رواية جديدة الحصان والبيدق لناهد خالد - الفصل 1 - الثلاثاء 13/2/2023
قراءة رواية الحصان والبيدق
الجزء الثاني من رواية بك أحيا كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية الحصان والبيدق
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة ناهد خالد
الفصل الأول
تم النشر يوم الثلاثاء
بين ليلة وضحاها يمكن أن تنقلب حياتك رأسًا على عقب، فكن مستعدًا! "
"انتهت لعبة التخفي، والآن دُقت الطبول مُعلنة بدء الحرب، حرب غير عادلة، فالطرفان لا يتساويان لا قوةً ولا ذكاءً ولا مكرًا، ولكن الحرب لا تهتم بتكافؤ الطرفين، هي فقط تبدأ.. لتجلب خلفها الخراب، غير آبهة بالضحايا"
سقطت.. تهاوت جالسة أرضًا وبيدها ذلك المظروف الذي قلب حياتها رأسًا على عقب، لمدة لم تعلمها، ربما ربع ساعة، أو نصف، أو ثلاثة أرباع.. او ساعة كاملة!
لم تشعر بالوقت، فمن يشعر بهِ هو من ينتظر حدوث شيء، أو ينتظر شخصًا، أو لا يفعل أي شيء فيجلس فقط بملل يراقب عقارب الساعة، وهي ليست أيًا من هؤلاء، بل بالعكس بها الكثير مما يشغلها عن الالتفات للوقت، رأسها يدور كدوران الطاحونة، لا تعرف بما تفكر تحديدًا من كثرة تخاطر الأفكار على عقلها، من زحمة ما تفكر بهِ تاهت ونست الموضوع الرئيسي، اغمضت عيناها بتعب وهي تشعر بصداع شديد يكاد يفتك برأسها، انحنت واسندت رأسها على الأرض، تدور الغرفة بها كدوران الكوكب حول محوره، ابتسامة ساخرة لحد الألم زينت ثغرها وهي تردد بخفوت:
_مراد... مراد..
_ خديجة، فينك يا بنتي؟
هتفت بها "فريال" التي دلفت الغرفة للتو، لتتوقف مصدومة وهي تبصر "خديجة" الملقاة أرضًا بهذا الوضع، اقتربت منها بسرعة مُستفيقة من صدمتها وقد ظنت انها قد اغشى عليها، لكنها وجدت عيناها مفتحتان فاطمئنت قليلاً وهي تهزها برفق مردفة:
_ فزعتيني يا خديجة الله يسامحك، أنتِ نايمة اكده ليه؟ جومي الأرض ساجعة عليكِ.
لم تتلقى رد من تلك المتسطحة أرضًا وعيناها لم تتحرك من مكانها، ليبدأ القلق بالتسلل لقلبها من حالتها الغريبة، فهتفت متسائلة بقلق وهي تهزها:
_ وه فيكِ ايه يابت خالي؟ أنتِ زينة ولا مالك؟ خديجة ردي!
رفعت صوتها في كلمتها الأخيرة، لتستفيق "خديجة" أخيرًا من شرودها الجبري، وتحركت مقلتيها بحركة عشوائية وكأنها تستوعب شيء ما! استقامت جالسة وهي تنظر ل"فريال" بصمت لثواني، تحت نظرات الأخرى المترقبة والجاهلة لِمَ يحدث، ثواني فقط، ووجدت "خديجة" تُصاب بحالة هستيرية غير طبيعية بدأتها تهمهم بكلمات غير مفهومة ثم أخذت دموعها تتهاوى وبعدها صارت تقطع الظرف الذي بيدها بغل واضح وكأنها تخرج غضبها بهِ، حالة لم تراها "فريال" بها من قبل، فاضطربت وتملكها الخوف والقلق وهي تحاول تهدئتها حتى نجحت بعد فترة ليست بقليلة، وكانت فرصتها حين شعرت بهدوء "خديجة" لتسألها فورًا بتأثر:
_ مالك بس ايه الي جرالك؟ مانتي كنتِ زينة والفرحة ممساعيكيش، ايه الي جلب حالك اكده يا خديجة؟ جوليلي يا حبيبتي، ريحي بالي.
نظرت لها خديجة بمقلتيها التي تلونا بلون احمر قاني، ووجهها الذي شحب فجأة وكأنه لم يكن كالبدر منذُ ساعة فقط! وخرجت نبرتها مبحوحة وهي تقول بكسرة واضحة:
_ فرحتي اتكسرت يا فريال، سعادتي اتحولت لجحيم مش مصدقة إني عيشاه.
بلغ القلق اقصاه لدى "فريال" التي قالت بملامح تملأها الحيرة والقلق:
_ يا ستار يارب، ليه ايه الي جرا، اتحدتي طوالي وجعتي جلبي!
بابتسامة ساخرة من حالها ومن قدرها، وبلامبالاة سيطرت على نبرتها:
_ عارفه زين... جوزي.. طلع مش زين، طلع مراد، فكراه يا فريال؟ فاكره مراد الي حكيتلك عنه زمان اول ما بقينا صحاب وقولتلك انه كان اقرب واحد ليا وانا صغيرة، وكان ابن الناس الي ابويا كان شغال عندهم.
اختفى القلق، وذهبت الحيرة، وأصبحت ملامحها فقط "مذهولة" لا تصدق ما تسمعه، وعبرت عن هذا حين قالت بعدم استيعاب للأمر:
_ بتجولي ايه؟ كيف يعني؟ وعرفتِ كيف؟ ولما عرفتِ مرفضتيش الجوازة ليه... بس أنتِ كنتِ مبسوطة وجت كتب الكتاب!
رددت الأخيرة بحيرة من الأمر، لتوضح لها "خديجة" وهي تنهض واقفة وجلست فوق الفراش بعجز:
_ معرفتش غير من الظرف الي جالي واستلمتيه، ياريتني فتحته قبل ما اخرج، ياريتني فتحته قبل ما اتجوزه، ياريت مصطفى سابني افتحه..الله يسامحك يا مصطفى، الله يسامحك ياخويا رمتني في العذاب من غير ماتقصد..
صرخت بالأخيرة بقهر وهي تضرب ركبتيها بكفيها بعنف، فأسرعت "فريال" تمنعها وهي تهتف بقوة:
_ اهدي، اهدي يا خديجة وبكفياكِ نواح، خلاص الي حوصل حوصل، بس مينفعش تكملي معاه، احنا نكلم باهر ويبعت يجيبه ونواجهه ونخليه يطلجك.
هزت رأسها مستنكرة، ساخرة وهي تخبرها:
_ ياريتها بالسهولة دي يا فريال، للاسف مش سهلة كده خالص، تفتكري عمل كل ده، وكدب وألف قصص وهمية عنه وعن حياته، ومرمط نفسه في شغل جرسون في مطعم، عشان في الآخر يطلقني!
قطبت "فريال" حاجبيها بعدم فهم:
_ هو ايه الي يجبره يعمل كل ده يا خديجة؟ ليه مدراكيش بالحجيجة من الاول؟ انا خابرة أن زمان حصل بينكوا حاجات بعدتكوا عن بعض وانه أذاكي كيف ما جولتيلي بس مجولتليش أذاكي كيف ومحباش اعرف مادام مريداش تجولي، لكن أذيته دي هو خابرها زين؟ عشان اكده كدب عليكِ لأنه خابر انه لو جه وعرفك بنفسه هترفضيه؟
هزت رأسها إيجابًا وهي تتحدث وقد شردت عيناها بعيدًا:
_ عارف، عارف إني مش هقبل ادخله حياتي تاني، عارف اني مش هسمحله يقرب مني حتى، عشان كده لعبها صح، كدب، وخدعني، وللأسف وقعت في الفخ بسهولة وقدر يخدعني، كنت كتير بشك فيه والله، اوقات كنت بشوف مراد فيه، في لحظة عصبيته بالذات، بس ولا مرة اتأكدت، انا مش عارفة اعمل ايه، أنا تايهه.. و... وخايفة، خايفة اوي يا فريال.
قالت آخر كلماتها بارتعاش نابع من خوفها الكامن بداخلها، تعلم أنها ستلاقي الجحيم بانواعه في الفترة المقبلة، تعلم أنه لم يفعل كل هذا ليتركه في الأخير يذهب سدى، هو خطط لكل شيء لكي يصل لغايته والتي تجهلها الآن، نعم تجهلها.. فهي لا تعرف لِمَ أصر كل هذا الإصرار للوصول إليها؟ هل هو حب؟ أي حب هذا! إن كان قد أحبها من الأساس، فلقد كان حب في الطفولة، ليس حب عنتر لعبلة، ولا حب قيس لليلى، ولا حب روميو وجوليت الأسطوري! ببساطة لأن هذه قصة واقعية ليس اسطورة ما، أو حتى أصبح الحب كما كان في قديم الزمان، ولأنها لا تعيش في الخيال ولا تعيش في أحد تلك العصور، فهي لا تتوقع أن يكن حبه هو الدافع لكل ما فعله، أيعقل أن يكون الأمر مجرد انتقام؟ انتقام منها عما فعلته في الماضي وهروبها منه؟ ولكن وإن كان هكذا حقًا، فهل يعقل أنه مازال يحمل الضغينة تجاه ما فعلته؟ هل أضاع وقته الثمين وقلل من شأنه لأجل هدف انتقامي تافه لشيء حدث منذ سنوات!؟... وبالأخير توصلت إلي أنها لا تعلم الغاية التي وراء الهدف..
_ اهدي أنتِ بترتعشي، انا الحجيجة مخبراش هو ليه عمل اكده، ولا هدفه ايه، بس للأمانه انا كل الي شوفته منه ليكِ حب وخوف واهتمام، ده كان بيتطلعلك بنظرات وكأنه بيتطلع لجوهرة ولا كنز، أنا شوفتها بعيني والعين مبتكدبش، اسمعيه يا خديجة، واجهيه واسمعيه يمكن تلاجي جواب لأسئلتك، ولو ملجتيش ولا ماقتنعتيش بحديته وجتها ندخل باهر ويتصرف.
وخلف "فريال" ظهرت "سارة" وهي تقول:
_ ايوه يا خديجة كلميه، كلمي المحروس وخليه ييجي، اما نشوف اخرتها معاه... ومعاكِ.
اذدردت ريقها بتوتر وهي ترى "سارة" أمامها، عادت لتزورها بعد سبعة أشهر غياب! هل عادت هلاوسها مرة أخرى على ذِكر سيرة مراد!؟
انتباها الغضب، وتأججت نيران الحقد والتمرد بداخلها، لتنهض باحثة عن هاتفها حتى وجدته، فطلبت نمرته وهي تهز قدمها بلا توقف، وملامحها تتلون بالغضب وعيناها التي غامت سحابتها ببداية شر سيكن سببًا في الخراب، وما إن أتاها الرد حتى قالت بنبرة جامدة قبل أن تنهي المكالمة:
_ ارجعلي، عوزاك.
_ خديجة اهدي ورتبي هتواجهيه ازاي او هتجوليله ايه، عشان متتهوريش وتخربي الدنيا.
هذا ما هتفت بهِ "فريال" وهي تحذر "خديجة" من التهور، والتي ارتعش جسدها في هذه اللحظة وهي تدرك أنه سيقف أمامها، ستقف أمام "مراد"، ستواجه ماضيها، ستقف أمام كابوسها الذي لازمها طوال حياتها ولم يتركها حتى الآن، رفعت رأسها تلتقط انفاسها بعمق وهي تعد نفسها لهذه المواجهة... فهي مواجهة حتمية لا فرار منها.
دلف لمنزله والسعادة تتراقص في مقلتيهِ، يكاد يطير من فوق الأرض من شدة سعادته، اليوم اصبحت له، اصبحت ملكه، اصبحت حرم "مراد وهدان" كما حلمَ دومًا، من اليوم فصاعد لن تبتعد عنه بأي قوة كانت، من اليوم صارت له رغمًا عن أنف الجميع.
اليوم تحقق حلم طفولته وصباه.. فمن أسعد منه إذًا!؟
ولأن السعادة دومًا لا تكتمل وجدها أمامه، "ليلى" والدته التي تنظر له الآن بنظرة لم يعهدها قط، تنظر له باتهام، انكسار، ذهول، ونظرة أخرى خشاها، نظرة وكأنها تجهل هويته! كأنها لا تعرفه...
نظرات استطاع تفسيرها بوضوح فهي بالأخير في عين والدته! وهو خير من يعلمها ويعرف مغزى نظراتها دون أن تبوح بشيء..
وهذا ما جعله يقف أمامها قلقًا ولأول مرة، لم يتحدث فقط انحنى ليكن في مستواها وهو يحاول أن يبتسم قليلاً كي يبدأ في الحديث، لكن الوقت لم يسعفه..
فهي لم تتحدث ولم تترك له المجال للحديث، فقط صدح صوت ضربة عنيفة كانت لكفها الذي طبع على وجنته اليسرى بلا مقدمات..
دموع محتقنة في عيناها، وذهول تنضح بهِ نظراته، ولمحة عابرة من الانكسار مرت بسحابة عيناه وهو ينظر لها بصمت قاتل... صمت وراءه يقين بأنها عرفت شيء لم يكن عليها معرفته...
❈-❈-❈
بسوهاج...
صراخ، وعويل، بكاء عالٍ، ولطيم من النساء، وتجمهر من أهل البلدة حول بيت واحد.. ألا وهو بيت "آل الدالي" وبالأخص بيت "منصور الدالي"، ركض من هذا وذاك، وبالأخير خروج طبيب بثيابه المعروفة وهو حاني رأسه بآسف ويأس، وبالجوار يقف اثنان أحدهما ضرب كفًا بالآخر وهو يردد بآسى:
_ لا حول ولا قوة الا بالله، الله يرحمك ياحاج منصور.
والآخر علقَ:
_ كان راجل طيب والله.
وبالداخل...
أخذت تضرب وجنتيها بكفيها وصراخها يصدح عاليًا، فيكسر سكون الليل ويسمعه أهل البلدة بأكملها.
ومن بين ولولتها ونحيبها كانت تردف ببعض الجمل التي تثير التأثر في نفس السامعين:
_ فوتني لمين ياخوي، فوتني لحالي يا منصور، ده انا مليش غيرك ياخوي، لسه بدري يا منصور... عيالك لسه محتاجينك ياخوي...
_ بكفياكِ ياعمتي... بكفياكِ نواح عاد.
هدر بها "ابراهيم" وهو يخرج من أحد الغرف والتي وُضع بها "منصور" لحين انتهاء اجراءات الدفن.
نظرت له من بين دموعها وهي تقول:
_ كلم اخوك يا إبراهيم، خليه ييجي يلحج ابوه يشوفه ويملي عينه منه جبل ما يروح لمسواه الأخير.
اغمض عيناه بتعب وتنهد بقوة مردفًا بعدها:
_ هكلمه يا عمتي، وهندفن الصبح على مايلحج ييجي.
انهى حديثه وهو يخرج هاتفه ويجري مكالمة هاتفية ب "باهر"..
❈-❈-❈
نظراته المنكسرة بعد صفعتها له أصابت قلبها بغصة مريرة، لكنها مرغمة أن تظهر العكس، فهتفت بجمود:
_ أنتٌ مين؟ ابني فين؟؟؟
خفتت انفاسه وهو يبتلع ريقه بصعوبة بينما لسانه يسألها:
_ في ايه يا ماما؟ أنتِ ليه بتقولي كده!؟ أنا..
دفعة خفيفة من يدها لصدره ارتد على أثرها خطوة واحدة للخلف، لكنه تماسك، وهو يعود جالسًا على ركبتيهِ أمامها، صامدًا قدر المستطاع..
_ أنتَ ازاي قدرت تكدب عليَّ كل ده، ازاي قدرت تخدعني بالسهولة دي! هو سؤال واحد وتجاوب عليه يا مراد، ولو كدبت هعرف.
بلل شفتيهِ بتردد، يعلم أن السؤال لن يعجبه، والاجابة لن تكن سهلة، هل يسمح لها بالسؤال في حين أن شرط الإجابة هو الصدق!؟
صرخت بهِ ثانيًة تحثه على الانصياع لرغبتها وهي تردد:
_ رُد!
هز رأسه بايجاب مجبر، دون حديث، فتهاوت دموعها وهي تسأله بعجز وبداخلها يدعو الله أن تكون الإجابة عكس ما تتوقع:
_ أنتَ قتلت سارة زمان؟ وده السبب في هروب خديجة؟ قتلتها يا مراد؟ رد عليَّ.
اغمض عيناه بعجز مستشعرًا انهيار قلعته التي ظل يبنيها لسنوات...
وبنفس اللحظة صدح صوت هاتفه يعلن عن وصول مكالمة من رقم مميز، والذي بالطبع رقمها! وهربًا من والدته لبعض الثواني التي تتيح له الفرصة لمواجهتها لاحقًا..
فتح المكالمة متوقعًا أنها تطمئن لوصوله للمنزل، اجلى حنجرته وهو يجيب:
_ ايه يا خديجة؟
وبصوت جامد، بهِ بحة واضحة كانت تهتف:
_ ارجعلي عوزاك... يا مراد.
والآن انهارت قلعته بحق... فها قد علمت "خديجة" الحقيقة التي ظلَ لأكثر من عامين يحجبها عنها، يفعل كل شيء في سبيل عدم معرفتها بها، أهذا يوم معرفة الحقائق!؟ والآن وقف حائرًا بين والدته وزوجته، أيبقى ليواجه والدته ويوضح لها موقفه؟ أم يذهب ليخوض الحرب الأخرى تاركًا حرب دائرة هُنا؟ ولكن لن يستطيع ترك والدته بحالتها هذه لحين عودته التي يعلم بأنها ستطول، لذا عاد لوالدته وهو يقف أمامها مرددًا بقوته المعهودة كأن شيئًا لم يحدث :
_ ناوية تسمعيني واوضحلك كل حاجة ولا أصدرتِ حكمك وقفلتِ ودانك على الي سمعتيه خلاص!؟
وكأي أم تتمنى أن تكن مخطئة، تتمنى ألا يكون الأمر كما عرفته ليهدأ قلبها، ولا تشعر بأن عمرها ضاع سدى، فأومأت برأسها تعطيه الأذن للحديث،و بداخلها يدعو ألا تندم على هذه الفرصة.
سردَ لها كل تفصيلة حدثت في مقتل "سارة"، أصبحت الآن تعلم كل شيء حتى ذهاب خديجة بلا عودة، وأكمل:
_ أنا كنت عيل، مكنتش اعرف اني كده بموتها، كنت فاكر اني هخوفها شوية وخلاص لكن مش هتموت، اتصدمت لما لقيتها وقعت ومفيش نفس، وعقلي هداني اني لازم اتصرف قبل ماحد يكتشف اني السبب.
باحداث القصة التي حكاها لا يقع عليه لوم، فهو بالأخير كما يقول مجرد طفل لم يفقه حينها خطورة فعلته، لكن خطر بعقلها سؤال القته فورًا بقلق:
_ وازاي طفل زيك ييجي في باله وقتها أنه يداري على جريمته كده؟
وبهدوء وحِنكة يُحسد عليها أجاب:
_ عشان كنت بشوف افلام كتير اكشن وجريمة فعقلي اكتسب منها الأفكار، اكيد كل الي عملته مجاش من دماغي.
هدأت.. رغم كونه لم ينكر قتله للفتاة، لكنه لم يقصد قتلها أبدًا وهذا يكفيها، أخذت نفسًا عميقًا وهو يتابعها باطمئنان تسلل إليهِ فيبدو أنه اقنعها بنجاح، نظرت له باتهام مرة أخرى وهي تقول بتهكم صريح:
_ صح كنت هنسى، مبروك يا عريس، مش كنت تقولي حتى ده انا كنت افرحلك.
قطب حاجبيهِ مستفهمًا وقد شعر بشيء يتمنى أن يخطأ:
_ مين الي قالك؟
هدرت بهِ بضيق وغضب:
_ ده الي يهمك؟ مين الي قالي، عرفت زي ماعرفت، بتتجوز من ورايا يا مراد، ومنيمني وعمال تقولي لسه بحاول اكسبها ولسه بحاول اتنيل، ليه؟ تتجوز من ورايا ليه؟ هو انا ابوك! ده ابوك الي كان معارض وجودها في حياتك عرف بجوازك قبلي! لكن انا الي مكنتش معارضة جوازك معرفتش، ليه؟
إذًا "حسن" صار على عِلم؟ لن يحتاج لتفكير ليعلم هوية من أخبر والدته بزواجه، ومن أخبر زوجته بحقيقته.. يبدو أن والده شنَ الحرب مبكرًا!
_ مقولتش لأن أموري مش مستقرة معاها خالص، أنا وخديجة بعد الي حصل في موضوع سارة الدنيا اتعقدت بينا، انا لسه قايلك انها هربت من هنا بسببي وبسبب خوفها مني، عشان كده لما رجعت اشوفها مكنش ينفع تعرف حقيقتي، لو كانت عرفت اني مراد عمرها ما كانت هتبص في وشي حتى، كانت هتسد كل الطرق الي ممكن توصل بينا، عشان كده محبتش اقولها، واضطريت اكدب واعرفها بهوية غير هويتي، كنت هقولك ازاي بقى؟ اكيد كنتِ هتطلبي تكوني موجودة، كنتِ هتكوني موجودة يعني كان لازم افهمك الحكاية عشان متغلطيش وتعرف إني مراد، وعشان اعرفك اني عامل عليها الحوار ده كنتِ هتستغربي ليه اعمل كل ده، وليه مقولهاش اني مراد صديق طفولتها، وده كان هيجبرني اعرفك بكل الي عرفتيه دلوقتي.
سألته بعتاب واضح:
_ وليه يا مراد متعرفنيش؟ ليه اصلاً خبيت كل الي حصل في قلبك طول السنين دي؟ ازاي لما ده حصل مجرتش عليَّ وحكيتلي؟ قدرت تخبي عليَّ ازاي؟
زفر أنفاسه بقوة وهو يهز رأسه يائسًا:
_ مكانش سهل ابدًا، مكانش ينفع اجي اقولك أنا قتلت سارة، حتى لو من غير قصد، افهميني يا ماما الموضوع كان أكبر مني، مقدرتش اواجهك بيه، وده الي خلاني اكدب واحور، لكن عمومًا خديجة عرفت كل حاجة خلاص.
قطبت حاجبيها بعدم فهم وهي تسأله:
_ عرفت انك مراد؟ اومال هي كانت فاكرة ايه؟
- أنا عرفت نفسي لخديجي بأن اسمي زين، شغال معاها في المطعم واهلي كلهم متوفيين، وطول فترة خطوبتنا كانت فاكرة كده، لحد النهاردة بس.. اكتشفت كل حاجة وعرفت حقيقتي.
_ يعني مكتبتوش الكتاب؟
_ لا كتبنا.
اصابتها الحيرة وهي تسأله:
_ هي عرفت قبل كتب الكتاب؟
اجابها بهدوء:
_ لا بعده.
اتسعت عيناها بحذر وهي تسأله:
_ أنتَ قصدك انك كتب كتابها وهي فاهمة إنك زين؟
اومأ برأسه ايجابًا، لتشهق بصدمة ومن ثم قالت بذعر:
_ أنتَ ازاي تعمل كده؟ كده جوازك منها باطل، أنتَ متجوزها بهوية مزيفة.
اخبرها بجهل:
_ لا مش باطل، أنا كاتب في القسيمة اسمي الحقيقي.
_ بس هي موافقة على انك زين مش على شخصيتك الحقيقة، يعني مينفعش، كتب كتابك ده باطل ولا كأنك اتجوزتها اصلاً، لازم ترجع تكتبه من تاني بعد ماعرفت حقيقتك.
لم يلقي لحديثها بالاً وردد بلامبالاة:
_ تمام، انا همشي بقى عشان في حوار كده هخلصه وارجع.
امسكت بذراعه ترجوه بعينيها ونبرتها المنكسرة:
_ وحياتي عندك ما تكسرني بيك في يوم، متخليش ييجي اليوم الي احس فيه اني ضيعت عمري على الفاضي وفشلت في تربيتك زي مانا عاوزه.
انحنى لمستواها وقبل رأسها وهو يخبرها بابتسامة صغيرة:
_ عمره ما هييجي اليوم ده، متقلقيش.
وثقته كانت نابعة من عدم وصول أي خبر عن حياته المظلمة لها، وليست نابعة من استقامته وحُسن تربيته واخلاقة العالية...!
_____________
كان قد وصل شقته للتو بعدما مرَ على المستشفى التي يعمل بها ليُنجز عملاً ما، شقته التي يسودها الظلام عدا انارة بسيطة تأتي من غرفته، والصمت سيد المكان، جلس فوق الفراش واحنى رأسه بحزن وهم، لن ينكر انه شعر بحدته المبالغة مع "جاسمين" وانه قسى عليها بعض الشيء، لكن الله يشهد أنه تعبَ، الله يشهد أنه لم يعد يحتمل ما تفعله بهِ، لكل انسان منا طاقة، وحين تنفذ يكن الأمر خارج عن سيطرتنا، زفر انفاسه بقوة مهمومًا، يشعر بضيق جم في صدره، انتبه لرنين هاتفه فالتقطه ليجد المتصل "ابراهيم" عجبًا! لم يفعلها من قبل ولو مرة، ما المصيبة التي حدثت ليطلبه! دق قلبه بالقلق وهو يفتح المكالمة و بدون مقدمات قال:
_ خير يا ابرهيم ايه الي حصل؟
وجاءه الخبر الذي قسمَ قلبه لنصفين، واحنى ظهره رغم شبابه، خبر فقدان السند، والده.. الذي ذهب فجأة بلا مقدمات.
❈-❈-❈
وصلَ أخيرًا لشقتها، رغم عدم طول المسافة إلا أنه شعر وكأنه سافر من مصر للصين مثلاً، وهكذا حال الإنسان حين يتعجل شيئًا او لا يستطيع الانتظار لأمر ما، وهو كان يود أن يراها بأسرع وقت، لأنه لا يعلم حالتها الان، لا يعلم هل هي منهارة؟هل هي في صدمة؟ لا يعلم... فأراد أن يصل بأقصى سرعة ليطمئن..
ورسم سيناريوهات كثيرة برأسه، ولم يحدث أيًا منها، فتعجب حين فتحت له "فريال" الباب وأبصرها جالسة فوق الكرسي المتهالك الموجود بالصالة، بملامح هادئة، جامدة، لم يجد ما توقعه من ثورة، ورفض لوجوده، وصراخ، وغيره.. فقط تنتظره!
هل هذا من المفترض أن يُطمئنه؟ أم يثير رعبه؟
أبصر "فريال" وقد دلفت للغرفة مغلقة الباب خلفها بلا حديث، يبدو أنهما على اتفاق سابق، وقف على بُعد مناسب منها، والصمت ساد، والعيون تحدثت لدقائق قليلة...
ظهر في عينيهِ القلق، والاضطراب، والرجاء الخفي، والحب، والوله بها، والقوة ... وعجبًا أن تتتابع كل هذه المشاعر على عينيهِ وتظهر بكل هذا الصدق.
وظهر في عينيها الجمود، العتاب، والحسرة، والندم، ووميض من الخوف الذي يسكن في الخلفية، ولا عجب في ظهور كل هذه المشاعر في عينيها.. لأنها غير متناقضة.
_ خديجة اسمعيني الأول لو سمحتِ.
قالها بعدما قرر كسر الصمت المقيت، لتنهض واقفة أمامه بوجهها الشاحب المنافي تمامًا لملامحها قبل أن يذهب، والكحل الذي سال حول عينيها ملطخًا مكانهما، ومقلتيها قانيتان الحمرة، وقالت بنبرة مبحوحة ونظراتها تقتله:
_ زمان سبتلك البلد كلها وهربت، بس معرفتش اهرب منك، كنت بشوفك كل يوم، وانا نايمة بحلم بيك بتنتقم مني على هروبي منك، وأنا صاحية بتخيل انك ممكن تلاقيني والاقيك قدامي في أي لحظة، وفي الحالتين كنت بموت من الخوف والقلق، وبعد كل ده صعب عليك تسبني في حالي؟ عملت كل الي عملته وكدبت عليَّ سنتين كاملين وظهرتلي بشخصية تانية عشان ايه؟ ايه هدفك؟ ليه مسبتنيش في حالي وسبتني احاول اعيش وانسى الي حصل زمان؟ ازاي قدرت تتجوزني بالكدب والخداع؟
صمتت ليأتي دوره في الحديث، وقد شعر بثقل الأمر أكثر بعد أن أخبرته بكونه كان كابوسها في النوم واليقظة، يبدو أن هناك الكثير من الخفايا التي سيُصدم بها لاحقًا! فيما يخص كونه السيء في روايتها..
وبكل صدق كان يجيبها:
_ عشان بحبك، عشان مقدرتش اعيش من غيرك.. الطفل الي سبتيه وهو عنده ١٣ سنة وفكرتي انه هينساكِ مع الوقت ويقدر يعيش من غيرك بعد ما كنتِ أهم حاجة في حياته، للأسف منسيش، ومعاش من بعدك، أو عاش.. بس عاش عشان يلاقيكِ، عمل كل حاجة عشان يقف قدامك في يوم وقلبه يرجع يطمن بوجودك، أنا فضلت ١٠ سنين ادور عليكي لحد ما لقيتك، كدبت عليكِ ووهمتك إني شخص تاني عشان كنت عارف إنك مش هتقبلي بوجودي في حياتك، أي حاجة عملتها مكانتش نيتي فيها شر ابدًا، أنتِ لو تعرفي حبي ليكِ هتقدري ومش هتحتاجي تبرير لأي موقف صدر مني.
لوت فمها ساخرة، وهي تقبض على كفها الذي يرتعش بقوة، كلما جاء بعقلها ان الواقف أمامها هو "مراد" وليس "زين"، مراد وحشها المخيف، وزين حبيبها وأمانها، ضغطت على نواجزها وهي تخبره:
_ عمومًا.. كلامك مش هيفرق معايا، هي خلصت، مفيش حاجه بينا هتكمل.
كان يتوقع بالطبع! لذا هتف بهدوء حذِر:
_ وجوازنا؟
بنبرة ساخرة رغم مرارة العلقم التي بحلقها قالت:
_ جوازنا! جواز ايه وأنتَ مطلعتش زين، أنا اتجوزت زين، شخصية وهمية مش موجودة، يعني ولا كأني اتجوزت.
ابتسم ثغره بمكر وهو يخبرها بقنبلته المدوية:
_ بس القسيمة مفيهاش اسم زين الوهمي، القسيمة كل بياناتها صحيحة، خديجة محمود الدالي... و مراد حسن منصور وهدان.. يبقى في جواز ولا!؟
وكأنها سقطت من الدور السابع عشر، فكانت السقطة اشبه بسقطتها على الكرسي خلفها، وهي تردد بفاه فاغر وانفاس ذاهبة:
_ يخربيت أبوك..!!!
يتبع