-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 3 - 4 الجمعة 6/12/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثالث

4


تم النشر الجمعة

6/12/2024


انقلبت سحنتها للحزن، وقد تذكرت والدها رحمه الله.. وغامت عيناها بدموع شوق وحنين ما كان من السهل عليها أن تترك لها حرية الظهور علنا.. لذا كانت تكتمها حتى تكون وحيدة، فتطلق لها العنان بلا قيد أو شرط.. 

لا تعرف كم غابت من دقائق مشحونة عن حاضرها، غارقة بذاك الشعور الطاغي الذي شمل دواخلها كليا.. وتساءلت.. ربما لم يكن الشوق لوالدها هو المحرك الوحيد لتلك المشاعر المضطربة التي تتنازعها.. ربما زاحمها احساسها أنها تحمل ضغطا ومسؤولية ما كانت تحملتها، لو كان هو ما يزل على قيد الحياة، تنعم كما اعتادت بدلاله، وتغرق في نعيم جهلها عما يدور في دنياها، وهي غافلة عن بعض الحقائق الموجعة، التي بدأت تتكشف لها، وعليها التصدي لها وحيدة دون معين.. 

تركت ذاك النسيم البارد نوعا ما، يجفف تلك الخطوط الفضية التي انسابت على وجنتيها دون تحفظ.. منعشة نفسها بشهيق قوي يحمل لها بعض العزاء عن تلك المشاعر المتضاربة، التي خلفت في نفسها ذاك التخبط حد زرف الدموع، التي لا تبذل لغالِ إلا فيما ندر.. 

تنبهت لذاك الذي جاء يزعق في نبرة تحذيرية .. شعرت بانقباض ما، على الرغم أنها لم تكن تعي ما يقول، لكن نبرة صوته كانت كفيلة وزيادة لتدفع لداخلها ذاك الحدس عنوة..

من أين يأتي ذاك الصوت الجهوري!؟.. ظلت تبحث عن صاحبه بكل ناحية في فضول.. 

تنبه حبيب بدوره لصوت زفراني المألوف.. لم يوقظه صوت زفراني فقد كان أبعد من أن يفعل، لكن بعض من سهاد أصابه الليلة الماضية، سارقا منه النوم وراحة البال، وما غفا إلا بعد صلاة الفجر بقليل، تنهد في إرهاق، فما نال كفايته من النوم وفكره مشغول بكل تلك المسؤوليات الملقاة على عاتقه.. والتي أنهى بعض منها بعد أن تجاوزت الساعة منتصف الليل.. بجانب وجود تلك الضيفة التي جاءت في وقت حرج، هو أحوج ما يكون فيه لصفاء الذهن، وراحة البال التي تعكرت بظهورها.. تطلع لصورة أمه الراحلة، التي كانت تزين صدر حجرته، وتنهد هامسا: وصيتك يا غالية ع البال، صدجيني أني مش ناسيها، وربنا يجدرني.. 

فسر اللحظة بوضوح ما كان يعيده زفراني، وقد اقترب صوته لحد ما من سور السراي الأمامي.. 

     حاسب يا واد الناس جبل ما تناسب.. 

     ‏                  وحاسب.. 

      ‏الأصيلة ما تاخد العويل.. 

     ‏                      ولو چاك ع السرچ راكب.. 

نفض حبيب غطائه حانقا، وهتف معترضا: وه! ليه بس كده يا زفراني! ده فال ع الصبح، وكمان ف أيام فرح!.. 

نهض من موضعه فاتحا شرفة حجرته، جال ببصره باحثا عن موضع زفراني، حتى يسكت ذاك الناعق بهذا الفأل السيء في مطلع أيام مبروكة كهذه.. فوقعت عيناه على محياها، شاهدها تقف بنافذتها، تمد ذراعيها بتلك الطريقة الناعمة.. شلته الصدمة عن الواجب، واستقر ناظره عليها، حتى أنه تاه عن المفروض.. وطالت نظرته الأولى بلا وعي.. طالت وقد وعى لدموعها التي انسابت، وأدرك تقلب ملامحها ما بين شرود وشجن.. وأخيرا.. تنبه لتيه خواطرها قبل أن يجذبها صوت زفراني، فتبدأ في البحث عنه مطلقة ناظريها شرقا وغربا.. غير مدركة أنه يتابعها عن كثب، وقد راح قتيل ذاك الذي أطلقته حرا على كتفيها كشلال من كهرمان.. 

فمنذ وطأت أقدامها الرسلانية، وهي حريصة على جمعه في صرامة خلف رأسها ليبدو ككعكة شهية طازجة.. لكن ما كان بباله أن تلك الكعكة الرسمية المظهر، تحوي ذاك الشهد حين تم اطلاق جدائلها.. 

عاد التعقل.. كفتيل لمسه اللهب فجأة.. فانتفض موضعه ممسكا حاله متلبسا بتفحصها، ما دعاه للتراجع لداخل حجرته في صدمة.. واضعا كفه فوق صدره.. موضع قلبه الذي قفز معترضا خافقا في جنون بين جنبات ضلوعه.. محاولا استعادة رباطة جأشه المفتقدة.. يلتقط أنفاسا قوية في عمق.. حتى بدأ بعد لحظات في السيطرة على ثورة جوارحه في حضرة طلتها البهية.. مستغفرا مرات متتالية، مكررا وصية الشيخ معتوق للشباب دوما، معيدها لنفسه، في محاولة لإعادة سكينة روحه: لك النظرة الأولى وعليك التانية، ايوه.. لك النظرة الأولى وإن طالت وعليك التانية.. 

بات الآن صوت زفراني أقرب لأذنيه من صوت نبضه الذي سكن وهدأ بالاستغفار.. 

اقترب مجددا من الشرفة، يحاول في استماتة إخضاع ناظريه لسلطة أوامره، مجاهدا نفسه، مجبرا إياها ألا تحيد صوب موضعها.. هاتفا في صوت جهوري، خرج ليغطي على نبوءة زفراني التي كان يرددها في تتابع محموم.. أمرا إياه: أدخل يا زفراني.. تعال..

كانت ما تزال واقفة في موضعها بالنافذة، تحاول تفسير كلمات زفراني التي تشبه الأشعار، لكنها لم تقدر، ما كان يجذب انتباهها هؤلاء المجازيب، ولكن ذاك الضخم الأسمر الأصلع الرأس، والذي يشبه الكهنة في مسلسلات التلفزيون وأفلام السينما التي تتحدث عن مصر القديمة، جعلها تكون أكثر فضولا نحوه.. وخاصة حين مر من بوابة السراي بلا أي معارضة تذكر من خفيرها شبل والأشبه بأحد سباع كوبري قصر النيل، تأكد لها أن ذاك المجذوب يحمل حظوة عند صاحب الدار وأهلها.. وأنه القادر الوحيد على ما يبدو، ليمر لداخل ذاك الحصن دون أي محاسبة أو ممانعة.. 

تنبهت لموضع حبيب بالشرفة، كانت المرة الأولى منذ قدمت، تراه بلا عمامته التي لا يخلعها إلا داخل غرفته.. لم ينتبه لوجودها، أو هكذا خيل لها، فما أدرك وقوفها لمتابعة حديثه مع ذاك المجذوب الذي هلل ما أن أمره حبيب بأن ينل ما يشتهيه، فهذه ليال فرح.. وعلى كل ما كان له حاجة من طعام أو شراب، فهي مجابة مهما كانت.. 

ابتسمت رغما عنها حين رأت قفزات زفراني الطفولية على الرغم من ضخامة جسده مهللا.. طارقا على تلك الصفيحة النحاسية بعصا رفيعة كان يحملها دوما معبرا بصخب عن سعادته بتلك الفطيرة الطازجة التي ينتظر تناولها.. 

خرجت نبيهة من قلب غرفة الخبيز، تحمل له فطيرته، بعد أن زاد من سرعة طرقاته على صفيحته متعجلا إياها، ما دفع نبيهة للصراخ في نفاذ صبر: ما جلنا حاضر، هو وايه ده يا خواتي! صوّرتني .. 

جذب زفراني الفطيرة الساخنة في لهفة، ونزع منها بعضها أمرا نبهية في إصرار: عسل يا نبيهة.. عسل.. ما دفع نبيهة لتزفر حانقة وهي تحمل ابريقا من العسل المصفى، تصب على وجه الفطيرة التي كان يحركها فوق كفيه في اضطراب لسخونتها.. هاتفة ما أن انتهت: أي أوامر تانية يا زفراني بيه باشا! 

تجاهلها زفراني وبدأ في التهام الفطيرة بشهية كبيرة، هاتفا في سلطنة: هاكل الفطيرة.. واتچوز الأميرة.. 

قهقت نبيهة مؤكدة: ايوه اومال ايه! وأني هخطبهالك بنفسي، أصحاب العجول في راحة.. 

قهقه حبيب بدوره على أفعال زفراني وأقوال نبيهة.. دون أن يدرك حتى اللحظة وجودها.. ما جعل أنس تتطلع بحرية لذاك الرجل، الذي بدا من موضعها أكثر راحة ورحابة من أي لحظة رأته فيها، خلال يومين كاملين هما عمر تواجدها في الرسلانية.. كان متوافقا بشكل عجيب مع ذاك المزيج الأعجب من كل ذاك السحر الذي يشملها والأحداث التي تمر بها.. كلون أساسي في لوحة متفردة لو غاب عنها.. ما عاد للوحة أي معنى.. ولا حملت تفاصيلها أي دلالة.. على الرغم من إبهار خطوطها..

استطرد زفراني أنشودته، وهو يكاد يقضي على ما بقى من فطيرته الغارقة في العسل: 

هتچوز الأميرة.. أميرة فجصر عالي.. مرصودة فالعلالي.. توبها تلي تلي.. شعرها حرير وفلي .. يطير.. بعيد يطير.. من غير سچان وغفير.. 

أعجبتها أنشودته، التي أعادها من جديد بصوت أكثر وضوحا، حين أتم التهام الفطيرة كاملة، ومسح كفيه من بقايا السمن والعسل بجلبابه المهترىء.. رافعا رأسه صوب شرفة حبيب، الذي كان يهم بالدخول، إلا إنه توقف ما أن ناداه زفراني داعيا: يا الحبيب!.. تدوج وتتهنى من شهد الچنة.. جول أمين.. 

هتف حبيب بعد أن عاد موليا انتباهه له، هاتفا في نبرة متحشرجة: أمين.. 

تحرك زفراني راحلا، مؤكدا بصوت عالِ: العروسة مستنظرها فارس، بلاه اللي چايلك بفرس أعرچ.. 

انقبض صدر حبيب لكلمات زفراني، فقد توقع أنه نسى ما كان يترنم به منذ قليل، بعد أن ملأ معدته، لكنه عاد لنبوءاته من جديد مكررا: العروسة مستنظرها فارس بلا فرس.. والأميرة عايزة الخدام والحرس.. 

رفع زفراني مع كلمته الأخيرة رأسه فجأة نحو نافذة أُنس، ما جعلها تجفل في رهبة، متقهقرة للداخل خطوة، تتستر خلف غلالة رقيقة تنسدل كستار للنافذة، ونظراتها ما تزال معلقة بالأسفل نحو زفراني، الذي سار نحو البوابة.. وهو يكمل انشودته في صوت جهوري: 

         الأميرة رايدة الخدام والحرس.. 

     وأنا الحبيب.. جلبي ناي وصوتي چرس..

   ميتا الجلوب تميل .. والعشج يصبح دليل.. 

           وينطج لساني اللي انخرس.. 

ظلت تتطلع من خلف الستار حتى غاب زفراني وتاه صوته في البراح، لكن خفقات قلبها المضطربة منذ نظرته المباغتة صوب نافذتها لم تهدأ.. وما وعت معنى لكلماته المبهمة، ولا تفسيرا منطقيا لها..

❈-❈-❈

  

  ‏

جاء مهرولا.. حتى إذا ما وصل لعتبات المندرة حيث كان يجلس كبيره، حتى اندفع جالسا تحت أقدامه يلتقط أنفاسه المتلاحقة، ما دفع ذاك الشيخ الذي كان يضع مبسم نرجيلته بين شفتيه في لا مبالاة التنبه لذاك الذي ألقى بنفسه على الدرجات المفضية لمجلسه، هاتفا في هدوء، وهو ينفث دخان نرجيلته في هوادة: ايه في يا واد! 

أكد الصبي في لهفة: هي يا چدي!.. هي.. 

استطاع الصبي بذاك التصريح، الاستحواذ على جُل اهتمام الشيخ، الذي ترك ذراع النرجيلة جانبا، وانحنى متطلعا صوب الصبي في نظرة تهديدية تنذر بالسوء، إذا كان ما يدلي به من أخبار.. غير صحيح: عرفت كيف! 

أكد الصبي في سرعة، اتقاء لهذه النظرات التي تحمل من الوعيد، ما لا يقدر على تحمل تبعاته: سألت هنا وهناك.. وچبت جرارها.. كانت من فچرها ماشية چاره لحد بيت الشيخ معتوج.. هي يا چد.. 

جذب الشيخ الصبي من مقدمة جلبابه، مقربا وجهه حتى أصبح لا يفصله عنه سوى بضع سنتيمترات، أمرا في نبرة عميقة مغلفة بالسطوة: عينك عليها متغيبش.. ولو فين راحت تاچي تجولي.. لحد ما نعرفوا ايه في!.. واعي لحديتي! 

هز الصبي رأسه في طاعة عمياء، ليدفع به جده لينهض من فوره مندفعا قدر استطاعته، راكضا لتنفيذ أوامره بلا أدنى إبطاء أو تلكوء.. فهو يدرك تماما أن ما من أمر أسهل عند جده، من استخدام سوطه لتأديب من يشذ عن قواعده.. 

عاد الشيخ ليمسك بذراع نرجيلته من جديد، مقبلا مبسمها في شهوة، ساحبا نفسا عميقا لصدره.. جاعلا ذاك الفحم الموضوع بقمتها يشتعل لبرهة متوهجا قبل أن يفقد بريقه، مصاحبا لصوت قرقرة تلك الفقاعات بقلب الوعاء الزجاجي والتي كانت تفور في قوة.. لينفث أخيرا دخانها متابعا إياه بنظرات شاردة، وكأنما يتطلع من خلال غيماته التي تنقشع في بطء، لماضِ ولى.. كان يظن أنه ذهب بلا رجعة.. لكنه أيقن أن بعض الظنون تضحى حقائق.. وأن من يخاف من العفريت.. يخرج له.. 


                        

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة