-->

قصة قصيرة جديدة في يوم وليلة لصفاء سيف - الخميس 1/8/2024

 

قراءة قصة في يوم وليلة كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




قصة قصيرة في يوم وليلة

قصة جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة صفاء سيف

تم النشر يوم الأربعاء

1/8/2024

❈-❈-❈


رغم أنني أغوص في بحار الحب، تغمرني من كل الاتجاهات، وأعيش في رغد لم أكن أحلم به يوما، وبرغم كل اللين والرفق والتحسس في معاملتي، وكثرة الهدايا والتنزهات والملابس وكل وسائل الترفيه والإسعاد.. إلا أنني لا أستطيع أن أشعر بالسعادة! لا أستطيع العيش في الواقع، أنا غارقة في محيط ذكرياتي، أتحرك كيف تشاء أمواجه، أبحث عن نفسي عن (روضة) تلك الطفلة الرقيقة ذات الأعين البراقة التي كانت تشع بهجة وسرور، ببسمتها الصافية، ووجها الأبيض النحيف كجسدها الضعيف، أتذكرها حين كانت تجري بخفة وحيوية، تتحدث باندماج ومرح، ترى الدنيا جميلة كربيع روحها، تنتظر الغد بشغف، والأمس لا يعنيها، تنشر البهجة في كل مكان تتواجد به كزهرة فواحة، كانت تشعر بالأمان والسكينة، رغم بساطة الحال، وعجز الوالدين، وقلة الإمكانيات، وكثرة المشاحنات، والمطاردات، إلا أنها كانت وقت ذلك حية! 

 أما الآن فأصبحت (أنا) أعيش على أنقاض الذكريات، أتمنى استعادة لحظة واحدة منها، أتحسر على الوقت الذي غفوت فيه خلالها، أشعر أنني تائهة في فوهة زمنية لا تتصل بالواقع ولا تنغمس في الماضي، أصبحت عيناي تجسد الحزن الذي اقترن بالروح منذ تلك الليلة.. ليلة انقلاب الحال، ليلة زارنا الفراق مع ملك الموت، وبعد أن أتممت الخامسة والعشرون، لن أعجز عن قص ما حدث ليلتها وكأنه الأمس، سألجأ لرفقاء عمري وأختبئ بينهم أسرد مأساتي  وأترك الروح تفرغ ما حوت.. 


تمدد الوشاح الأسود في الأفق، فتناثرت أعلاه اللآلئ الفضية، وسطع كعادته وسطهم متفرد باتزان كأنه الأب وسط أطفاله. هدأت الأصوات والحركات تدريجيا حتى انقطعت. تأهب الجميع للتوقيت المعتاد لفصل الكهرباء عن القرية التي تصبح كمساكن الموتى ليلا، أنهيت واجباتي ثم أغلقت كتابي وأرفقته بكراساتي وأدخلتهم في فم حقيبة المدرسة البنفسجية المنتفخة، ثم أغلقته بتؤدة. أعددت ثياب الغد، وتأكدت من تمام إعداد أدواتي ومتطلباتي المدرسية. أزحت كرسي المكتب عن الطريق وسط الغرفة ووضعته جانبه، قصدت السرير فبسطت أطرافي عليه باسترخاء، شاردة في حصص الغد وزملائي وفصلي، أتلهف لحصة الألعاب التي أنطلق فيها وأبدد سكوني وعقلانيتي؛ لأخرج كل ما في جعبتي من مرح ونشاط. كدت أغوص في سبات تام حتى انتبهت على صوت سعال أمي، نظرت إليها وهي مستلقية بجواري، وجدتها تتأوه ألما وتتلوى بصمت كأنها تناطح عدو خفيا لم أفهم كنهه. انقطعت الكهرباء في موعدها المقرر، ولكن في هذه الليلة لم تنقطع الكهرباء فقط، بل أنفاس أمي أيضاً، ولم تُطفأ المصابيح فقط، بل أعين أمي أيضاً، وكأن الحياة أكملها توقفت! حل الظلام، وأنا وحدي جوارها طفلة ضئيلة في مجابهة الموت وسكراته متجسدين بوجه أمي، شخصت عيناها فجأة وشهقت شهقة غريبة! صرخت وهلعت مما أرى. رغم الظلام رأيت أمي تفارقني للأبد، رأيت شبح الموت يدنو بسطوته وغلبته، هرعت إلى الشارع أستنجد بالعالم، انجدوا أمي، انجدوني، أرجوكم، هل من أحد يسمعني؟  أمي لا أعرف ما بها بالداخل... 

الظلام موحش والناس نيام، صرخت بنبرة أقوى، جاء رجال من بعيد لم يفهموا مما أعاني، صرخت باسمها.. أمي، أمي، دخلوا معي بأنوار هواتفهم، سبقتهم إليها، أحضروا جارنا الطبيب الذي تعشمت في تدخله وخبرته كي ينقذها ويرفع ضرها. الدموع تنهمر وحدها، والقلب يقرع باضطراب. توقفت أنفاسي لثواني وأنا أطالع يد الطبيب تتفقد أمي وحدقت أكثر أراقب فمه، ثم انتقلت إلى وجه أمي الصامت. لا أملك زمام عيناي ولا عقلي. أشعر بتراخي أعصاب ركبتاي، والتحفن البرد فضاعف رجفتي. أنتظر بوادر استجابة من أمي، أرجو الله ألا تتركني، أناجي القدر ألا يصعقني، أنا لازلت صغيرة، وأبي في الغرفة المجاورة لا يستطيع الحراك، كانت أمي يده وقدميه وأحيانا عينيه. وُلدت فوجدت أبي مصاب بالشلل النصفي منذ طفولته، وقبل شهرين امتد المرض إلى نصفه الأعلى فأصبح لا يقوى على رفع يده لصرف ذبابة تلدغ جبينه، كانت أمي عرجاء هي الأخرى، وقد أنجبوني بعد كفاح مع عمليات التلقيح المجهري، جئت معافاة من كل ما أصابهم، عوضهما الله بي فأصبحت أداتهم وعصاتهم. تعلمت كل شيء في أمور البيت وتنظيفه وإعداد الطعام، وكذلك شراء المستلزمات، كنت أهرول لتنفيذ طلبات أمي وتلبية حاجاتها، لكن أحيانا كنت أنام باكية حين أسمع أبي يوبخها لعجزها عن حمله ونقله، مستنكرا ضعف قواها. كان يفرغ غضب حزنه وعجزه بها، كلما شعر بالعجز وقلة الحيلة كلما أطلق رصاصات لسانه صوبها. كانت تتحمل وتصمت ولا تجادل، فقط تبكي على وسادتها بجواري بحذر كي لا تشعرني بها، لكني كنت أشعر، وعندما يزورنا أخوالي وخالاتي قادمين من المدينة المجاورة كانت تقابلهم بالحبور حتى في أصعب الأوقات! تواري مأساتها خلف بسمتها الدامعة، ترفع نبرة صوتها مرحبة بهم مهللة لهم حتى تُضيع عليهم فرصة اكتشاف أمرها. لم تشتكي لهم أبدًا من حنق وضجر وعجرفة أبي، لم تخبرهم أن ظهرها يؤلمها من حمله، لم تضع يدها على ظهرها وهي تجلس وتتحرك أمامهم كما حالها في غيابهم، كانت تتصنع القوة والصلابة. سترت أبي وخدمته بلا كلل ولا منّ، كم تحملت تلك اليتيمة التي حرمت من حنان أمها في نفس عمري! 

استمدت صلابتها وحكمتها من صراعات الزمن، وجهها الخمري الهادئ وعينيها السمراوان المغرغرتان بالدموع دومًا وصوتها الناعم يجسدون قوة تحملها وصبرها في الحياة، أنظر إليها في الظلام ولا أرى سوى نورها، تذكرت فرحتها منذ شهرين وقتما رافقتني للمدرسة في أول يوم بالصف الرابع وهي تدعو لي أن أحقق أمانيها وأقر عينها بنجاحي وتفوقي راجية الله أن يحفظني ويرعاني، أوصت عليّ المعلمين   والمعلمات وحتى التلاميذ زملائي أيضا، وها هي قبل ساعة من الآن كانت تجاهد في قلب جسد أبي الثقيل على مرقده رغم مرضها الشديد بعدما أصابتها الحمى المفاجئة وصعوبة التنفس قبل ثلاث ليال بلا سبب معلوم! قامت واستندت على كل ما يقابلها حتى تمكنت من بلوغه وإتمام خدمته، ثم عادت تلهث إلى الفراش جانبي، وضعت يدها على صدرها في تألم واستنجاد، كانت بالأمس أفضل قليلا من اليوم، كانت تصرخ ألما من صدرها واصفة إياه بالخناجر والسكاكين التي تشق فيه من الداخل، وهي تبكي وتتضرع إلى الله أن يطيل عمرها لأجلي. رغم أنها كانت تصرخ وتتألم إلا أن ذلك الحال كان أفضل من اليوم، اليوم أراها شاحبة صامتة، لا تقوى على النطق، أشعر بصمت رهيب يخيم على بيتنا، أحس بشبح أسود مرعب يحوم في الأرجاء، العالم أصبح خال من كل معنى ولون. انقلب الحال وبت أنا أتوسل إلى الله أن يطيل عمرها لأجلي، أنظر للطبيب وعين حالي تقول أرجوك أيها الطبيب افعل كل ما بوسعك لتخفيف آلام أمي، أرجوكم يا جيراننا ادعوا لأمي ولا تتركونا، أرجوك يا ربي اشف أمي... 

ها هو الطبيب يرفع يده عنها، ها هو يلتفت اتجاهي، عله سمعني وأنا أدعو، عله اعتدل ليطمئنني وينهي تشنجاتي، لكنه آثر الصمت على الحديث، ونظر لي بإمعان وهو يقبض على شفته، وخرج دون نطق حرف.. ما الأمر؟

  أسمع صوت جارتنا (نوال) صديقة أمي، علها جاءت لتوقظها كالعادة، حتما ستفيق أمي على صيحاتها المدوية الرنانة وهي تنادي باسمها، ظهرت الخالة نوال ودخلت الغرفة الخافتة الإضاءة بعدما أزاحوا مصابيح هواتفهم عن وجه أمي وصوبوها اتجاه الأرض، نظرت إلى الخالة أستنجد بها والدمع يغرقني، لكنها تحركت في وجوم واقتربت  ثم قبلت جبهة أمي، وشدت غطائها عليها وأحكمته على وجهها، حدقت بها بغضب وصرخت فيها:

اكشفي وجه أمي، أزيحي الغطاء عنها، ستكتمين أنفاسها.

أجهشت بالبكاء وهي تحتضنني وتأخذني إلى خارج الغرفة، والجميع يضربون كفوفهم بحزن واتعاظ، وبعد دقائق عادت الكهرباء وعاد النور، فأضيئت المصابيح، ودبت أصوات الحياة في المنزل، لكن...بلا أنفاس أمي! 

لا أعرف كيف تجرأ الجميع واستطاعوا نطق تلك الجملة! كيف فارقتني هي وتركتني بهذه السرعة؟ كيف أصبحت بلاها؟ هل ماتت حقا؟ لا أستطيع نطقها ولا تصديق ما حدث كله، عساها مريضة وغابت عن الوعي، أرجوكم لا تدعونها بالمتوفية، لا تقولوا رحمة الله عليها، هي لم تمت صدقوني، لن تتركني.. أنا أثق، هي فقط تحتاج لقسط من الراحة، وستنهض وتملأ البيت حياة.

 بت ليلتي أُكذّب ما ادّعوه عنها، أتعشم في انكشاط الهم مع انقشاع الظلام، ولما تنفس الصبح تمنيت أن يكون كل ما مر كابوس، تمنيت أن أجدها تقف أمامي توقظني بصوتها الحنون وتدس حقيبتي بصندوق الساندويتشات، وأرى الحياة في نعيم عيناها، ثم ألوح لها قبيل خروجي، وأعود ظهرًا فأجدها تقف بالمطبخ بجوار بخار الطعام المتصاعد فأهرول لتذوقه، ثم نتجمع سويًا على مائدة وجبة الغداء، وأبي ينتظرها كي تجلسه على كرسيه المتحرك، يا أماه لا تتركيني بحق الله.. 

ها هم  أخوالي قد أتوا، وخالاتي يرتدين الأسود، يبكون وينحبون، يصيحون باسمها، ستقوم وتطمأنهم  عليها كعادتها، وستلح عليهم كي يتناولون الغداء معنا، قومي يا أمي، انهضي، لا تتركيني.. 

ماذا يحدث؟ انهم يحملونها إلى الخارج، حيث سيارة خالي، وها هو خالي قادم نحوي، أخذونا معهم، علهم سيتولون رعايتها عوضا عن أبي القعيد، فهي بحاجة للرعاية والعلاج، وصلنا بيت أخوالي، أدخلونا، اصطحبتن خالتي إلى غرفة أولاد خالي رفقة أولادها، انضممت إليهم، كنت سابقا أتوق لزيارتهم ولقياهم، لكن هذه المرة لا أقدر على رؤية شيء خلاف أمي، كل العالم لا يعنيني، أمي هي عالمي، أمي هي حياتي، وفرحتي، وأماني، لم أعرف ما يتم خارج الغرفة، لكن تمنيت أن يوقظون أمي ويخبرونها أنني برفقة أولاد خالتي كي لا تقلق عليّ، وأعدها هذه المرة أني لن ألوث ملابسي، ولن أرفض الطعام، ولن أمرح بعيدا عنها، لن أزعجك ثانية يا أمي، لن أعود إليك ملطخة الثياب كالسابق، لن أفك ضفائري، لن أفارقك ثانية إن أردتِ، حتى اللعب لا أريده، سأكون كما تحبين، وسأبقى معك، وأذاكر لأجلك.. 

مر وقت طويل ولم تسألين عني، ألم يخبروك أنني بالداخل؟ سأطرق الباب كي يخرجوني لكِ، يا خالتي افتحي لي، أريد أمي.. 

لم يجبني أحد، وأظن أن النهار انقضى، لما يحبسوني هكذا؟ 

هل لترتاح أمي؟ 

أم هل مرضها معدي ويخشون علي؟ 

أجزم أنها هي من طلبت منهم ألا يسمحوا لي بالاقتراب منها خوفا عليّ. 

سأنتظر.. ما يهم أن تصير أفضل. 

غفوت قليلا حتى أيقظني صوت خالتي وهي توقظ أولادها كي يعودوا لبيتهم، نهضت منتصبة سائلة بلهفة: 

_ خالتي، أين أمي؟ أريد أن أراها. 

_حبيبتي يا ابنتي، أنا أمكِ من اليوم. 

_ لماذا، وأين أمي؟ 

_ يا حبيبتي يا ابنتي! 

_ هل ماتت؟ 

أجهشت خالتي بالبكاء بينما ألطمها بيدي لتجيب، ثم جريت بفزع إلى الخارج، أبحث عنها، رحلت أمي وتركتني، تركتني ورحلت دون أن تأخذني، منذ متى وأنت تذهبين وحدك يا أمي؟ خذينِ معكِ.. 

حملني خالي الكبير وصعد بي إلى غرفة أمي السابقة، ألقاني على سريرها وجلس جواري يواسيني ويحكي لي عن قصص الصابرين والفائزين بالجنان.

لم أفهم ما يرنو إليه، ولما انتهى ونظر إلي باستعطاف بادرته بالسؤال عنها:

_ خالي، أين أمي؟ 

_ أمك في مكان أجمل من هنا، وتراك الآن وتشعر بكِ. 

_ خذني إليها. 

_ يا حبيبتي، أنتِ من سيخفف علينا فقدانها، حفظك الله. 

_ أريد أن أبقى معها، خذني إليها، هل ماتت وتركتني؟ 

_ هي عند الله، ونحن جميعا إليه راجعون. 

_ لكن الله قادر على أخذي أنا الأخرى، أريد أمي. 

_ أمكِ كانت تحلم أن تراكِ في أفضل حال، فلتحققي لها ما تمنت، ولتطلبي من الله أن يبقى معكِ ويغفر لأمكِ. 

_ وكيف سأعيش دونها؟ 

_ هذه الحياة حبيبتي، نأتي إليها بأمر الله ونرحل بأمره، وما علينا إلا الصبر والإيمان بقضائه وقدره. 

_ الله يشعر بي الآن، أريد أمي. 

_ إنا لله وإنا إليه راجعون، رددي خلفي، وتعالي إلى حضني، أعرف أن ابنة أختي قوية جميلة وستحقق حلم أمها، وتصبح أمهر طبيبة في المستقبل. 

 ضمني خالي بحنان فشعرت حينها بأن الرؤية أصبحت ضبابية، والأصوات متداخلة، وغبت عن الوعي فرأيتها من بعيد تمشي بلا عرج، ترتدي الأبيض وتبتسم وأصبحت أكثر جمالا وأقل عمرا.. 

عرفت بعدها أن حياتي بالقرية قد انتهت، وأني سأكمل باقي عمري مع أخوالي، كون أبي لن يستطيع رعايتي وخدمتي.. في يوم وليلة حُرمت أمي وأبي وبيتي الذي ولدت وترعرعت به، وقريتي وأصدقائي وحياتي أكملها.. 

رغم صغر سني إلا أن الله عوضني بإمكانيات وقدرات تفوق عمري، وقد شهد الجميع عليها من أقارب ومعلمين وزملاء.

اتخذت من القلم والورق أصدقاء، أحببت لقياهم، وعاهدت نفسي بأن أحقق لأمي ما كانت تتمناه لي من نجاح وتفوق، لكن من داخلي أهاب الموت، وأخشى سطوته، ولذلك سأظل أكتب حتى أنشغل عن تلك العقدة المتكورة داخلي، أو علها تُفَك وأنا أواجهها بعين قلمي!  


تمت بحمد الله

لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة