رواية جديدة فراشة في سكٌ العقرب لناهد خالد الفصل 6 - الإثننين 30/12/2024
قراءة رواية فراشة في سكٌ العقرب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية فراشة في سكٌ العقرب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة ناهد خالد
الفصل السادس
تم النشر يوم الإثنين
30/12/2024
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به
الفصل السادس
فراشة في سكُّ العقرب
جلست تنقل بصرها بينهما وابتسامة ودودة تزين ثغرها طوال الوقت, لطيفة هذه "نورهان" ويبدو أنها سعيدة بوجودها فتفعل كل ما بوسعها لتعلن تقبلها لها, نهضت فجأة وهي تخبرهم بأنها ستجلب العصير وتعود, حافظت على ابتسامتها حتى اختفت "نورهان" خلف أحد الحوائط فاختفت معها ضحكتها وهي تنظر له بغيظ حقيقي بينما تسأله باستخفاف:
- هي الحكاية بتقلب جد ولا حاجه؟
نظر لها بابتسامة باردة وسألها بهدوء:
- ليه بتقولي كده؟
اغتاظت وهي تقطب جبينها:
- بجد؟ ممكن تفهمني ايه لازمة اننا نيجي لاختك وتعرفها ان في علاقه ما بينا؟ بتكدب عليها ليه اصلاً؟
حافظ على بسمته وهو يجيبها:
- عشان شاهين زمانه عرف اني جبتك بيتي, وما دام جبتك هنا يبقى خلاص علاقتنا اكيده مش كده وبس, ده معناه اننا هنتخطب او نتجوز قريب, هو عارف ان لو في علاقة جادة اول واحده هعرفها بيها هي اختي, هو متأكد اني مبخبيش عليها حاجه مهمة زي دي.
نظرت له لثواني بصمت وعقلها تعبث بهِ الالف الأسئلة, وأخيرًا حدجته بنظرة شك وهي تسأله:
- هو يعرف منين انك مبتخبيش حاجه عن اختك؟
اختفت ابتسامته وظهر الضيق جليًا على وجهه وهو يسألها مستنكرًا:
- هتفيدك الإجابة بحاجة؟ ثم إن مش كل شيء ضروري تعرفيه.
ونفس الصمت ونفس النظرة مرة أخرى وأنهتها بقولها:
- طب خد بالك إنك دايمًا بتعمل الحاجة اللي قولتلك انها بتضايقني, وبردو جبتني هنا على عمايا ومعرفتنيش جايين ليه ولا لمين.
اتسعت عيناه ورفع حاجبيهِ بذهول بينما قال ضاحكًا بمرح:
- هو انتِ فكرتيني خطيبك بجد وبتنكدي! احنا في مهمة ولا نسيتِ!
ظن ان جملته ستخجلها كالعادة فتصمت ويخرجها من صلب الموضوع لكنها كانت أذكى فابتسمت بسماجة وهي تجيبه:
- لا فاكره, بس عاوزه اقولك اني مش مرتاحة.
وقبل أن ينطق خرج صوت "نورهان" وهي قادمة من الداخل بينما تحمل صينية فوقها ثلاثة أكواب من العصير:
- قوليلي بقى عرفتي مازن ازاي؟
وضعت الصينية وناولت "فيروز" كوبًا لتبتسم لها بلطف وأجابت سؤالها:
- في النادي, اصل انا بروح هناك كتير وهو كمان, وكان عندي قضية لما حكيتله عنها تطوع انه يتابعها معايا ومن هنا خدنا ارقام بعض وبدأت العلاقة.
ونظرت له لتجده يومأ لها بعينيه بأنها على الطريق الصحيح, فعادت بنظرها ل"نورهان" التي ابتسمت بهدوء وهي تقول:
- تعرفي دي اول مرة مازن يحب ويرتبط, ودي بالنسبالي حاجه غريبة جدا, انا كنت قربت اصدق انه معقد.
وضحكت في كلمتها الأخيرة لتنظر لشقيقها الذي هز رأسه يائسًا منها, فابتسمت "فيروز" وهي تعلم حقيقة أولى عن حياته التي لا تدرك منها شيئًا, وشعور بالسعادة تسلل إليها وهي تعلم بأنه لم يسبق أن زاره الحب ولم يكن له أي علاقة بجنس حواء من قبل, فإن حدث لكانت شقيقته على عِلم فهو لا يخفي عنها شيئًا كما أخبرها منذ قليل.
- مش يمكن عشان نصيبه فيا.
قالتها على استحياء وهي تجاري حديث شقيقته, لتنظر له تلقائيًا فوجدته يلقي لها بغمزة من عينه اليسرى اختضبت لها وجنتيها وهي تشيح بنظرها عنه, ليبتسم هو من خجلها المبالغ الذي يظهر من أقل كلمة أو حركة تصدر منه.
❈-❈-❈
استقلت السيارة لجواره ليخبرها:
- هنروح نتغدا في مطعم الأول, وبعد كده هضطر اوصلك عشان عندي لسه شوية شغل في المديرية.
اومأت بصمت دام طوال الطريق ولم تجد ما تتحدث فيه, لكنها انتظرت أن يتحدث هو لكنه أيضًا لم يفعل, فزفرت بإحباط وهي تتابع الطريق بصمت.
وصلا لأحد المطاعم ودلفا للداخل ليجذب لها الكرسي في حركة معتادة منه لكنها دومًا ما تجعلها تبتسم وهي تلقى منه التقدير بفعلة بسيطة كهذه.
جلس أمامها وابتسم لها وهو يقدم لها قائمة الطعام قائلاً:
- يلا ابهريني واطلبي حاجه اسبشيال.
ابتسمت له وهي تفتح القائمة بثقة وتنقل بصرها بين الأصناف حتى قالت له أخيرًا:
- هاخد pasta white sauce , grilled meat, يعني مكرونة بالصوص الأبيض, ولحمة مشوية.
رفع حاجبيه بانبهار لم يخفيه وهو يرفع كفيه يصفق بهما تصفيقه خافتة وقال:
- واو, ابهرتيني, بس مش متفاجأ لأني من مدة أدركت ذكائك وشطارتك.
ابتسمت وهي تضع القائمة جانبًا وقالت:
- مش هشكر في نفسي, بس انا فعلاً ذكية, حتى كل المدرسين أيام الاعدادي كانوا يقولولي كده, وكانوا يقولوا لماما دي لازم تدخل طب, بس نصيب بقا.
- اكيد جبتِ مجموع كويس في اعدادي.
اومأت بلمعة حماس لمعت بمقلتيها:
- ايوه, جبت 95% يعني كنت ادخل ثانوي مرتاحة جدًا, بس مصاريفه كانت هتبقى كتير اوي علينا بعد وفاة بابا, وانا قررت ما اتقلش الحمل على ماما, فدخلت تجارة وخدت الدبلوم.
وبتلقائية منه مد كفه يربط على كفها القريب وهو يقول:
- ربنا هيعوضك اكيد.
انتفضت بخفة على لمسته وابعدت كفها فورًا, ورجعت بظهرها للوراء كأنها تحمي نفسها من أي لمسة مفاجأة منه, فانتبه لفعلته, فاستغرب واستنكر في الوقت ذاته, فهو دومًا ما يتحكم في أفعاله, لكن لربما أثارت عاطفته لا أكثر! هكذا برر لنفسه قبل أن يتحمحم بحرج وهو يقول:
- أسف, أنا بس حبيت اقولك إن كل حاجة في حياتنا لها حكمة, واكيد ربنا شايلك الخير في حاجه تانيه.
اومأت برأسها عدة مرات وهي تتجنب النظر له قبل أن تسأله مغيرة الموضوع:
- ليه بتقول ان شاهين ده هتجمعني بيه مطاعم واني هكون قريبة منه لدرجة اني اشوف المبالغ الكبيرة اللي بيدفعها في حاجات تافهه؟ هو اصلاً لما يحب يقرب مني هيعملها ازاي؟
رفع كفيهِ أمام منكبيهِ وهو يقول جاهلاً:
- مبقدرش أتوقع تصرفاته, بس الأكيد ان هيجمعكوا أماكن كتير, لأنه هيبذل كل جهده عشان تبقي معاه, لكن هيعملها ازاي, معرفش.
نظرت له بفضول مميت وأردفت:
- هموت واعرف ايه اللي بينكوا يخليه يقرب من بنت انتَ على علاقة بيها ويحاول يعمل علاقة معاها.
ابتسم ابتسامة هازئة قبل أن يقول وهو يشير بعينيه للنادل:
- الويتر جه هسيبك تكملي شطارتك وتمليه الاوردر.
حدجته بغيظ وهي تدرك تهربه من الإجابة وأشاحت بنظرها للنادل قبل أن تمليه طلباتهما بثقة وما إن انتهت حتى نظرت له بحاجب مرفوع غرورًا بشكل أثار ضحكته.
❈-❈-❈
مساء اليوم التالي..
ابتسمت بحب حين رأت رقم "شاهين" يزين شاشة هاتفها, فأسرعت بالرد استغلالاً لوجود "مازن" بالخارج فهو لم يعود بعد.
- شاهين عامل ايه؟
أتاها صوته المحبب لقلبها:
- انا بخير, طمنيني عنك يا نور.
- أنا الحمد لله طول ما نتَ كويس.
وظلا يتحدثان لقليل من الوقت في أمور عِدة حتى قالت فجأة:
- اه تخيل, النهاردة لقيت مازن بيعرفني على بنت وبيقول انه هيخطبها.
وعلى الجانب الآخر ابتسم ثغره بمكر ولمعت عيناه العابثة وهو يقول بعدم اهتمام ظاهري:
- بجد!
تحمست وهي تكمل سرد الأمر:
- ايوه, شكله بيحبها, وهي كمان.
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يسمع ما يطربه وقال:
- عرفها امتى دي؟
أجابته بجهل:
- مش عارفه, بس هي كانت في لندن ولسه راجعة مصر من قريب, عرفوا بعض في النادي, وبتقول انها كان عندها قضية وقربوا لبعض من خلالها, بس باين عليها بنت محترمة, حبيتها.
تجاهل ما أخبرته بهِ, وهو يقول بمزاح:
- حبيبتي انتِ كل الناس عندك محترمين وطيبين وبتحبيهم, مش جديد يعني.
تذمرت وهي تهتف باسمه بنزق:
- شاهين!
ضحك ضحكة خافتة وصلت لها فابتسمت على أثرها ليقول:
- خلاص سِكت.
❈-❈-❈
وأسبوع مرَ دون أن يقوم "شاهين" بأخذ خطوة واحدة, فقط يراقب من بعيد دون التدخل.
أسبوع عمق شعوره تجاهها, وجعله يتأكد أن هناك شيء ما يجتاحه ناحيتها, شيء يجهله أو ربما يرفض الاعتراف بهِ! شيء يجعله ينظر لها مبتسمًا, ويشرد بها أحيانًا, ويتحمس للقائها أحيانًا أخرى!
ورغم كل ما يشعر بهِ يخلق الف مبرر لشعوره بعيدًا عن الاعجاب بها حتى.
وهي ما زالت في نعيم تجربة كل شيء حُرمت منه, ونعيم أخر يكمن في مشاعر جديدة وجميلة تغزوها تجاهه, لكنها هي أيضًا لا تريد الاعتراف مباشرةً أو تفسير مشاعرها, فقط تترك نفسها للتيار.
❈-❈-❈
وفي صباح هذا اليوم..
كانت في المطبخ تعد لها كوب قهوة بعد تناول افطارها, لتسمع رنين جرس الباب, استغربت وهي تنظر لساعة الحائط المعلقة في المطبخ فوجدتها الثامنة, اتجهت للباب لتقف خلفه وهي تسأل بحذر:
- مين؟
أتاها صوت رجل يقول:
- انا من طرف مازن باشا افتحي.
قطبت ما بين حاجبيها باستغراب, فظنت ان مازن قد بعث لها باحتياجات جديدة من طعام وشراب, فقالت:
- لحظة.
- طب بسرعة الموضوع خطير.
انتابها القلق فاتجهت سريعًا للغرفة لترتدي سترة منامتها البيتية المكونة من سروال وكنزة داخلية بدون أكمام, والسترة التي بأكمام وسحاب من الأمام, وعادت للباب لتفتحه, فوجدته يقول لها فورًا:
- مازن باشا عمل حادثة وفي المستشفى وطالب يشوفك فورًا.
جحظت عيناها ذهولاً وهي تسأله بصدمة:
- حادثة! هو كويس؟
اجابها الرجل بتلهف:
- لا مش كويس, وعاوز يشوفك بسرعة قبل ما يدخل العمليات, يلا نلحقه.
نظرت لثيابها بارتباك وللشقة من الداخل لتقول بتوتر وعيناها تجمعت بها دموع لا تعلم مصدرها:
- لبسي و...
- مفيش وقت يا هانم, يلا.
ولأن منامتها كانت قريبة للملابس الرياضية فحسمت أمرها وهي تغلق باب الشقة وتتبع ركضه للأسفل وقد توقف المصعد الكهربائي بالطابق الأول فلم ينتظروه.
ركبت بجواره السيارة, ليسير بها بعض الوقت تحت اسئلتها عن حالة "مازن" وبعد دقائق وجدت الرجل يناديها فجأة:
- فيروز.
وما إن نظرت له بتعجب لذكر اسمها حتى فاجئها برشة من بخاخ غريب في وجهها, أشاحت الرزاز بكفها وهي تصرخ بعصبية:
- ايه يا حيوان انتَ ده؟ نزلني..ن...
ولم تجمل جملتها حين حاولت فتح الباب ففي نفس الوقت طاحت رأسها وسقطت مغشيًا عليها ..
❈-❈-❈
فتحت عيناها فجأة وكأنها تستيقظ من نوم مجهول, لتظل لثواني غير مستوعبة ما مرت بهِ قبل أن يغشى عليها, حتى انتفضت فور تذكرها لتجد نفسها في غرفة كبيرة أنيقة, وهي جالسة على أحد كراسيها الوثيرة, انتفضت واقفة ليصيبها دوار مفاجئ, فمسكت رأسها وهي تعود جالسة بتأوه قطعته حين استمعت لصوت يقول:
- براحة على نفسك عشان لسه فايقة.
نظرت لمحل الصوت لتجده يقف على باب الغرفة, "شاهين المنشاوي" لقد عرفته, لم يُغلق فاهها التي فتحته لتقول شيء, بل ظل مفتوح وهي تطلع له باندهاش, فالصورة شيء والواقع شيء آخر, لم تكذب حين وصفته بأنه أحد نجوم السينما! يقف بشموخ وهالة من القوة تطوف حوله, يرتدي بدلة كلاسيكية كحلية اللون وحذاء من نفس اللون, مع قميص أسود بدى رائعًا, افاقت نفسها من شرودها وهي تنتفض واقفة وتهتف بغضب حقيقي لهذه الطريقة الوضيعة التي جلبها بها:
- ايه الجنان ده؟ انتَ مين وانا بعمل هنا ايه؟
اقترب بخطوات حثيثة منها وعلى ثغرة ابتسامة بالكاد تُرى وهي تثبت قدميها بصعوبة وتمنعها من الارتداد للخلف برهبة, ففارق الطول بينهما يزداد كلما اقترب منها, أعجبه شجاعتها وصمودها رغم اقترابه منها ورفعها لرأسها بكبرياء وقوة واضحين, وقف على بُعد قريب منها ثم قال بتعريف سخيف لذاته:
- شاهين المنشاوي, يمكن سمعتي عني قبل لو انتِ مواطنة عادية, واكيد سمعتي عني لو بتابعي مجال البيزنس.
التقطت غروره بنفسه على الفور, فرفعت حاجبها بغرور مماثل وهي تقول:
- انا مواطنة عادية وبتابع مجال البيزنس أحيانًا بس عمري ما سمعت عنك, ويا ريت تقولي انا بعمل ايه هنا؟
اختفت ابتسامته البسيطة فابتسمت وهي ترى نفسها تنجح في استفزازه, هز رأسه عدة مرات مع هز قدمه برتابة قبل أن يرفع رأسه لها وهو يقول بجدية:
- أنتِ هنا عشان تعملي اللي هطلبه منك, ومش هتخرجي من هنا غير لما تعمليه.
قطبت ما بين حاجبيها غاضبة وهي تقول بضيق واضح على ملامحها:
- ده اسمه خطف بقى!
ابتعد عنها حتى وصل لكرسي وثير فجلس فوقه مادًا إحدى قدميهِ والأخرى ثبتها على الأرض واستند بكوعه على يد الكرسي باسترخاء وهو يقول بلامبالاة:
- سميها زي ما تسميها, المهم في النهاية تعملي اللي أنا عاوزه.
جلست على كرسي آخر مقابل له ووضعت رجل فوق أخرى, ونظراته تتابعها محاولاً كبت غضبه وغيظه معًا, وقالت بهدوء تام:
- ويا ترى ايه اللي انتَ عاوزه؟
ثبت نظراته عليها لثواني وكأنه ينفذ لداخلها محاولاً فِهم الشخصية التي أمامه, فدومًا ما يرى الانبهار والخوف معًا في اعين النساء, لكنها مختلفة, رأى سِهام الانبهار تمر بسحابة عينيها في الوهلة التي رأته بها وبعدها اختفت تلك السهِام وكأنها عقدة معاهدة سلام معهم لتخفيهم عن عينه المترصدة, وهذا مبرر أفضل له من أن يعترف باحتمالية زوال انبهارها بهِ, لربما رأي سِهام الانبهار لكنه لم يلمح ظل للخوف, بل يرى قوة ولامبالاة واضحين, ضيق عيناه وهو يقول باستمتاع بالحوار معها وهو يراها ندًا له:
- علاقتك بمازن عمران تنقطع.
رفعت حاجبها الأيسر باندهاش حقيقي فور وقوع جملته على مسامعها, سرعان ما تحول لسخرية وضحت بملامحها وهي تذم شفتيها بحزن وشفقة مصطنعين:
- يعيني ربنا يشفيك يا كابتن.
تجمدت ملامحه واحتدت عيناه وهو ينظر لها ببوادر غضب يخفيه ثم قال من بين أسنانه:
- ربنا يشفيني ليه انا مش تعبان.
ضحكت ضحكة خفيفة ساخرة وهي تقول بدهشة مصطنعة:
- بجد! غريبة رغم ان اعراض المرض ظاهره عليك خالص, ده مرض نفسي على فكرة اسمه جنون العظمة, ده بقى بيخليك تعتقد انك تقدر تتحكم في كل حاجه وأي حد حواليك ومفيش حاجه تستعصى عليك, ده طبعًا مش واقعي, لان محدش يقدر يتحكم في حاجه ولا في حد غير ربنا, وكونك واثق للدرجادي فده اسمه جنون.. فاقترح على حضرتك تحجز في أسرع وقت عند دكتور لأحسن المرض ده خطير خالص.
يُعرف بأنه بارد الطِباع, ولا شيء يثير استفزازه مهما كان, لكنه الآن يتحكم في نفسه بالكاد كي لا يقوم ويصفعها حتى تطبع أصابعه على وجنتها, أغمض عينيه لثواني يستدعي بروده المعتاد, وقال بعدها بهدوء مصطنع:
- واضح انك متعرفنيش كويس, بس احب اقولك ده مش جنون عظمة, دي ثقة, ان اللي انا عاوزه هو اللي هيحصل في الآخر, ومتفكريش ان مازن بيه هيقدر ينقذك مني لو حطيتك في دماغي, لاني لو حبيت أأذيه هو نفسه مش هيقدر يحمي نفسه مني.
لن تنكر الخوف الذي تسلل لها, ولن تنكر أن مقلتيها اهتزت للحظة قبل أن تحاول رسم الجمود على ملامحها, ولكنه التقط تلك اللحظة التي بدى فيها اهتزازه وخوفها, فالتوى جانب ثغره بابتسامة مغترة وهو يتابع حركاتها الانفعالية التي بدأت تظهر:
- انتَ بتهددني!؟
وبهدوء تام كان يومأ برأسه لها:
- اه.
اتسعت عيناها لتبجحه واعترافه البارد ونهضت واقفة تصرخ بهِ:
- بقولك ايه يا أستاذ انتَ, اتفضل زي ما جبتني هنا رجعني لبيتي, وكفاية جنان لحد هنا.
نهض هو الآخر ليصبح مقابلاً لها ووضع كفيهِ في جيبيه وهو يقول:
- لا انتِ مشرفة معانا شوية لحد ما تقرري القرار اللي انا عاوزه.
فغر فاهها وبرقت مقلتيها وهي لا تستوعب جنانه وافعاله الغريبة وكأنه حقًا يعاني من جنون العظمة!
❈-❈-❈
ابتسمت بشدة حين رأته يقبل عليها, ولأول مرة هو من يأتي لها, فلطالما هي من ركضت ناحيته حين تلمحه يمر بالقرب, عدلت "مستكة" من خصلاتها الغير مرتبة, وشدت كنزتها القديمة وعيناها تنتظر اقترابه كانتظار قلبها, اقترب منها "مجد" حتى وقف أمامها فنطق مبتسمًا:
- ازيك يا مستكة.
حافظت على ابتسامتها البلهاء وهي تجيبه:
- الحمد لله, وانتَ؟
- بخير, قوليلي هي فُلة بقالها كذا يوم مبتنزلش الشغل؟
اختفت ابتسامتها فورًا, وتهجم وجهها وهي تسمع سؤاله, إذًا فلقد أت لها من أجل تلك الحقيرة وليس من أجلها!
كبحت حزنها كي لا يظهر عليها, وحاولت أن تخرج نبرة صوتها طبيعية وهي تجيبه:
- اه, بقالي فترة مشوفتهاش.
رأت القلق واضحًا على ملامحه وهو يسألها:
- متعرفيش ليه؟ دي حتى مبتنزلش من البيت باين, مبشفهاش خالص.
زفرت أنفاسها بضيق وأجابت باقتضاب:
- لا معرفش.
هز رأسه باحباط وقال:
- ماشي يا مستكة معلش عطلتك.
والتف ليغادر, فلم تستطيع منع نفسها مما تريد قوله فصدح صوتها يقول:
- ما تفكك من فُلة بقى, انتَ ناوي تقضي عمرك كله بتجري وراها وهي مش شيفاك اصلاً.
التف لها مرة أخرى, لتظهر ملامحه غاضبة وهو يقول:
- وانتِ مالك! هو انتِ اللي بتجري ولا انا!
التمعت عيناها بالدموع لتقول بحزن واضح:
- الحق عليا همي عليك, اصل انا بت وافهم البت اللي زيي انتَ مش في دماغ فُلة يا مجد, ولا عمرها هتبصلك, مادام من الأول مشفاتكش يبقى مش هتشوفك..
ابتلعت ريقها ومعه تلك الغصة التي انتابت حلقها وقالت:
- بص حواليك, فتح عينك المعميه بيها يمكن تشوف حد غيرها يكون ينفعك بجد.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه وهو يسألها بينما يدرك مبتغاها:
- قصدك ابص حواليا ولا ابص قدامي؟
هزت رأسها يائسة منه وهي تقول بصدق:
- مش فارق المهم تبص بعيد عنها, صدقني نصيحتي دي مش عشان تاخد بالك مني, انا عارفه انك عارف كويس اللي جوايا ليك, فمش محتاجه الفت نظرك, بس انا بنصحك عشان صعبان عليا عمرك اللي بتضيعه على الفاضي ده, الحب مش بالعافية يا مجد, زي مانا مقدرتش اخليك تبصلي حتى او تاخد بالك مني, انت بردو متقدرش تعمل ده مع فُلة.
وتركته وانسحبت لتكمل عملها في بيع الفُل الذي قاربت على كرهه لأنه يذكرها باسمه بها, هي لا تكره فُلة لذاتها, هي تكرهها لأسباب عِدة, اولهم أنها تستحوذ على تفكير مجد ولا يرى غيرها, ورغم علمها بأن هذا ليس ذنبها لكنها لا تستطيع التخلص من الضغينة التي تحملها تجاهها.
❈-❈-❈
فتح باب الشقة بالمفتاح البديل الذي كان معه ولكنه لم يخبر فيروز عنه كي لا تقلق, هو فقط احتفظ بهِ تحسبًا لأي ظروف مثل هذه, فهو منذُ ساعتين يطلبها هاتفيًا ولم تجيب, وحين أتى لشقتها وظل يرن جرس الباب لم يتلقى ردًا, ففتح الباب ودلف يبحث عنها, لكنه وجد كل شيء عداها, فانتابه القلق حيال الأمر, لابد ان شيء ما قد حدث, نزل للأسفل بعدما احتفظ بهاتفها وسأل حارس العمارة عنها ليجيبه:
- نزلت من كام ساعة كده مع راجل اول مره اشوفه, وكانت لابسة ترينج بيتي ومستعجله, حتى سألتها في ايه مردتش عليا.
وقف يقلب هاتفها بين يده بتفكير لدقائق, فلديهِ احتمالان إما والدتها حدث شيء لها وذهبت, إما الأمر يخص "شاهين", ولحسم أمره, طلب رقم والدتها وتحدث معها دون أن يُثير قلقها, ليغلق الهاتف بضيق شديد وهو ينظره أمامه مرددًا من بين أسنانه:
- شاهيـــــن!
❈-❈-❈
بلغ غضبها أشده, وسئمت الوضع القائم, فصرخت بهِ وهي تشيح بذراعها بغضب:
- على فكره انا اول ما اطلع من هنا هقدم فيك بلاغ, وهحبسك, عشان دي قضية خطف واضحة وتهديد كمان.
نظر لها بجمود خارجي وكأنه لا يسمعها, لكنه في حقيقة الأمر يتأملها, سمارها اللطيف الذي يغزوه حُمره لذيذة من غضبها, عيناها المشابهتان بشعاع الشمس فتبدو متوهجة دومًا, وخصلاتها المتجعدة الثائرة على كتفيها وظهرها بحرية, رغم أن جمالها ليس خاطف لكن إن تمعنت بهِ يجذبك وتدرك تميزه.
خرج من تدقيقه بها على تحركها لباب المكتب لتفتحه فارتدت للخلف بفزع مما رأته...
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة ناهد خالد، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية..