-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 54 السبت 28/10/2023

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الرابع والخمسون

تم النشر بتاريخ

28/10/2023



احترقت أعصابهم، وتلفت بشكل بالغ، فقد مر بعد علمهم بحادثة "عاصم" ما يقرب من الساعة والربع، وفي خلال تلك المدة تآكلت بهم الشكوك، ولعبت بفكرهم الهواجس، عدم رده على الهاتف، جعل الأفكار السوداوية تجول وتصول في رأسهم، وفي لحظة تحول التوتر العصبي إلى تفاجؤ بمجيء "جاسم"، ارتكزت أبصارهم جميعًا عليه، وتأهبوا في مواضعهم وهم يتابعون تقدمه نحوهم، كانت تعبيرات وجهه طبيعية، ولكن حملت نوعًا من الهزو وهو يتكلم، موجهًا كلماته إلى زوجته التي بات في قبالتها:


-مروحتيش لصاحبتك يعني.


تحكمت في حالة التفاجؤ التي تملكت منها من ظهوره المباغت، تجاهلت ما قاله، ونهضت عن جلستها، وسألته على الفور:


-جاسم انت كنت فين؟


بدوره تجاهل الرد على سؤالها، وسألها بفتور مشوب بالضيق:


-هترَوَحي معايا ولا بايتة هنا؟


وقفت أمامه مباشرة، وكررت السؤال بإلحاح أشد:


-جاسم رد عليا انت كنت فين؟


تعجب من جدية سؤالها، وهيئتها المذعورة والمحيرة، زوى ما بين حاجبيه وهو يتفحص وجهها، وأجاب بنبرة عادية:


-في إيه مالك، كنت بلف بالعربية بدل مانقعد نتخانق ونشد مع بعض اكتر.


تدخل "مجد" في تلك اللحظة في الحديث، ووجه نظراته نحو "جاسم" متسائلًا إياه بلهجة محققة:


-جاسم انت معملتش حاجة في عاصم؟


تفاقمت عقدت حاجبيه، وازدادت غرابته وهو يردد بصيغة تعجبية:


-عاصم!


حدق به بنظرات متفرسة وهو يؤكد له بتساؤل آخر:


-ايوه عاصم، لما خرجت من هنا مروحتلوش أو اتخانقتوا مع بعض.


لم يؤخذ تساؤله على محمل الجد، وظن أنه مجرد خوف نابع ممَ فاه به قبل خروجه، ورد عليه باستخفاف يحمل الكراهية البينة:


-والله ان كان عليا مش عايز اتخانق معاه، انا عايز اطلع روحه في ايدي.


بتوتر شديد خاطبت "رفيف" زوجها:


-جاسم رد علينا بقى متلعبش بأعصابنا اكتر من كده.


قطب جبينه بحيرة مضاعفة من طريقتهم في توجيه التساؤلات، وسألهم:


-انا مش فاهم ليه جو التحقيق ده، هو في إيه؟


بتعبيرات ما يزال يعلوها الذعر، ردت عليه بأعصاب متلفة:


-في إن عاصم عمل حادثة يا جاسم، واتنقل المستشفى وحالته خطر، عرفت في إيه؟


فغر عينيه بصدمة حقيقية، ولكنه سريعًا ما تغلب على صدمته، وتساءل:


-طب هو عمل حادثة، انا داخلي إيه؟


رد عليه "مجد" بطريقة متهمة:


-العربية اللي خبطته لسه مش عارفين مين صاحبها.


لتوه فهم ما يحاولون أن يرموا إليه من البداية، وسبب التساؤلات المبهمة، انشق ثغره للجانب بحركة متهكمة، تبعها بقوله الساخر:


-وانتوا شاكين بقى ان انا صاحبها اللي مش عارفينه.


دون أن يرف لـ"مجد" جفن، محاولًا سبر أغواره، وعدم تصديق ما يبدو عليه من صدمة بائنة بمعرفته بذلك الخبر، وأخبره بملامح شديدة الجدية:


-احنا شكينا إنك عملت فيه حاجة من الكلام اللي قلته.


اشتد وجهه من الاتهام الصريح الذي يوجهه له "مجد"، ونفى الأمر عنه بمصداقية لا تقبل التشكيك:


-لا طبعا معملتش فيه حاجة، أنا قلت كلام وقت عصبية، لكن ده مش معناه إني هروح اقتله فعلا.


بالرغم من شعوره بصدقه، إلا أنه أراد أن بضغط عليه أكثر، ليتأكد أن لا يد له فيمَ حدث، وأخبره مشددًا:


-جاسم، لو ليك يد في اللي حصله صارحنا عشان نعرف نتصرف.


شاع الحنق في وجهه، من تصميمه على نسب اتهام كذاك له، وهتف ببعض الانفعال:


-ليا يد في ايه؟ انت بتقول إيه يا مجد، انت تصدق اني ممكن اقتل حد حتى لو كان الحد ده عاصم!


حانت منه نظرة نحو زوجته خلال تفوهه بذلك التساؤل المستنكر لشكه مثل ذلك الشك الصادم به، رائيًا نظرتها المليئة بالاتهامات الصامتة، ثبت عينيه المشدوهة عليها، وسألها بغير تصديق:


-رفيف ليه البصة دي، انتي شاكة إن انا اللي ورا اللي حصله؟


انهمرت الدموع من عينيه وتقلصت عضلات وجهها بصورة توحي ببكائها الوشيك، حينئذٍ سألها بصدمة وهو يدنو منها:


-انتي بتعيطي ليه؟ انتي مصدقة ان انا عملت فيه حاجة؟


ظلت لعدة لحظات تنظر له بعينيها الدامعة، مترائيًا له توسلات عيناه بألا تقول ما يحزنه، ممَ جعلها تومئ بالسلب، فهي بالأساس لم تشك به للحظة، وقالت له بصوت منتحب:


-لأ يا جاسم مش مصدقة.


ألقت نفسها بين ذراعيه، محتضنة إياه بعاطفة مختاجة من كثرة الخوف الذي داهمها أثناء غيابه، وتابعت بنبرة باكية:


-انا خوفت عليك، خوفت لاتروح تتخانق معاه، لكن مصدقتش إنك تعمل كده.


تنفس بارتياح، فهو كان يخشى تصديقها هي بالذات، خوفًا من اهتزاز علاقتهما، وحاوطها بذراعيه، ماسحًا فوق ظهرها برفق، ليهدئها، ويبث فيها الآمان بوجوده بين ذراعيها، سكنت، وسكتت أصوات رأسها، ولكن أمر صديقتها، وما تجابهه الآن من حزن شديد على ما حل على زوجها، شغل فكرها، فصلت العناق سريعًا، ونظرت له بنظرة راجية قبل أن تقول:


-بس داليا..


استنبط طلبها، وقاطع كلماتها، مردفًا بهدوء:


-كلميها واعرفي هي فين دلوقتي، وروحيلها وأنا هاجي معاكي.


اهتزت بسمة فوق شفتيها، ممزوجة بدموع عينيها، وعانقته مجددًا، ثم سريعًا ما توجهت نحو هاتفها، لتهاتف صديقتها، وقلبها ينبض بقوة خوفًا من سماع صوتها، الذي حتمًا سيقطع نياط قلبها.



❈-❈-❈



ما يحدث الحين أقسى ما مر به، وأصعب ما جابهه، الانتظار بخارج غرفة العمليات –التي مضى إقرارًا ليدخلها أخيه بموافقة منه، وليخلي مسئولية المشفى إن وافته المنية بداخلها- يمزق قلبه بخنجر مسموم، تلك الورقة التي مضى عليها، لربما في أي وقت تتحول لشهادة وفاته، وليست وسيلة لإنقاذه كما دعا أن تكون. الدموع ليست كافية للتعبير عن وجعه، حتى الصراخ لن يطفيء جزءً من النيران التي تتآكل بصدره.


تماسك في وقفته قدر المستطاع، فهذا وقت لا يسمح بالانهيار، حاول التحكم في رعشة أطرافه، التي تخونه كلما مر الوقت، كلما طالت المدة، وكلما فكر في الخبر الذي سيتلقاه عند انتهاء العملية، ضغط على شفتيه بتوجع، فخفقاته تشتد، وتقوى، حتى آلمت صدره، واستشعر دبيبها في أذنه، متسببًا في صداع بات يدوي في رأسه، وكاد يفقده وعيه.


رفع رأسه للأعلى، حتى يضبط تنفسه، ويحافظ على ثباته المزعوم، وخلال ذلك شعر بخطوات راكضة تقترب منه، التفت برأسه نحو مصدرها، وما كاد ينتبه إلى كونها زوجة أخيه، حتى سألته هي بصوت لاهث يشيع فيه الهلع:


-عاصم فين؟


جفف عبراته سريعًا وهو ينطق اسمها بتفاجؤ:


-داليا!


هيئته المذرية أفزعتها، وجعلتها تشخص أبصارها عليه للحظة قبل أن تسأله بتوجس مرتعد:


-إيه اللي حصل لعاصم يا عز؟


بلع ريقه وبلل شفتيه بتوتر، ثم سألها بارتباك:


-مـ.. مين اللي عرفك؟


عدم رده على تساؤلاتها، بإجابة واضحة تهدئ من ذعرها، جعلها تفقد أعصابها، وهتفت بانفعال:


-يا عز رد عليا، عاصم فين وإيه اللي حصله؟


عجز لسانه عن الرد، فتوضيح ما حدث يصعب عليه سرده، ولم يقدر سوى على قول:


-عاصم كويس، إن شاء الله هيبقى كويس.


إجابته لم تسمن أو تغني من جوع، لم تطمئن قلبها، أو تريحها، ولكن وقوع عينيها على اسم الحجرة، المدون على لافتة أعلى الباب، جعل الالتياع يعصف بقلبها، وكلمته بتلبك:


-هما تحت قالولي إنه في العمليات، بس انا مصدقتهمش، هو في العمليات بجد؟ ابوس ايدك طمني.


أخفض عينيه بأسى، قهر، وعجز، يخفي دموعه التي تكومت فيهما، والحزن الذي ينبثق منهما، كان ذلك بمثابة جوابًا صامتًا، تحدرت دموعها وسألته بصوت باكٍ:


-طب حصله إيه؟ وحالته كانت عاملة ازاي لما جيبته؟


أغمض عينيه وقدرته في صوغ عبارة واحد يجيبها بها معدومة، بينما هي في تلك اللحظة سقطت عيناها على قميصه، منتبهة لتوها لبقعة الدماء الملطخة منطقة الصدر، خفق وجيبها بقوة، وبشفاه ترتعش سألته:


-د.. ده دمه؟


رأت الدموع التي تنزلق من عينيه، لتؤكد لها شكها. سالت عبراتها من طرفيها وهزت رأسها بالسلب مردفة بعدم تصديق نابع من صدمتها:


-لأ لأ انا بحلم، عاصم كويس..


وما لبثت أن صرخت بجنون:


-ده أكيد كابوس، كابوس، عاصم محصلوش حاجة.


خشى من تبعات انهيارها على حملها، ودنا منها ممسكًا بجانب ذراعيها، قائلًا لها:


-اهدي يا داليا، ان شاء الله عاصم هيقوم منها بالسلامة، اهدي عشان اللي في بطنك.


لم تستمع لمَ قاله، فقد تشوش عقلها، واعتصر الندم صدرها، فلولا ما قالته له ما كان ليخرج من البيت، وما كانت ليتعرض لتلك الحادثة اللعينة، حمَّلت نفسها كامل الذنب فيمَ حدث له، متمكنًا منها ذلك التفكير بقوة. وضعت يديها على وجهها وهي تصرخ بانهيار:


-انا السبب، انا السبب.


اشتدت قبضتيه على ذراعيها، خوفًا من سقوطها في أي لحظة، ورفع صوته حتى تستمع له مرددًا:


-ده قضاء وقدر متقوليش كده، كل حاجة مكتوبة عند ربنا، اهدي واستغفري ربنا وادعيله.


بكت وانتحبت وتخللت الشهقات حلقها، وتضرعت مغمغمة بضعف:


-يا رب، يا رب.


أجلسها "عز الدين" على كرسي مجاور، ووجهه يعبر عن خوفه البالغ، الذي أصبح لا يقتصر على أخيه فقط، رغم كون الجزء الأكبر عليه، ولكنه بات خائفًا كذلك على "داليا"، فهو يخشى تبعات معرفتها بما أخبره به الطبيب قبيل دخول أخيه غرفة العمليات، فكل ذلك الانهيار وهي لا تدري بعد ما الذي أصابه، فكيف إذن ستكون حالتها عندما تعلم كافة الأحداث وأبعاد ما حاق به؟



❈-❈-❈


تكومت بجسد مرتجف في أحد أركان الغرفة، التي يغلب عليها رائحة العفن، والغبار النتن، جلست دافنة جسدها بزاوية التقاء حائطين، ركبتاها أمام صدرها، ومحاوطة ساقيها بذراعيها، وعيناها مرتكزتان على باب الغرفة، بخوف شديد من عودتهم، واكتمال ما توقفوا عن فعله، حينما وصلهم خبر القبض على رب عملهم، تتنفس باضطراب شديد، وطرفيها يحتجزان دموع بكائها، الذي لربما كان تحول إلى صرخات مدوية، إن كانوا أتموا ما بدأوه، وهو انتهاك حرمة جسدها.


فلحسن حظها أن ذلك الخبر انتشر بينهما، بعد مجيئها ذلك المكان بدقائق معدودة، لم ينجحوا خلالها سوى بقطع مقدمة ثيابها، ومحاولات تثبيتها التي كانت تبوء يالفشل بسبب مقاومتها الشديدة. انتفضت بغتة في موضعها، فقد سمعت صوت حركة بالخارج، أتبعه انفتاح الباب بشكل مفاجئ وعلى حين غرة، حينئذ تفلتت منها صرخة مرتعبة، ورفعت يديها أمام وجهها، ولكن الصوت المألوف الذي هتف باسمها، جعلها تبعد يديها، وتنظر إليه على الفور، وما إن أبصرته، حتى انسابت دموعها، هاتفة باستجداء يحمل التفاجؤ:


-صلاح.


تقدم منها وهو يردد باستعجال:


-قومي بسرعة.


لم تتحرك من موضعها، وأشارت له بانكسار إلى ثيابها الممزقة، ولتوه انتبه إلى يدها التي أخفضتها لتخفي بها مفاتنها، أخفض عينيه بحرج، وسريعًا ما خلع عنه سترته، اقترب منها وهو يتحاشى النظر إليها، ومد يده لها بالسترة، أخذتها منه مرتدية إياها على الفور، وقتئذٍ عاونها على النهوض، ملاحظًا رعشة يديها، نظر لها بتفحص وسألها باهتمام:


-عملوا فيكي حاجة؟


هزت رأسها بالنفي، ودموعها ما تزال تنساب من مقلتيها، ثم أخبرته بانتحاب:


-ملحقوش، جاتلهم الاخبار باللي حصل لتوفيق، وسابوني ومشوا علطول.


ناظرها بتعاطف، وربت على كتفها قبل أن يقول لها بخفوت:


-الحمد لله، يلا بينا احنا من هنا قبل ما حد يرجع.


أمسك بيدها وسارا بخطوات راكضة خارجًا، وما إن مرت من الباب حتى رأت جسد رجل مسجى أرضًا، وضعت يدها فوق فمها، تكتم شهقتها، حينها أشار لها بيده حتى تهدأ، وأخبرها بأنه فاقد الوعي، ففهمت أنه الشخص الذي استبقوه لمراقبتها لحين عودتهم، وقد نجح "صلاح" في التصدي له، استقلت السيارة بجانبه، وعلى الفور أدار محركها وابتعد بها عن ذلك المكان المقبض، التقطت هي فس ذلك الوقت أنفاسها بارتياح، وبداخلها تحمد المولى على إتيانه لانقاذها من بين براثن هؤلاء الوحوش البشرية.



❈-❈-❈



النبأ المتوقع عندما انتقل إليهم، استقبلته بهدوء كان غير متوقع، على عكس والدتها، التي ثارت وصُدمت، وسريعًا ما توجهت لتبديل ثيابها، للذهاب إلى قسم الشرطة، الذي اُحتجِز به زوجها، لتحري الأمر بنفسها، بينما ظلت "سما" حبيسة غرفتها، عبرت ملامحها المنطفئة عن فقدان أمل في حياتها، فوالده سُجن، وزواجها انتهى قبل أن يبدأ، ومشاعرها تحطمت، في أي شيء إذن ستستجدي الأمل؟ 


رسائل متتالية تُبعث لها، وصوت رنينها يزيد الصخب الدائر في رأسها، بدون أن تتفقد هوية المُرسِل، وهي تيقن من أنه "كرم"، رغمًا عنها فضولها جعلها تفتح رسائله. أغلبها كانت تتوسلها للرد عليه، والعديد منها تحمل وعودًا يقطعها على نفسه بجعل حياتهم سعيدة، ومع كل رسالة يقسم بصدق حبه لها. تساقطت دموعها وهي تقرأ بعينيها الداميتين من كثرة البكاء. إن كان أرسل لها بكل ذلك قبل كل ما علمته، لكان شعورها فاق كل سعادة العالم، ولكن الحين ما تشعر به هو الوجع، والتألم فحسب، أغلقت الهاتف، ووضعته بجانبها وهي تبكي وتنتحب قائلةً:


-خلاص مبقاش ينفع.



❈-❈-❈



ابتلع المرارة المنتشرة في ريقه، وجاهد لإظهار الثبات الإنفعالي وهو جالس على المقعد المجاور لزوجة أخيه، التي لم تنفك عن البكاء منذ قدومها، لم يمنح لنفسه رفاهية الانهيار مثلها، ولم يسمح لدموعه بالهطول في وجودها، فإن ترك العنان لشعوره، من سيساندها إذن وهي في أوج ضعفها؟ ولكن من عساه يسانده وهو يجابه لأول مرة ذلك الألم المميت، والخوف المهلك؟ 


بصعوبة تحكم في نوبة البكاء التي اجتاحته بغتةً، من استعادته لأحاديث عدة جمعته بأخيه، خلال الأشهر القليلة الماضية، صورته وهو جالس إلى جواره تشكلت في صفحة ذهنه، نظراته اللامعة، بسمته المحبة، وصوته المتحمس لقضاء أوقاتًا كثيرة قادمة رفقته، وصنع ذكريات تعوضهما عمَ لم يعيشاه سويًا في صغرهما، صدى كل كلمة قالها يتردد في أذنه، عباراته المتفائلة التي كانت تملأها الألفة، اتضح أنه يتذكرها جميعها، عبارات كانت نابعة من قلب يخاف الوحدة، يناشد من حوله بالبقاء ليستأنس بهم، راحت تتكرر واحدة تلو الأخرى في سمعه:


-انت اخويا، ملناش غير بعض، ومهما حصل بينا لازم نفضل في ضهر بعض.


-لازم نعوض السنين اللي فاتت، احنا يمكن متربناش مع بعض ولا لينا ذكريات سوا، عشان كده عيالنا لازم يتربوا في بيت واحد، ونعيش معاهم اللي معشناهوش في صغرنا.


-أوعى في يوم تسيب إيدي مهما حصل يا عز.


أدار وجهه حتى لا ترى "داليا" دموعه، وبقهر وانكسار ردد بخفوت:


-انت اللي بتسيب إيدي دلوقتي يا عاصم.


أخرج نفسًا طويلًا، أتبعه مغمغمًا بصوت شبه مختنق:


-متموتش عشان خاطري، مش بعد ماتجمعنا تسيبني وتمشي.


خفقة متوترة شعر بها عندما ظهر الطبيب من خلف الباب الذي فُتح لتوه، سارع الاثنان في النهوض، وركضا إلى الطبيب، أبقت "داليا" نظراتها المرتعدة والمترقبة عليه، بينما تساءل "عز الدين" على الفور بلهفة:


-طمنا يا دكتور.


أنزل الطبيب القناع الطبي عن وجهه، وسحب نفسًا مطولًا، ثم أخبرهما بنبرة مرهقة:


-الحمد لله العملية عدت على خير.


تنفس "عز الدين" الصعداء، وترقرقت الدموع بعينيه، بينما "داليا" لم يهدأ توترها ممَ فاه به، فهي إلى الحين لا تعلم نوع العملية التى جرت لزوجها، فرقت نظراتها بين الطبيب و"عز الدين" وتساءلت بخوف ما يزال ينبض بداخلها:


-عملية إيه بالظبط؟


حول الطبيب نظره نحو "عز الدين"، بنظرة متسائلة عن هويتها، فهم الآخر نظرته، وسريعًا ما أجابه بصوت متعب:


-مدام داليا مرات عاصم.


هز رأسه بتفهم، وعلم أنه لم يستطِع إخبارها بتفاصيل حالة أخيه، لذا بحذر شديد بدأ في الإيضاح:


-عاصم بيه جاي المستشفى في حالة نزيف في الدماغ..


وضعت يديها فوق فمها وهي تشهق بصدمة مرتعبة، تابع من بعدها الطبيب بأسف:


-والنزيف ده حصل بسبب دخول جسم حديدي مدبب في الرأس، عملناله فحص سريري وفحوصات مخبرية وتحليل عينات دم وصورة طبقية محورية وشعاعية للدماغ، ولما وجدنا نزيف داخلي لجأنا للتدخل الجراحي الفوري لوقف النزف وإزالة التجمع الدموي المتخثر.


من كلماته شعرت بخطورة حالة زوجها، والتفت برأسها نحو "عز الدين"، وبخوف ممزوج بصدمتها هتفت باسمه وكأنها تتوسل طمأنته:


-عز.


ربت على ذراعها بنوع من الدعم، وهو مثبت نظراته القلقة على الطبيب، الذي تابع بنبرة عملية:


-العملية الحمد لله نجحت، لكن المريض هيفضل في العناية المركزة، التمانية واربعين ساعة الجايين، للتحقق من التقدم المحرز بعد الجراحة.


ارتكز ببصره على الطبيب وسأله:


-طب هو هيفوق امتى؟


ظهر عدم العلم على وجهه وهو يجيبه:


-منقدرش نحدد دلوقتي، وقت الافاقة بيختلف من حالة للتانية.


اختطف نظرة نحو "داليا" التي ما تزال على صدمتها، وسأله بخوف:


-طيب يا دكتور، في أمل كبير للتعافي؟


ضم الطبيب فمه لحظيًا، ثم رد عليه بجدية:


-مخبيش عليك يا دكتور عز، العملية خطيرة، ومنقدرش نحكم دلوقتي على نسبة التعافي.


غام وجهه خلف حزن ممزوج بخوف لم يخبُ حتى بعد ما علمه بشأن نجاح العملية، فالخوف الحين لن يقتصر على ساعة أو ساعتين، انتظرها خلال إجراء الجراحة، بل سيمتد إلى أكثر من ذلك، حتى يتأكدوا من استقرار حالته من عدمها. رأى الطبيب أن بقائه في ذلك الوقت لم يعد له بد، لذا تحفز في وقته وقال لهما وهو يشرع في السير:


-ادعوله، وإن شاء الله يقوم بالسلامة، عن إذنكم.


أطبق "عز الدين" على جفنيه، وبيديه ضغط على رأسه، بينما "داليا" خرت جالسة على المقعد، فقدميها لم يعدا يحملاها، بعد تلقي تلك الأخبار القاسمة، لم تتوقع في أعماقها المنتهكة، أو مخيلتها السوداوية، أن يحدث كل ذلك في طرفة عين، لم تتوقع أن يغدو "عاصم" بكل جبروته وبأسه السابق، طريح الفراش، روحه عالقة بين الحياة والموت.



❈-❈-❈



بضعة دقائق مرت، وكانت كل من زوجة "عز الدين" ووالدته متواجدتين بالمشفى، بقت "أمل" مع ابنها أثناء إملاء أقواله، وما شاهده للشرطي، المحقق في قضية حادث أخيه، بينما ظلت "زينة" مع "داليا"، الواقفة خلف الشرفة الزجاجية، لغرفة العناية المركزة، بصرها مرتكز على زوجها الراقد على الفراش، يحاوط الشاش الطبي رأسه، وتنتشر الكدمات والخدوش والسجحات بوجهه، والعديد من الأجهزة الطبية متصلة بجسده. تخطي ذلك المشهد سيكون من الصعب عليها ما حيت، كسرت الصمت الذي ساد بينهما طوال الدقائق المنصرمة، وتكلمت بصوتها الذي بات خاليًا من الحياة:


-انا كنت خايفة اموت واسيب ولادنا..


حولت "زينة" نظرها بانتباه، في حين تابعت الأخرى بنفس النبرة الميتة:


-خليته يوعدني إنه هيفضل معاهم، وياخد باله منهم لو حصلي حاجة..


انسابت الدموع من طرفيها على التوالي، وأكملت:


-دلوقتي هو اللي هيموت ويسيبنا.


دنت منها محاوطة كتفيها بذراعها، وبيدها الأخرى تمسح فوق ذراعها، قائلًة لها بحزن:


-متقوليش كده يا داليا، إن شاء الله هيقوملك بالسلامة.


هزت رأسه بالسلب، ورددت:


-مش حاسة، عاصم خلاص راح.


تساقطت عبرات "زينة"، وعجزت عن التهوين عليها، بينما استطرد "داليا" بعد أن التفتت بوجهها لها:


-عارفة إن كان ممكن محصلتش الحادثة لو كنت قبلت اني ارجعله.


لاح التعجب وعدم الفهم على وجه "زينة" الباكي، وكأن "داليا" فهمت ما طرأ على محياها، وتابعت في إيضاح:


-هو جالي قبلها، اترجاني واتحايل عليا اني ارجعله وانا رفضت، ذليته ووجعته بكلامي، مشى وهو منهار بسببي.


في لحظة تحول الجمود الغريب لتعبيراتها، إلى بكاء اجتاح كل كيانها، وأطنبت بنحيب:


-الحادثة دي حصلت بسببي يا زينة، انا السبب في موته، ولادي عمرهم ماهيسامحوني، انا قتلت أبوهم.


ازداد صوت بكائها علوًا، حتى شعرت "زينة" بأن الوضع سيخرج عن السيطرة إن لم تحاول تهدئتها، ومدت يدها نحو وهي تقول:


-داليا..


بُتر الكلام في حلقها من حركة "داليا" المتشنجة وهي تشير بيديها على نفسها وتهتف بصراخ:


-انا السبب في اللي حصله يا زينة.


تضاعف بكاء "زينة" وهي ترى "داليا" تضرب بيديها على الزجاج، مخاطبة زوجها المسجى بنشيج هادر:


-أنا السبب في اللي حصلك يا عاصم.


وضعت يدها على صدرها المحترق، وجسدها يخور أرضًا، وهي ما تزال تصرخ وتنوح، أمسكت بها "زينة" حتى تحول دون سقوطها، وفي تلك اللحظة أتت "رفيف" وزوجها ركضًا من بداية الرواق، ساندا الأخرى في الإمساك بها، وهي تردد ببكاء مرير:


-انا اللي موتك يا حبيبي.


اشتد بكاء "زينة" على الأخير، واحتضنتها "رفيف" التي تحدرت دموعها تؤثرًا بحالة صديقتها، وملأ وجه "جاسم" الأسف، عجز ثلاثتهم عن التحكم في نوبة بكائها أو صراخها، وظلت تنادي على زوجها بانهيار:


-عـاصم.


❈-❈-❈



بعدما تم الانتهاء من محضر القبض على "توفيق"، خرج مع أمين الشرطة من غرفة الضابط المكلف بالقبض عليه، والأساور الحديدية ملتفة حول يديه، حيث سيتم حجزه إلى حين عرضه صباح اليوم التالي على النيابة، لبداية التحقيقات. في خلال سيره وقعت عيناه على أحد رجاله، وسط الحشد المرابط من الصحافيين، الذي جاءوا لرصد الخبر الحصري، اقترب منه الرجل، ممَ جعل "توفيق" يطلب من رجل الشرطة أن يمهله دقيقة للتحدث معه، وعندما سمح له، استرسل له ذلك الرجل بشكل سريع بعض المستجدات، بمَ تتضمن حادثة "عاصم"، التي لم تتم عن طريقهم، اعتلت الضغينة وجهه، وفي الخفاء، وبدون أن يسمعه أحد، أمره بكراهية شديدة:


-لو فضل عايش، تخلص عليه.


يتبع..

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية