فوق رأسها تضغط عليه حتى يخف الوجع، فكلما عادت ما قاله في رأسه الخوف ينهش بها، ويزيد من ألمها، وفي نفس الوقت كانت تكرر الاتصال، الذي انتهى كالبقية بدون أن يرد عليها، حينها هدرت بانفعال:


-هو ليه مبيردش، بيعمل معايا ليه كده بجد، أنا اللي بالطريقة دي أعصابي تعبت والله مش هو.



❈-❈-❈

بعد ذلك الحادث الشنيع، في خلال لحظات، انقلب المكان من حولهم، تجمع المارة من عشرات الأشخاص، والسيارات، وبمرور دقائق قليلة كان صوت عربات الشرطة يدوي في المكان، وكذلك سيارة الإسعاف التي أخذت "عاصم"، بعدما وجدوا به نبضًا ضعيفًا، عاد الأمل من جديد لقلب "عز الدين"، الذي كاد يفقد وعيه عندما ظن أنه قد فارق الحياة، وطوال الطريق بداخل سيارة الإسعاف، وهو ممسكٌ بإحدى يديه، ويتضرع ويتوسل للمولى بأن ينقذ حياته، دموعه لم تكف عن الانهمار، والخوف يعصف بقلبه دون هوادة، ولسانه يرتل بدعاوات لا حصر لها، وآيات من القرآن الكريم.


بخطوات متسارعة، وقلب ينبض بقوة مع كل خطوة سار إلى داخل المشفى، مهرولًا خلف السرير الموضوع عليه أخيه، حتى أصبح على عتبة غرفة العمليات، حينها أوقفه أحد الممرضين، بنبرة عملية قبل أن يدخل:


-حضرتك خليك هنا.


أومأ له بنظرات تجمع ما بين التيه والصدمة، ففي غمضة عين أصبح أخوه على أعتاب الموت، استند بجسده على الجدار خلفه، شاعرًا بقدميه يتراخيان، وكأنما غير قادرين على حمله، رفع يديه الملطختين بدماء أخيه أمام وجهه، والدموع تتسابق في الهطول، وفي تلك اللحظة لم يمنع نفسه من إخراج صوت بكاءه، انهيارًا على أخٍ، حُرم من جواره عمرًا كاملًا، والحين بعدما اجتمعا، واشتدت أواصر الأخوة بينهما، واستأنس كل منهما بوجود الآخر، سيُحرم ثانيةً منه، ولكن تلك المرة للأبد. 


أثناء بكائه استمع إلى صوت الهاتف، الذي لم يكف عن الرنين طوال الدقائق المنصرمة، ولكنه لم يكن به ذرة أعصاب واحده تساعده على إجابة المكالمات المتتالية، إلا أنه الحين توقع أن يكون المتصل زوجته، ومن المؤكد -إن كانت هي بالفعل- بأنه قد آثار خوفها من عدم رده عليها، وبالطبع صدق حدسه عندما أخرجه من جيبه، ورفع شاشته أمام وجهه، أجاب المكالمة على الفور، قائلًا بصوت مختنق بعدما وضع الهاتف فوق أذنه:


-ايوه يا زينة.


بعد ردها المستفسر والمشوب بالقلق أخبرها:


-انا في المستشفى.


لم يتحكم في صوت نحيبه وهو يبلغها بعد ذلك بحرقة:


-عاصم بيموت.



❈-❈-❈



لم تظل محلها، بعدما أخبرها "عز الدين" بتوجه "عاصم" إلى مقر شركته، بسبب تعرضها لحادثة سرقة، وقتئذ علمت أن الأمر مدبر، فقط لاستدراجه إلى هناك، حتى ينفذوا خطة قتله، ولم تكتفِ بتحذيره، واستقلت سيارة أجرة، وتوجهت بها إلى حيث الطريق المؤدي لشركته، حتى تتأكد بنفسها من عدم ذهابه، وبعدما قطعت منتصف المسافة تقريبًا، وجدت تجمعات من أشخاص، وسيارات متوقفة بجانب الطريق، وصوت صافرة إنذار الشرطة أوحى بوجود حادث، الزحام أجبر سيارتها على التوقف، في بادئ الأمر تجاهلت تلك الأصوات المتداخلة من حولها، ولكن الاسم الذي وقع على سمعها أجبرها على الالتفات لهم، والانصات بتركيز لما يُقال.


فاسم "عاصم الصباحي" ظل يتردد، ولكنها لم تفهم السبب في ترديده، بسبب الأصوات الكثيرة، بدأت القلق يتسلل لداخلها، حينئذ قررت الخروج من السيارة، والاستفسار من أحدهم عمَ يدور، وما السبب وراء ذكر اسم "عاصم" فيمَ بينهم. استوقفت أحدهم، ممَ رأته كثير الحديث، متوقعة أن يكون على دراية كاملة بمَ يحدث، وحينما استفهمت منه، اندفعت معالم الصدمة لوجهها على فور استماعها للتفاصيل التي سردها بمنتهى البساطة، ولم يدرِ صعوبة وقعها على سمعها.


تحرك من أمامها بعدما أعطى إليها الأجوبة، غير آبهًا بما اعتلى وجهها، وما ظنه تأثرًا طبيعيًا بما قاله، وبقت هي موضعها، فاغرة العينين، والدموع بدأت تتكوم بداخلهما، وخلال تلك الحالة التي سيطرت عليها، وقعت حدقتاها على سيارة "عاصم"، والتي كانت شبه مُدمَرة، وضعت يدها على فمها، ولا يسعها تخيل ما جرى له داخلها، ولكنها فاقت من صدمتها برؤيتها لها، وسارعت في العودة للسيارة، بقلب يدب به الرعب، وصوت بداخلها يحاول طمأنتها، ويردد بأنه ما يزال بخير.


ذكريات صباهما سويًا، كانت كالشريط أمام بصرها، منذ أول يوم التقيا، حتى افتراقهما، لتوها أدركت الجرح الغائر التي تسبب له به، وأدركت كذلك بأنها خسرت حبه، ولكن ما فائدة الندم؟ أغمضت عينيها والدموع تنهمر منهما، وما تتمناه الحين هو رؤيته معافي، وحينها ستخرج من حياته نهائيًا، ليهنأ بالحياة التي اختارها، والتي أضاعتها هي من يديها. توقفت السيارة بغتةً، ممَ أفاقها من شرودها، وبعينين شاخصتين أبصرت تقدم رجلين ضخام الجثة من باب سيارتها، وآخر يشهر سلاح مخفي للسائق مجبرًا إياه من البداية على الوقوف، شهقت بخوف عندما فتح أحد الرجلين الباب، ومد يده ساحبًا إياها للخارج، بمحاولة بائسة جذبت يدها من قبضته القوية، وهي تصرخ به:


-عايزين مني إيه؟


تجاهل صراخها، وضربات يدها لجسده، وعلى وجه السرعة ألقاها بالسيارة المتوقفة في مقابلة سيارة الأجرة، وقتئذٍ تلقفها رجل آخر بالداخل، قيد حركتها، وحال دون هروبها، ممَ جعلها تصرخ ثانية بارتعاد:


-أوعوا سيبوني.


منع تفوهها بالمزيد بوضعه شريطًا لاصقًا على فمه، وما منع تحركاتها وجعلها ثابتة كليًا هو إشهاره لسلاحه في وجهها، وفي ذات الوقت بعدما صعد البقية وانطلقت السيارة، استمعت إلى قول الرجل المتواجد في المقعد الأمامي، لآخر عبر الهاتف:


-هي معانا دلوقتي يا باشا.


جحظت بعينيها عندما نفذ عبر سمعها صوت "توفيق" من الهاتف قائلًا بنبرته الشيطانية:


-ارموها في المخزن القديم واتسلوا عليها لحد ماجي.


من عبارته الخبيثة استشعرت كم الخطر الذي يحيطها، والذي أوقعت نفسها به تضحيةً منها لإنقاذ "عاصم"، وفي الأخير، وبعد كل ما فعلته، أصبح هو على شفير الموت، وأضحت هي على شفا فقد شرفها وربما حياتها، يبدو أنه الجانب الأقوى مهما كثرت أسلحتهم، فها هو قد تمكن منهم جميعًا، واستطاع التغلب على خططهم المدروسة، ولكن هل الشر هو الذي ينبغي أن ينتصر في النهاية؟



❈-❈-❈

في ظل التوتر المخيم على المكان، الناجم عن عدم رد زوجها إلى الآن على مكالماتها من ناحية، ومن ناحية أخرى حزنها على صديقتها التي هاتفتها ببكاء مرير تشكو لها حالها، وتطلب عونها، انتبهت الاثنتان إلى نزول "مجد" ركضًا الدرج الداخلي الذي ينتهي بالبهو، الذي تجلسان به في الجزء المخصص للجلوس، أتبعه ندائه على شقيقته بصوت غير مريح:


-رفيف!


تعحبت الاثنتان من هيئته الغريبة، وكانت "طيف" الأسرع في الاستفسار من بينهما، متسائلة:


-في إيه يا مجد بتجري كده ليه؟


تخطاها متوجهًا نحو شقيقته، التي يظهر عليها أمارات التعب، وسألها على الفور:


-جاسم مكلمكيش؟


زوت ما بين حاجبيها باستغراب من سؤاله المريب، وأجابته بهدوء خالطة القلق الذي بدأ في التسلل لداخلها:


-لأ مكلمنيش، وبكلمه من ساعتها مش بيرد عليا.


كز على أسنانه بغضب واضح، وقام بمعاودة الاتصال به، تخت نظراتهما المتحيرة، والمستريبة في نفس الآن، وقال بضجر:


-رد بقى يابني آدم، معادش فيا أعصاب.


استشعرت "رفيف" حدوث خطب، وحينئذ نهضت عن جلستها، وسألته بخوف بزخ بقوة من عينيها:


-هو في حاجة حصلت ولا إيه؟


انتهت المكالمة دون رد كالبقية، كما جعله ينفخ بصبر نافذ، وكرر الاتصال دون أن يجيبها على تساؤلها، ممَ جعل "طيف" تسأله بقلق انتقل لداخلها هي الأخرى:


-إيه اللي حصل يا مجد؟ انت قلقتنا.


عندما لم يأتَه ردًا منه ثانيةً، خول وجهه الذي يعلوه الغضب الممزوج بالمخاوف والشكوك، مخبرًا الاثنتين بانفعال:


-عاصم في المستشفى بين الحيا والموت، عمل حادثة والعربية اللي قلبت عربيته مش لاقيين صاحبها لسه.


وقعت كلماته كالصاعقة على سمعها، ولكن في لحظتها عدم التصديق سيطر عليها، فيستحيل أن يفعلها زوجها، هي تعرفه جيدًا، لن يقبل على إيذاء أحدٍ، حتى وإن كان ردَ فعلٍ لأذيٍ مسبقٍ منه، ولكن هل يمكن أن يقوده خوفه الجنوني عليها إلى فعلها؟!



❈-❈-❈



بحذر شديد، وبغير أن ينتبه أحد، بدأ أفراد الشرطة في الانتشار في الميناء، بدون أن يثيروا أي جلبة، متحينين اللحظة المناسبة، للقبض على "توفيق" متلبسًا، أثناء استلامة للشحنة المُبلَغ عنها، وحينما أتت اللحظة المنتظرة، أعطى الضابط المُكلَف الإشارة إلى البقية، وهجموا عليهم بشكل مفاجئ، حتى لا يكن هناك مفر لأي منهم للهرب. وحينما أحاطوا بهم اعتلى تعبيرات التفاجؤ وجه "توفيق"، ولكنه تظاهر بالثبات وهو يستنكر ما يحدث من حوله، هادرًا:


-إيه اللي بيحصل هنا؟


تقدمت منه الضابط المسؤول، وأخبره باحتقار:


-مطلوب القبض عليك يا توفيق بيه.


حافظ على جمود ملامحه وهو يسأله ببرود مصطنع:


-بتهمة إيه؟


انفرجت شفتيه عن بسمة تهكمية، أتبعها قوله الساخر:


-هي مش تهمة واحدة الحقيقة، تقدر تقول مجموعة تهم.


اكتسى وجه "توفيق" بغضب اندلع دون تحكم منه:


-انت أكيد غلطان ومش عارف انت بتكلم مين.


اتسعت بسمته الهازئة وهو يعقب باستخفاف:


-لأ انا عارف انا بكلم مين كويس اوي، توفيق جمال العاصي، رجل الأعمال المعروف.


أخرج من جيبه ورقة مطوية، فتحها ووضعها أمام وجهه، ثم تابع بنبرة واثقة:


-وده أمر القبض عليك، مكتوب فيه التهم، صناعة أدوية مغشوشة بالتلاعب في المواد الفعالة، استيراد خامات داوئية لا تتوافق مع المواصفات الدولية لتصنيع الدواء، تقديم تقارير مزيفة لوزارة الصحة لأخذ التصاريح بدون عوائق، والباقي إن شاء الله هتعرفه في النيابة.


انتشل بعصبية الورقة من يده، تفقد ما بها لعدة لحظات ثم ألقاه أرضًا وهو يهدر بانفعال:


-كل ده كدب وتلفيق، أنا شغلي كله سليم، وسمعة شركاتي معروفة في البلد من سنين، واللي بيحصل ده انا مش هسكت عليه.


تحولت تعبيراته للجدية، وبرسمية بحتة أخبره:


-الكلام ده تقوله في النيابة مع التحقيقات، ومع الأدلة والإدانات المتسلمة ضدك، وبعد طبعا ما المعمل الجنائي يفحص الخامات الدوائية المستوردة، اللي انت جاي تستلمها بنفسك، ونشوف وقتها كل ده كدب ولا مش كدب.


وبهدوء مثير للأعصاب أضاف:


-ودلوقتي ياريت تتفضل معانا بهدوء ومن غير شوشرة عشان سمعة سعادتك طبعا ماتتأذاش.


بالكاد تمكن من ضبط أنفاسه التي اضطربت، من تلك المصيبة التي حلت عليه، والتي سيصعب عليه مع كل تلك التهم المذكورة، والقبض عليه متلبسًا، إيجاد مخرج منها ولكن الحين ما يفوق خوفه من القبض عليه، وسجنه المحتوم، هو احتمالية صدور أمر بالتخلص منه، إن شعرت الجماعة بأن اكتشاف أمره سيشكل خطرًا مؤكدًا عليهم.



❈-❈-❈



ارتفعت وتيرة القلق في عروقهم النابضة، يعد ذلك الخبر الصادم، وإلى الحين لا هو يجيب على اتصالاتهم، ولا حتى يعود ليطمئن قلوبهم، وفي ظل ذلك الجو المشحون، بالتوتر، والقلق، اقترح "مجد" على اخته، مهاتفة صديقتها، والاستفسار منها عمَ حدث لزوجها، وتفاصيل الحادث، لربما ليس لـ"جاسم" دخل بها، وشكوكهم خاطئة. في بادئ الأمر استصعبت مهاتفتها في ذلك الوقت العصيب، إلا أن خوفها أجبرها في الأخير على الرضوخ لاقتراحه، وقامت بهاتفتها، وبعد عدة لحظات آتاها صوتها المتعب، من كثرة البكاء، حينها سألتها "رفيف" بترقب:


-داليا، حبيبتي انت كويسة؟


ردت عليها بنبرة مرهقة، وصوت مبحوح:


-مش كويسة، مش كويسة خالص يا رفيف.


من صوتها الباكي استنتجت "رفيف" انهيارها المتوقع، وحاولت تهدئتها بقولها:


-طب اهدي، اهدي وفهميني إيه اللي حصل لعاصم؟


تساءلت "داليا" بصوت يظهر به الاستغراب:


-ماله عاصم؟ مش فاهمة سؤالك.


انتقل الاستغراب إلى وجه "رفيف"، التي جاس شعور داخلها بأنها لم تعلم بعد بما حدث، وحتى تتأكد من ظنها سألتها باستشفاف:


-هو انتي فين؟


ردت عليها على فورها:


-انا في البيت.


شاع الذهول في وجهها، ورددت:


-في البيت؟ يعني انتي معرفتيش لسه؟


جاءها تساؤلها المتحير والذي شاع به القلق:


-معرفتش إيه؟


تداركت "رفيف" تسرعها، وضغطت على شفتيها، وتبادلت النظرات العاجزة مع أخيها وزوجته اللذين يعلو الأسف وجهيهمت، في حين سألتها الأخرى بقلق متزايد:


-ساكتة ليه يا رفيف في إيه؟ هو عاصم وجاسم اتخانقوا مع بعض تاني ولا إيه؟


شعرت "رفيف" بأنها وضعت نفسها في مأذق كبير، فكيف تسرد عليها ما علمته عبر الهاتف؟ وتلعثمت في ردها:


-لأ.. لأ هو..


عجزت عن إتمام جملة كاملة، ممَ جعل "داليا" تسألها بأعصاب توترت أكثر من زي قبل:


-هو إيه ماتتكلمي.


لم يسعفها عقلها نهائيًا لاختلاق كذبة، ولا المراوغة معها بعد ما قالته في البداية، فلا يوجد مفر الآن من إخبارها، وهي عاجلًا أم آجلًا ستعرف ما حدث، وبصوت يعلوه الأسف، والأسى أخبرتها، وهي لا تدري كيف ستتحمل ذلك الخبر الصادم، والقاسي من كافة الأصعدة، مرددة دفعة واحدة مكرهةً:


-مجد قالي دلوقتي إن عاصم عمل حادثة ونقلوه المستشفى.



يتبع..

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية