رواية جديدة لؤلؤة الليث لإيمي عبده - الفصل 26 - الأحد 6/10/2024
قراءة رواية لؤلؤة الليث كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
قراءة رواية لؤلؤة الليث
رواية جديدة قيد النشر
من روايات وقصص
الكاتبة إيمي عبده
الفصل السادس والعشرون
تم النشر يوم الأحد
6/10/2024
كان لتأثير كلمات ذاك الشاب السحر على فيروز، حيث نسيت تماماً كل ما مرت به الليلة السابقة، وما حدث بينها وبين أخاها من جدال بالصباح، وإستعادة نشاطها، وحيويتها، وأسرعت إلى غرفتها تقف أمام مرآتها تتأمل نفسها، لقد سمعت مديحاً، وغزلاً كثيراً، ولكنها أبداً لم تتأثر به، لكن هذه المرة الأمر مختلف، لقد كان صادقاً، ذو نية صافيه، وأحست برغبة كبيره فى التحدث إليه مجدداً، رغم أنها لا تعلم من يكون.
❈-❈-❈
إبتسم "عرفان" بفخر بعد أن مدحه عابد نتاج عمله: لقد كنت بدأت أيأس معه، ظننته قد إنتهى بالفعل، فقد أتى أطباء كثر، وأجمعوا الرأى على أنه سيموت قريباً.
إتسعت إبتسامته، فقد سمع من أحد زملاؤه أن عابد رجل يصعب إرضاؤه، والعمل لديه تعجيزى، لكنه كان يعلم أن من يخبره بذلك لا يتقن عمله، ويعتمد على التملق، والنفاق فى كسب ود رؤساؤه، لذا توكل على الله ووافق أن يأتى ليفحص حصان عابد.
- لم أعتاد الإستسلام لليأس، لقد كان يحتاج للصبر والعناية.
ربت عابد على ظهر الحصان بسعاده: أنا أحب هذا الحصان كثيراً، فقد وُلد على يدى، وقد ربيته بكل حب، ولم أكن مستعداً لخسارته بعد، لذا كلما أتى طبيب، وأخبرنى أنه لا توجد فائدة من علاجه كنت أبحث عن آخر، ولأصدقك القول كنت أشك بقدراتك، فأنت مازلت صغير السن.
لم يشعر بالمهانة، بل على العكس تماماً كان مديحاً له زاد من ثقته بنفسه، وفخره بإتباعه الصدق، والدقة بعمله.
- لا تقاس مهارات الرجل بعمره سيد عابد.
أومأ بهدوء: نعم، أعلم، بل أنا الأدرى بهذا، صدقنى، لقد نقلت الحصان إلى هنا؛ ليموت حيث وُلد، فقد تعبت والدته أثناء حملها به، وكنت على وشك السفر، والطبيب الذى يرعاها قد تقاعد؛ لمرضه، وكبر سنه، ولم أجد بديلاً سوى ان آتى بها إلى هنا.
قضب عرفان جبينه، لقد ظن أن هذا قصر عابد، ولكنه على مايبدو أخطأ بظنه هذا، لكنه لم يسأل عن الأمر، لكن عابد أجاب سؤاله الغير منطوق.
- إنه منزل إبنة عمى وزوجها، إنهما عائلتى، ولكنى للحقيقة أردت ألا أشاهد موت حصانى المفضل، وقررت أن أجعل سلمان من يهتم به حتى موعد رحيله، وأنا أعلم أن سلمان كان سيفعل لأجلى هذا.
أومأ بالإيجاب، وقد بدى على وجهه التفهم لما يقوله عابد: لا داعى لإنتظار رحيله الآن، رغم أن شفاؤه لا يعنى أنه لن يموت يوماً ما.
نظر إلى الحصان يتأمله لثوانٍ معدوده، ثم إستطرد قائلاً: أعلم، ولكنى لست مستعداً للتخلى عنه الآن.
- حسنا سيد عابد، أنت تعلم مكاني، إذا ما أردت أي شىء يمكنك...
قاطعه رافعاً كفه أمامه؛ ليصمت: لن أبحث عنك؛ لأنك منذ الآن ستصبح الطبيب الخاص بمزرعتى.
إتسعت عيناه بتفاجؤ، وهربت منه الكلمات: ولكن أنا...
لكن عابد لم يبالى بتعثره، بل تابع بهدوء، وثقه: لا داعى للتفكير، أى إن كان ما ستطلبه سآتى لك به.
قضب جبينه يفكر قليلاً، ثم اجابه بتردد واضح: هل يمكنك أن تترك لى وقتاً؛ للتفكير بالأمر؟
لوح له بيده بلا إهتمام: خذ كل ما يلزمك من وقت، لكنى لن أقبل بالرفض.
أومأ عرفان بصمت، ثم طلب منه الإذن ليتركه، فوافق، فإبتعد عن عابد وسار بالحديقة حتى وجد مقعداً خشبياً، جلس عليه يفكر، وقد إعترى القلق والحيرة نفسه من هذا العرض المغرى، فمن الجيد أن يكون رجلاً كعابد هو حاميهم، ولكن هل سيستمر بتقبله له كطبيب لديه، إذا ما علم من يكون حقاً؟! بل والأسوأ أنه قد يصبح عدواً آخر له، لذا قرر أن يعود إلى أسرته، بعد أن يدرس هذا الأمر جيداً، ومن ثم يرى موقفهم، ومن هنا سيقرر، وحينها سيخبر عابد بالحقيقة كامله حتى يتلاشى أى صدام مستقبلى معه، فهو لا يريد مزيداً من المشاكل، كما أنه ليس نداً لرجل كهذا، وظل شارداً يفكر، ولم ينتبه إلى ما حوله، حتى وجد ظل أحدهم يحجب عنه الضوء، فرفع رأسه ليجد رجلاً ذا هيبة قد غلفت رأسه الخصلات الرمادية، ورغب أن الشيب إعتلاه، لكنه يبدو متمسكاً بقوته، وعنفوانه، وكأنه شاب صغير، فنهض ينظر إليه مستفسراً عن هويته، فأجابه بنفس السؤال له! فأجابه بقلق.
- أنا الطبيب يا سيدى، أتيت بالأمس من أجل حصان السيد عابد.
رفع حاجبيه مندهشاً؛ لصغر سنه، فقد ظنه عجوز هرم: أنت إذن ما يتغنى به عابد منذ الصباح!
إفتغر ثغره عن إبتسامة طفيفه: سيدى، أنا لم أفعل الكثير.
- بلى فعلت، ويسعدنى أنك متواضع، وهذا جيد لك، والآن ستكون الطبيب الخاص بمزرعتى.
إتسعت عيناه بذعر، إنه خائف أن يصل به التفكير حيث يرفض عرض السيد عابد، ليأتى هذا الغريب الغامض الذى لا يفرق عن السيد عابد سوى بعض التجاعيد البارزة بوجهه ليعرض عليه نفس الأمر، وعلى ما يبدو هو فرد من العائلة هنا، أى أن قبول العمل لدى أى منهما سيضعه بمأزق، ورفض كلاهما سيضعه بمأزق أكبر، لذا قرر إتخاذ سبيل الصراحة من الآن، فأجابه بتوتر.
- ولكن، سيدى، السيد عابد قد طلب هذا منى منذ قليل.
لم يتأثر، بل سأله بهدوء: وماذا كان رأيك؟
- لم اوافق بعد سيدى.
أومأ برأسه: حسنا وافقت، أو لم توافق مزرعتى ومزرعة عابد سيان، لذا لا تفكر كثيراً، ولكن كل ما بالأمر أن أجرك سيتضاعف، وأعتقد أن الجميع سيطلب منك العمل لديه، وفضاً للنزاع ستعمل لدى الجميع.
هل يملك قبيلة من الأشباح يشبهونه سيتقاسموا جميعاً العمل لدى أصحاب المزارع، يا إلاهى! إذا كان العمل بمزرعة واحدة مرهق للغاية، فما بال العمل بعدة مزارع؟! أهذا الرجل لديه عقل سليم؟!
- وكيف هذا؟!
أشار إلى نفسه بكبرياء: أنا كاظم عم عابد، وهذا يعنى أننا نتحدث عن مزرعة واحده، أما الأخرى فهى ملك لسلمان زوج إبنتى، وعلي والد زوج إبنتى الأخرى، وكلا المزرعتين قريبتان، يمكننا بناء إسطبل كبير يضم كل خيول المزرعتين فى الأرض المحصورة بينهما، وإذا كان على المواشى فلن تعانى كثيراً، فسنوفر لك سبل الراحة اللازمة لعملك، وتنقلك، فما رأيك؟
إبتلع ريقه بقلق، وأجابه بخوف واضح، فرغم أنه لم يلتقيه من قبل، لكنه معروف بمكانته، وهيبته المخيفه.
- مازلت أحتاج وقتاً للتفكير.
- حسنا، ولكن أخبرنى بالموافقة سريعاً، سآمرهم ببناء إسطبل، حتى تقرر.
تركه ينظر فى إثره مذهولا، فهؤلاء القوم لا يطلبون، إنهم فقط يأمرون! وقد تأفف بضجر، فيبدو أنه مرغم على الموافقة، حتى ولو لم يكن يرغب بذلك!
نهض يفكر بالتجول بالحديقة بين تلك الأشجار العالية عله يهتدى إلى قرار صائب، ولكنه تمنى لو أنه لا يجد فتاة أخرى تتعرض للإعتداء! فلقد دعاه السيد عابد إلى حضور الحفل، لكنه لم يكن من محبى حفلات الأثرياء التى يغلفها التملق، والنفاق، فإبتعد يتأمل النجوم اللامعة فى السماء الصافية، والقمر المنير يكللها بفخر، فجلس مستمتعاً بالهدوء حتى تناهى إلى أذنيه صوت فتاة تستغيث، فنهض فزعاً، وأسرع إلى حديث كانت، وضرب الشاب الذى كان يهجم عليها، ومن ثم ظهر آخر، إنقض على ذاك المعتدى، فأدرك عرفان أنه يعرف الفتاة، وسيحميها، فغادر دون سؤال، فأى إن كانوا، فحياة الأثرياء لا يريد التطرق إلى تفاصيلها، وقد لاحظ أن هناك آخر يركض نحوهم بخوف، فأدرك أن الفتاة أصبحت بأمان، ولم ينظر إلى وجهها حتى، ولكنه لسبب ما أحس أنها من وضعت نفسها بهذا الموقف، فما دعاها لأن تأتى بمفردها مع هذا المعتدى إلى بؤرة بعيدة عن الجميع، ولكنه لن يشغل رأسه بأفعالهم، وخُيل إليه أن الحفل كله إنتقل إلى الحديقة حيث كان السكون يغلف الهواء، وأصبح فجأة يحيطه الإزعاج، فعاد إلى الغرفة التى إستضافه بها عابد حتى يعالج حصانه، ولم يعلم ما الذى حدث بعد ذلك، ولكن الأكيد أن الحفل إنتهى سريعاً بعد هذه الواقعه، فقد إختفت أصوات الموسيقى من المكان، وسكنت الأصوات المتناثرة هنا وهناك، ويبدو أن شجار ما قد دب بين عدة أفراد، فأصواتهم العالية أزعجته، لكنه أشغل نفسه بقراءة كتاب لكى لا يسمعهم، فأسرار الآخرين ومشاكلهم تخصهم وحدهم، ولا يستهويه معرفتها ولو عن طريق الصدفة، فيكفيه صراعاته الخاصة به.
من حيث لا يعلم وجد فتاة صغيرة تقف أمامه، تنظر نحوه متعجبه لوجوده هنا، تسأله من يكون؟ وماذا يفعل هنا؟ فإبتسم لها بود، وأخبرها أنه الطبيب المعالج لحصان السيد عابد، فقفزت بفرحة تشكره بشده، فهى تحب هذا الحصان، وفهم من بين كلماتها السعيدة، أن السيد عابد هو جدها، ومن ثم مدت يدها إليه بحماس.
- أنا أدعى ليان، وأنت؟
مد يده يصافحها: أنا عرفان.
إبتسمت له بود: سنكون أصدقاء، فمن ينقذ حصانى الحبيب، يصبح صديقى.
بادلها بسمتها الودوده: وأنا أرحب جداً بتلك الصداقة.
- حسنا، سأذهب لألقى تحية الصباح على حصاني الحبيب.
لم يبدو على وجهه أى تقاجؤ، فسألته لما لم يتعجب، أو يسخر منها؟ فأخبرها أنها يمكنها مصادقة أى من تريد، والحصان صديق وفى ورائع، كما اخبرها أنه هو نفسه لديه أصدقاء كُثُر من الحيوانات، فكلبه الوفى يتبعه حيث يذهب، ويشعر بالحزن لغيابه، لذا يود أن يعود إلى منزله بأسرع وقت ممكن لأجله، فهو يرفض الطعام والشراب طوال فترة غيابه عن المنزل، لذا يحاول قدر المستطاع ألا يتأخر بسفرات عمله، فإبتسمت له بسعادة، ومدت يدها إليه تدعوه لأن يذهب معها، فلبى دعوتها بحماس جعلها تزداد سعاده.
❈-❈-❈
كانت سيا تقفز كالحمقاء أسفل شجرة التفاح، كان رسلان يحمل سلتين لجمع الفاكهة الناضجة كما إعتاد، فهو يفضل أن يفعل هذا بنفسه، لا أن يجعل البستانى يقوم بهذا، فقد رباه والده على أن يعمل كل ما يريده بيده، لا يعتمد على الخدم، أراد له أن يكون رجلاً مكافحاً، لا يجعله المال متراخياً كسولاً، بل مجرد داعم له ليرفع عمله عالياً، وحتى إذا ما فُقِدَ ماله لأى سبب كان يستطيع أن يحيا بعقله، وعمله، كما أنه حين يكد هكذا لن يضيع العمل فى الملذات؛ لأنه أدرك عناء العمل، ولولا أن أُسيد كان رفيقاً مقرباً منه وقد تربى معه لأصبح نسخة أخرى أسوأ من فيروز، وقد كان سلمان من يدفع أُسيد لأن يظل دوماً م لاع عابد، فنجمه لا تنتبه له كما يجب، ولا يمكنه مواجهتها، فحبه لها يأسره، ويجبره على الصمت عن كل ما لا يعجبه، ولا يدرى أن صمته هذا جعلها تزداد سوءاً.
❈-❈-❈
حين وجد رسلان تلك المزعجة تلتقف الثمار من شجرة والدته المفضله، كاد يقتلع رأسها، تلك الفتاة تدفعه إلى أقصى حدود الغضب، لقد زرعت عمته نجمه شجرة هنا منذ زمن، وقد تفاجأت بها ورده، وأخبرتها بسعادة عن محبتها لفاكهتها، ورغم أن عابد قد زرع لها الكثير منها بمزرعته، بجانب ما كان موجوداً بالأساس هناك، لكنها تحب تلك الشجرة، فحين وجدت نجمه أنها تحب ثمارها، أهدتها إياها، وأصرت أن تصبح لها وحدها، ولا أحد غيرها سيأكل منها إلا برغبتها هى فقط، وظل الجميع لا يتناولون من الشجرة إلا بأمر شخصى من ورده، والآن تأتى تلك الفتاة بمنتهى البساطة تجمع ثمارها بنهم دون أى إعتبار لأحد، لا، ذاك كثير عليه ليتقبله، لقد مرر لها ما فعلته بالأمس، لكنه الآن لن يفعل، فهتف بإنزعاج.
- ما الذى تفعلين هنا؟!
توقفت عن القفز، ونظرت إليه بفزع، فتاهت منها الكلمات: أأ أقطف ثمرة من هذه الشجرة.
إصطكت أسنانه بغضب، وأنظرتها عيناه بوعيد مخيف: ولم يعجبك بكل البستان إلا تلك الشجره!
كادت تبرر له بأنها تحب فاكهتها، لكن عيناه وقعت على الكومة المتراصة أسفل الشجره، فقد جمعت منها الكثير، ولازالت ترغب بقطف البقيه، فصرخ بوجهها مستنكراً.
- إنها شجرة أمى!
إبتلعت ريقها بخوف: لقد سمح لى عمى ليث.
ظنته سيهدأ؛ لأن لديها إذن من والده، لكنه ثار أكثر: والدتى فقط من تناديه بهذا الإسم!
رفعت حاجبيها مندهشه: لم يعترض عليه قط حين نادته والدتى به! ولا حين أناديه أنا به!
- لكن أنا أعترض.
نسيت خوفها، وغلبها الغضب، فصرخت به منزعجه: ومن تكون؟
رفع رأسه بشموخ: أنا إبنه، ووريثه، وقاتلك عما قريب.
إبتلعت ريقها بصعوبه فقد كان يتحدث بنبرة جاده، وإقترب منها بصورة جعلتها تتيقن أن موتها قد حان، فلم تبالى بلباقة أو مظهرها، فصرخت بخوف.
- أغيثونى.
تفاجأ بفعلتها، ولكن ما زاده ذهولاً انها هرولت مبتعدة عنه تتعثر بخطاها بشكل مضحك، حتى تعثرت بحفرة صغيره وسقطت منكبة على وجهها، ولكنها كانت سيئة الحظ فقد سقط وجهها فى بركة مياه صغيره، فالبلهاء ركضت نحو حوض الورد الذى تم سقايته منذ دقائق قليله، وأصبح وجهها تمثالاً من الطين جعله ينسى غضبه، ويقهقه بصخب زاد من غيظها، بينما أتى عرفان راكضاً برفقة ليان، وعابد خلفهما ليروا من يستغيث مجدداً، لكن حين رأوا ما يحدث تعالت ضحكاتهم، وعابد من بينهم لم يستطع أن يكبح ضحكته، لكنها بدلاً من غيظها أحست بالمذلة، وأنكست رأسها باكيه، فخفتت ضحكاتهم، وتوجه إليها عرفان يساعدها، حيث بحث حولها حتى وجد مصدراً للماء فملأ الدلو، وأحضره لها لتغسل وجهها، ولكنها كانت بحالة مزريه، فحاول تهدئتها، فألقت بنفسها عليه، تخبئ وجهها فى صدره، وتنتحب، مما أشعل ناراً تغلى بصدر رسلان لم يفهم سببها، لكنه لم يتحمل رؤيتهما هكذا، فإنطلق كالإعصار نحوهما حيث إنزعها من بين يديه، ورمقه بنظرة ناريه، ثم أمسك بالدلو وسكبه فوق رأسها، نعم لقد نظفها تماماً، لكنه زاد من إهانته لها، كما أن ثوبها صار مبتلاً، يرسم حنايا جسدها بدقة، جعلت عينا رسلان تجحظ بغضب، وقبل أن تدرك سيا ما حدث، وجدت رسلان يحملها فجاءة على كتفه، وكأنها كيس حبوب، وتوجه بها إلى الداخل، وهى تركله، وتلكمه؛ لينزلها، ولكنها كانت كمن تصفع الحديد، تتألم وهو جماد، بينما يتابعهما كل من رآهما بذهول، وعينا عابد التى تتابع بتسليه، هما الوحيدتان اللتان رأيا الحقيقة الكامنة خلف تصرف رسلان.
❈-❈-❈
كان عرفان يزداد يقيناً بأن هذه العائلة غير طبيعية بالمره، فكل يوم هناك من تستغيث، وعروض عملهم أوامر، وأشياء أخرى لا يفهمها، وقد فضل ألا يفكر كثيراً، فإعتذر، وعاد إلى غرفته لعله يجد الهدوء الذى يبغيه، لكنه هناك رأى أحد الخدم يرمقه بفضول، وقد إقترب منه بحذر يسأله عن هويته، وقد إبتسم، وإعتذر منه حين أوضح له من يكون، فعلى ما يبدو أنه لم يكن هنا بالأمس ، وحتى لو كان هو لم يحتك بأحد من الأساس منذ أن أتى بالأمس سوى هذا الصباح، وحينها ناداه رئيس الخدم، فأسرع إليه، لكن إسمه جعل جسد عرفان يتجمد، وتشتد عضلاته بتشنج، فإسم الخادم أعاد إلى عرفان ذكريات مؤسفه لا يريد تذكرها، وأسرع إلى غرفته، وتسطح على فراشه، يتأمل سقيفة الغرفة المزخرفة، حتى شرد بالماضى البعيد حيث كانت القراصنة تملأ البحار، لكنه لم يكن قد وُلد بعد، ولا حتى والده، لكنه جده هو من كان هناك، لم يكن عبداً، أو خادماً مأجوراً، لكان اشرف له، لكنه وبكل أسف كان قرصاناً، ولم يكن أى قرصان، لقد كان الأشرس بين رفاقه، قاتل بارد الدم، لا يعبأ بأحد سوى نفسه فقط.
لطالما كان لقبطان القراصنة طاقم يتألف من عشرات الرجال الذين يتبعونه حيثما أراد، يتداولون عنه الحكايا المخيفه، ليرهبوا بها أعداؤه، ومن بينهم القرصان ذو الدم الأسود، ذاك كان لقب جده الذى لم يعرف أحداً أبداً ما هو إسمه الحقيقى، لم يكن دمه أسوداً، لكن هذا ما أُطلقوه عليه بعد أن تعرض لجرح غائر، ومن ثم كتمه بالفحم الساخن المطحون، وتحمل أى ألم ينتج عن هذا، كان يحترق حرفياً ، وتجمدت الدماء المحترقه على جلده، مما أرعب الجميع، وظل الجميع خدماً طائعين لرغباته، لكنه مع مرور العمر أصبح يعتمد على سمعته السيئة التى بناها لنفسه منذ البدايه، والتى تزايدت مع الوقت؛ بسبب الشائعات التى روجها له رجال طاقمه عن معاركه المرعبه، وأخرى عن كنوزه المخبأة، وتلك الأخيرة ما دفعت الطامعين لملاحقته، لظنهم أنه يدفن كنوزه تلك بمكان ما، ومازالوا على ظنهم هذا بأن هناك من سيجدها يوماً ما، لقد ظل القرصان ذو الدم الأسود أسطورة يخشونها حتى قرر أحدهم التخلص منه؛ لينتقم منه، فقد سلب منه بضاعته بدون وجه حق، إستطاع شراء رجاله، وجعله بين شقى الرحى، فرجاله من صنعوا منه جباراً يطغى، وقد تعرض لشتى أنواع الخطط الماكره دون أن يمسكوا به، أو يصلو إلى المكان الذى يخفى به كنوره، لكنه ورغم أنه كان وحده، لكنه لم يستسلم مطلقاً.
لم يكن عدوه سوى رجلاً من رجال القانون، طامعاً، يرغب بماله، ثم يزج به فى غيبات السجون، لكنه لم يمهله الفرصه لذلك.
لم تكن هناك من طريقة قد تجعل هذا القرصان
يفصح عن سرّ مخبئه، وبدلاً أن يؤسر على يد السلطات، قُتل بطريقة وحشية في معركة على مشارف سواحل الجزيرة التى كان يحيا بها، فحين حاول الهرب حاصره الرجال هناك، ولم يجد سبيلاً سوى محاربتهم، وقد تداولت الشائعات حول قتله، فقيل أنه أصيب بعدة طعنات نافذه، وظل ليوم طويل ينزف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، فقطعوا رأسه ليتأكدوا من موته، ورغم معاناته مع الموت، لم يخبرهم بمكان كنوزه، بل ظل يضحك حتى مات مبتسماً، ورغم أنه حديث لا يمكن تصديقه، لكن الكثيرين صدقوه بالفعل، ولكن لم يكن يعلم أى منهم أن لديه زوجة، وإبن ببلد بعيد، لديهم كل أسراره ، لكن موته ومعرفة كونه قرصان جعل زوجته دوماً خائفه، وجعلت إبنه يعمل كحامى لها، يحذر من الجميع من حوله، فقد كان فهداً بالفعل كما سماه والده، فقد كان لهذا القرصان أصدقاء مقربين، يعلمون بأمر زوجته وإبنه، ونشروا الخبر عنهما، لذا أصبح البحث عنهما هو سبيل الثراء لكل الطامعين، لظنهم أن المال بحوذتهما، والمضحك بالقضية أنهما كانا فقيرين معدمين، فلم يترك القرصان أى كنوز، فقد كان مسرفاً بشده، وقد ظلت زوجته بعيدة ببلدها؛ بسبب نذواته التى لا تنتهى، وأمواله الغارقة بالدماء، وقد ربت إبنها تربية حسنه جعلتها تفتخر به، ولكن النفوس العليلة كثيرة، ومن بينهم رفاق والده، فقد وجودوهما بعد بحث طويل، ولم يصدقوا أنهما لا يملكان أدنى قدر من المال، ولكى تحمى الأم إبنها قتلت من يلاحقونهما، ورفضت تماماً أن يضحى بحياته لأجلها، فعاشوا هاربين من جزيرة لأخرى، حتى سقط قلب الفهد صريعاً بعشق إمرأه، فكف هو ووالدته عن الترحال، وإستقرا بتلك البلد، وتزوج من محبوبته، وأنجب منها صبى لم يهنأ به طويلاً، فمن ظل يحيا طوال حياته هارباً، مات مدافعاً عن أسرته الصغيره حين تعرض منزله لهجوم من هؤلاء الطامعين، ولم يتبقى سوى زوجته، وإبنه اللذان تركوهما بعد موته، فقد إعترفت لهم والدته أخيراً وهى على مشارف الموت، بأن القرصان كان يدفن أمواله بشاطىء الجزيرة التى كان يحيا بها على بعد خطوات من كوخه، فركضوا يتسابقون؛ ليلحقوا بالكنز الوهمى، فقد كذبت الأم لتحمى حفيدها عرفان ووالدته، فحثت زوجة إبنها على الرحيل، والتخلص من أى شىء قد يربط إسمها أو إسم عرفان بالقرصان؛ لتنقذهما، وغادرت الزوجة المنكوبه، تحمل صغيرها بين يديها، باكية على زوجها الراحل الذى لم ترى معه يوماً حزيناً، وعلى والدته التى كانت ونعم الأم لها، وما ساعدها أن لا أحد يعلم شكلها، أو حتى أنها موجوده، وطفلها مازال رضيعاً، يشبه كل الأطفال، وتعبت بالعمل كخادمة حتى إلتقت بأحدهم، أحبها، وطلب ودها، وتزوجها، ولم يعترض لكونها أم لطفل من رجل آخر، بل على العكس تماماً، أحب الطفل، وكأنه إبنه، وقد رزقه الله بثلاثة صبيه آخرون، وفتاة، كانوا أسرة كبيرة رائعه، لكن السنوات الأولى بحياة عرفان أثرت به كثيراً، وما إن قرر أن ينفتح على الحياة، وأحب فتاة، حتى دفعها الغرور بجمالها لتركه، من أجل أحد الأثرياء الذى أخذها لجمالها فقط، ليتباهى بها بين الناس، وتركها حين وجد من هى أحلى منها، وحين حاولت العودة إلى عرفان، رفضها بشدة، وقرر أن يبتعد عن الأثرياء، فقد كان ذاك الثرى صديقاً له، لكنه ليس نادماً، فهذا الدرس علمه ألا يعطى أحداً مطلق ثقته هكذا، كما أن إضطراب والدته بصغره، وإحساسها الدائم أنه قد يهجم أى إن كان عليهما بأى لحظه، جعله دوماً مضطرب رغم أن والدته تناست خوفها بعد زواجها، وتحيا حياة طبيعيه ،لكنه لم ينسى، ولن ينسى.
يتبع..
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة إيمي عبده، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية..