رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 1 - 5 - الجمعة 22/11/2024
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الأول
5
تم النشر الجمعة
22/11/2024
عاد للسراي مارا بالجسر الذي يصله للطريق الترابي، لكنه لم يتجه صوب البوابة الحديدية التي تبعد عدة أمتار.. بل حاد عن طريقها في الاتجاه المعاكس متجها خلف سور السراي صوب بوابة جانبية كانت طريقه نحو الاسطبل.. أو ما يشبه الاصطبل، الذي كان عامرا في الماضي، لكنه اليوم لا يسكنه إلا بعض الحمير، حماران على وجه الدقة، وفرسه الأصيل التي علا صهيله ما أن استشعر اقترابه من موضعه رافعا عنقه الانسيابي يهزه في سعادة فتتناثر خصلات شعره الأشهب على جانبيه في رقة أسرة دفعته ليبتسم رغما عنه فما كان باستطاعته مقاومة مثل هذا الجمال الحي، مدخلا كفه داخل جيب جلبابه مخرجا بعض من قوالب السكر.. دافعا بها نحو فرسه الذي مد عنقه مستلما هديته في لهفة وحبور..
ضرب بكفه في مودة على جانب عنقه مرحبا، هامسا له في رقة: كيفك يا أليف!
هز الفرس رأسه وحمحم في شوق، هم بالحديث إليه كعادته إلا أن رجب المسؤول عن الاسطبل وما يضم من حيوانات بجانب الزريبة، دخل هاتفا في ترحيب: مرحب يا حبيب بيه، بقالك يومين مخرچتش بأليف، أچهزه للخروج!
هز حبيب رأسه نافيا، أمرا في هدوء: لاه مش دلوجت، بس بجولك يا رچب.. أعمل حسابك، راعي الغنمات اللي في الزريبة عشان خلاص فرح الست الصغيرة كمان كام يوم، ولسه هجيب لك عليهم كمان، بس يومين كده، عايزين ندبحوا ونفرحوا أهل الرسلانية..
هلل رجب في سعادة: ربنا يتمم على خير، وتعيش يا بيه وتفرح الناس كلها، وعجبال فرحك يا رب..
ابتسم حبيب في دبلوماسية، مؤكدا عليه من جديد رعاية الزريبة وقاطنيها حتى يوم العرس، الذي تنتظره الرسلانية على أحر من الجمر، فستكون أيام الفرح تلك، أيام خير وسعد على أهل الرسلانية جميعهم، فقراءها قبل أغنيائها..
❈-❈-❈
ساعدت أمها على الوصول للفراش، بعد أن عادت لبيتها أخيرا، ناولتها دواءها ثم سحبت الغطاء على جسدها المسجي، وقبلتها على جبينها قبل أن تغلق إضاءة الغرفة، وتخرج في هدوء..
بادرتها درية متسائلة في صوت خفيض: برلنت نامت!
هزت أُنس رأسها مؤكدة: آه، الحمد لله..
همت درية بالنهوض مغادرة بصحبة ولدها ممدوح: حمدا لله على سلامتها، ورجعتها لبيتها بالسلامة، أقوم أنا بقى، ياللاه يا ممدوح عشان..
قاطعتها أُنس متسائلة: دودو! مين رؤوف!
انتفضت درية معاودة الجلوس من جديد، ظهر اضطرابها جليا وما كان في إمكانها إنكاره، وعلى الرغم من ذلك، سألت في نبرة حاولت أن تكسوها بالهدوء الممزوج بالتعجب: رؤوف مين! أنا معرفش حد بالاسم ده!
عاودت أُنس السؤال من جديد: مين رؤوف ده يا دودو! ماما كانت قاعدة تكرر اسمه كتير طول ما هي في الغيبوبة، أكيد انتي تعرفي، انتوا سركم مع بعض، وأنا عارفة.. لا ده أنا متأكدة وعلى يقين إنكم مخبيين عني كتير..
هتفت درية في ضيق: هنخبي ايه يعني! ما إحنا قلنا إن الموضوع كله يخص جوزي ابو ممدوح وأبوكي الله يرحمهم.. حكايات قديمة ملوش لازمة إنها تتفتح خلاص، ومش هيجيب فتحها إلا وجع القلب..
هتفت أُنس وهي تجلس قبالتها هاتفة في إصرار: تمام، مش بتقولي انتهت، خلاص نسمعها بقى.. واعتقد مفيش مشكلة إننا برضو نعرف، ولا ايه يا ممدوح!
هتف ممدوح مؤيدا: اه طبعا، نسمع ونشوف..
حاولت درية أن تتملص من استدراجها للحكي، لكن أُنس وممدوح أغلقا عليها أي باب للهرب، فما كان منها إلا الاستسلام، لتبدأ في سرد الحكاية..
❈-❈-❈
هبط حبيب الدرج في تؤدة، لا رغبة لديه اليوم في أي جدال أو مواجهات، فقد خارت همته بالفعل، لكنه لم يكن بذاك الذي يُظهر ما بداخله للأعين المتربصة لاقتناص الوجع على قسمات وجهه، لتفرح بعض القلوب متشفية، لن يعطيهم الفرصة أبدا وأن كان يموت كل لحظة داخليا، فهو حبيب رسلان الذي تعلم أن يتألم في صمت، ويموت كالنخل صالبا عوده، حتى ولو أكل الوجع منسأة صبره وجلده.
توقف للحظات عند ذاك الحائط العريض الذي يضم في نظام صور فوتوغرافية لجدوده وصورة أبيه بينهم متصدرة المشهد، صورة باللون الأبيض والأسود، رفض أن يلتقطها المصور يومها بالألوان، حتى تكون مثل مثيلتها لآبائه وأسلافه.
جال بناظريه على الصور في عزة، وزفر في قلة حيلة، محاولا الاعتذار لهم عن خطأ لم يرتكبه، بل أخطاء عدة، لا علم له بمن ارتكبها، لكنه يدفع هو اليوم ثمن هذه الأغلاط غاليا من سمعة العائلة وتاريخها العريق ..
أخرج نفسه من خواطره المحزنة، وقد انتفض متوجها بكليته نحو خفيره شبل، الذي اندفع لداخل السراي صارخا في ذعر: غيتنا يا بيه، إلحج الشونة!.. الشونة ولعت فيها النار.
لم يرد عليه بكلمة للحظة، وأخيرا أمره في شدة: لم الرچالة كلهم على هناك، إرمح، وأني چاي وراك، هِم بسرعة..
اندفع لخارج الدار وخفيره في عقبه ثم تخطاه مهرولا لينفذ ما أمره به، توقف للحظة عند الاعتاب حتى يأتيه السايس بفرسه، وما أن هم بالتحرك، إلا وهتفت جدته صفية الجالسة على كرسيها العتيق، تسند ذقنها المتغضن فوق كفيها الذي يعتلي أحدهما الأخر، محتضنتا رأس لعصا ابنوسية قيمة، تتطلع للأفق في انتظار ما لا يأتي، مؤكدة بنبرة متحسرة، دون أن توجه ناظرها إليه: جُلت لك فتحت على روحك طاجة چهنم، طاطي للريح لچل ما تعدي على خير، متبعتش كلامي..
وتنهدت في حزن مستطردة: مش هيسيبوك فحالك يا ولدي..
هتف حبيب في نبرة صلبة كلها تصميم وهو يعدل من رباط عمامته على هامته: متخلجش اللي يخليني اطاطي راسي، يبجى أروح أنجبر أحسن، متجلجيش يا ستي أني كدها .. ولو هم فتحوا عليا طاجة چهنم، والله ما حد هيتحرج فيها إلا هم ..
هزت العجوز رأسها على أمل، ولم تعقب بحرف، ليأمرها في لطف: ادخلي چوه يا ستي، الدخان هيملى الچو دلوجت، وهيتعب صَدرك ..
تطلعت إليه للمرة الأولى منذ بدأت حديثها، هاتفة في شجن: ما يتعب، هو بعد وچيعة الجلب فيه ايه تاني يتعب يا ولدي .. معادش.. كله محصل بعضه ..
هتف مناديا على نبيهة، أمرا إياها بالدخول بجدته للداخل، حتى يكون مطمئنا عليها، جاءه فرسه، فاندفع معتليا إياه في قفزة محترفة، وهو يضع طرف عمامته متلثما، حتى لا يؤثر عليه الدخان الذي بدأ يقترب، معبقا الهواء برائحة الغل والرغبة في الإذلال والتعالي..
اندفع في طريقه، يقسم انه لن ينحن مهما حدث، لكنه بغتة، شد لجام فرسه في قوة، محجما إياه عن التقدم مارا بالجسر، عندما طلت تلك العربة الصغيرة على بدايته وها هي تتوقف في منتصفه تماما.
زفر في ضيق، مشيرا لقائدها الذي لم يتبينه، بأن يتقدم حتى يسرع لموضع الحريق، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن على الرغم من محاولة سائق العربة التقدم بالسيارة، إلا أنها أبت في تصميم، ولم تتحرك قيد أنملة، ما دفعه رغما عنه، لترك الزمام لفرسه، ليندفع في اتجاه العربة، ليشهق ركابها في صدمة لفعلته..
تخطى السيارة بالفرس قافزا في سهولة، ونزل الفرس على مقدمة الجسر.. على الجانب الأخر منه في كل سلاسة، مستطردا اندفاعه لحال سبيله..
لكن قائدة العربة،أخرجت رأسها من نافذة سيارتها، متطلعة لذاك الذي قام بأكثر الأفعال حماقة من وجهة نظرها، وصرخت في انبهار مخلوط بنبرة حانقة، موجهة كلامها لرفيقها، الجالس جوارها يشمله الذهول بدوره: شوفت المجنون ده عمل ايه!؟
أكد ممدوح بلا مبالاة بعد أن هدأت حدة ذهوله: أديكِ قولتي بنفسك، مجنون .. يعني أنتِ مش فاكرة لولو قالت إيه عن الناس دي!
هتفت هي مؤكدة: عندك حق..
واستطردت في فضول وهي تعيد ناظرها إلى الطريق الذي اندفع نحوه ذاك الملثم: بس يا ترى ايه اللي مخليه يجري بفرسه كده!؟ أكيد في حاجة مهمة ..
أكد رفيقها بنفس اللامبالاة : ولا مهمة ولا حاجة، مش لسه قايلين إنه مجنون، سيبك بقى من الأخ المعتوه ده، وياللاه بينا، خلينا نوصل ونرتاح.. الطريق كانت فعلا طويلة أوي، وكمان لسه ورانا حكاية كبيرة..
تطلعت إلى العربة وهتفت به: هو أنت مخدتش بالك إن العربية عطلت، ما أنا حاولت اتحرك عشان هو يعدي ومعرفتش..
هتف رفيقها في حنق : أهي كملت ..
ترجلت من العربة في اتجاه بداية الجسر، ليهتف بها رفيقها: على فين !؟
أكدت في فضول قاتل : عندي فضول أعرف الدخان اللي بدأ يملا الجو ده جاي منين ؟ شكله له علاقة بالمجنون إياه..
هتف ممدوح في حنق: ملناش دعوة، خلينا في موضوعنا، وبلاش فضولك ده اللي دايما مودينا ف داهية..
تجاهلت ممانعته، واندفعت في اتجاه الطريق الذي سلكه ذاك الفارس، ليتبعها في غيظ، ولم يكن من الصعب عليهما الوصول، وقد وجدت كثير من الرجال والنساء على حد سواء، مندفعين في الاتجاه المطلوب دون أي حاجة منها للسؤال.
كان الحريق مشتعلا، والجميع يحاول على قدر استطاعته اخماده، اندفعت في تهور كعادتها لتساعد، إلا أن رفيقها أحكم قبضته على معصمها محذرا: أنتِ رايحة فين! مالنا إحنا واللي بيحصل، خلينا فحالنا يا أنوس.. إحنا جايين هنا لهدف محدد، بلاش ندخل فاللي ملناش فيه ..
جذبت معصمها من كفه، مؤكدة في حزم: إيه دخل مساعدة الناس.. فاللي إحنا جايين عشانه!
واندفعت تحمل أحد الدلاء، لتقذف بالماء نحو الحريق، الذي بدأ يخمد قليلا، لكن ما زالت ألسنة لهيبه تتأرجح كأنها تخرج لهم لسانها مستهزيئة بقدراتهم المحدودة على حصارها.. بينما وعت هي لبعض الرجال تتناول أجوال من الداخل، يسلمها لهم شخص يندفع بحمار معصوب العينين، في اتجاه الحريق في جسارة، ويخرج به، ظهره محمل بعدة اجولة مسلمها لهم.. ليعاود الكرة.. لم يكن ذاك الشخص، إلا المجنون الملثم الذي تخطى عربتها في قفزة واحدة بفرسه منذ بضع دقائق..
لا تعرف كم مر من الوقت، وهم على ذاك الوضع، لكن كل ما يهم اللحظة، أنهم استطاعوا السيطرة على النيران، التي خمدت بفضل الله، ولم يبقى منها إلا اثر من أدخنة خانقة، عبقت الأجواء، وملأت الحناجر والصدور..
شعرت ببعض اختناق، فقررت ترك موضعها، والابتعاد قليلا، وهي تسعل في قوة، تنبه هو لذاك الذي يقترب من موضعه، حيث جلس يأخذ قسط من الراحة، وقد أزاح عن وجهه لثامه، يحاول أن يلتقط أنفاس من هواء نقي، بعيدا عن الأدخنة الخانقة..
تطلع إليها، وعقد حاجبيه في تعجب، لكن ما أن رفعت وجهها وسقط ناظره على قسماتها، إلا وانتفض واقفا، لا يصدق ما تراه عيناه اللحظة قبالته، معتقدا أنها صورة من ماض سحيق، تطل اللحظة من خلف غمام الغيب.. لتصبح أيامه أكثر إرباكا مما هي عليه بالفعل..
يتبع...
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية