رواية جديدة فراشة في سكٌ العقرب لناهد خالد الفصل 3 - الخميس 26/12/2024
قراءة رواية فراشة في سكٌ العقرب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية فراشة في سكٌ العقرب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة ناهد خالد
الفصل الثالث
تم النشر يوم الخميس
26/12/2024
" النجاة في طريقين, أحدهما واعرًا ومحفوف بمخاطر معلومة, والآخر ليس أقل وعورة لكن مخاطره مجهولة, فإن كان متاح لك الاختيار أيهما ستختار؟"
تجلس وكأن على رأسها الطير, منذُ إدراكها لسرقة الأموال وهي تجلس هكذا, تسند رأسها على كفها الثابت كوعه على فخذها, تستمع لحديث والدتها الذي لم ترد على حرف منه, ورأسها غارقة في مستنقع من الأفكار المتداخلة, من وراء سرقة الأموال؟ وهل هي مدبرة أم سرقة عادية؟ وهل للضابط دخل بالأمر؟ وما الحل الآن؟ كيف ستذهب له بدون الأموال وهل سيصدقها أنها قد سُرقت أم سيشك بأنها طمعت بها؟
- ردي يا بنتي هو انا بكلم نفسي!
استفاقت على صوت والدتها لتنظر لها باختناق زافرة:
- معاكي يا ماما, انا بس مش عارفه افكر, ايه الحل دلوقتي؟
حركت والدتها ذراعيها بحيرة وعقبت:
- والله مانا عارفة, هتعملي ايه مع الضابط ده؟ ولو روحتي قولتيله الفلوس اتسرقت هيعمل ايه؟
نظرت لها مضيقة عيناها وقالت بشك:
- الاه من امتى يا ما وبنسمع عن حرامية في المنطقة؟ واشمعنا النهاردة بالذات ييجوا يسرقونا, ويسيبوا البيت كله ويطلعوا يسرقوا اوضتين على السطح! لا ويسرقوا الفلوس بس!
صمتت والدتها بتفكير ثم قالت حائرة:
- من ناحية السرقة فاحنا سمعنا الشهر اللي فات عن سرقة حصلت في الشارع اللي جنبنا, من ناحية انهم سرقوا الفلوس بس, وهيسرقوا ايه تاني يا حسرة! هو احنا حيلتنا ايه يتسرق؟
رفعت انفها بكبرياء زائف:
- عندنا التليفون بتاعي, و130 جنية في البوك اللي كان في ايدي, اللي مخدوش منهم جنية!
لوت "مديحة" فمها يمينًا ويسارًا في حركة شعبية معروفة وهي تقول متهمكة:
- تليفون ايه يام تليفون! التليفون المعفن أبو زراير ده! يا بت ده هتلاقي الحرامي نفسه شايل تلفون من اللي كله شاشه بيلمسوها ده, هيبص لتليفونك! وواخدين ظرف في رزمة فلوس قد كده, هيبصوا للبوك بتاعك اللي اصغر من كف الايد ده ليه, و130 ايه دول اللي ياخدوهم, هياخدوهم مواصلاتهم! دول هتلاقوهم سبوهم شفقة.
انتفضت واقفة بجبين مقطب وقد ضرب حديث والدتها كرامتها في مقتل, لتردد نزقة:
- خلاص يا ما ده انتِ شردتيني! طب يعني تفتكري الضابط ده له يد في الموضوع؟
قطبت ما بين حاجبيها بتعجب تقول:
- وهو ايه مصلحته؟
نفضت شعرها للخلف بقلق وهي تجيبها:
- يمكن عشان يجبرني اشتغل معاه واعمل اللي هو عاوزه.
- وهو الموضوع مهم للدرجادي! ولا مفيش غيرك يعمل ده, ما يقدر يجيب مية واحدة غيرك.
طالعتها بتشتت ثم قالت:
- مش عارفه... مجرد شك.
- طب هتعملي ايه هتروحيله؟
التقطت هاتفها وحافظتها وهي تجيبها:
- لازم اروح, واشوف يمكن اعرف إجابات لأسئلتي, المهم انتِ متأكده انك تمام؟ راسك مش وجعاكي نروح المستوصف!
مسدت على مؤخرة رأسها بألم طفيف وقالت:
- شوية وجع زي الصداع كده شوية وهيروحوا لحالهم, متشغليش بالك بيا, روحي انتِ مصلحتك يلا, وارجعي على هنا عشان تعرفيني اللي حصل ابقي انزلي الشغل بعد العصر.
اومأت موافقة وهي تفتح الباب متجهة للخارج وهي تخطو نحو إجابات اسئلتها.
❈-❈-❈
بقسم الشرطة...
- تعالي يا فيروز.
قالها وهو يجلس خلف مكتبه بعد أن قابلها بطرقة القسم بالخارج وأمرها أن تتبعه, ظلت تنظر له بانبهار لم تستطع اخفائه وهي تراه ببذلته الرسمية البيضاء لأول مرة, فقبل كانت تراه بملابس شبابيه عادية, جلست فوق الكرسي المقابل له وهي تمشطه بعينين ولهتين, لم تخفي لمعتهما عنه حين نظر لها بعد أن استقر فوق كرسيه, فابتسم ثغره تلقائيًا وهو يسألها:
- مالك؟ مبلمة ليه كده؟
رفرفت بأهدابها لتخرج نفسها من حلقة الوله التي حُشرت بها, وقالت وقد غزت حمرة طفيفة وجهها:
- ابدا, بس اصل سعادتك يعني البدلة لايقه عليك.
وصمتت لا تعرف كيف تفوهت بهذه الجملة من الأساس, لتشيح ببصرها بعيدة عنه وتململت في جلستها بغير راحة, ليبتسم هو لإرتباكها الواضح, وأراد صرفه عنها فسألها عابثًا:
- معقول دي اول مرة تشوفي ضابط لابسة البدلة الرسمية؟
وبنفس التهور والإندفاع كانت تنظر له مجيبة بتلقائية:
- لا, بس اصل كل اللي شوفتهم ناس ميتبصلهاش, يعني اللي كرشه قدامه مترين, واللي عامل زي البطة البلدي, غير بقى اللي تبصلهم تحس وشهم نازل عليه غضب من ربنا من تكشيرتهم وقلبة وشهم, واللي....
صمتت وهي تشعر أنها قد استرسلت بحد زائد, لتبتسم بارتباك تنهي الحديث:
- كده يعني, لكن سعادتك ولا نجوم السيما لما بيطلعوا بدور ضباط.
انطلقت ضحكته تصل لمسامعها فتثير مشاعر غريبة بها اكثر, وتجد نفسها تبتسم تلقائيًا وقال:
- ايه حكاية نجوم السيما اللي واكلين عقلك دول؟ وبعدين اللي قولتيه ده يعتبر تنمر على الزملا.
أسرعت توضح:
- مش تنمر والله, انا مش بتكلم عن شكلهم اللي ربنا خلقه, هم اللي بيظهروا نفسهم كده, يعني ازاي ضابط وجسمه مليان وكرشه قد كده, المفروض يحاولوا يتدربوا حتى لو مش طول الوقت, لازم الشخص يعدل شكله بما يناسب وظيفته مش كده؟ يعني لو روحت لدكتور رجيم ولقيته تخين وجسمه قد كده, هتثق فيه ازاي؟
ضيق عينيه يسألها باعجاب واستغراب في آنٍ:
- أنتِ متأكده ان معاكي دبلوم بس؟ ساعات بحس في كلماتك وتعبيرك عن الأمور ان في حتة ثقافة مش عارفه أوصل لمصدرها!
ابتسمت باتساع وهي تخبره بفخر:
- اصل انا بقى غاوية قراية جرايد, طالعه لأبويا الله يرحمه, في راجل في شارع جنبنا عنده كشك صغير وبيبع جرايد مع الحاجه, كان ابويا كل يوم يعدي عليه وهو رايح الشغل يشتري جرنال ولما يرجع البيت بليل اخده من واقرأه, ومن يوم ما مات والراجل الله يكرمه بيخليني اقف عنده اخر اليوم اقرأ في الجرايد اللي عوزاها واحطها تاني مكانها, بدل يعني ما اشتري وتكلفة عليا.
كان مبتسم طوال حديثها, ومعجب, معجب بشخصية هذه الفتاة التي تبهره في كل لقاء بينهما وتفاجئه, فهو من البداية لم يتوقع انها متعلمة والآن تخبره انها مثقفة, وتفاجئه في ردودها الغير متوقعة وتصرفاتها التي تحمل نفس الطباع, شخصية مركبة غريبة لا يسعها سوى أن تدهشك دومًا.
شعر بصمته الطويل ونظراتها المستفسرة له, فتحمحم يخرج نفسه من دائرة أفكاره وقال بجدية عملية:
- طيب انتِ جاية ترجعي الفلوس صح؟
لقد نست ما جاءت من اجله, وانتشلها هو الآن من اللحظات الهادئة التي مرت ليلقي بها في فوهة البركان مرة أخرى, تعرق جبينها وهي تحاول الحصول على مبتغاها بطريقة غير مباشرة, فقالت بريق جاف:
- هو يعني يا باشا لو اتعذرت في الفلوس ده يسببلك مشكلة؟
قطب ما بين حاجبيه بغير فهم:
- اتعذرتِ فيهم يعني محتاجاهم؟
اومأت بصمت, فاستكمل متعجبًا:
- ماشي, بس لقد ايه؟ وبعدين انتِ لحقتي تصرفيهم!؟
عضت على شفتها السفلى بحرج وسألته بأعين هاربة:
- لقد ايه؟ هو... هو انا لازم ارجعهم صح؟
ضحكة خافتة متعجبة صدرت منه وهو يرمقها بغرابة:
- اومال انتِ شايفة غير كده؟
همست لنفسها بتأنيب:
- وانتِ يا عبيطة فاكراه هيسبلك مبلغ زي ده لوجه الله! حتى لو مبلغ قليل بالنسباله بردو مش هيسبهولك من غير مقابل.
ولكن همسها وصل له, فكتم ضحكته على تفكيرها العجيب, وقال موضحًا:
- هو اولاً المبلغ مش قليل بالنسبالي, انتِ فاكرة مرتبي كام عشان 50 الف يبقى مبلغ عادي اسيبه لأي حد! انا لو حبيت اجمع المبلغ ده بعد مصاريفي الشهرية محتاج ولا 10 شهور, ثم إن المبلغ ده مسترد ليا في حالة نجاحك في المهمة.
- هو انتَ سمعتني!؟
رددتها بصدمة واعين متسعة, ليرفع كفيهِ باستسلام مضحك:
- ورديت, فاعتبريني مسمعتش حاجه وتعالي نجيب الكلام من الأول, ها هترديهم في وقت قد ايه؟
التوى فمها بمرارة ساخرة وهي تقول بينما تنظر بعيدًا للنافذة المفتوحة:
- لو حضرتك محتاج 10 شهور عشان تجمعهم, فانا ولا 10 سنين.
عقب ببساطة:
- خلاص رجعي الفلوس لو لسه معاكي.
نظرت له بأعين ترقرقت الدموع بها وصارحته:
- ولو قولت انهم اتسرقوا هتصدقني؟
اتسعت عيناه بصدمة مرددًا:
- اتسرقوا؟ ازاي؟!
ابتعلت مرارة حلقها تجيبه بتنهيدة حزينة:
- ناس دخلوا علينا الصبح ضربوا امي وخدروني, ولما فوقنا ملقناش الفلوس.
ضيق عينيه يسألها:
- انتوا المنطقة عندكوا منتشر فيها السرقة؟
نفت برأسها مجيبة:
- لا, يعني كل فين وفين على ما ده يحصل.
اومأ برأسه متفهمًا, والتقط ورقة وقلم وهو يقول:
- قوليلي تفاصيل الواقعة, واوصاف العيال دي هحررلك محضر, وفي ظرف يومين هنجيبهم ان شاء الله.
نظرت له بحيرة تقول:
- بس انا معرفش حاجه عنهم.
- مواصفاتهم؟
نفت برأسها بيأس:
- معرفهاش, اصل الكلام ده كان الفجرية, الدنيا كانت ضلمة وهم كانوا لابسن اقنعة, وأول ما دخلوا خدروني, انا حتى معرفش كانوا اتنين ولا اكتر.
سألها مرة أخرى محاولاً الوصول لأي معلومة:
- طب قوليلي في كاميرات في الشارع عندكوا؟ يعني محل ولا بيت حاطط كاميرات قدامه؟
نفت مرة أخرى تجيبه متهكمة:
- كاميرات ايه يا باشا كل اللي في الشارع ناس غلابة مش هيروحوا يصرفوا فلوسهم على كاميرات وكلام فارغ.
ترك القلم من بين أصابعه ونظر لها ذامم شفتيهِ بأسف:
- مانا كده مش هعرف اساعدك, مفيش أي معلومة تساعدنا منك!
تنهدت متفهمة وقالت:
- انا عارفه, وإلا كنت اول ما جيت قولت اني عاوزه اعمل محضر.
قطب ما بين حاجبيهِ يسألها بترقب:
- والحل؟
نظرت له تستشف رد فعله وهي تبادله السؤال:
- حضرتك شايف ايه؟
اراح ظهره على كرسيه وأجابها بوضوح:
- مقدمكيش غير حلين, يا اديكي مهلة ترجعي فيها المبلغ, يا تقبلي بالمهمة وتكملي فيها.
السير في طريق معلوم المخاطر والآخر مجهول..!
هي تعلم يقينًا أنها لن تستطيع رد الأموال مهما فعلت, وإن تلاعبت واعطته موعد لردهم فيه ولم تفعل لربما سيسجنها حينها!
- ولو يعني معرفتش ارد المبلغ وفي نفس الوقت مش هقبل بالمهمة دي!
تساءلت لتقطع شك افكارها باليقين, لتسمع تنهيدته قبل أن يقول بأسف لم تفهم هل هو حقيقي أم مزيف:
- يبقى ساعتها هتضطريني اخد حقي بالقانون..
جحظت عيناها وهي تسأله:
- ازاي؟
شبك كفيه فوق مكتبه بعد ان مال بجسده عليه, واستفاض موضحًا:
- بصي يا فيروز, انا ضابط, يعني شغلي مش لعبة, ولا انا بعترف بالعواطف والكلام ده, قصدي اقولك, مانكرش اني متعاطف معاكي, ولو همشي ورا عواطفي هقولك خلاص مترديش المبلغ ومسامحك فيه, بس لو همشي ورا اللي علمهولي شغلي, فهقولك اني مش هطلع خسران.. المهمة اللي محتاجك فيها مهما حكتلك مش هتتخيلي أهميتها عندي, لو انتِ مش هتعمليها تمام, هشوف واحده غيرك.. بس الواحدة دي هتحتاج فلوس, وانا حاليا مش معايا اديها.. يبقى لو سامحتك في المبلغ هضطر استنى كام شهر على ما اجمع مبلغ واشوف حد غيرك يقوم بالمهمة, وانا الحقيقة معنديش استعداد استنى يوم حتى, فبناء عليه..
صمت يراقب تعابير وجهها, والتي تتقلب ما بين الحزن, والهم, والتيه, وأخيرًا القلق للقادم..
- يا الفلوس تيجي, يا تكملي المهمة... لو الفلوس مجاتش, هعملك قضية نصب, وقضية نصب على ضابط يعني مفيش مجال تطعني فيها عشان هظبطها كويس اوي.
وما خشته أصبح واقع يتجسد في كلماته, الطريق المعلوم المخاطر, تتمثل أسوء مخاطره في السجن.. أما الطريق الآخر فلا تعلم ما هي مخاطره من الأساس لتحدد أسوئهم!
والآن خذلان لا تعرف مصدره, ونظرة متألمة أصابته بالضيق مما قاله لكنه مرغم, فنهض عن كرسيه ملتفًا حول المكتب حتى جلس مقابلاً لها وأكمل بنبرة هادئة:
- بصي يا فيروز انا عمري ما هسببلك أذى عشان مصلحة ليا, يعني لما تروحي لشاهين انا هكون في ضهرك, ليه رفضتي بعد ما وافقتي؟
ابتلعت ريقها بصعوبة, وأجابت بنبرة مهتزة:
- خوفت, انتَ قولت انه راجل مش سهل.
اومأ موافقًا واكمل:
- وقولتلك اني مش هسيبك, وهكون معاكي خطوة بخطوة, المفروض تطمني, وطول مانتِ ماشية على اللي بقول عليه وبتنفذيه مش هتتأذي ابدًا, ثقي فيا.
وهل لديها حلول؟ وهل ترك لها فرصة للنجاة غير التي أرادها هو؟ أخذت نفسًا عميقًا وهي تلقي بتحذيرات وحديث والدتها عرض الحائط, فماذا ستخسر؟ ليس لديها ما تخسره! وإن كانت أسوء مخاطر الطريق المجهول هو الموت, فيا مرحبًا به! ليست متمسكة بالحياة لهذا القدر.
- موافقة.
طالعها بشك يسألها:
- بجد؟ ولا زي المرة اللي فاتت؟
نفت برأسها تجيبه بجمود:
- بجد.
نهض عن كرسيه واتجه لدرج مكتبه واخرج منه بعض الأموال وضعهم أمامها لتتسلط أنظارها عليهم, ولكن ليس بمشاعر المرة السابقة, لا تراهم وليمة صائم, بل تراهم طعم لسمك... والفرق معلوم!
- دول 20 الف من ال 50 اللي اتفقت معاكي عليهم بعد العملية, خديهم مادام خسرتي التانيين, ويا ستي ربنا يسهل واديكي ال 50 بعد العملية هم هم ومخصمش دول منهم.
لم تلمسهم كالمرة السابقة, بل رفعت رأسها له بهدوء تسأله:
- هنبدأ امتى؟
- بكره, بكره الصبح هكلمك بليل اقولك على عنوان تروحي عليه هتلاقيني مستنيكي هناك.
نهضت واقفة والتقطت ظرف الأموال بفتور وهي تقول مقررة الانسحاب:
- هنتظر مكالمة سعادتك.
وانسحبت في هدوء, ليجلس على كرسيه ينظر للباب الذي أغلقته بشرود وعقله قِلق من أن يفقد زمام الأمور أمام عدوه اللدود وتكون هي الضحية..
انهى تفكيره وهو يقول بدافع جديد خفي:
- مش هيحصل, حتى لو في اسوء الأمور وكشفها والمهمة باظت مش هسمحله يأذيها هي ملهاش ذنب.
❈-❈-❈
عادت لمسكنها لتجد والدتها تطبخ الطعام في صالة المنزل التي يحتل جزء منها الموقد وأدوات المطبخ لتجلس فوق الكرسي المتهالك بصمت قطعه سؤال والدتها وهي تقلب الاناء:
- ها عملتي ايه؟
تجعدت ملامحها بضيق رافض وهي تسألها ساخرة:
- هو انتِ فاكره انه ممكن يسامحني في الفلوس صحيح؟
تشدقت "مديحة" ساخرة:
- يسامحك في الفلوس ليه كنتِ بنت اخته!
تنهدت تسألها:
- اومال ايه الحل لو مكانش هيسامحني فيهم, هيطلب مني ايه؟
- يديكي مهلة تجمعيهم.
تهكمت تسألها:
- مهلة! وانا هعرف اجمعهم؟ يا ترى هيديني مهلة كام سنة عشان الحق المهم!
تركت الملعقة الكبير من يدها واستدارت لها نزقة:
- ما تخلصي يا بت وقولي اتفقتي معاه على ايه؟
نهضت تخلع وشاح رأسها وتلملم خصلاته بمشبك, وهي تستعد للدلوف للغرفة الأخرى لتغير ثيابها:
- وافقت على المهمة, وهنبدأ فيها من بكرة, واداني 20 الف كمان من فلوسي اللي المفروضة كانت تبقى بعد العملية, قدر ظروفي يعني, ومش عاوزه كلمة زيادة الله يسترك, إلا لو عندك حل تاني.
اتجهت للغرفة تبدل ثيابها ووقفت "مديحة" على بابها تقول بتردد:
- عندي حل بس انتِ هتوافقي؟
توقفت تنظر لها بفضول:
- حل؟ حل ايه؟
اتجهت لها تقف أمامها تقول بابتسامة:
- مش انتِ لو رجعتيله الفلوس هتنهي الموضوع معاه؟
اومأت برأسها مؤكدة, لتتسع ابتسامة "مديحة" وهي تقول:
- يبقى مفيش غير الحل اللي هقولك عليه, تقبلي بمجد, ونطلب منه ال50 الف مهرك, وهو عمره ما هيرفض, وفي خلال شهرين هيكون دبرهملك, تديهم للضابط وتخلصي منه.
اغمضت عينيها بنفاذ صبر وابتسمت ابتسامة صفراء تسألها:
- ومجد؟ هخلص منه ازاي؟
- وتخلصي منه ليه يا عبيطة؟ يا بت والله مهما لفيتي مش هتلاقي حد شاريكي وبيحبك زيه.
امتعضت ملامحها تبرر:
- بس انا مبحبوش.
تنهدت "مديحة" بضيق وقالت ناصحة:
- يا بنتي, هو الحب ده بيأكل ولا يشرب ولا يعيش حتى! يعني لو بتحبيه وشخص قليل الأدب ومبهدلك معاه حبك هينفعك؟ ولا مش قادر يصرف عليكي ويعيشك, الحب هيعيشك! يا بنتي انا مش ضد الحب, بس كله بالعقل بيمشي, هو شخص كويس وطيب وغلبان وايده مليانة, والاهم من كل ده شاريكي وبقاله سنتين مستني موافقتك.
كادت تتحدث لتقاطعها "مديحة" وهي تقول:
- ورحمة ابوكِ ما تردي دلوقتي, فكري, معاكي اليوم بحاله اهو فكري فيه وشوفي هتقبلي بمجد ولا هترمي نفسك في سكة يا عالم ايه اخرتها, وانتِ بتفكري خلي بالك, ما دام قبلتي تساعدي الضابط ده مرة, يمكن متكونش اخر مرة ويسوق فيها.
وتركتها خارجة من الغرفة, بعدما القتها في دوامة من التفكير الذي لن ينقطع الا بقرار نهائي.
*********
منزل مازن عمران...
دلف لمنزله بعد يوم انتهى فيه عمله, وكله شغف لغد الذي سيأتي محملاً بأول خطواته نحو نهاية غريمه, طاف بنظره في الأرجاء ليقابله هدوء غريب, قطب ما بين حاجبيهِ مستغربًا وهو ينادي:
- نور... نور انتِ فين؟
خرجت فتاة من أحد الغرف بابتسامة مشرقة تلائم ملامحها الجميلة, ولمعة عيناها الرمادية الساحرة, وبنبرة صوتها الهادئة قالت:
- ايه يا سيادة الرائد عامل غاغة ليه؟
القى اشيائه الخاصة فوق طاولة مستديرة تقبع بجوار الباب واتجه لها يقول مبتسمًا:
- اصل لقيت الجو هادي فقلقت تكوني لسه مرجعتيش من الشغل.
- لا يا سيدي رجعت من ساعة, وجبت اكل وانا جاية كمان.
تنهد بيأس مرددًا:
- بردو اكل مطاعم, مش ناوية ترحمي معدتي وتطبخي.
قالها وهو متجهًا لغرفته ليبدل ثيابه فأوقفته تسأله:
- انتَ لابس ميري ليه؟ بعدين انا مبطبخش غير يوم اجازتي.
وقف على اعتاب غرفته واجابها:
- كان عندي مأمورية الصبح, ويارب يوم اجازتك ييجي بسرعة بقى.
ضحكت بلطف تعقب:
- هانت خلاص ده بعد بكره, ادخل خد شاور وغير هدومك عشان ناكل.
أدى التحية العسكرية مازحًا تحت ضحكتها التي انطلقت تصدح في المكان:
- تمام يا فندم.
دلفت لغرفتها على رنين صوت هاتفها, اتجهت تلتقطه بابتسامة اختفت حين رأت اسم المتصل, وركضت تنظر بحرص من باب الغرفة على غرفة شقيقها لتجد الباب موصد, فأغلقت بابها هي الأخرى ودلفت لشرفة الغرفة تحاول الابتعاد قدر الإمكان كي لا يسمعها "مازن" وفتحت المكالمة تقول:
- وحشتني اوي كل دي غيبة, بقالك كام يوم مكلمتنيش.
❈-❈-❈
فيلا شاهين المنشاوي..
دلف لغرفته بعد يوم طويل وشاق, فكان لديه الكثير من الأعمال في شركته, بالإضافة لاجتماع طارئ مع التجار بأحد المناطق البعيدة عن الأعين, فتح هاتفه ليجد مكالمتان فائتتان من شخص محدد, خلع سترته وجلس فوق الفراش بإرهاق طالبًا الرقم, ثواني واتاه الرد ليبتسم ثغره بحب واضح وهو يعتذر:
- حقك عليا, عارف اني مقصر معاكي بقالي كام يوم, بس بجد كان عندي شغل كتير, وأول ما شوفت اتصالك كلمتك قبل ما اغير هدومي حتى.
وعلى الجهة الأخرى عقبت "نورهان" بابتسامة ولمعة حزينة:
- شاهين بلاش تغيب عني, مش كفاية مقدرش اشوفك, هيبقى كمان مقدرش اكلمك, انا يومي مبيعديش ومبطمنش لو مكلمتكش.
تنهد "شاهين" بضيق وقال:
- قولتلك نتقابل واخوكِ لو أتكلم هـ...
قاطعته بلهفة قلِقة:
- لا بالله عليك يا شاهين متحاولش حتى, انا مش عاوزه مشاكل بينك وبين مازن, كفاية اللي بينكوا, كمان... ده ممكن يقاطعني لو عرف علاقتي بيك.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة ناهد خالد، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية..