رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 52
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الثاني والخمسون
تم النشر بتاريخ
7/10/2023
بعد بضعة دقائق، بدأت حالة الصدمة التي تملكت منها تزول شيئًا فشيء، وتتحول إلى انهيار تام للثبات التي تظاهرت به في وجوده، فبعد مغادرته أطلقت سراح مشاعر القهر والدمار، التي حلت بها من خيانته، وكذبه المتكرر، وخداعه، ولكن تلك المرة الشعور مدموغ بالخذلان، فبعد أن ظنت في صدق سعيه طوال الفترة الماضية إلى تشييد بيتًا دافئًا لأجلها هي وأولادهما، وجدته في لحظة اترتكب ما حطم كل آمالها، وهدم سعادتها بالحصول على مبتغاها، في عيش حياة هانئة في بيت يجمعها به رفقة أطفالهما.
ولكن أكان ندمه الذي أبداه طوال الأيام المنصرمة زائفًا! أكانت الوعود التي قطعها كاذبة! وماذا عن أعذاره؟ وهل حبه كذلك غير صادقٍ؟ ظلت تبكي بتفكير مشتت، وروح محطمة، إلى أن استمعت إلى صوت رنين هاتفها، في بادئ الأمر تجاهلته، فطاقتها مستنزفة لدرجة تجعلها لا تقوى حتى على استكشاف هوية المتصل، ولكن عندما تكرر الاتصال، توجهت إلى حيث يوجد الهاتف، وقامت بالتقاطه، وما إن وقعت عيناها على اسم "عز الدين" الظاهر على الشاشة، حتى استقبلت المكالمة، فأفراد عائلة زوجها، أصبحوا كالملجأ، التي تلتجئ إليه عندما تضيق بها الحياة. وضعته فوق أذنها، وبصوتها المبحوح رددت:
-ألو.
لم ينتبه "عز الدين" إلى تغير صوتها، وسألها على الفور بترقب:
-ايوه داليا، عاصم عندك؟
ابتلعت الغصة العالقة بحلقها، وردت عليه نافيةً:
-لأ.
لم تمر سوى ثانية، وسألها:
-طيب هو مكلمكيش أو قالك هو فين؟ انا برن عليه من ساعتها مبيردش، وروحتله شقته مش موجود فيها.
زفرت نفسًا مطولًا، ثم أخبرته بصوت كئيب:
-هو لسه ماشي من شوية.
عاجلها متسائلًا باستشفاف:
-يعني هو كان عندك؟
أجابته مؤكدة بصوتها الذي ما يزال واضحًا به آثار البكاء:
-ايوه.
سألها بعد ذلك بتوجس وقد لاحظ لتوه تغير نبرة صوتها:
-هو انتي مال صوتك؟
تغضن وجهها بالأسى، والتمعت عيناها بسحابة من الدموع وهي ترد عليه بصوت ضعفت نبرته:
-انا وعاصم اتخانقنا يا عز.
على فوره استفسر منها:
-ليه؟ عشان إيه؟
على صوتها وهي تجيبه بانتحاب:
-عشان بيخوني، عاصم لسه على علاقة بالحيوانة اللي اسمها مي.
ظهر التحير في صوته وهو يستفهم منها:
-لسه على علاقة بيها ازاي بس؟
انهمرت دموعها وهي تسترسل ببكاء:
-روحتله النهارده شقته، كنت خلاص قررت اننا نرجع لبعض، لقيتها خارجة من عنده.
علق على ما قالته باستنكار يشوبه التعجب:
-وهي عشان خارجة من عنده يبقى بيخونك معاها؟
تعقدت ملامح وجهها، وهتفت بغضب نابع من غيرتها المُبرَرة:
-يا عز انا شوفتها وهي بتحضنه.
من معرفته بتفاصيل اللقاء السابق لهما، والذي يتضمن تقبيلها له، الذي أتبعه دفع "عاصم" لها، سألها بجدية:
-عاصم حضنها؟
تحركت حدقتاها وهي تتذكر المشهد، وأجابته نافية بعد لحظتين:
-لأ..
ولكنها ما لبثت أن أضافت بصوت انفعل:
-بس مبعدهاش.
حدثها بطريقة عقلانية بعد زفرة مشوبة بالضيق:
-يا داليا بلاش تحكمي على عاصم من أفعال مي، مي عندها تحرر في أسلوب حياتها، وعاصم مش مسئول إلا عن أفعاله وبس.
لفظت دفعة من الهواء الثقيل من رئتيها، وكلماته تدوي في رأسها، محدثة تخبط متزايد، ولكن الشكوك ما تزال تعج بها، ولم تستطع كبح غيرتها وهي تستطرد بغل جلي في صوتها:
-طب هي كانت بتعمل معاه إيه جوا يا عز؟ ومين عرفها ان عاصم في البيت ده مش في الفيلا أصلا؟
صارحها مردفًا بإسهاب:
-انا اللي عرفتها يا داليا، كلمتني وقالتلي إنها عايزه عاصم في موضوع مهم، حياة أو موت، وعاصم مكانش بيرد عليها، فقولتلها إنه هناك.
بدأت كلماته تتلاعب برأسها، وإحساسها بتسرعها في الحكم عليه انبثق بداخلها بقوة، إلا أن سوء ظنها ما يزال متحكمًا بتفكيرها، وتساءلت:
-طب وهو الطبيعي إن يقابلها من غير تيشرت؟
انزعج صوته وهو يعلق عليها مدافعًا عن أخيه:
-انتي بتدوري على أي سبب وخلاص يا داليا عشان تخليه خاين، وبعدين ماهي اللي رايحاله بيته فاجأة، وطبيعي يبقى قاعد على راحته.
عجزت تمامًا على تحكيم عقلها، فكل ما يحدث يضغط على أعصابها، وكلماته أحدثت تشوشًا مضاعفًا لمداركها، حتى هتفت بتعب:
-انا تعبت، معدتش عارفة إيه الصدق من الكدب.
نصحها بعد لحظة من الصمت، بصوت جدي:
-داليا خلي عندك ثقة في جوزك شوية، متهدميش بيتك عشان شكوك في دماغك انتي بس.
ظلت لبعض الوقت صامتة، تفكر من ناحية فيمَ قاله، ومن ناحية أخرى فيمَ رأته، وبالرغم من كونها ما تزال مشتتة، لا يسع عقلها الوصول إلى الحقيقة الغير مكتملة بالنسبة لها، إلا أنها شعرت بوخزة في صدرها، من استعادة هيئته الباكية خلال انهياره أمامها، وحالة اليأس التي ظهرت عليه قبيل مغادرته، ممَ أشعرها بالخوف من أن يصيبه مكروه، أو يقوم بإيذاء نفسه، لاح التوتر على وجهها، وتكلمت بتلهف يعج بالقلق:
-طيب يا عز انا دلوقتي مش عارفة هو رايح فين، وهو كان منهار قبل ما يخرج ويائس، وانا خايفة عليه ليعمل في نفسه حاجة.
تنفس مطولًا ثم أخبرها بهدوء محاولًا امتصاص قلقها:
-طب متقلقيش انتي وانا هكلمه تاني جايز يرد عليا.
بنفس النبرة المتلهفة طلبت منه:
-وكلمني عرفني.
قبل أن ينهي المكالمة، أخبرها:
-حاضر يا داليا، سلام دلوقتي.
أنزلت الهاتف عن أذنها، ووجهها أصبح يشيع فيه القلق، وعدم الارتياح بدأ يضيق به صدرها، فتلك المرة تأزم الوضع بينهما، لدرجة جعلت "عاصم" هو من يطلب إنهاء زواجهما، وهي الآن باتت –بفعل ما أخبرها به "عز الدين"- مشتتة، لا تعلم من منهما المذنب في حق الآخر، وإن كانت هي التي تسرعت ثانيةً في حكمها، وتسببت في جرحه وإذلاله وهو الذي كان يستعطف قلبها ويتوسل عفوها، فلن تستطيع أن تسامح نفسها.
❈-❈-❈
منذ غادر بيتها، وعيناه لا تكفا عن ذرف دموع حارقة، فبعد ما جرى بينهما لا يستطيع خداع نفسه، وإيهامها بأنه سيأتي وقت ويسترد مكانته في قلبها. لقد خسرها، وفقد حنانها، وقربها، أضاع الحضن الذي كان يحتوي أوجاعه، والضحكة التي كانت تطيب جراحه، وكل ذلك بسبب غبائه، وسوء طباعه، وحتى تغييره، ومحاولة إصلاح ما أفسده لم يشفع له.
خلال ذلك لم يتوقف هاتفه عن الرنين، فقد ظل لما يقرب من العشرة دقائق تتوالى عليه الاتصالات، التي تجاهلها جميعها، ولم يتفقد حتى هوية المتصل، إلا عندما أزاد صوت الرنين من الضغط على أعصابه، وقتها قرر التخلص من تلك الضوضاء بكتم صوته، ولكنه عندما رأى أن الرقم لشخص مجهول، راوده القلق، وأجاب على المتصل، الذي أبلغه –بعد عدة عبارات، كانت يستعلم بها عن كونه "عاصم الصباحي"- بحدوث جريمة سرقة في مقر شركته، والشرطة في طريقها إلى هناك، لتحري الأمر، والتحقيق في الجريمة.
أنهى معه المكالمة، بدون حتى أن يستفسر عن نوع السرقة، أو الاشياء التي تمت سرقتها، فقد كان زاهدًا، لم يعد يعبأ بخسارته لأي شيء مهما بلغت قيمته، فخسارته للشخص الوحيد الذي يجعل لحياته معنى، أفقدته قيمة هذه الحياة. مر بعد ذلك ما يقرب من الدقيقتين، وآتاه إتصالٌ آخرٌ، ظن حينئذٍ أنه لنفس الشخص، وقام بمهاتفته مجددًا ليخبره بشيء مستجد، لذلك التقط الهاتف من فوق المقعد المجاور له ليجيب اتصاله، ولكنه عندما نظر بشاشة الهاتفه، وجد أن المتصل أخيه.
مكالماته لم يكن ليتجاهلها، مهما بلغت حالته النفسية درجات التدني، فهو دائمًا ما يعينه في أكثر أوقاته محنةً، ويشد من أزره حتى يتخطى ما يمر به، ولهذا فهو له مكانة خاصة عنده، لذلك لم يفكر للحظة في عدم الرد عليه، واستقبل المكالمة على الفور، وضع الهاتف فوق أذنه وهو موجه نظره إلى الطريق أمامه، حينئذٍ آتاه صوت "عز الدين" المستفهم:
-ايوه يا عاصم انت فين؟
سحب نفسًا مطولًا، تبعه نحنه خفيفة ليجلي صوته المكتوم بفعل بكائه، ثم رد عليه بنبرة عمل على أن تظهر طبيعية:
-الشركة بتاعتي حصل فيها سرقة، رايح اشوف ايه الموضوع ده.
بعد لحظتين استطرد أخوه بصوت يظهر به الأسف وهو يردد:
-حقك عليا يا عاصم، أنا اللي بعتلك مي من غير ماعرفك الاول، وعملت مشكلة بينك وبين داليا.
انعقد حاجباه بتفاجؤ ممَ سمعه، وعلى الفور استفسر:
-هي داليا عرفت إني مي كانت عندي؟
أجابه باستضاح:
-أيوه، كلمتها قبل ما اكلمك، وقالتي كده، وبتقول كمان إنها شافتها وهي بتحضنك.
أغمض عينيه الحمراوتين من كثرة الدموع التي ذُرفت منهما، وأدرك لتوه ما ارتكبه بغبائه، فقد أقسم لها على عدم رؤيته لها طوال الفترة الماضية، وها هي قد شاهدت ما يكذب ذلك، ومؤكدا بهذا قد فقدت الثقة به نهائيًا، زفر نفسًا مختنقًا تبعه قوله البائس:
-انت ملاكش دعوة يا عز، هو حظي أنا اللي بقى كده معاها.
أحس بلسعة الدموع تهاجم عينيه من جديد، ولم يكن يريد أن يشعر أخوه ببكائه، حتى لا يظهر في صورة تثير الشفقة أكثر من ذلك، لذا سريعًا ما أضاف بصوت مهزوز:
-اقفل دلوقتي هكلمك تاني.
عاجله "عز الدين" قبل أن ينهي المكالمة قائلًا:
-طب انا وراك بالعربية أهو، نتقابل عند الشركة.
ألقى الهاتف في موضعه السابق بإهمال، وعبراته في ذات اللحظة انسابت من مقلتيه، فقد تعقد كل شيء بينهما حتى لم يعد هناك أي سبيل لتلاقي طرقهما، أصبح من العسير عليه استعادتها، ومن الصعب كذلك تقبل خسارتها، ولكنه ماذا يفعل هو أكثر ممَ فعل، خاصة بعدما عاد إلى نقطة الصفر معها من جديد؟
❈-❈-❈
قبل موعد إقلاع طيارتها ببضعه دقائق، اتصل بها ليخبرها بالمستجدات الخطيرة، التي علمها بشكل مصادف، والتي تتعلق بحياة "عاصم"، ممَ منعها من استكمال إجراءات السفر الأخيرة، وجعلها تعود أدراجها، فقد أخبرها "صلاح" بأن موعد تنفيذ خطة قتل الآخر سيكون مساء اليوم. خرجت من المطار بخطوات راكضة، وعيناها تبحث عن موضع وجوده، وعندما أبصرت وقوفه بجوار أحد السيارات المتراصة أمامها، توجهت نحوه، ووجهها يعلوه تعبيرات مرتعدة، وما آن أصبحت أمامه، حتى سألته بالتياع:
-بتقول إيه؟ النهارده ازاي؟
اعتدل في وقفته، وأخبرها بجدية:
-ده اللي لسه عارفه، بالصدفة أصلا سمعت توفيق وهو بيقولهم الساعة متجيش حداشر إلا وهما منفذين.
رفعت ساعدها لتتفقد الوقت في ساعة معصمها، وقتئذٍ ازدادت معالم الخوف في التفشي بوجهها، وهتفت بهلع:
-الساعة دلوقتي عشرة ونص، يعني معادش وقت، انا لازم انبه عاصم.
سارعت في إخراج هاتفها المحمول من حقيبتها، لتأتي برقمه، وبعدما أجرت الاتصال به، ووضعت الهاتف فوق أذنها، أخبرها "صلاح":
-التنفيذ هيبقى على الطريق الصحراوي، قبل الشركة بتاعتة بعشرة كيلو.
ازداد نبضها من شدة الخوف، والهواجس المرعبة التي بدأت تهاجم رأسها، وبصوت متهدج رددت:
-يا رب يرد.
❈-❈-❈
كل ما حدث خلال الفترة الماضية إلى الحين، ما هو إلا عذاب مهلك، يدمر روحها، ويحطم ما تبقى من شغاف قلبها، حتى طاقتها سُلبت في محاولة إعادة بناء علاقتهما، والآن أنّى لها بقدرة على تحمل ذلك الوجع المضني، بعدما هُدم كل شيء من حولها؟ ظلت موضعها على الأريكة، تبكي وتنتحب، فكل ما تعرضت له، وجابهته في ذلك السن الصغيرة، يفوق قوة تحملها، تساقطت المزيد من العبرات، وشهقاتها تتخلل صوتها الناشج وهي تقول:
-كل اللي بيحصلي ده فوق طاقتي، انا مبقتش قادرة اتحمل.
رفعت يديها لتجفف وجنتها، ولكن الدموع لم تتوقف عن الانسياب، ممَ جعلها تزداد في البكاء وتردد:
-ليه بيحصل معايا كل ده؟ ليه افضل عايشة في العذاب ده؟
رفعت وجهها للأعلى، لتحادث ربها، هاتفةً بانكسار:
-يا رب لو ده عقابك ليا انا راضية ومش هعترض، بس أرجوك خفف وجعي والطف بيا.
أنزلت وجهها بعد ذلك، وتهدل كتفاها، وجسدها يتحرك بفعل نهنهاتها، مغمغةً:
-انا تعبت يا رب.
في ظل انهيارها، وخزة قوية عصفت بقلبها، جعلتها تتآوه بوجع، وتضع يدها فوق صدرها، ثم هسهست بصوتها المبحوح:
-قلبي واجعني ليه كده؟
شعور قابض لقلبها، داهمها بغتةً، ابتلعت ريقها في حلقها الجاف، بعد نفس عميق سحبته إلى داخل صدرها، محاولة ضبط نبضها القوي، لتخفف من ذلك الوجع الخانق، وبالرغم من عودة خفقاتها –بعد بضعة دقائق- إلى وتيرتها المنتظمة، إلا أنها ما تزال مقبوضة، تشعر وكأن هناك ما هو أسوأ في انتظارها.
❈-❈-❈
ظل على حالته المقهورة، خلال قيادته لسيارته، آخذًا مجازه نحو مقر شركته، عيناه فقدت كل معاني الحياة، وكأنه لم يعد يجد أي سببًا يحيا من أجله، رغم كثرة الأسباب من حوله، ولكن شعور الرفض جعل نظرته للحياة تتحول للسوداويه، فهو من قبل أن يولد كان مرفوضًا من والده، والآن بعدما صار رجلًا مرفوض من حبيبته، ماذا إذن بعدما يشيخ! هل سيكون مرفوضًا كذلك من أبنائه؟
تجسد أمام عينيه دموعها، وهي تلقي عليه عتابها، وهي تنبذ قربه، وكذلك وهي ترفض العودة إليه، كلماتها في كل مرة كانت قاسية، لا تُحتمل، ونظراتها الحزينة لا تُنسى، وصوتها الباكي، ما يزال يتردد على سمعه، وباستعادته لكثير مما سبق وألقته على سمعه، تردد في رأسه حوار بينهما، كان يحاول به أن يعيد حبال الوصال بينهما ثانيةً، وكان ردها حينها جافيًا، ولكنه كان حاملًا لكل الألم الكائن داخلها:
-أنا مش قادرة انسى ليك اي حاجة عملتها فيا.
دُهش من قساوة قلبها، بالرغم من كل محاولاته في نيل صفحها، واستعطفها بتساؤل تعيس:
-معقولة مش فاكرة ليا حاجة واحدة حلوة؟
صدمته بعبارة أشد قسوة، رددتها بجمود لم يعتَده منها معه:
-الوحش كان اكتر يا عاصم، ودمر كل الحلو اللي ليك جوايا.
انهمرت مزيد من الدموع، وهو لا يصدق أن قلبها لا يحنو عليه، مهما بدر منه من توسلات، واستعطافات، وفي خضم تفكيره المستنزف، استمع إلى صوت هاتفه، يتكرر به الرنين، أمسك به في وقتها، مترائيًا له الاسم المدون مشوشًا من عينيه الضبابيتين، وكان تلك المرة المتصل "مي"، تعجب من مهاتفتها له في ذلك الوقت، فمن المفترض أن تكون على متن طائرتها، مما جعل الشك ينتابه نحوها، ممَ رسم على وجهه تعبيرات متجهمة قبل أن يستقبل المكالمة، وتساءل بصوت مبحوح به بعض الهجوم:
-نعم، عايزه إيه؟
تجمدت ملامحه وهو يستمع إلى صوتها الصادح بقوة عبر الهاتف:
-عاصم ارجع تاني، متكملش عاملينلك كمين، في عربيتين في آخر الطريق، اللي فيهم مسلحين، هيخلصوا عليك.
مع نهاية كلماتها المحذرة، ضغط على مكابح السيارة بصورة مفاجئة، والتف بعد ذلك التفافة نصف دائرية بالمقود، لينحرف إلى الطريق الآخر، بغير أن ينظر من المرآة الجانبية، لتفقد الطريق من خلفه، وعندما تدارك ما فعله بغير تفكير، كان الآوان قد فات، حيث انتبه لتوه إلى مجيء سيارة من على بُعد ما يقرب من الثلاثة أمتار نحوه، على سرعة قصوة، تجمدت أطرافه، ولم يسعفه عقله لفعل شيء ليتفادى الاصطدام الوشيك، وما هي إلا لحظات وارتطمت السيارة بجانب سيارته، متسببة في انقلابها عدة مرات متتالية، بشكل دائري سريع، محدثة دمار بالغ بهيئتها الخارجية، يوحي بمصير "عاصم" المتواجد بداخلها؟
ذلك الحادث الصادم، والمروع، شاهده "عز الدين"، الذي كان يتبع الأول بسيارته. برقت عيناه، وتسللت البرودة لأطرافه في لحظتها، ثبت كالمشلول في موضعه، وما إن استطاع التحكم في صدمته التي أعجزته عن التحرك أو النبس بكلمة، لم يبدر منه غير صراخ يشيع فيه الرعب باسم أخيه، الذي لربما انتهت حياته أمام مرمى بصره:
-عـاصـــــــــم.
❈-❈-❈
بخطوات راكضة ترجل من سيارته، مهرولًا نحو موضع سيارة أخيه، التي توقف انقلابها على بُعد عدة خطوات منه. تضخم قلبه في صدره عندما اتضح له الصورة الكاملة لها بعد ذلك الحادث، واشتد وجيب قلبه إلى حد موجع عند رؤيته لوجه أخيه، الغارق في دمائه، ولكن ما جعل الارتعاد يتفشى به، هو ظهور الأدخنة التي بدأت في الخروج من ماكينة السيارة، فرت الدماء من وجهه، واندفع نحو باب السيارة لإخراجه، وهو يطمئن نفسه بإنه ما يزال على قيد الحياة.
في بادئ الأمر كان الباب عالقًا، وظل لعدة لحظات يكافح لفتحه، حتى نجح في الأخير بعد بذل مجهود مضني. ارتعشت يداه وهو يضعها على جسد "عاصم"، وشحذ قواه لإخراجه من السيارة، أمسك به من أسفل ذراعاه، ليكون ظهره ملاصقًا لجذعه، وقام بسحبه حتى ابتعد عن السيارة التي بدأت ألسنة اللهب تتآكل بها، أراح جسده على الأرض بتؤدة، وبدأ في تفقد نبضه، انهمرت دموعه عندما تأكد من أنه ما يزال يتنفس، وبصوت مهزوز هتف بالقرب من أذنه، محاولًا إفاقته:
-عاصم، عـاصــم.
تحركت حدقتاه من أسفل جفنيه المُغلقين، كتعبيرًا على سماعه، حينئذ تكلم "عز الدين" مجددًا بلهفة لاستجابته:
-عاصم.. عاصم فوق، متغمضش عينك.
بحركة بطيئة فتح عينيه نصف فتحة، جعلت الأمل يلوح فوق وجهه، الذي عادت له الدماء، وبلهفة متزايدة حدثه:
-انت سامعني صح، سامعني؟
لم يقوَ "عاصم" على الرد عليه، حتى أن عينيه قاربت على الانغلاق مجددًا، أنفاسه كانت بطيئه، ووجهه الثابت يبث المخاوف في قلب أخيه، الذي هتف ببكاءٍ يتوسله:
-متسيبنيش يا عاصم، متسيبش أخوك، أنا محتاجك معايا متموتش وتخليني ابقى لواحدي تاني.
بعد عدة محاولات للتكلم، استطاع أن يخرج كلمات ولكنها كانت متقطعة، وبصوت بالكاد يُسمع:
-داليا وولادي.. أمانة في رقبتك.. يا عز.
هز رأسه بالسلب وهو يذرف مزيدًا من الدموع، ورجاه بقلب يوخز فيه الخوف:
-لأ متقولش كده عشان خاطري، متقولش كده انت هتعيش.
سحب شهيقًا ليتحكم بانتحابه، متابعًا بانهيار:
-هتعيش مع مراتك وهتربي ولادك، وانت اللي هتشيل ابنك وابني وهتسميهم كمان.. أبوس إيدك متغمضش عينك، يا عاصم.
منع نفسه بصعوبة من الاستسلام للضباب الذي يجذب مداركه، وأخبره بنفس النبرة الخفيضة:
-كان نفسي اعيش لحد ما اكفر عن ذنوبي.. وارجع مراتي وولادي لحضني تاني.
جاهد ليلتقط أنفاسه، ساحبًا نفسًا ضعيفًا قبل أن يكمل:
-بس الظاهر ربنا مقابلش توبتي.. وده عقابه.. وأنا راضي بيه.
تراءى له إغماضه لعينيه، مستشعرًا برودة يده الممسك بها، أصابه الهلع من تفسيره لما هو مترائيًا له، وصاح به بصوت مختنق:
-عااصم لأ..
قاطعه صوت "عاصم" الذي تابع:
-خلي داليا تسامحني، عرفها إني.. كان نفسي تبقى آخر حد أشوفه.
انهمرت دمعة من جانب عينه الشبه مغلقة، وهو يختتم عباراته بصوت متقطع:
-قولها إني.. محبتش حد.. قدها.
كُتم صوته مع آخر ما نطق به، أتبع ذلك ميل رأسه إلى الجانب، وسكن جسده تمامًا بين يدي "عز الدين"، توسعت عيناه، وتهدجت أنفاسه في صدره الذي ينخفض ويرتفع بتتالٍ سريع، وما هي إلا لحظة واستوعب خسارته الحتميه لأخيه الذي لم يعد يشعر بأنفاسه نهائيًا، قاضيًا على آخر ذرات أمل بداخله، في نجاة أخيه من الموت، حرك رأسه بغير تصديق أنه بين طرفة عين فقده، غامت عيناه خلف دموعه الحارقة، واعتصر الوجع قلبه، ولم يكن في إمكانه التعبير عن ذلك الشعور القاسي إلا على هيئة صراخ مرير كاد يمزق أحباله الصوتيه من قوته:
-عــاصـــــم، لأا، أخويــــــا.