-->

رواية جديدة الحصان والبيدق الجزء الثاني من رواية بك أحيا لناهد خالد - الفصل 2 - الثلاثاء 13/2/2023

 

  قراءة رواية الحصان والبيدق

الجزء الثاني من رواية بك أحيا كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية الصان والبيدق

رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة ناهد خالد


الفصل الثاني


تم النشر يوم الثلاثاء

13/2/2024 
"فقيد غالي"

ا

"الموت دومًا يفاجئنا، يأتي بلا سابق انذار ليخطف من بيننا شخصًا ظننا أنه باقٍ لبعض الوقت بعد، وللعجب اغلب الوقت لا يختار سوى الطيبين، الذين مازلنا نحتاج إليهم، فنقف عاجزين أمام قدر الله، ينفطر قلبنا حزنًا، وتجف عينانا من البكاء، وننكوي بنيران الفراق، يلهمنا الله نعمة النسيان، ولكن تزورنا الذكريات من وقت لآخر لتأخذ منا ما تأخذ.. "


انتهت مراسم الدفن، ووقف أمام قبر والده بملامح جامدة، عيناه تحكي الكثير لكنه صامت، شريط ذكرياته مع والده يمر أمامهما ليرى كل موقف جمعه بهِ يومًا، وأكثر ما يحزنه أنه مؤخرًا لم يكن بأحسن حال معه، كانت خلافتهما كثيرة، منذُ واقعة حكايته هو وخديجة ولم تعد علاقته بوالده كسابق عهدها، ويكفي أنه لم يكن يراه سوى مرة واحده كل ستة أشهر تقريبًا، ليأخذه الموت فجأة قبل أن يراه منذُ أخر مرة والتي كانت من سبعة أشهر، ولسخرية القدر انه بالأمس كان يفكر أن يقوم بزيارة سريعة بنهاية الأسبوع، زيارة عُجلت بخبر غير سار بالمرة، انتبه لكف "إبراهيم" الذي وُضع فوق كتفه ليلتف له، فسمعه يقول:


_  هِم بينا يا باهر، ملهاش عازة الوجفة دي. 


قطب ما بين حاجبيهِ وهو ينظر له بتفحص وأردف متسائلاً:


_ چرا ايه يا ابراهيم، كأن الميت مش بوك! 


قطب "ابراهيم" ما بين حاجبيهِ هو الآخر ولكن بضيق وأجابه:


_ وه! مش بوي كيف يعني؟ 


احتدت ملامح "باهر" وهو يقول:


_ يعني مشوفتش حزنك، ولا حتى فكرت توجف جدام جبره "قبره" تجراله الفاتحه ولا تدعيله! 


رفع جانب شفته العليا ساخرًا وقال:


_ الحزن في الجلب يا وِلد ابوي، مش لازمن الناس كلها تشوف حزني عشان اكون حزين، وان كان على جراية الفاتحة، جرتها في سري..


انهى جملته والتف راحلاً، وقد قرر تركه فليقف هو ينعي والده كما يحب. 


التفت "باهر" ونظر لقبر والده بنظرات حزينة قائلاً:


_ واضح إن قسوة قلبه مش بس على الحريم زي ما كنت دايمًا تقولي، قسوة قلبه طبع فيه حتى على أقرب الناس له. 


ظل واقفًا لبعض الوقت ينعي والده احيانًا، ويدعو له احيانًا أخرى، وبين هذا وذاك تفيض عيناه بدمع الحزن، ويصرخ قلبه شوقًا للغائب من الآن. 


❈-❈-❈

في بيت "منصور وهدان" 


اجتمع النساء بساحة المنزل، ومن بينهن العمة وابنتها وابنة شقيقها التي لم تدلف لهذه البلد منذُ سنوات، لكنها اضطرت ان تفعلها حين أتاها خبر وفاة عمها، أتت مع ابنة عمتها لاحقين بباهر الذي شق طريقه قبل وصول الخبر إليهما، رفعت عيناها تتابع افعال عمتها بصمت التي لم تكف عن النواح، لم يخيل عليها كل ما تفعله، تشعر أنها تصطنع الحزن وبداخلها الله وحده هو العليم بهِ، لكنها تعلم جيدًا أن عمتها لا تحزن على أحد، ولا تهتم لأحد، فإن كانت ابنتها نفسها لا تفرق معها سيشكل آخر الفارق! اشاحت بنظرها جانبًا لتجد نظرات "فريال" المتورمة عيناها من البكاء تتابعها، فسألتها باستغراب:

_بتبصيلي كده ليه؟ 


وبصوت مبحوح كانت تجيبها بخفوت:

_ مش ناوية تكلميها، أنتِ حتى مفكرتيش تعزيها. 


قلبت عيناها بعدم رضا واجابت:

_اعزيها في مين؟ هو الي مات مش خالي برضو! 


هزت "فريال" رأسها بحزن جم:

_مش واضح يا خديجة، شكلك مش فكراله حاجه حلوة عملها معاكِ، كأنك قاعدة في عزا حد غريب! 


وبجفاء كانت تجيب:

_ لا فاكرة، وربنا يعلم اني زعلانه عليه، بس اعتقد برضو عشر سنين بُعد كفيلة تغير في العلاقة، بس ده ميمنعش اني بجد زعلانه عليه، بس يمكن همي ووكستي مخلياني مش حاسه بحاجة اصلاً. 


رددتها بسخرية وهي تعود بنظرها للأمام مرة أخرى، فاشفقت عليها "فريال" التي وضعت كفها على كتف الأخرى تواسيها وهي تقول:

_ هو جه معانا ليه؟ 


تنهدت بخنقة وهي تجيبها:

_ على أساس إنك محضرتيش الخناقة الي حصلت. 


صمتت "فريال" وهي تتذكر كم تجادلت معه لكي لا يأتي معهما، ولكن كل محاولاتها باءت بالفشل وهو يعلن انتصاره رغمًا عنها. 


أما "خديجة" فنظرت أمامها بشرود وهي تتذكر آخر جدالهما والذي لم تحصد منه نتيجة.. 

********

بعدما تلقت صدمة صحة اوراق الزواج، ظلت لثواني صامتة بصدمة لم تستطع تجاوزها إلا بعد بعض الوقت، وحين بدأت تستوعب الصدمة كان أول ما قالته:


_ بس كده جواز باطل، أنتَ اتجوزتني باسم غير الي أنا وافقت عليه، مش مهم يكون الورق سليم، أنا وأنتَ عارفين انك لعبت عليَّ واتجوزتني بالخداع. 


اقترب خطوتان ليصبح أقرب منها وأردف بابتسامة متكاسلة:

_ بالضبط، أنا وأنتِ عارفين.. 


اتسعت عيناها بذهول وهي تسأله:

_ قصدك ايه؟ قصدك إنك هتمشي الموضوع عشان ميعرفوش غيرنا! 


اومأ بصمت، لتهز رأسها عدة مرات نافية بعدم تصديق وهي تخبره:

_وربنا؟ ربنا الي شايفنا وعارف انه جواز باطل! 


قطب ما بين حاجبيهِ بعدم اهتمام لحديثها وهو يسألها بهدوء بارد:

_ وايه الحل؟ 


نهضت واقفة في مواجهته وقالت بملامح صارمة ونبرة لا تقبل التراجع:

_ عاوزه اطلق، احنا استحالة نكمل مع بعض، الي اتبنى على كدبة عمره ما هيستمر.


رفع حاجبيهِ ضاحكًا بسخرية وهو يقول:

_ اطلقك؟ واضح ان الحقيقة أثرت على دماغك، ببساطة أنا معملتش كل ده عشان في الآخر اطلقك! إنك تلمسي السحاب بإيدك أقربلك من الطلاق...


ارتفع صوتها ونفرت عروق وجهها وهي تصرخ بهِ بغضب تملك كل ذرة بها:

_أنا مستحيل افضل على ذمتك، ولو أنتَ مش خايف من ربنا بجوازنا الباطل ده، أنا خايفة منه ولو عملت ايه مش هكمل في حكاية خايبة زي دي، وصحيح أنتَ هتخاف من ربنا ازاي وأنتَ قتال قتلة. 


الصوت العالي يثير غضبه ويستفزه لدرجة بالطبع هي لا تعرفها، لذا هدأ من انفعالاته بالكاد وهو يبتسم باقتضاب قائلاً بنبرة ساخرة سرعًا ما تحولت للجدية واختفت ابتسامته:

_قتال قتلة! ده عشان جريمة حصلت زمان وانا لسه عيل ١٣ سنة! بتحاسبيني على ايه أنتِ؟ لا بجد بتحاسبيني ازاي على حاجه انا مكنتش قاصدها؟ هو لما اتنين عيال يلعبوا مع بعض وواحد يزق التاني يفتحله دماغه، بيحاسبوا العيل اه عشان يعرف ان ده غلط لكن بيفضلوا يفكروه بذنبه العمر كله؟ محدش بيحاسب طفل يا خديجة. 


ادمعت عيناها بشدة وهي تهمس باختناق:

_بس دي ماتت! دماغها متفتحتش وبس! 


جمدت معالم وجهه وهو يقول:

_ سيان، اكيد الذنب اكبر، بس في الحالتين طفل، مكنتش اعرف ان حبسها هيأذيها اصلاً، انا عملت ده عشانك! عشان كنت خايف عليكِ ومبتحملش حد ييجي جنبك! أنتِ ليه مش قادره تفهمي ده؟ أنا اي حاجة عملتها عشانك ولولا خوفي عليكِ عمري ما كانت جيت جنب سارة اصلاً! 


اصدرت صوت ساخر من حنجرتها وهي تهز قدمها اليمنى بعصبية بالغة بينما تردد:

_يعني انا السبب في الي حصل لاختي في الآخر! انا مقولتلكش روح أأذيها! مقولتلكش تعملها حاجة اصلاً، أنتَ الي يومها فضلت تقولي مينفعش تسيبي حقك ولما حاولت اخرجها أنتَ الي منعتني.. 


_عشااانك..!! 


صرخ بها بعدما ضاق ذرعه من عدم محاولتها لتقبل الحقيقة حتى، وصوته كان اعلى من صوتها بكثير حتى أنها انتفضت في وقفتها من صرخته المفاجئة، وخرج على أثرها "مصطفى" الذي فضل الصمت منذُ البداية وعدم التدخل ولكن يبدو أن الأمر سيخرج عن السيطرة، وكذلك "فريال" التي خشت أن يتطور الأمر أكثر فاسرعت في الخروج للصالة هي الأخرى.. 


والاثنان صمتا وهما يران اللذان خرجا للتو، و"خديجة" التي شحب وجهها وهي تدرك الآن أن سرها قد كُشف وعلم شقيقها وابنة عمتها بهِ، وكان همها الأكبر هو شقيقها لذا نظرت له بقلق وهي تزدرد ريقها بصعوبة، بينما لملامحه الغير مقروءه، وما إن حاولت التحدث حتى وجدته يقاطعها وهو يباشر بالحديث متسائلاً:

_ أنا محتاج افهم تفسير للي سمعته، اي الحكاية؟ هو ازاي قتل اختنا؟ 


بهتت ملامحها أكثر وانعقد لسانها عن الرد، ليتولى هو ضفة الحديث وهو يقول بهدوء تام:

_ أنا هحكيلك يا مصطفى. 


وسرد كل شيء على مسامع الواقفين، وأثناء سرده كان يُعاد كل مشهد أمام أعين "خديجة" مرة أخرى، ففي منتصف حديثه وضعت كفيها فوق أذنيها رافضة سماع المزيد، حتى شعرت بهِ قد انتهى، فأزالت كفيها وحل الصمت لدقائق لا يقطعها سوى صوت الأنفاس، حتى هتف "مصطفى" أخيرًا:

_ قضاء ربنا. 


ابتسامة ماكرة ونظرة منتصرة زينت عيني صاحبنا، ونظرات مندهشة غير مصدقة كانت تنبعث من عيني صاحبتنا التي نطقت بدهشة:

_ايه؟ يعني ايه؟ 


بدى "مصطفى" أكبر من عمره بكثير الآن وهو يتحدث بهذه العقلانية والجدية:

_ يعني اكيد الموضوع مش سهل، واكيد هو مذنب، بس هتحاسبي مين يا خديجة، هتحاسبي حد كان بيتصرف بعقلية طفل وقتها؟ اكيد مش هتحاسبيه بالشكل ده طول العمر كأنك بتحاسبي واحد كبير! 


ضحكت باستنكار شديد وهي تستمع لحديثه بينما نظرت بعدها ل "فريال" كأنها تحثها على قول رأيها هي الأخرى، فقالت:

_ سارة ربنا يرحمها، بس يا خديجة لو كانت الشرطة عرفت مين مرتكب الجريمة وعرفت التفاصيل بالضبط بالأدلة، مكانش هيتحبس، لأنه اولاً طفل، ثانيًا قتل غير عمد، القانون بيعاقب الأطفال فوق سن ال١٥ سنة، والاقل من كده لما بيرتكب جريمة عن قصد، ياما بيسلموه لمدرب تأهيل أو مؤسسة اصلاح، او في مستشفى لو لقوا عنده مشكلة نفسية، يعني في أي حال مبيتعاقبش زيه زي الكبير، وقتها هو اكيد مكانش فاهم حاجة في القانون ياما كان سلم نفسه لأنه اكيد كان هيخرج، بس في نفس الوقت مين كان شاهد على الي حصل فعلاً عشان يتبرأ والحكومة تصدق انه قتل خطأ، مفيش حد غيرك، ويا عالم كانوا هياخدوا بشهادتك ولا هيعتبروكِ شريكة له وتحتاجوا الي يشهد ليكوا انتوا الاتنين، وكده كده في الآخر كنتِ هتخرجي عشان ٨ سنين مستحيل تتحبسي، وهو كان اخره هيودوه مؤسسة اصلاح سلوك. 


_أنتِ بتبرريله ايه؟ انتوا مالكوا؟ ازاي بتفكروا كده؟ 

صرخت بهم بعدم تصديق لموقفهما تجاه الأمر، لتجيبها "فريال" :

_على فكرة أنا لسه عند رأيي فيه، وكونه كدب عليكِ وزور هويته كفيل يخليه يطلقك مقولتش حاجة، بس أنا بتكلم في الأمر التاني وبقول الي العقل يقوله. 


_ماكنتِ كملتِ جميلك للآخر! 

رددها بصوت غير مسموع وهو ينظر ل"فريال" بضجر، وانتبه لصوت "خديجة" وهي تقول باصرار:

_ سمعت! أنتَ ياسيدي برئ وأنا ظلماك، بس أنا مش هكمل معاك، فطلقني بالذوق احسنلك. 


رفع حاجبه الأيسر يسألها بتحدى خفي:

_ بالذوق؟ ولو مكانش بالذوق هيكون بأيه يا خديجة هانم؟! 


وقبل أن تجيبه ارتفع رنين هاتف "فريال" الذي بيدها، عقدت حاجبيها باستغراب حين ابصرت رقم "باهر" ألم يذهب منذُ ساعات قليلة! 


أجابته بقلق، لتصرخ بعد ثواني وهي تردد:

_ أنتَ بتقول ايه؟ مات ازاي؟ 


لم تستمع بعدها سوى لصوت اغلاق المكالمة، لتنسدل دموعها فورًا، فدب الذعر في قلب "خديجة" التي اقتربت تسألها بخوف:

_ مين الي مات؟.... رُدي! 


صرخت بها بعد أن ظلت "فريال" تبكي فقط دون اجابة، فقالت من بين بكائها:

_ع... عمك.. خالي مات.. يا خديجة. 


رددتها من بين شهقاتها وركضت للغرفة لتغير ثيابها، وقفت لبعض الوقت لا تستوعب الخبر الذي سقط فوق رأسها، لم تتوقع أن يكون هو المتوفي! حركت رأسها بعجز وهي تردد:

_ لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، إنا لله و إنا إليه راجعون. 


_ خديجة هنعمل ايه؟ 

خرج صوت "مصطفى" الذي بالكاد يتذكر عمه ذلك، ولكن يريد أن يعرف هل ستطأ قدماهم أرض تلك البلدة مرة أخرى بعد كل هذا الغياب! 


_هنروح يا مصطفى، لازم نكون جنب باهر. 

رددتها "خديجة" بحزن، ودلفت خلف "فريال" دون أن تُلقي بالاً للواقف، متوقعة أنها ستخرج لن تجده. 


لكن خاب توقعها حين خرجت هي و"فريال" بعد قليل، لتجده يجلس على أحد الكراسي براحة بالغة، اقتربت قليلاً حتى وقفت على بُعد مناسب تسأله بضيق:

_ أنتَ لسه هنا ليه؟ هو مفيش دم! مش سمعت ان عندنا حالة وفاة وماشيين!؟


نهض بتكاسل بعد أن أغلق هاتفه الذي كان يتصفحه وقال:

_ اه سمعت، عشان كده ممشتش، مانا هوصلكوا، بعدين لازم اكون جنب باهر، مش قريب مراتي! أنا ميفوتنيش الواجب خدي بالك. 


_ياريته يفوتك ياخويا، اسمع يا جدع أنتَ لو فاكر إنك هتيجي معانا تبقى بتحلم، سامع؟ 

رددتها بعصبية وهي تشير له بسبابتها، ليقلب عيناه بملل مرددًا:

_ مهو للأسف مش هتروحوا لوحدكوا. 


صرخت بهِ وهي تشيح بيدها بعصبيه:

_ أنتَ ملكش حُكم عليَّ. 


_ أنا جوزك. 


_أنتَ صدقت نفسك! أنا وأنتَ عارفين الي فيها، فمتعش الدور ده احسنلك. 


_أنتِ كل شوية تقوليلي احسنلك، أنتِ بتهدديني ولا حاجة؟ بعدين مفيش خروج من غيري، مش عوزاني معاكوا تمام، بس مفيش سفر لحتة. 

رددها بجدية بحتة وهو ينظر لها بعينيه الملونتين التي غامت بالرمادية الداكنة. 


_بس بقى، مش وقته يا خديجة على فكرة! 

رددها "مصطفى" وهو يقترب من شقيقته، ومال عليها يهمس لها:

_ افتكري اننا رايحين للعقربة عمتك، واحنا منضمنش غدرها، وجوده معانا هيكون امان لينا. 


ابتعد عنها ليراها تكبح غضبها وتلتزم الصمت، فقال ل"مراد" :

_ أنا بقول يلا يا أبيه،عشان منتأخرش، كده الراجل هيتحاسب قبل ما نوصل. 


_أنتَ يا زفت! 

صرخت بها "خديجة" حين سمعته مازال يناديه بنفس الاحترام، ليعقد "مصطفى" حاجبيهِ بضيق مصطنع مرددًا:

_ ما يلا يا مراد بقى! 


ذهبا أمامها وخرجا من الباب يسبقان لاسفل، لتهتف هي:

_ روحي وراهم يا فريال هجيب حاجه وجاية. 


دلفت لغرفتها وفتحت درفة الخزانة الخاصة بها وأسفل بعض الملابس ادخلت كفها ليخرج وهو يحمل بعض شرائط الأدوية، أخذت من اثنان منهم وابتلعتهما بالماء، واغمضت عيناها بقوة تحاول الهدوء، تشعر أن اعصابها على وشك التلف. 


_ قدر يكسبهم في صفه؟ وياترى هيقنعك أنتِ كمان بحججه الخايبة دي امتى؟ 


_ بس بقى! اسكتي، انا مش متحمله اسمع حاجة، اسكتي يا سارة، وارحميني حرام عليكِ. 

صرخت بها وهي تحادث "سارة" التي تراها هي فقط، والأخرى تبتسم باستفزاز، لتهرول خارجة من الغرفة، ومنها لباب الشقة كأنها تهرب من شبح يطاردها. 

❈-❈-❈

عادت من شرودها وهي تشعر بأعين مسلطة عليها، نظرت حولها لترى "سرية" تنظر لها بنظرات مليئة بالغل والحقد، ابتسمت في وجهها ببرود وهي تطالعها بسخرية كأنها تخبرها أنها لا تهتم لأمرها. 


❈-❈-❈

مساءً وبعد ذهاب جميع من جاء لواجب العزاء، اجتمع جميع افراد العائلة في بهو منزل "منصور" وهم الآتي ذِكرهم بترتيب الجلوس على الكراسي المتراصة في البهو، "سرية" و"فريال" و"مصطفى" و"مراد" و"باهر" وأخيراً "خديجة".. 


خرجت "سرية" من صمتها وهي تسأل باستنكار واضح:

_ واتجوزتي ميتا يا معدولة؟ وكيف من غير عِلم عمك، كبيرك، ولا أنتِ ملكيش كبير ووشك مكشوف. 


نظرت لها "خديجة" وهي تقول بحدة:

_ كبير كان باهر، ابن عمي، واتجوزت بعلمه وموافقته، غير كده.. اه أنا مليش كبير. 


_ أما عيلة جليلة الحيا بصحيح، مهوش جديد عليكِ جلة الحيا، مأنتِ معروفة بيها من زمان. 


_عمتي، مش وجته ولا ايه؟ 

رددها "باهر" وهو يُمسد رأسه بتعب حقيقي، ولكنها لم تصمت وهي تُكمل مسائلة:

_ وجبتيه منين؟ باين عليه جيمة وسيما، ايه الي يخليه يبصلك إلا لو كنتِ ماشية على حل شعرك. 


وقبل أن تأخذ "خديجة" التي فار دمها غضبًا وادمعت عيناها من قسوة الحديث رد فعل، وقبل أن يفعل اي شخص آخر، كان يخرج عن صمته بعد أن غمرها بنظراته المتفحصة كل هذه المدة وعلم حقيقة المرأة الجالسة أمامه:

_ لا الحقيقة أنا مكنتش اطول اتجوز واحده زي خديجة، زي ما قولتي تمام، ليَّ قيمة وسيما، ومن طبقة اجتماعية عالية اوي، فكل الي فيها والي قابلتهم في حياتي ميستاهلوش يرتبطوا باسمي، لكن خديجة هي الوحيدة الي شوفتها تستاهل بصرف النظر عن الطبقات والكلام الفارغ ده، بعدين معذورة يا حاجة اصلك متعرفيش أنا لفيت حواليها قد ايه عشان توافق، طلعت عيني. 


اردف بالأخيرة وهو ينظر ل"خديجة" مبتسمًا، ثم عاد بنظره للأخرى وهو يكمل:

_ بعدين نستيني اقولك شدي حيلك، هو الي مات مش أخوكِ وكده؟ اكيد الحزن مأثر عليكِ. 


أحمر وجه "سُرية" غضبًا، واتسعت عيناها من تبجح الجالس أمامها وهي تدرك معنى جملته الأخيرة، ولكنها أدركت أنها لن تأخذ معه مجرى حديث يصبو لصالحها، فالتزمت الصمت ولأول مرة تفعل..


لا تنكر أنها ارتاحت بداخلها من حديثه لعمتها البغضاء، ولولا معرفتها بحقيقته لكانت شكرته الآن ولا مانع من عناق يوثق شكرها لاحقًا، لكن الوضع يختلف.. لذا لم تلقي له بالاً، وهو لم ينتظر. 


_أمي لساتها ناعسة ياعمتي؟ 


تسائل بها "ابراهيم" فور دلوفه للتو من الباب، لتجيبه:

_ ايوه، كل ما تجوم تصرخ باسم بوك وتنعس تاني، ربنا معاها يا ولدي. 


نهضت "فريال" واقفة واتجهت له حتى أصبحت أمامه فقالت بنبرة حزينة:

_ البقاء لله يا إبراهيم، معرفتش اشوفك من وجت ما جيت عشان اعزيك، ربنا يصبرك ويرحم خالي برحمته. 


نظر لها بجفاءه المعتاد الذي لم يتغير رغم مرور عامان على آخر مرة رأته فهي كانت قد امتنعت عن الزيارات للبلدة حتى لا تقع في خلاف مع والدتها:

_ ونعم بالله، تشكري. 


فقط، واتجه للكرسي الفارغ بجوار عمته وجلس فوقه بلا اهتمام بها، وحين شعرت بحرج موقفها عادت لكرسيها بصمت حزين. 


_ باهر،ادعيله بالرحمة وادعي ربنا يصبرك، وقوم ريح شوية شكلك مرهق اوي.


تحدثت بها "خديجة" بصوت لم يسمعه سوى "باهر" و "مراد" الجالس في المنتصف بينهما ينظر لها بسخرية غير واضحة، استمع لرد "باهر" :

_ يارب، شوية وهقوم، مستني بس ماما رباح تفوق اواسيها بكلمتين. 


_ اومال جاسمين فين؟ مجبتهاش معاك ليه؟ 


تنهد بتعب وهو يجيبها:

_ في شوية خلافات. 


رفعت حاجبيها باندهاش فلم تسمع عن خلاف دار بينهما من قبل، وسألته:

_ هي سايبه البيت؟ 


اومأ برأسه دون حديث، لتهتف بعدم رضا:

_ ليه كده يا باهر؟ مكنتش توصل الأمور بينكوا للدرجادي. 


_ ياعاقلة. 


رددها "مراد" ساخرًا بصوت وصل لها، لتحدقه بنظرات حارقة، بينما ابتسم هو ببرود. 

_ هي الي كبرت الموضوع ومشيت، انا مقولتلهاش تمشي، بعدين مش وقته يا خديجة، فيَّ الي مكفيني. 


_ صحيح، مش وقته يا خديجة. 

رددها "مراد" بعقلانية زائفة، لتزفر بضيق من تدخله وهي تعاود النظر للأمام ملتزمة الصمت، حتى هتف هو يهمس لها:

_ هنمشي ولا ايه؟ 


_اه، أنا اكيد مش هبات هنا. 

قالتها وهي تنظر لعمتها بضيق، فسمعته يقول:

_ طيب يلا، الساعة ١٢. 


نهضت قائلة:

_ هنمشي احنا يا باهر، وأن شاء الله نجيلك بكره. 


نهض هو الآخر يقول:

_ لا يا خديجة متجيش، مفيش داعي، انا اصلاً بكره بليل هرجع القاهرة. 


_بس.. 


_ خلاص يا خديجة، قولتلك متجيش بلاش شحطته. 


_ وأنتِ متجعديش ليه تقضي ايام عزا عمك، ولا هو مش عمك؟ 

قالتها "سُرية" بضيق واضح، ليهتف "باهر" بنفاذ صبر:

_ ملهاش داعي القاعدة، ارجعوا انتوا يا زين، وشكرًا على واجبك تعبناك معانا. 


أردف "مراد" بهدوء:

_ لا تعب ولا حاجة، ده واجب. 


_ يلا؟ 


قالتها "خديجة" وهي تشير ل "فريال" ومصطفى" وقفت" فريال" بحيرة وهي تشعر بعدم استحباب ذهابها الآن، فلا يجب ترك زوجها في يوم وفاة والده هكذا، والراحل خالها، ولكن تذكرت امتحان هام لديها غدًا في جامعتها فقالت بأسف:

_ معلش يا اماه أنتِ وابراهيم، لازم ارجع معاهم، عندي بكره امتحان مهم، لولا كده مكنتش اتحركت من اهنه واصل لحد اخر السبوع كمان، حتى كان بودي اشوف مرات خالي واعزيها. 


_وأنتِ مين جالك إنك هترجعي؟ 


خرج السؤال من "ابراهيم" الذي ينظر لها بنظرة مبهمة، لم تفسرها، لكنها خشتها، حركت رأسها بعدم فهم تسأله:

_ يعني ايه مفهماش؟ 


_ يعني مفيش سفر للقاهرة تاني، مكان اهنة في بيت جوزك. 


قطبت حاجبيها بعدم استيعاب وبقلب وجل سألته:

_ وعلامي وكليتي يا ابراهيم؟ 


_ بكفايا علام اكده، مهصبرش أنا ٣ سنين لحد ما الدكتورة تتخرج، مهياكلش معايا دور جواز مع وقف التنفيذ الي عايشينه ده. 


شهقت بذعر وهي تردد بعدم تصديق:

_ أنتَ هتحرمني من علامي!؟ 


اجابها ببرود تام:

_ الله ينور عليكِ، افهميها كيف ما تفهميها، المهم إن أخر الشهر هتيجي بيتي اهنة وأنتِ عروستي، بس مهنعملش فرح لاجل موت ابوي. 


هزت رأسها نافية بعدم استيعاب وهي تشعر بتحطم صخرة أحلامها لقسوة الواقع المتمثل في "زوجها".. 


يتبع

إلى حين نشر رواية جديدة للكاتبة ناهد خالد، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية