-->

رواية جديدة ظننتك قلبي « لكن بعض الظن إثم » مكتملة لقوت القلوب - الفصل 12 - الخميس 3/10/2024

 

قراءة رواية ظننتك قلبي « لكن بعض الظن إثم » كاملة 

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ظننتك قلبي

« لكن بعض الظن إثم »

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة قوت القلوب


الفصل الثاني عشر 


تم النشر يوم الخميس

3/10/2024 

 « بين النيران »


يمكنك إطفاء حريق إبتلع بألسنته ما تراه نفيس ، لكن هناك نيران لا يمكن إطفائها تلك التى تشتعل داخل القلوب ...

لا يتخلى أحد عن شئ يتعلق به إلا بعد أن تحترق يداه من شدة تمسكه به ، تلك النيران التى لا يمكن إخمادها ، ليت النسيان سهلًا لكنت سعيت إليه بكل قوتي ..

لكن إن توجب على الإحتراق فسأكون نيزكًا متوهجًا ، لقد إحترقت بما يكفي وحان الوقت لأضيء ببريق السعادة والسرور ...


❈-❈-❈


سويسرا ( الكوخ الجديد ..) 

مر وقت لا بأس به وقد حاول "معتصم" إشعال المدفأة لتنكسر برودة الطقس قليلًا كما ساعدته "كاتينا" بصنع أحد المشروبات الدافئة لشعورهم بالبرد الشديد ...

حاول "معتصم" النوم لكنه لم يستطع لشعوره بإرتجاف أطرافه لينتظر أن تدفئ نيران المدفأة الأجواء من حولهم حتى يستطع النوم ...

هذا الشعور بالراحة والدفء الذى ينتظره ليغط بنوم هادئ كذلك "كاتينا" التى إنتظرت بالغرفة المجاورة لتلتمس بعض الراحة بعد ليلتهم المقلقة بسبب "عهد" لكنها ظلت تنتظر أن تدفئ المدفأة المحيط من حولهم ...


❈-❈-❈


صباح الجزار ...

خرجت من بيتها تحت أنظار إبنتها "راوية" وهي تتابع تحركها نحو مقدمة الحي بخطواتها الثقيلة تتهادى بتحفز تجاه بيت عائلة "سليمان" ...

عائلة ميسورة الحال هادئة الطباع بخلاف عائلة النجار التى تتناثر مشاكلها داخل الحي ، تلك العائلة ليست معتادة على الصراخ والسباب الذى تقوم به "صباح" ليتجنبوا تلك السيدة المثيرة للمتاعب منذ زمن طويل ...

لكن رؤيتها ببابهم بهذا الصباح دب التوجس بقلوبهم لقدومها المقلق ...

فتحت والدة "سليم" الباب لمقابلة "صباح" بقلق خِشية سبب وجودها ببيتهم بدون سابق دعوة فهي سيدة سليطة اللسان ، لكنها على الرغم من ذلك حاولت رسم وجه بشوش مُرحب بها فهي ضيفة بنهاية الأمر ...

- يا أهلًا وسهلًا يا ست "أم فريد" إتفضلي ...

إبتسمت "صباح" على غير العادة لتندهش المرأة لما تعرفه عنها من غطرسة ولسان سليط لتتحدث "صباح" بلطافة شديدة تثير الريبة ..

- يزيد من فضلك يا حبيبتي ...

دلفت نحو الداخل تناظر أرجاء البيت من حولها بمقلتيها السوداوتين تطالع كل تفاصيله بأعين كاشفة لعورات البيت دون الغضض من بصرها ، نظرات متبجحة لإنسانة بعيدة عن الأخلاق والقيم ومراعاة حسن الأدب وغض البصر ...

إمتعض فمها بدونية من معيشتهم وأثاثهم الذى تراه لا يمت للثراء والذوق بلمحة حتى ، فهو لا يحتوي على ما هو ذهبي براق وألوان زاهية بل إعتمد على الألوان الباهتة الهادئة ، شئ مقزز لنفسها المشبعة بالهرج والذوق المفجع للأعين ...

جلست"صباح" تبدأ حديثها مباشرة لتنتهى مما جائت لأجله ثم تعود لبيتها الرائع كما تظن ...

- شوفي يا حبيبتي ... أنا جاية لك فى خير ... جاية أفطمك على إللي بيحصل بدل ما تتورطوا  ... أنا جاية أنصحك وإنتوا أحرار بقى ...

- خير يا ست "أم فريد" .....

لفلفت "صباح" عيناها أولًا ثم أجابت والدة "سليم" بنبرة ودوده ...

- أنا سمعت كلام كدة مش عارفه هو صح ولا غلط ... ويا ريت يكون غلط ... أصل إنتوا ناس طيبين ومالكومش فى السكك البطالة ...

حركت السيدة رأسها بدون فهم لمقصد "صباح" لكنها شعرت بأن هناك أمر هام للغاية بحديثها ...

- قصدك إيه  ... أنا مش فاهمة حاجة ...!!!

مصمصت "صباح" شفتيها بتأزم وهي توضح لها ...

- أنا سمعت إن إبنك الداكتور .. عاوز يتجوز بنت أخو جوزى .. صح الكلام ...؟!!!

قضبت السيدة جبهتها بتعجب فمن أين لها معرفة ذلك فلم يتقدم لها بعد بشكل رسمي لتجيبها بترقب ..

- مظبوط ... بس مين قالك ...؟!!

بعنجهية شديدة أعادت جذعها للخلف مستكملة بثقة كما لو أن لا شئ يخفى عليها ..

- مش مهم مين قالي ... المهم أنا جايه أقولك إيه ...

أنصتت والدة "سليم" لها لتستطرد "صباح"..

- البت دى وأختها وأمهم كمان .. أستغفر الله العظيم مشيهم بطال ... وكل يوم والتاني عامله معاهم مشكلة  ... من كتر عمايلهم السودا ... إحنا ناس محترمين منقبلش كدة ... وأكيد يا أختى إنتِ سمعتي اللي بيحصل ...

فاهت السيدة بإيمائة كادت أن تصدق بها حديث "صباح" فربما هي محقة ...

- أيوة فعلًا إنتوا بينكم مشاكل على طول ... بس إزاى يا ست "أم فريد" .. دول أدب وأخلاق وجمال ما شاء الله ...؟؟؟

تسائلت بعدم إقناع بعد من حُجة "صباح" لتجيبها رفيقتها على الفور مؤكدة حديثها ...

- ما هو جمالهم ده إللي مخليهم يعملوا كدة ... ده جوزي وولادي كل يوم والتاني ظابطين البنات مع رجاله وحاجة أستغفر الله العظيم مقولكيش خليني ساكته ... ربنا يستر علي ولايانا ... دول يا حبيبتي مش بتوع نسب وفتح بيت ... ده إنتِ تبقى غلطانه ... وعمومًا براحتكم أنا جيت أخلص ذمتي من ربنا وأنصحكم لوجه الله ... وإنتوا أحرار ...


تفكرت السيدة لبعض الوقت فلابد أن زوجة عمهم تعلم ما لا يعلمه الأغراب عنهم لتردف برفض حتي لو أن الأمر بنفسها مازال به بعض الشك ...

- لا وعلى إيه ... هي البنات إتعدمت يعنى ما أهم فى كل حته ... خلينا نبعد عن الشر ونغني له  ... كتر خيرك يا ست "أم فريد" ...

ها قد حققت مبتغاها لتنهض ببطء لحركتها الثقيلة قائله ..

- طيب .. أقوم أنا بقى .. أنا قلت ثواب كدة لله أعرفكم أحسن رجلكم تيجي فى الخية وتحاسبوا على مشاريب إنتوا مشربتوهاش ... بالإذن ...

قالتها وهى تتجه صوب باب الشقة فكما دخلت خرجت وقد رُسم فوق ثغرها بسمة خبيثة تعني إنتهاء الأمر فلن يجرؤ أحد على طلب مثل هذا مرة أخرى فبالتأكيد سيتداول الجميع الأمر وتصبح بنات "زكيه" غير صالحات للزواج لسمعتهم السيئة ...


❈-❈-❈


عطارة النجار ...

إقتربت الظهيرة ليتوجه "فخري" كعادته للصلاة بالمسجد كما هو معتاد بكل صلاة ، رجل تقي لكنه مازال يدفع ثمن غلطة إرتكبها لطمعه ، توبة متأخرة أفضل من العيش بذنوب بقية العمر ...

فعل كل ما يمكنه للتقرب إلي الله والتصدق لكنه مازال لا يشعر بالسعادة هل كانت خطيئته جسيمة إلى هذا الحد ، لكنه تقبل ورضخ لحياته وإعتاد السلبية والإنزواء ومتابعة أعماله فى صمت ...

جلس "مأمون" بمكتب والده لحين عودته من أداء الصلاة بالمسجد وهو يتابع بعيناه السوداوتين حركة العمال بداخل المتجر ، بينما كانت عيناه تخترق وتتفحص سير العمل كان يتحدث أيضًا بذات التركيز بمكالمته الهاتفية فهو ذكي للغاية يستطيع أداء أكثر من مهمة بوقت واحد ...

لكنه حين لاحظ أخيه "فريد" قد حضر للتو حاول إنهاء المكالمة ليتفرغ لهذا المتجه صوبه بشكل تام ...

- أيوة ... تمام ... خلاص إتفقنا ... حكلمك تاني أكيد ... النهارده حكلمك ... مع السلامة ...

بآخر كلماته كان "فريد" قد دنا من مكتب والده والذى يتخذه "مأمون" مجلسًا له بغياب والده ...

- صباح الخير يا "مأمون" ... 

- صباح الخير يا "فريد" ...

بحُجة مكشوفة لـ"مأمون" الذى إستطاع فهم ما يرمي إليه "فريد" من الوهلة الأولى ...

- هو مش إنت كنت مسافر النهارده ؟؟؟ ... ده أنا قلت آجى أشوف الحاج محتاج حاجة لواحدة فى الوكالة ...

مال "مأمون" برأسه يعبث بإصبعه السبابة بمقدمة لحيته الخفيفة النابتة وقد إخترقت عيناه نفس "فريد" الضعيفة وهو يجيبه بغموض ..

- السفر إتأجل ... متقلقش ... لو عايز ترجع المخزن إرجع براحتك ...

إبتسم "فريد" بسخافة وهو يحاول تقليد ثقة "مأمون" برفعه لإحدى ساقيه واضعًا إياها فوق الأخرى ..

- لما ييجى الحاج وأصبح عليه الأول .. أنا مرتب كل حاجة هناك ... ما إنت عارفني ..

حرك "مأمون" رأسة بإيمائة ضعيفة وصمت مُربك جعل "فريد" يتلعثم بحروفه لإستكمال حديثهم ...

- هو ...ااا ... إنت مسافر فين بالضبط يا "مأمون" ...؟؟؟

بعد نظرة مطولة مال "مأمون" للأمام واضعًا مرفقيه فوق سطح المكتب لتتشابك أصابعه بعضها ببعض قبل أن يجيبه ببعض الإستهزاء فقد غرس به والده قلقه وعدم محبته لـ"فريد" أيضًا ...

- وهي البلد حتفرق معاك يا "فريد" فى حاجة ...؟!!

اجابة ببعض التوتر ..

- لا يا أخويا ... عادى ... بنتكلم بس ...

نهض "مأمون" بوجه مقتضب يغلق عليه طرقه الملتوية جميعها ..

- اااه ... أنا مش فاضي للكلام ... عندى شغل ... بعد إذنك ...

حاول "فريد" التمسك بـ"مأمون" قليلًا بعد فربما يستشف منه بعض المعلومات ...

- ما تقعد يا أخى ... هو إنت على طول مشغول كدة ... أدينا بنتسلى مع بعض ...

مال "مأمون" بجذعه كاملًا أمام "فريد" مباشرة ليضع وجهه مقابلًا لوجهه ليهتز داخل "فريد" بشدة من قوة "مأمون" ونظراته المخيفة حين أردف ..

- مش إنت جاى تصبح على الحاج ... أهو الحاج جه أهو ...

دار "فريد" بعيناه بنفس مضطربة وهو يبتلع ريقه المتحجر تجاه اليسار ليجد والده وقد عاد من المسجد ، حاول رسم بسمة خرجت من بين إضطرابه بشكل مشوه متخوف للغاية ، بينما إستقام "مأمون" مبتعدًا عن "فريد" الذى يعلم مكره جيدًا وأن هناك سبب خفى لوجوده وأسئلته اليوم ...

بعد مكوثه مع والده لوقت قليل عاد "فريد" مرة أخرى للمخازن متمللًا يجر أذيال الخيبة للمرة الثانية دون التوصل إلى معلومة تفيده بما يخطط له لـ"مأمون" ...

ليت الضربات تأتى من الغرباء لكن الصدمة هى الضربة التى تأتى من القريب ، يا للزمان الذى يحفر فيه الأخ لأخيه بئر ليسقط به ...

نفوس ليست صريحة تحمل بقلوبها البغض والنفور لكن الوجوه تظهر الود والمحبة ، نفاق عجيب فمتصنع الود أقبح من صريح العداء ...


❈-❈-❈

عيادة الدكتورة منار الهواري ...

تلفتت "منار" وهي تلقي نظرة أخيرة بباب عيادتها المفتوح قبل أن تستطرد مرحبة بهذا الواقف أمامها ...

- أهلًا بيك يا دكتور ... إتفضل شوف العيادة براحتك ...

جال الطبيب بعيناه بأرجائها بعجالة وهو يجيبها ...

- واضح جدًا يا دكتورة إن حضرتك مهتميه بيها .. وإن شاء الله نتفق ...

خطى بضعة خطوات تجاه الغرف يتفحص حجراتها المجهزة بعناية قبل أن يعود مرة أخرى تجاه "منار" التى بدى عليها القلق لتأخر "خالد" عن موعده فكان من المفترض أن يقابل معها هذا الطبيب المستأجر لعيادتها ، لقد إعتادت وجوده بكل الأحداث الهامة بحياتها ولم يخيب ظنها يومًا بغيابه عن أحدهم ...

لم يخيب ظنها اليوم أيضًا حين دلف "خالد" بهيبته المعتادة لداخل العيادة بخطواته الرصينة لتدل على شموخ وقوة هذا الرجل ...

- السلام عليكم ...

وقف على الفور يتوسط "منار" والطبيب معرفًا بنفسه بذات القوة رغم كبر سنه ...

- "خالد دويدار" ... زوج الدكتورة "منار" ...

رحب به الطبيب بحفاوة وهو يصافحه ...

- أه طبعًا أهلًا وسهلًا يا سيادة المستشار ... "أمين عبد الناصر"  ...

أومأ "خالد" بخفة لتحية هذا الرجل ليبدأ بأسألته مستكملًا حديثه معه ليزداد إطمئنانًا لهذا الرجل الذى سوف يستأجر عيادة زوجته ...

- وحضرتك تخصص إيه يا دكتور "أمين" ...؟!!

- أنا دكتور أمراض نسا وحقن مجهري وعقم ...

بتفهم لعرضه لتخصصه أراد "خالد" أن يوضح سبب عرض العيادة للإيجار ...

- بالنسبة للماديات مش حنختلف عليها ... لأن الدكتورة "منار" مش محتاجة الإيجار طبعًا لكنها دلوقتِ مش متفرغه لها زى الأول ...  وبالنسبة للي حيستأجر العيادة هو طبعًا الكسبان لأن الدكتورة "منار" لها إسمها وسمعتها فكان أهم حاجة هو إنسان يكون محل ثقة ...

- طبعًا يا سيادة المستشار ... ده أكيد ... ده كفاية سمعة الدكتورة ... 

لم يكتفي "خالد" ببعض الأسئلة السطحية بل حاول الإلمام بكل المعلومات عن هذا الطبيب بالعديد والعديد من الأسئلة ، وبعد أن إطمئن تمامًا تم للإتفاق بينهم وتحرير عقد إيجار يحفظ حق الطرفين قبل مغادرة "أمين" للعيادة ...

بنظرة معاتبة توجهت "منار" بالحديث لزوجها بعد مغادرة الطبيب ...

- كدة برضه يا "خالد" تتأخر عليا  ..!!! ده أنا إفتكرت إنك مش جاى ...

مال بوجهه قليلًا وقد توسط ثغره بسمة تدركها "منار" جيدًا فبها محبة وإهتمام يعاتبها بها بأن تطلق الظنون برأسها تجاهه ...

- وده معقول برضه ... !!! وأنا من إمتى بسيبك يا "منار" ... دى عمرها ما حصلت ...

ثم إستطرد موضحًا ..

- كنت فى إجتماع مع صاحب الشركة وهو اللي أخرني شوية ... ما إنتِ عارفه أول يوم شغل ... لكن إنتِ من جواكِ متأكدة إني عمري ما أتأخر عنك أبدًا ...

مواقف متكررة ومساندة لعمر طويل كانت هي طريقته المختلفة بالمغازلة ، فمغازلته وحبه ينبع من مواقفه ومساندته ووجوده وليس بمجرد كلمات وحديث معسول ...

عشقت طريقته العملية بإظهار مشاعره ليكونا على هذا التفاهم والوفاق لعمر طويل جمعهما معًا ...

بدلالها الرقيق أردفت "منار" ...

- ماشى يا "خالد" ...

أنهى "خالد" حالتهم المعاتبة اللطيفة قائلًا ..

- طب إيه رأيك بمناسبة الشغل الجديد وإيجار العيادة نروح نتغدا بره ...؟!!

رغم عدم تقبلها لطعام المطاعم إلا أنها لن ترفض دعوة رقيقة كتلك للتغيير بدلًا من حياتهم الروتينية ...

- وأنا موافقه ...

ترافق الزوجان السعيدان لأحد المطاعم لتناول الطعام بهدوء ومحبة قبل عودتهم للبيت مرة أخرى ...


❈-❈-❈


حي النعماني (المكتبة)  ...

رفعت جسدها لتقف بأطراف أصابعها تحاول الوصول لرف الكتب العلوى لتضع آخر كتاب بالتسلسل الذى أوضحه لها "بحر" ..

بالكاد وضعت "نغم" الكتاب لتهبط تريح قدميها أرضًا تشعر بمدى إنجازها لإتمام عملها الذى كلفت به ..

برغم إنشغال "بحر" بترتيب الكتب العلمية إلا أن مشاهدتها وهي تحاول التشدق للأعلى للوصول لمكان الكتب كان مثيرًا وممتعًا للغاية ، حتى أنه قد رسمت بسمة فوق ثغرة بخفة لو إستدارت "نغم" بتلك اللحظة للاحظت هيام هذا الشاب بها والذى فاه بنعومتها وحُسنها كلؤلؤة نادرة ...

سرقت قلبه بيومان حتى أصبحت رؤيتها ووجودها أمر لا يمكن تخيل يومه بدونهما ، كما لو أن الدنيا من قبلها كانت مظلمة للغاية لتقتحم حياته ببريقها وتوهجها لتتبدل تمامًا كحياة أخرى وليست ما إعتاد عليها ...

حتى عمله بالمكتبة أصبح ممتعًا للغاية ، سعادة متأخرة دقت بابه تراقص لها قلبه الصغير ..

هبطت "نغم" أرضًا تستقر بوقفتها وقد لاحت إبتسامة عذبة فوق شفتيها المضمومتان لإنجازها الذى قامت به ، إستدارت نحو "بحر" لتخبره بأنها إنتهت مما طلبه منها ليسرع بإسقاط عيناه بعيدًا عنها بإضطراب شديد ...

حول عيناه تجاه الكتب الموضوعة أمامه حتى لا تكشف أمره وولهه بها ..

- أنا خلصت يا أستاذ "بحر" ...

إبتلع ريقه بصدر متهدج وهو يصطنع أنه يرفع رأسه نحوها للتو كما لو لم يكن يسترق للنظر إليها منذ قليل ، حاول إخفاء إضطرابه و دقات قلبه المتسارعة وهو يثني على عملها الذى لا يهتم كيف يكون ..

- برافو عليكِ ... مكنتش أعرف إنك بتتعلمي بسرعة كدة ..

إثنائه عليها جعلها فخورة بعملها وبنفسها ليشرق وجهها بإبتسامة سعيدة صافية للغاية لتظهر برائتها وزهوها بنفسها قائله ...

- شكرًا على المجاملة  ... حنعمل إيه بعد كدة .. ؟!!!

- إحنا نقعد نرتاح بقى ... من الصبح شغل شغل ..

ثم دعاها بتمني أن تقبل دعوته ولا ترفضها ...

- أنا عازمك على الغدا .. يعني حاجة بسيطة نطلبها سوا ... إيه رأيك ...؟؟؟

فقيرة محتاجة لم تعتاد الدلال أو الرفاهية لتناول الطعام من الخارج والذى لا يمكنها دفع تكاليفه الباهظة ، هكذا إعتادت وتربت ، وبرغم ذلك تملك ما هو أغلى من المال ، تمتلك عزة نفس وشموخ لا يتحلى به الكثيرون ..

- أسفه يا أستاذ "بحر"   ... أنا مش متعودة على الأكل بره ... ولا أعزم حد ... ولا أقبل عزومة من حد  ...

تلاشت بسمته ليتجهم وجهه قليلًا لرفضها لكنه تفهم أسبابها لتسمو بعيناه لإعتزازها بنفسها وقيمتها ، لكنه بذات الوقت كان يود لو يقترب بخطوة نحوها فهى تضع حدودًا بينهم كحاجز لا يمكنه تخطيه بسهولة ...

- ليه بس ... عادى جدًا ... حاجة بسيطة و أهو يبقى عيش وملح بينا  ...

برفض تام وجدية شديدة أعادت "نغم" رفضها لدعوته فهى لن تسمح لأى شاب بالتودد والتقرب إليها أو السماح له بشراء أى شئ لها حتى لو كان الأمر برمته بسلامة نيه ...

- معلش ده طبعي .. وأنا مبقبلش حاجة من حد أو أقبل حاجة مقدرش أردها ... ده غير إن معايا غدايا اللي ماما مجهزاه ليا ... وعمومًا شكرًا على ذوقك ...

أومئ ببعض الضيق لكنه لم يشاء الضغط عليها متفهمًا رفضها ليدعوها بلطافة مرة أخرى ...

- طب ممكن نقعد وكل واحد فينا ياكل أكله  ... أهو نتونس سوا ...

أومأت "نغم" بخفة و دبلوماسية شديدة ليتحرك كلاهما نحو طاولة خشبية مستطيلة ليجلس كل منهما بمقعد مقابل للآخر ليتناول كل منهما طعامه دون مشاركة بعضهما البعض سوى بالحديث ...

- إشتغلتي قبل كدة يا "نغم" ...؟!!

تفكرت "نغم" لبعض الوقت لتجيبه بصراحة ..

- إشتغلت شوية فى المدرسة الإبتدائي بس مكملتش ... ظروف كدة خلتني أسيب الشغل ...

تعلقت عسليتاه بها بشرود فلها طريقة عذبة للغاية بالحديث و مخارج الكلمات فلكل حرف تنطقه إيمائة لطيفة تخطف قلبه معها ، حتى بإبتسامتها ووصفها ، حركات حاجبيها المنحنية ، حالة لا يمكن وصفها سوى بالسحر ، كأنغام تسحر عيناه وأذناه لتشعره بالتلذذ والإنسجام ببحورها ، كلمات ليست بإيضاح وإستفاضة إلا أنه كان يود ألا تنتهى من حديثها وتظل تتحدث وتتحدث لا تكف عنه مطلقًا ...

أراد أن يظل محلقًا بسماء كلماتها كالأنشودة التى تسرق القلوب والآذان حتى سألته بدورها تنتظر إجابته ...

- وإنت يا أستاذ "بحر" ... فاتح المكتبة دى هنا من زمان ...؟!! أصل أنا أول مرة آخد بالي من المكتبة مع إني ساكنة قريب  ..

فاه للحظات فقد بعثرت تلك الصغيرة كيانه ليملمها بتشتت وهو يستجمع كلماته للرد عليها ...

- المكتبة دى كانت قهوة ... بتاعة والدى زمان الله يرحمه .. فكرت إني أعملها مكتبة لأني بحب الكتب جدًا  ... وبدأت أشترى الكتب وأرتبها ... عشان كدة تقدري تقولي إنها لسه مشروع جديد ...

- اه فهمت ... ربنا يوفقك ... شكلك إنسان طيب ...

رغم تلقائيتها كانت تتحدث بتحفظ شديد حتى هام مرة أخرى بشفتيها حين تحركتا ليجيبها بهيام غير متداركًا نفسه ...

- وإنتِ أوى ... ( إنتبه لنفسه بإرتباك ليصحح كلماته ببعض الإتزان ) ... شكلك طيبة وبنت ناس طيبين ..

- شكرًا ... مش يلا بينا نكمل الشغل ...

حرك رأسه بالإيجاب مردفًا ...

- اه ... يلا ندخل على قسم الأطفال ... لأنه حياخد مننا شغل كتير أوى النهاردة ...

ليعودا لإستئناف عملهم بعد وقت الراحة المستقطع وحديثهم الشيق ...


❈-❈-❈

###


بيت المستشار خالد دويدار ...

عادا الزوجان إلى شقتهما بروح نشطة بعد قضائهما هذا الوقت المميز بتناول طعام الغذاء وتجاذب أطراف الحديث ، تلك الحياة التى لا يصابا بها بالصمت الزوجي ورتابة أيامها ، بتقدمهما فى العمر معًا يتعاملا كصديقان يستمع كل منهما للآخر ويساعد كل منهما الآخر ، ليسا مجرد زوجين صدع الملل حياتهما وكره كل منهما وجود الآخر ...

دقات مرحة دقت بابهم لدى عودتهم ، تلك الدقات التى دبت بقلوبهم أولًا لتضع "منار" حقيبة يدها جانبًا قائله بنبرة سعيدة ..

- دى أكيد "غدير" ... دى خبطتها ...

ترقب "خالد" بسعادة أيضًا لقدومها ليتطلع نحو الباب الذى تقدمت "منار" لفتحه لمقابلة زوجة إبنهم  ...

فقزت "غدير" بشقاوتها المحببة تدير عيناها الواسعتان بأرجاء الشقة من حولهم لتردف بمرح ...

- قفشتكوا .... إتأخرتوا ليه ...؟؟؟ ( ثم إعتدلت تشير بسبابتها وقد إتسعت بسمتها المميزة لتظهر أسنانها العريضة مردفة بمزاح ) ... شكلكوا عملتوها وإتغديتوا بره ... صح ؟!! 

تعلقت "منار" بمرفقها وهي تسحبها نحو الدخل ..

- أيوة ... تعالي .. تعالي .. 

قوست "غدير" حاجبيها بغرابة لتصطنع التأثر وهي تقلب شفتيها مدعية البكاء بتمثيل لطيف للغاية ...

- ااااه يا قلبي ... إتغديتوا وسبتوني في أحزاني ... مكانش العشم تطنشوني كدة ... إيه ... رايحين تعملوا شهر عسل من ورايا ولا إيه ...؟!!

نكست رأسها وهى تحركه يمينا ويسارا بإستكانة تدعى التسول لشفقتهم ثم إستكملت ...

- براحتكم ... كلوا إنتوا  ... إنما الغلبانه إللي قاعدة هنا ... مش مهم ... أعملي سندوتش وخلاص ...

إتسعت بسمة "خالد" و تعالت ضحكات "منار" لتجاريها بمزاحها ...

- وإحنا نقدر .. حالًا ناكل تاني مع بعض ... يا "أم حمدى" حضري الغدا ...

أكملت "غدير" بإستكانة مطأطأة الرأس ...

- كتر خيرك يا حماتي ... أنا مبشحتش ... لينا رب إسمه الكريم ...

مسحت دمعة غير موجودة من وجنتها لتعقب "منار" التى لا تستطيع سوى الضحك فقط وهي تضربها بخفة  ...

- ماشى يا "دورا" ...( ثم أعلت من صوتها) ... كنسلي الغدا يا "أم مجدي" ...

رفعت "غدير" هامتها بإندهاش وقد إتسعت عيناها الواسعتان بقوة ليعلو صوتها بصدمة ...

- جرى إيه يا "منوره" ... مش تمسكي فيا و تعزمي عليا بقلب جامد كدة .. على طول (كنسلي يا أم مجدى) .. ده كلام برضه ...

رغم متابعة "خالد" حضور "غدير" المميز بإبتسامته الواسعة إلا أنه أردف برزانة ...

- خليكوا إنتوا فى مشكلتكم دى بقى ... أنا داخل أغير هدومي ...

فاهت "غدير" بإصطناعها تأثر مرة أخرى وهى تشير تجاه "خالد" ...

- شايفه ... شايفه سعادة المستشار بيطنشني إزاى ... هو أنا نجفه ...!!!!

لم تتمالك "منار" ضحكاتها المتواصلة فتلك الفتاة الحيوية المقبلة على الحياة تستطيع إخراج ضحكاتهم من داخل قلوبهم بسلاسة ومحبة لتردف بعد محاولات منها للسيطرة على ضحكاتها  ...

- بس يا لمضة ... تعالي معايا ...

رفعت "غدير" كفيها بالهواء تشترط أولًا ...

- على شرط ... تحكيلي عملتوا إيه بالتفصيل الممل ... أنا زهقت طول النهار قاعدة لوحدي ...

- موافقة .. تعالي جوه نرغي سوا .. عقبال ما "أم مجدي" تخلص الأكل  ...

ضحكت "غدير" وهى تهمس بأذن "منار" ..

- نسيت أقولك ... "أم مجدي" عندى فوق بتنضف الشقة ... ومعملتش الغدا أصلًا ...

رمقتها "منار" بنظرة غيظ مازحة ثم أردفت ...

- بقى كدة ... طيب يا "دورا" ... وسايباني أنادي عليها ...

- قلبك أبيض يا "منوره" ... هي خلاص قربت تخلص ..

بتفهم لوضع "غدير" الصحى ومساعدتها بأن تجعل "أم مجدي" تنظف شقتها حتى لا تصاب بتلك الأزمة مرة أخرى عقبت "منار" بمحبة ...

- براحتها يا "دورا" المهم متتعبيش إنتِ نفسك فى التنضيف عشان متتعبيش تاني ... ولما تبقى تخلص فوق تنزل تعمل لنا العشا وناكل سوا ...

بعيون عاشقة وهيام بإسمه فقط اجابتها "غدير" ..

- لأ ... أنا حستنى "عيسى" .. أنا بس بغلس عليكوا ...

لها بالقلب محبة تفوق المحبين حبًا لكنها تزداد محبة لها عندما ترى كم هي تعشق ولدها ولا تهتم إلا به فهي لن تجد له زوجة محبة كما تحبه "غدير" التى تتنفس هواء يسمى "عيسى" ...

قضيتا وقتًا ممتعًا معا ليشاركهم "خالد" جلستهم الودودة حتى يحل المساء ويحين موعد عودة "عيسى" ...


❈-❈-❈


سويسرا (الكوخ) ...

سكون مميت يحيط بالكوخ لا يخلو إلا من صوت الرياح القوية التى أخذت تهب من حين لآخر ، صوت صمت غريب وغير معتاد لم يقطعه سوى صمت سَحَّاب سِترة يرتفع بقوة ...

رفعت "عهد" من هامتها بشموخ وهي تنفض يديها بعضهم ببعض حين إنتهت من إرتداء ملابسها السوداء وسترتها الثقيلة ..

ظهر الغموض والقوة الممزوجة بالشراسة على مقلتيها العسليتان تناظر هيئتها القاتمة التى عادت إليها من جديد بالمرآة كما لو كانت تنظر بتحدى لمجهول أمامها نظرات تبدو مخيفة للوهلة الأولى ..

إستدارت تحمل هاتفها للمرة الأخيرة حين لاح فوق ثغرها شبح إبتسامة ساخرة تتطلع لتلك البقعة الزرقاء الثابتة بهذه الخريطة بشكل واضح على شاشة هاتفها لتهمس ببعض التهكم ...

- فاكرين إني مش حلاقيكم ...!!!

تذكرت "عهد" حين إنشغل "معتصم" و "كاتينا" بهمسهم ليلة الأمس بغرفة المكتب لتنتهز هي الفرصة بوضع قرص صلب بالحاسوب المحمول الخاص بـ"معتصم" ليعمل كجهاز تتبُع زرعته به ليمكنها من تحديد مكانهم بسهولة إن غادروا بدون علمها ...

وقد إستطاعت بسهولة شديدة معرفة مخبأهم الجديد لتتجهز لملاحقتهم إلى هناك فى الحال ...

وضعت هاتفها بجيب سترتها ثم رفعت شعرها الأسود بقوة للأعلى إستعدادًا لبدء رحلتها ، رفعت غطاء سترتها تغطى به رأسها ليظهر إستدارة وجهها فقط كما جائت تمامًا ...

مظهر مثير للتخوف لنظرتها الحادة التى تعلو عيناها وملامحها الجامدة تبث قوة غير معتادة بفتاة ، لكنها قوية وستظل قوية ...

خرجت "عهد" من الكوخ لبدء تلك المغامرة التى ستربح بها بالتأكيد ، حين خطت أول خطوة خارج الكوخ سمعت الصوت الوحيد المربك لنفسها ، صوت الرعد لحقه صاعقة جديدة ضربت برج الإتصالات لينقطع إشارات التواصل والإنترنت لتغمغم "عهد" بسخط تحدث هاتفها ...

- وده وقته ... عمومًا أنا حفظت المكان ... حعرف أوصل له بنفسي من غير ( Gps) ...

بدأت "عهد" طريقها الذى عليها خوضه دون تراجع ...


❈-❈-❈


مكتب طه قدرى ...

عاد "طه" للتو من مكتب رئيسه السيد "نظمي" ليسارع بخطواته تجاه الهاتف الذى أخذ يدق برنين متواصل منذ أن دلف إليه ، جلس أولًا بمقعده ثم رفع الهاتف إلى أذنه مجيبًا ببعض الهدوء ..

- ألو .. أيوة يا "ممدوح" ...

أنصت لرفيقه قليلًا قبل أن ينهض منفعلًا وقد تحولت ملامحه الهادئة لأخرى متجهمة بقوة ثم أجاب بحنق ...

- الكلام ده مينفعش معايا ... يعني إيه بعد ما وصلتوا لها الشبكة تفصل ... أنا لازم أعرف هي فين بالضبط وبتعمل إيه دلوقتِ ... لازم يا "ممدوح" ...

لكن يبدو أن محدثه لم يبث الطمأنينة بقلبه ليجيب بحدة آمرة ...

- إتصرف ... إن شا الله تبعت لى حد من السويسريين اللي بنشتغل معاهم هناك يجيب لي أخبارها بالتفصيل ... أنا مينفعش أفضل نايم كدة على وداني ..

أغلق الهاتف ومازال الإنفعال يتوسم محياه ليشرد بإقتضاب لما عليه فعله لحل تلك المسألة فلابد من وسيلة أخرى للتبع "عهد" التى يترصد بها منذ سفرها ...


❈-❈-❈


متجر مستحضرات التجميل ( بيوتي إستور) ...

وضعت "نيرة" زجاجة عطر من بين يديها محدثة صديقتها التى تقف إلى جوارها بصوت منخفض ...

- ده بس اللي حصل يا "إسراء" ... و لما خلصنا اللف على معارض الموبيليا إتعشينا وروحنا ...

مطت تلك الفتاة العشرينية شفتيها بتملل ليظهر وجهها النحيل مثلث الشكل وعيناها الجاحظتان قليلًا و أنفها المدبب ثم أزاحت خصلة من شعرها الأصفر الفاقع المصبوغ حديثًا خلف أذنها قبل أن تردف معقبة على حديث صديقتها ...

- كويس إنه رضي ياكل المرة دى ... عارفة يا "نيرو" ... إنتِ لازم تعوديه على إللي إنتِ عايزاه ... طالما إنتِ قادرة تسيطري عليه بالشكل ده ...

أغمضت "نيره" عيناها لوهلة ثم أجابت "إسراء" التى كانت تنصت بشغف وإهتمام ...

- مع كل اللف ده من مكان لمكان معرفتش أجيب حاجة برضه ... 

تفكرت "إسراء" للحظات ثم أردفت بتوهج ...

- لقيتها .... فيه معرض كبير أوى كان منزل إعلان عن موبليات تحفة ... فرش قصور ... هو ده ... روحى له وأطلبي منه يصمم لك اللي إنتِ بتقولي عليه ...

لفلفت "نيره" بعيناها إستحسانًا لتلك الفكرة ثم أردفت بإعجاب ...

- والله فكرة حلوة ... إديني العنوان بتاعه ... 

أخرجت "إسراء" هاتفها من حقيبة يدها الموضوعة بأحد الجوانب لتبحث عن عنوان هذا المتجر باهظ الثمن لتدونه لـ "نيره" ...

مدت يدها بالورقة تجاه "نيره" قائله ..

- خدي أهو يا "نيرو" ....

ثم رفعت حاجباها بتذكر لشئ هام لتستطرد ..

- بصي ... أدى كمان ورقة فيها دواء ... زى المرة اللي فاتت ... خليه يجيبهولي ... حتى عشان تتأكدي إنه مش بخيل وإنه بينفذ كل طلباتك ...

أومأت "نيره" بإيجاب وقد إتسعت ابتسامتها فهي بالتأكيد تسير على المسار الصحيح بوضع "رؤوف" بتلك الزاوية الخانقة لينفذ لها جميع طلباتها دون نقاش ...

أخرجت "إسراء" علبة مخصصة للطعام من حقيبة جانبية أيضًا ..

- يلا يا "نيرو" الأكل اللي جبناه حيبرد .. يلا ناكل ...

تطلعت "نيره" حولها أولًا ثم أجابتها ...

-  أيوة الإستور (المحل) فاضي ... يلا قبل ما حد ييجي ...

أزاحت "إسراء" رأسها بعدم إكتراث قائله ...

- ولا ييجوا ... أصلًا الوقت ده محدش بييجي فيه كتير ...

جلسا بالمقعدين تجاه الزاوية يتناولان الطعام لإستكمال يومهما بهذا المتجر المخصص لبيع مستحضرات التجميل والإكسسوارات باهظة الثمن تناسب تلك الطبقة المخملية الثرية فقط ...


❈-❈-❈


روسيا ...

الحياة قرار فإن إتخذته يومًا فكن قويًا ، فعقد العزم يتطلب قوة تفوق صلابة الكلمات ، فالحديث شئ والحقيقة شيء آخر ...

إتخذت "عهد" طريقها بين الأشجار والطرق المغلقة وسط برك من مياه الأمطار اللزجة تخشى إنزلاق أقدامها تبحث بواسطة الخريطة فقط عن مكان تواجدهم لكن يبدو أن الأمر سيأخذ وقتًا أكثر مما كان بمخيلتها ، لكنها عليها إكمال ما بدأته فهي ليست من تترك الأمور معلقة دون ختام ، وهي تعلم بقرارة نفسها أنها تستطع ..


❈-❈-❈


بعد ليلة طويلة مرهقة للغاية جفا بها النوم عيناه وسلوكهم طريق مرهق للغاية حتى وصولهم لهذا الكوخ القديم وإنتظار أن يعم الدفء المكان من حوله ، غفى "معتصم" أخيرًا بسكينة وراحة ..

إتخذ الغرفة بالإتجاه الشرقي لأنها أكثر هدوئًا وبعدًا عن مصدر الإزعاج من أصوات المطر المتساقط على جانب الكوخ ، بينما إستقرت "كاتينا" بالغرفة الثانية والأخيرة بهذا الكوخ الصغير فهو لا يتعدى هاتان الغرفتان وصالة إستقبال فقط بطابق واحد أرضي ...

سرعان ما تبدلت تلك الغفوة لنوم عميق للغاية فإحساسه بالإنهاك جعله يسقط ببحور النوم والأحلام بصورة مستغرقة للغاية ...

إنفصل "معتصم" عن واقعه بعد شعوره بالدفء الذى بدأ يتسلل لجسده بقوة مستمتعًا بحُلم ممتع وهو يرى الشمس الساطعة بالقرب من شاطئ البحر الصافي تتحرك أمواجه بصفاء آخاذ ...

إلتف ببهجة يطالع هذا المنظر البديع ظنًا منه أنه واقع حقيقى وليس بسرداب من الأحلام التى لا تنفصل عن الواقع ...

تحرك بقدميه العاريتين فوق الرمال الناعمة يستمع بملمسها الدافئ أسفلهما ...

قضب جبهته بقوة حين شعر بأن الشمس أخذ توهجها يشتد من حوله بلونها الذهبي الناري حتى كاد يشعر بلسعات أشعتها تضرب جسده ليرفع كفه يحجب تلك الأشعة القاسية وحرارتها التى أخذت تزداد بحدتها ...

لكن الأمر لم يفلح مطلقًا فقد زادت الشمس من توهجها وعلت الحرارة من حوله ليندى جبينه بتعرق خفيف إزداد تدريجيًا كلما توهجت الشمس ..

شعر بسخونة شديدة أسفل قدميه العاريتين لم يستطع تحملها فأخذ يقفز بحثًا عن بقعة باردة تحميه من تلك الحرارة التى أخذت تحيط به حتى كادت أن تبتلعه من شدتها ..

حلم جميل تحول لمزعج للغاية وهو يحاول الهرب من شدة الحرارة التى كادت أن تحرق قدميه ، إحساس كما لو أنه يحرق حقيقة وليس حُلمًا بخياله ..

إنتفض جسده بقوة وهو يراوغ الحرارة الشديدة لتُفتح عيناه لينهي هذا الإحساس المزعج ، بصدر متهدج أدرك أن هذا الأمر ما كان إلا حُلمًا مزعجًا ، أعاد رأسه لوسادته مغمضًا عيناه الناعستان لكنه شعر بغرابة فمازال يشعر بالحرارة واللهيب يحيطان به ، فهل مازال يحُلم بعد ...؟؟؟

رفع رأسه لتنقلب نظرته الناعسة لأخرى فزعة للغاية حين أوسع عيناه عن آخرهما ، فما كان الحُلم سوى إنذار له ليستفيق من أحلامه ...

إنتفض جالسًا وهو يرى ألهبة النيران تحيط بفراشه من كل الإتجاهات تكاد أن تصل إليه ، إتسعت عيناه بقوة حتى كادت تؤلمانه من شدة إتساعها ..

ألسنة حارقة جعلته يتصبب عرقًا من حرارتها العالية لتتوهج بشرته القمحية للون البرونزي على الفور .

خلع كنزته الصوفية محاولًا البقاء على إنتظام تنفسه الذى بدأ يضيق صدره به لإمتلاء الغرفة بالدخان الكثيف إثر هذا الحريق الذى إندلع بالكوخ ..

بدأت النيران تزداد كثافة ملتهمة الأثاث من حوله ليتوجب عليه النجاة بنفسه وإلا سقط قتيلًا بفعلها ..

نظر نحو النافذة الصغيرة على يساره فربما يجد بها مهربًا من النيران لكنه وجد ألسنة النيران تشتعل بالخارج ، بخلاف تلك القضبان الحديدية التى ستحول دون خروجه من النافذة أيضًا ، إذن عليه الخروج من باب الغرفة التى تلتهمه النار كقطعة السكر ..

مد ذراعه لأسفل الفراش ليلتقط حذائه لتلسعه حرارة الأرضية تمامًا كما كان بالحُلم ، إرتدى حذائه بعجالة وهو مازال جالسًا فوق الفراش ثم تدثر ببطانية ثقيلة لتحميه من النيران التى أصبحت تحيط بفراشه كاملاً فقد بدأ التخت بالإشتعال بالفعل .

بجسارة ومرونة شديدة قفز "معتصم" من وسط اللهيب تجاه غرفة المعيشة ليعبر بين النيران دون تخوف ..

لم تكن غرفة المعيشة أسوأ حالًا من غرفته فقد تمسكت النيران بالأثاث والستائر لتحيط بالغرفة كاملة لتبدأ بعض القطع المشتعلة بالتساقط من حوله ..

لكن ما أثار صدمته هو رؤيته لـ"كاتينا" تتشاجر بكل قوتها بثورة عارمة مع "عهد" تتضارب كل منهما بالأخرى بشراسة وغضب كما لو أن حياة كل منهما متعلقة بالقضاء على الأخرى ..

بأعين مقتضبه ونفس مشحونة ظهرت تلك النظرة الصارمة والبريق النافذ بعينا "معتصم" وهو يرى هلاك ثلاثتهم داخل الكوخ الذى لا يدرى بعد سبب إندلاع تلك النيران به وعلى ما يبدو أن أحدهم قد تعمد فعل ذلك ، صرخ بصوته القوى لتنتبها له ...

- هذا يكفي ...!!!!!!!!!

تطلعتا نحوه بأعين متفاجئة بوجوده لتحاول "كاتينا" بالركض نحوه لكن "عهد" لم تُمكنها من ذلك لتسحبها من مؤخرة شعرها الأشقر نحوها بقوة لتظهر كم تتمتع بالقوة والمهابة ..

- تعالي هنا ...

صرخت "كاتينا" تستنجد بـ"معتصم" ليلحق بها وينقذها من أيدى تلك المتوحشة قبل أن تلتهمهم النار جميعًا ...

- النجدة يا "ماوصي" .. سأموت .. ستقتلنا ... أسرع ...

تحفز "معتصم" بقوة ليرفع بذراعيه القويتان البطانية للأعلى وهو يركض بسرعة تجاههما ليسحب إحداهما بكفه نحو البطانية عابرًا بها من داخل النيران التى تحيط بباب الكوخ لينقذ روحه وروحها معه قبل أن يشتعل الكوخ بالكامل والأخرى بداخله فكان عليه إتخاذ القرار وإنقاذ حياته وحياتها  ...



...يتبع 


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة قوت القلوب، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية..

رواياتنا الحصرية كاملة