-->

رواية جديدة ليتها تعلم لمريم جمعة - الفصل - 1 - الثلاثاء 13/2/2024

 

  قراءة رواية ليتها تعلم كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ليتها تعلم

رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة مريم جمعة


الفصل الأول


تم النشر يوم الثلاثاء

13/2/2024   



داخِلِ تلك الحديقة الشاسِعة، والَّتي زيَّنتها ورودًا من جميعِ مُختلِفِ الألوان.. كانت تركُضُ هُنا وهُناكَ بِفُستانٍ زهري يُشبهها في رقَّتِها بسعادةٍ جالية وبراءةِ طِفلة لم تُدنس من قِبل أعباء الحياة، ومن دونِ أن تنتبه لتلك الحجارة الَّتي أمامها، تعثَّرت بِها فوقعت على رُكبتيها بقوَّة جعلتها تُجرح وتسيلُ دماءً قليلة منها، فانهمرت الدموعَ من عينيها الَّتي كانت تنظرُ أرضًا بألم، وقد رفعتهُم بعد أن شعرت بكفٍ صغيرة تُربِّت على كتفيها، فابتسمت وسط دموعها وتوقفت عن البكاء عندما وجدت أمامها صديقها الوحيد ينظُر لها بدفئ ويُواسيِها بعينيه، وقد إمتدَّت كفهِ نحو عينيها يمسحُ دموعها، ثُم نهض من أمامِها واتجه نحو حوضٍ مُمتلئ بالورود، وقطف منه وردة، واقترب منها مرَّة أُخرى وجلس جوارها يمُد يدهُ المُمسِكة بالوردة نحوها قائلًا ببراءة..: 


_ماتعيطيش...سمعت ماما بتقول إن الورد بيداوي الحُزن فجبتلك وردة جميلة شبهك. 


وتمُر ثلاثةُ سنوات على هذا المشهد.. وفي نفس المكان، هرولت الفتاة بأقصى سُرعتها وكأنَّها صاروخ، ودمُوعِها تتساقطُ بجنُونٍ على وجنتيها، حتى توقَّفت على عتبةِ باب المنزل الشاسِع تنظر لذلك الَّذي يسيرُ برفقةِ رجلٌ يحمِلُ حقيبتين مُمتلِئتان ويُجاورهُ إمرأة تمسكُ بين كفيِّها بكفي ولدين مُتجِّهينَ جميعًا نحوَ سيَّارةٍ تبدوا وكأنَّها تنتظِرهُم، وقد تابعتهُ بعيناها الَّتي لا تستطيعَ أن ترى من خِلالها بسبب الدموعِ الَّتي تحجِبُ عنها الرؤية، ومن بينِ كُل هذا همست بحُرقةٍ كبيرة..: 


_ماتسيبنيش وتمشي. 


وأتبعَ قولها بسيلانٍ من الدماء الغزير يتدفَّق من أنفِها، ووقوُعِها على الأرضية فاقدة للوعي.! 


❈-❈-❈


أدخلت رأسِها الَّتي كانت تُخرجها من النافِذة، وإفتغر ثُغرها عن إبتسامةِ حنين عندما تذكَّرت الماضي الجميل والمُؤلِم، والحبيب الَّذي ذهب ولم يعُد للآن، وقد نهشها الإنتظارُ الطويل، ولكنَّها لم ولن تمِل حتَّى تموت، فمن سِمات الحُب الحقيقي الصبر والإنتظار، وها هي تسيرُ على النهجِ الصحيح دونَ أي أخطاء.


_الحِلوة دي قامت تعجِن في البدرية.! 


إلتفتت ذِكرىٰ خلفها تنظُر نحو باب غُرفتِها الَّذي ولجت منهُ إحداهُنَّ وهي تُدندن الأُغنية المُحببة لقلبها، فأكملت هي ببسمة واسِعة إرتسمت على محياها..: 


_والديك بيدَّن كو كو كو في الفجرية، 

يلَّا بينا على باب الله ياصنايعية، 

يسعد صباحك صبح الخير يسطا عطية.


صمتت لثوانٍ، ثُم أردفت تسألُ تلك الواقفة الَّتي تستنِدُ برأسِها على باب غُرفتها بحاجبين معقودين..: 


_خير ياست تسنيم؟، إيه اللي راميكِ عليا الصُبح بدري كده..؟ 


وضعت الآخيرة كفِّها على ثُغرها وهي تتثائب بنُعاس، ثُم أجابت بخمول..: 


_أكيد يعني مش هصحى من أحلاها نُومة وجاية لسواد عيونك، الحُقنة الإسبوعية بتاعِت جدو يعقوب معادها دلوقتي، ومافيش غيرك يادكتورتنا اللي هيعرف يدهالُه.


_تمام، خمس دقايق ونازلة. 


قالتها ذِكرىٰ بلا مُبالاة وهي تواليها ظهرها، وقد تبدد الحماس الَّذي كانَ ظاهرًا قبل دقائق وحلَّ الهدوء الَّذي نمَّ عن برودِها، واتجهت نحو المِرحاض المُلحق بِغُرفتِها لتتجهَّز، بينما إرتمت تسنيم على الفِراش، وأغمضت عينيها لِتُكمل نومها الَّذي لم تهنئى بهِ بسببِ والدِها الَّذي أيقظها مُبكرًا لتصعد إلى ذِكرىٰ كي تُحضرها. 


ولجت ذِكرىٰ داخِلَ شقَّةِ جدِّها الَّتي تتواجد في الدور الأرضي للعمارة الكبيرة الّتي يقطُن بها جميع أعمامِها، واتجهت نحو غُرفتهِ لتسمعَ صوتٌ مألوف غير صوت جدِّها يتكَّلم، فطرقت الباب، ثُم دلفت بخطواتٍ بطيئة ووجهٍ تُجاهِدُ في أن تمحوا منهُ الكُره وتجعلهُ باردًا قدر المُستطاع بعد أن سمِحوا لها بالدخُول، فابتسمت لعمِّها الَّذي يجلِسُ بجاورِ جدَّها والَّذي يكُونُ والد تسنيم تُلقي عليهِ تحيَّةَ الصباح بموَّدة مُتجاهِلة جدِّها كالعادة، ثُم إتجهت للدرج الَّذي يتواجد بهِ أدويته وأخرجت الحُقنة واتجهت إليهِ بعد أن جهزتها، وانتظرت أن يُعدِّل عمِّها مُصطفى من وضعيتهُ دون أن تُبادر في مساعدته وأعطتهُ إياها، ثم رمت الحُقنة في سلة القُمامة وناولتهُ باقي أدويتهُ بآلية شديدة، ليجذب حواسها حديثُ جدَّها المُوجَّه لعمها، والذي كان..: 


_ماتنساش إنهاردة "يامُصطفى" تجمَّعلي إخواتك وجوز أختك عشان هتنكَّلم في الموضوع اللي قولتلك عليه.


_حاضر يا بابا إن شاء الله.


كانت هذهِ آخر الكلِمات الَّتي سمعتها منهُم قبل أن تخرج من الغُرفة والشقة دون أن تُلقي بالًا لما يقولونه، لأنَّهُ على الأرجح أنّهُم يتحدثون فيما يخُص العمل، فلفح أنفاسِها عِبق الزهور الَّذي نشرَ رائِحتهُ في الرواق بسبب الباب الخارجي المفتوح، وقد كانت ستصعدُ لِشقتهم، لكنها غيرت مسارها وخرجت للحديقة ،فتطايرت ملابِسها بخفة بفعل رياح موسم الخريف الذي أوشك على الإنتهاء، واقتربت من إحدى الأرائِك المتواجدة في الحديقة وجلست عليه تُعدل حجابها الَّذي إنزاحَ قليلًا من على رأسِها، والذكريات الَّتي لم تُنسى يومًا ولا ثانية كلما رأت جدها تتدفق في رأسِها، فلن تنسى أبدًا أنَّهُ كان السبب الرئيسي في إبتعاد حبيبها عنها كُل تلك السنوات، وظلَّ عقلها سابِحًا بين أمواج الذكريات مُبتعدًا عن شاطئ الواقع لما يُقارب النصف ساعة حتى إهتزَّ هاتِفها بقوة، فنظرت لهُ لتنهض بسُرعة مُتجِّهه نحو الداخِل وهي تضرِب رأسها بكفها بضيق بسببِ نسيانِها يوم التدريب الأول لها، وكان من الجيِّد أنها وضعت مُنبه ذكَّرها بالأمر نيابةً عن عقل السمكة الَّذي تملكُه.


❈-❈-❈


خرجت تسنيم من غُرفتِها مُتأنِّقة بشدِّة، والسعادةُ تكادُ تقفزُ خارِجَ عيناها، لتُقابِل في طريقها وهي تسيرُ نحو المطبخ شقيقها الأكبر "خالد" وهو يتمتم بكلماتٍ تبدوا أنها شتائم، ورغم أنها لم تسمعُها، لكنها إستطاعت تحديدها بسبب ملامِح وجههِ المُتهجِّمة كعادتِه الدائِمة وكأنَّهُ خُلِقَ هكذا، لاتعلم حقًا كيف سيتزوج وستتحمَّل زوجتهُ بؤسهِ هذا طوالَ العُمر، حقًا من ستتزوَّجهُ ستكونَ بطلة كبيرة، أو ستكونُ حمقاء لأنها إختارته.. 


أنهت تسنيم حديثها مع نفسها تزامُنًا مع دلوفِها للمطبخ، لتتجه نحو والِدتها تُلقي عليها تحية الصباح بحماسٍ كبير، فردَّت عليها والدِتها ثُم صمتت بعدها لثوانٍ تتفحصها من رأسِها لأخمص قدميها قبل أن تتحدَّث مُمازحة..: 


_ دا انتِ متشيكة ولا كإنك رايحة فرح مش مدرسة، إوعي يابت تكوني بتضحكي علينا ورايحة تتجوزي من ورانا، دا أنا هقطع عِرقك وهعمل بيه شُربة، وهسيَّح دمك وهحوله لبابريكا. 


أنهت والدتِها حديثها ترفعُ السكين الَّذي كانت تحملِهُ يديها أمام وجه تسنيم وهي تبتسم بمُزاح، لتضحك الأخيرة قائِلة بسخرية..: 


_طب ودي تيجي إزاي والبعيد على عينُه اللي متنيلة مخطوبالُه حُمار وجموسة.. حرام عليكِ ياماما عكننتي عليا فرحتي بأول يوم ليا شُغل في المدرسة بإنك جبتي سيرة الجواز وفكرتيني بالمهبب. 


_طب ياست إحنا آسفين، ويلا غوري على المدرسة.


حرَّكت تسنيم رأسِها للجانبين بسُخريةٍ إزدادت خاصةً عِندما رأت والدِتها تُمسك بعُلبة بلاستيكية مُمتلِئة بالطعام وتمُدها نحوها قائِلة..: 


_خدي دول معاكي وإبقي كُليهم لما تجوعي هناك. 


_ياست الكُل واللهِ أنا رايحة أدرَّس مش أدرِس هناك..انتِ محسساني ياغالية إن أنا لسا في أولى إبتدائي،  دا حتى عيب على طولي دا لمَّا واحدة في زيي ترُوح بلانش بوكس. 


_إن شالله عنك ما أخدتيه ياروحي، دا واللهِ خُسارة فيكِ البيض بالبسطرمة والجبنة الشيدر واللانشون اللي حطاهُملك.


سحبت  تسنيم منها العلبة بسُرعة منها، وفتحتها كي تتأكد من صحة قولِها، ثُم تحدَّثت وهي ترمُق الطعام  بأعينٌ عاشِقة..: 


_من اليد ما نعمدها ياسندوسة ياقمر، يلا أنا همشي بقى عشان ما أتأخرش على المدرسة وياخدوا عني فكرة مش ولا بُد من أول يوم. 


أنهت تسنيم حديثها، وانحت تُقبل وجنتها، وخرجت من المطبخ راكِضة، لتضرب سُندس كفِّها ببعضيهما بقلِّةِ حيلة مُتحسرة على عدم وجود عقول عند أبنائِها. 


خرجت تسنيم من الشقة، وهبطت للأسفل عبر الدرج دون أن تستعمل المصعد لأنَّها لا تُحبُّه، ومن سوء الحظ قابلت سبب تعاستِها في الحياة، والَّذي ما إن رآها وقف بمكانِهِ على الفور، وغمز لها مُتحدِّثًا..: 


_ ياصباح البسكوت النواعم المسقسق في شاي العروسة، مش ليبتون عشان مقاطعُه. 


رمقتهُ "تسنيم" بتقزُّزٍ جاعلة إيَّاهُ يبتسِم أكثر، وقد فطِن أنها  غاضِبة منه، وكانت الأخيرة ستتحرك من أمامِه وتُكمل طريقِها، فأوقفها يحجز عنها الطريق معَ حفظهِ لمسافة كافية بينهُما قائِلًا بعدما كتَّف ذراعيهِ أمام صدره..: 


_مالك بقى إن شاءالله، حساكي متضايقة شوية من ناحيتي..! 


_شوية..؟؟؟ 


رددتها تسنيم وهي تبتسم بصدمة، ولم تمُر نصف ثانية على صمتها واسترسلت قائِلة بسُخرية شديد..: 


_ولا متضايقة ولا حاجة، دا أنا يادوب بس هنفجِر وهولَّع عشان البيه عاشق المطابِخ عايش في المطعم خمسة وعشرين ساعة في اليوم وناسي إن عندُه كلبة خاطِبها والمفروض يتكرَّم حتى ويعبرها، دا أنا إبتديت أحس إنك بتحب المطعم أكتر مني.! 


_طب ماهي دي الحقيقة فعلًا ياحبيبتي ماتحسِّيس.


إتسعت عيناي الأخيرة صدمةً مما قاله، وقد إحمَّر وجهها  من الغضب فردت عليهِ بنبرة مُتوعدة..: 


_بقى كده يا نوح؟، يبقى خلِّي المطبخ بقى يتجوزك.


أنهت تسنيم حديثها وتحركَّت من أمامِ نوح الَّذي كاد أن يفتح فمهِ ويُخبرها أنَّهُ كان يمزحُ معها، ولكنهُ لم تُعطهِ الفُرصة وذهبت قبل أن يبرر لها، فتنهد قائِلًا بقلِّةِ حيلة قبل أن يُكمل صعودِهِ لشقته..: بحب حُمارة أقسم بالله.


❈-❈-❈


_انتِ ماشية دلوقتي يا ذِكرىٰ.؟ 


هتفت والدةُ ذِكرىٰ بتلك الكلمات المُتسائِلة بعد أن دلفت للمطبخ ووجدت إبنتها تقف أمام الثلاَّجة، لتُجيبها الأخيرة بنبرة مُقتضِبة قبل أن تتحرك وتخرُج..: 


_ايوة.


وأمسكت حقيبتها ترتديها، وخرجت من الشقة دون أن تُضيفَ شيئًا آخر.


وبعد نصف ساعة، ولجت ذِكرىٰ داخِل المشفى، وأخذت تتأمَّلها بأعيُنٍ زائِغة وأنفاسٍ تتثاقل شيئًا فشيئًا، وداخِلها يصرُخ مُخبِرًا إياها بأنَّ هذا ليس مكانِها وليس حُلمها، فلِما تقفُ هُنا..! 


وهُنا تدخَّل عقلها يُذكِّرها بأنها حُشرت في المجال منذُ خمسُ سنوات، فلِماذا تتمرَّد الآن وقد فات الأوان منذُ زمن ..؟ 


تنهَّدت ذِكرىٰ بإستسلامٍ ماسِحة دموعِها الَّتي تُحاوِل التمرَّد والنزول، وأخذت نفسًا عميقًا ترسِم بسمة خفيفة على شفتيها قبل أن تستوقف إحدى المُمرضات تسألُها عن غُرفةِ مُدير المشفى، فأرشدتها الأخيرة للمكان المنشود، لتشكُرها ذِكرىٰ، ثُم سارت قليلًا حتى وقفت أمام غُرفة نُقِش أعلاها إسم الطبيب المُدير "إسلام فاروق" الَّذي كان يُدرِّسُها في الجامِعة منذُ سنتانٍ مضت، قبل أن يترُكَ الجامعة ويفتتح مشفاهُ الخاصة ، وطرقت الباب بخِفة، لتسمع صوتٌ من الداخِل يأمُرها بالدخُول، فولجت للداخِل وهي تبتلِع ريقها بتوترٍ شديد، وتقدَّمت نحو الجالس خلفَ مكتبهِ، والَّذي ما إن رآها، نهض من مكانِهِ على الفور مُرحِّبًا بها ببسمة واسِعة دونَ أن يُصافحها لأنَّهُ يعلمُ مدى تحفُّظِها في عدم مُلامسة أي رجُلٍ أجنبي..: 


_يا أهلًا بالدكتورة ذِكرىٰ، المُستشفى نوَّرت والله بوجودِك. 


بادلتهُ ذِكرىٰ الإبتسام‌ قائِلة..: 


_ دا نور حضرتك واللهِ يادكتور إسلام.


أشار لها الأخير بالجلوس على الكُرسي، واتجهَ هو نحو الكُرسي الأخر المُقابل لها وجلس عليه لتفتتِح ذِكرىٰ الحديثَ بقولها المُتردد..: 


_حضرتك كُنت عارض عليا من فترة قُليلة إني آجي هنا أكمل تدريب في المُستشفى بتاعت حضرتك، ووقتها أنا رفضت ساعِتها عشان كُنت بتدرب في مُستشفى تاني بس أنا ماكملتش فيها، ودلوقتي جاية عشان أسأل حضرتك لسا العرض مُتاح، ولا راح عليا خلاص.! 


ردَّ عليها الطبيبُ إسلام سريعًا بعد أن نفى برأسه.: 


_لا طبعًا يابنتي، انتِ تيجي في أي وقت تحبيه، 

ومبسوط جدًا واللهِ إنك أخيرًا سمعتي كلامي وهتتدربي هنا عندي. 


إبتسمت ذِكرى لهُ بِموَّدة قائِلة..: 


_بجد مُتشكرة لحضرتك أوي، وبإذن الله هاجي ابدأ من بعد بكرا، بس حابة أعرف نظام المستشفى هنا ماشي ازاي.! 


❈-❈-❈


ولج إلى داخلِ منزلهِ الكبير بخطى ثابتة، وعيناهُ تبحثُ عن باقيةِ المُتواجدينَ، حتى إلتقطت أذناهُ صوت قهقهاتٍ أنوثية قادِمة من غُرفة المعيشة، فسار مُتَّجهًا نحو مصدر الصوت حتى توقف أمام الغُرفة، وولج إلى الداخل ليجد والدِتهُ تجلسُ برفقةِ فتاةٍ ما إن وقعت عيناها عليه نهضت من مكانِها بسُرعة، وإتجهت إليهِ مُتحدِّثة بسعادة تحت صدمته بوجودِها في منزلهِم..: 


_ حمدلله على سلامتك ياحبيبي.


_الله يسلمك..انتِ هنا من إمتى؟، ماكُنتش متوقع وجودك عندنا..! 


كادت الفتاة أن تتحدث، فسبقتها والدِتهُ بقولها بعد أن انتصبت واقِفة..: 


_نوران هنا من شوية، وهي حبِّت تيجي هنا وتفاجئك... صمتت تُربِّتُ على وجنتيهِ، ثُم أكملت بنبرة حانية..: 


_حمدالله على سلامتك ياحبيبي، أنا هسيبك بقى معَ خطيبتك شوية وهاروح أجهز الأكل.


إنحنى الأخيرُ يقبِّل كفِّها، ثُم تركتهُم وخرجت من الغُرفة، لتُقابل زوجها يسيرُ من أمامِها مُتجِّهًا نحو غُرفتهِم بوجهٍ مُتعب وكأنَّهُ يحمل كُل هموم الدُنيا على عاتقه، فسارت خلفهُ وولجت داخل الغُرفة، لتجدُهُ قد جلس على حافة السرير وقد نكس رأسهِ للأسفل وأحتضنها بكفَّيه، ولم يكُن ينتبه لوجودها معهُ في الغُرفة قبل أن تضع كفِّها على كتفيهِ مُتسائِلة بقلقٍ بالغ..: 


_مالك يامحمود فيك إيه؟، ومين اللي كُنت بتقابلُه برا وإيه، اللي خلاك كده؟. 


أطلق محمود تنهيدة حارة يجيبُ على سؤالها بعد أن أغمض عينيه..: 


_دا مصطفى أخويا اللي قابلته...طلب يشوفني عشان يقولي إن أبويا تعبان أوي وعاوز يشوفني أنا والولاد . 


_طب وانت قولت إيه..؟ 


_معرفتش أقول حاجة، عشان حنِّيت للحظة، بس للأسف اللي عملُه معايا صعب يتنسي بجد ياحنان، حتى بعد ماظهرت براءتي مش قادر أسامِح، ومصطفى عمال يلح عليا وأنا مش عارف أعمل إيه.


ربَّتت حنان على كتفِهِ بحُزن على الصُراع الَّذي يتخبَّطُ فيه، ثُم قالت..: 


_بص اللي انت شايفُه صح إعمله، بس برضوا دا والدك وليه حق عليك مهما عمل فيك وأنا عارفة إنك لحد دلوقتى لسا بتحبُّه، وخليك فاكر إن هو كان ضحية هو وكمان زيك في لعبة كانت هدفها إنها تفرَّقُم عن بعض. 


مسح محمود على وجههِ بكفِّهِ وهو يرُد بإنفعال..: 


_وهو طبعًا ساعِدهُم بكدا وصدَّق إني فعلًا ضحكت عليه. 


وأطلق تنهيدة قوية لم تُخفف حتى من حدَّةِ النار الَّتي نشبت داخلهُ منذُ أن عادت ذكريات الماضي الَّتي جاهدَ من أجل تخطيها ونسيانِها.. 


وياليتهُ ينسىٰ.! 


❈-❈-❈


سارت تسنيم عِبر رواق المدرسة رفقةِ إحدى العامِلات بأمرٍ من مُديرة المدرسة كي تُرشدها للفصل الَّذي ستبدأُ فيه، وكانت عيناها تلمعُ بسعادةٍ بالغة وهي تتأمل كُل شبرٍ فيها، حتَّى وقفت أمام أحد الفصول، لتسمع العامِلة وهي تقُول.: 


_هو دا فصل سنة تانية إبتدائي اللي حضرتك هتدرَّسي فيه... ربنا معاكِ ياحبيبتي من اللي هتشوفيه. 


قالت العاملة جُملتِها الأخيرة بشفقة لم تُلاحِظها تسنيم بسببِ حماسِها الشديد، وقد أومأت  برأسها وشكرتها قبل أن تذهب، وأخذت نفسًا عميقًا، ثُم مدَّت يديها نحو المقبض، وحركتهُ لينفتح الباب، وولجت للداخِل ببسمة عريضة ومُتحمِّسة كي ترى الأطفال الملائِكة، رموز البراءة والهدوء و...إبتلعت تسنيم باقي تفكيرها، وملامِحها تبدلت للصدمة التامة بسبب الكارثة الَّتي تحدُث أمامِها الآن.. 


هل قالت منذُ ثوانٍ أن الأطفال رموز البراءة..؟، 

حسنًا، هي الآن محت كُل ما قالتهُ في حقِّهم 

وهي تنظرُ لجميع المتواجِدون في الفصل، والَّذين إنقسموا لبعض الأولاد يقفون فوق المقاعد، ويتراقصون مثل فتيان الشوارع على أنغامٍ شعبية تصدحُ من أحد الهواتف، والبعضُ الأخر يتشجارون، وهُناك فتاتين يُمسكانِ بمقلمة وكُل واحِدة تحاوِلُ أخذِها من الأُخرى وهُما يصرُخانِ في وجه بعضيهِما، ويجلِسُ بجوارهِم ثلاثُ فتيات دون أن يصدروا أي إهتمامٍ لزميلتيهم الَّذين سيقتلُون بعضهِم بعد ثوانٍ يضعون من طلاء الأظافر، وإحداهُن تمضغُ العلكة مِثل فتيات الليل، ومن بين كُل هذا، وقعت عيناها على طِفلٌ ذو جسدٍ سمينٍ بدرجةٍ مُخيفة جعلتها لم تُصدِّق أنهُ في الصف الثاني الإبتدائي، يجلسُ وحيدّا في آخر مِقعد في الفصل، ويمسكُ شطيرةً كبيرة يضعُها داخِل فمه دُفعة واحدة مُصدرًا أصوات عالية تدل على تلذذهُ، وفي ثانية إلتقطت "تسنيم" العصاه المُلقاه على الأرض، وهبطت بها على المكتب بِقوةٍ إنتفض على إثرها الجميع...وأخيرًا إنتبهوا لوجودها.


وبعد عشرُ دقائق، إبتسمت تسنيم بِرضا وهي ترى جميع الأطفال جالسون في أماكِنهِم بكُل هدوء عكس ماكانوا عليهِ قبل قليل، وكل ما لزمها كي تجعلهم هكذا لم يكُن كثيرًا، فقط ضربت الأولاد الَّذين كانوا يرقصون بالعصاة، وجعلتهُم يُنظِّفون الفصل بأكملِه، وهاهُم الآن يلتصِقون بالحائِط وأذرُعِهم يرفعونها عاليًا، وقطَّعت المقلمة الَّتي تشجارت الفتاتين بسببها، والآن هُم يُقبِّلون رأس بعضيهِما كُلَّ ثانية، وأخذت العلكة من فم الفتاة وألصقتها في خُصلاتِها، وطلاء الأظافِر شوَّهت بهِ وجوهِ الثلاثُ فتيات، أمَّا عن الطفل السمين أعطتهُ الطعام الَّذي حضَّرتهُ والدتِها لها وفوقهُم ثلاثُ قُبل على وجنتيه السمينتين، وهذا ليسَ بسببِ خوفِها منهُ بالطبع.


وقفت تسنيم أمام الأطفال تُحمحم بِخفة، ثُم تحدَّثت تُعرِّفهُم عن نفسِها بكُل فخر..: 


_أنا مُدرِّسةِ اللُغة الإنجليزية الجديدة بتاعتكُم، وتاج راسكُم ، الميس تسنيم مُصطفى الأصلي، والمفروض أنا جاية هنا عشان أعلمكُم إزاي تتكلِّموا إنجلش زي الأمريكانيين، بس الحقيقة أنا لقيت ليڨل التربية عندكُم في النازل، فقولت مابدَّهاش، لازم الأول أعلمكُم مفهوم الرباية عشان نبدأ بقى شُغلِنا على نضيف.


توقفت تسنيم عن التحدُّث تنظُر للطِفل السمين الَّذي يرمُقها بأعيُنٍ مفتوحة على مصرعيهما جعلتها تبتلِع ريقها، وأكملت تُشيرُ له ببسمة خائِفة..: 


_طبعًا الكلام دا مش ليك عشان انت متربي 7 مرَّات.


❈-❈-❈


بعد عدَّةِ ساعات.. 


جلسَ مُصطفى برفقةِ شقيقيهِ جلال و حسن وبالإضافة إلىٰ شقيقتهِم الصُغرى زينب وزوجها سامي، في غُرفة والدهُم بعد أن جمَّعهُم مُصطفى بأمرٍ منه، وكان الصمت يعُم في المكان، حتى حمحم الوالد يعقوب بعد أن إعتدل جالسًا على الفِراش بمساعدة إبنتهِ زينب مُتحدِّثًا ..: 


_طبعًا انتوا مستغربين من التجميعة دي، بس أنا قررت قرار وحابب إني أبلغكُم بيه. 


إرتسم الفضول على وجه الجميع عدا مُصطفى الَّذي يعلم بكُل شيئ، والَّذي نهض من مقعدهِ بسبب الإتصال الَّذي أتاهُ الآن من شقيقهِ الأكبر، فـ إبتعد عنهُم قليلًا واتجه للشُرفة كي يُجيب على إتصاله، بينما أكمل يعقوب حديثهُ مُصرحًا بالمُفاجئة دونَ أي مُقدِّمات..: 


_ أنا قررت خلاص إني هرجع محمود تاني يعيش معانا. 


وفي نفس الوقت عاد مُصطفى للجلسة سريعًا بعد أن فجَّر يعقوب المُفاجئة، ونظر لإبيهِ قائلًا بنبرة مُبتهِجة..:


_بابا محمود وافق إنه يرجع البيت.



يتبع

إلى حين نشر رواية جديدة للكاتبة مريم جمعة، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية