-->

رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 8 - الأربعاء 11/12/2024

  

  قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة عفاف شريف


الفصل الثامن

تم النشر الأربعاء

11/12/2024





بين الرغبة في الحياة بين أحضانه،

والخوف من مواجهة تلك الحياة،

بين حبها وعشقها له،

وخوفها من مجهول لا تعلم ما يخفيه،

وقعت في صراع ينهش روحها ببطء.

❈-❈-❈

كانت تسير في الطرقات بلا هوادة،

لا تدري إلى أين تقودها قدمها.

هي أصبحت لا تعرف شيئًا،

تشعر بالتيه الشديد،

لا تعلم إلى أين تذهب حتى

رفعت يدها المرتعشة، تحاول وقف دموعها الحمقاء، الغبية، الغبية.

تبكي، لماذا تبكي؟

هم لا يستحقون البكاء.

كيف لها أن تبكي وتحزن وهم

هناك، ضحكاتهم تعم المكان.

بكت دون قدرة على التوقف، وهي تشاهد النظرات الفضولية حولها.

هي لا تريد البكاء، لا تريد سوى الابتعاد.

لا تريد أن تراهم،

لا تريد أن ترى ما رأت.

تلك السعادة،

وتلك الابتسامات.

مسحت على قلبها بألم،

لم تشعر يومًا كما شعرت للتو.

كيف لها أن تشعر باختلاع قلبها لتلك الدرجة؟

روحها تؤلمها.

كيف لهم أن يجعلوها ترى ما رأت،

وتشعر بذلك الشعور؟

أكان من الصعب منحها أبسط ما تمنت؟

ولغيرها قدموا كل شيء:

الحب، الحنان، الاهتمام.

تمنت ضمة،

ضمة لأحضان رأت أخرى بداخلها.

ابتسامة تمنت أن تمنح مثلها.

أعطوا غيرها حقها.

بأي حق؟

خرجت منها شهقة باكية،

وهي لا تدري إلى أين السبيل.

أخرجها من تلك الحالة

صوت مكبر المسجد،

وقد رُفع الأذان.

معلنًا عن صلاة المغرب.

فلم تجد نفسها سوى وهي تتحرك بساقين مرتعشتين،

قلبها متألم،

روحها معطوبة،

نحو ذاك المكان المهيب.

وبداخلها تثق

أنها هنا ستجد ما لن تجده في أي مكان.

هنا، بين يدي الله،

هنا ستجد

راحة قلبها،

مهما كانت تتألم.

❈-❈-❈

استعارت منهم رداءً للصلاة،

ووقفت تُصَلِّي وتَبْكِي، كانت تحاول التوقف،

لكنها لم تستطع.

كان قلبها لم يعد يحتمل،

وقرر أن يحكي ويبكي.

دعت قبل أن تسلم:

"اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم..."

أنهت صلاتها، صلت السنة كما عوَّدها عمر، لتجد نفسها تبدأ مرةً أخرى،

لكن في تلك المرة،

صَلَّت قضاء الحاجة.

هي عاجزة عن تخطي تلك الأمور،

وبكل مرة تظن أنها قوية،

يتضح أن قوتها تتلاشى بأوجاع قلبها الصغير.

هل هي ضعيفة؟

مستسلمة؟

لا تريد هذا،

هي فقط تريد أن تظل تصلي وتصلي

حتى ترتاح.

أطالت السجود،

بكت،

ودعت،

تحدثت،

كانها تخرج ما بقلبها

دَفْعَةً تِلْوَ الأُخْرَى.

بين يدي الله نحن أحرار،

ندعو ونشكو.

لا أحد قادر على منع تلك الراحة التي تتسلل إلى قلبها.

وكان الله يجبر قلبها،

والآية تتردد في أذنها:

"فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".


أنهت صلاتها،

لتجد نفسها تتقوقع في أحد الأركان،

قرأت آية الكرسي،

ابتسمت بحزن وهي تتذكر وصية عمر لها.

بعد كل صلاة أصبحت تداوم عليهما:

التسبيح ٣٣ مرة،

التحميد ٣٣ مرة،

التكبير ٣٤ مرة.

لكنها فعلت أكثر،

كانت بحاجة لهذا.

كانت بحاجة لنفسها في هذا المكان،

أن تنشد راحة قلبها،

واطمئنان روحها المتعبة.

وأخيرًا،

أمسكت بأحد المصاحف وبدأت بالقراءة،

ومع كل آية كانت تشعر

أن هنا وجدت راحة قلبها،

حيث تنتمي.

❈-❈-❈

كان ممدّدًا على فراشه ينظر إلى اللاشيء،

فقط ممدّد بهدوء.

عاد للمنزل بعد مشادة قصيرة مع والده،

انتهت بأنه أوصله للبيت وصعد لغرفته،

رافضًا بكل قوة الحديث حتى.

هو لا يريد الكلام بخصوص ما حدث،

لا يريد أن يجرح والده،

لكن لكل أمر حدود.

وما حدث اليوم

أطار عقله من رأسه،

وتعدّى كل الحدود.

حتى أنه ألغي كل ما يخصه اليوم.

هو لا يريد رؤية أحد،

لا يريد سوى الاستلقاء في هدوء.

يكفيه ما حدث اليوم.

أغمض عينيه متذكرًا ما حدث،

ويا ليتَه لم يحدث.


                    "اليوم صباحًا"


وقف محله بضع لحظات يتطلع لهم،

حتى آفاق على صوت صفيه ترحب به مرغمة، قائلة بهدوء:

"أهلا تميم."

تنهد بصمت لعدة ثوانٍ قبل أن يرد عليها قائلًا بارتباك وأدب:

"أهلا مدام صفيه."

ابتسمت له وكادت أن تخطئ مكملة طريقها، لتوقفها آسيا متمسكة بها،

تحثها على الوقوف بضع لحظات إضافية،

فقط بضع لحظات.

وهي تهديه إحدى ابتسامتها الجميلة المماثلة لها،

رقة وعذوبة:

"هاي وأنا آسيا."

أومأ لها بغير اهتمام ونفاذ صبر،

وعيناه تبحث عن ابتسامة أخرى،

وعين أخرى يغرق فيهما ولا يريد الإنقاذ.

ترحيب آخر،

ابتسامة جميلة تخصها هي وحدها،

وليس من هذه.

هو لا يريد البسمة سوى من شفتَيها،

لا يريد سواها.

حبّة السكر خاصته،

فريدة.

كانت آسيا تقف تنظر له بابتسامة مشرقة،

وتضغط على يد عمّتها التي تناظرها بتوبيخ.

كاد أن يتهور ويسألهم عن فريدة،

لكنه صوت هاتف صفيه أوقفه.

وهي ترد قائلة بهدوء:

"أيوة،

إحنا على وصول يا شوكت.

أوكي، باي."

وأغلقت وهي تمسك يد آسيا،

تسحبها خلفها معتذرة لتميم:

"عن إذنك يا تميم، إحنا اتأخرنا.

يلا يا آسيا."

قالتها وهي تجرها خلفها،

تحت نظرات تميم المتحسرة،

وآسيا التي التفتت تنظر له بهيام،

ويد تبعث له السلام وابتسامات،

إلى لقاء قريب...

جداً.


              "عودة للوقت الحالي"


زفر بيأس وهو يلوم نفسه:

"لماذا صمت ولم يسألهم عن حبّة السكر؟

لماذا أصلاً لم تأتي معهم؟

أهي مريضة مثلاً؟

أم مشغولة؟

لماذا لم تأتي إذًا؟

غبي، غبي!

كان زمانك عرفت لو كنت سألت."

قالها لنفسه موبخًا إياه بشدة.

انعقد لسانه،

ورحلت صفيه دون أن يعرف أي جديد عنها.

يتساءل كثيرًا لماذا لا يسأل والده،

لكن الإجابة معروفة.

لن يقدر أبدًا.

بعد ما حدث،

منعه والده من الذهاب للشركة.

هو لن يخاطر بلقائه بشوكت،

واحترم تميم رغبته.

لكن يقتله الشوق لها،

لقائها.

حتى وإن كان من بعيد.

لن يقترب،

فقط ليطمئن أنها بخير.

ففي النهاية،

هي كانت لا تريده،

وهو أيضًا كان كذلك.

كان...

❈-❈-❈

خرجت من المسجد بقلب غير القلب،

نعم تتألم، لكن أصبحت أكثر راحة.

صَلَّت المغرب والعشاء أيضًا،

وقرأت سورة البقرة كاملة.

قضت وقتًا أراح قلبها المتعب.

والآن، فلتذهب إلى المنزل.

فقط نفد شحن هاتفها،

وهي تأخرت بالفعل.

تسارعت خطواتها وهي تستقل أول سيارة تجري أمامها،

لتسرع بالوصول قبل عمر.

❈-❈-❈

ترجلت من سيارة الأجرة على بداية الشارع،

لانغلاقه.

وفي طريقها إلى البناية،

وجدت قطة جميلة،

جميلة حقًا،

تبدو كقطة منازل. كانت نظيفة وخائفة،

واقفة بجانب أحد المتاجر تننّو، ويتضح أنها جائعة.

نظرت لها بتعاطف وأسف.

هل يمكن أن تكون ضائعة من أصحابها،

أم تخلى عنها كما يفعل البعض؟

يأتون بحيوان بري،

يعتاد على حب وحنان واهتمام وطعام معين،

ثم فجأة يتركونه يواجه حياة لم يعشها يومًا.

كم تحتقرهم.

قبل أن تقترب منها لإطعامها،

وجدت طفلًا صغيرًا شقيًا قليل الأدب يقترب منها بعصاه ينوي ضربها.

أسرعت نحوه، تمسك يده قائلة بحزم:

"مينفعش تعمل كده،

حرام يا حبيبي.

مينفعش نؤذي الحيوانات أبدًا،

حرام!"

أجابها بقلة أدب:

"إنتِ مالك؟

هي بتاعتك؟

أوعي كده!"

نظرت له عدة ثوانٍ، تريد أن تركله،

لكنها تماسكت،

قبل أن تهديه ابتسامة قائلة بحنان:

"مش بتاعتي، بس حرام نؤذي روح بريئة.

واضح أنك ولد شاطر،

وبتخاف من ربنا، ومش هتعملها حاجة.

إيه رأيك أجيبلك حلويات عشان إنت شاطر ومش هتأذي القطة،

ولا أي قطة أو حيوان تاني؟

حابب تلعب معاهم؟ تمام، غير كده حرام،

وربنا هيحاسبك.

تمام?"

نظر لها قليلًا،

قبل أن يهز رأسه موافقًا.

ابتسمت له، والتفتت للقطه تحادثها بجدية كأنها ستفهمها:

"استني هنا يا قطة، هاجيب أكل ومية وأجي، أوكي؟"

والغريبة أنها انتظرتها فعلاً،

كأنها تفهمها.

جلبت للشقي الحلويات، وأكدت عليه مرة أخرى بعدم إيذاء أي حيوان بريء.

وجلبت للقطة أيضًا طعامًا وماء.

جلست بجانبها على الرصيف،

لتتبعها القطة بهدوء.

ابتسمت لها وهي تراها تأكل بجوع شديد،

كأنها لم تأكل منذ مدة.

مسدت عليها برفق،

والأخرى لم ترفع وجهها من على الطعام.

كانت جائعة بحق،

وكم اشفقت عليها.

قبل أن تقول بابتسامة وهي ترى الانتفاخ ببطنها:

"واو! إنتِ حامل!"

وأكملت بتذكر:

"ما شاء الله."

ظلت معها حتى أنهت طعامها،

دللتها قليلاً ولعبت معها.

هي لم تحظَ بحيوان أليف من قبل،

لكنها تحبهم.

تحب اللعب معهم.

وضعت لها طعامًا آخر وعلبة صغيرة أخذتها من أحد الباعة بها ماء للشرب.

وأكملت طريقها إلى المنزل،

بسعادة.

كان الله بعث لها تلك القطة

كسبيل لتخفيف عن حدة يومها.

ولم تلاحظ تلك التي تسير خلفها.

❈-❈-❈

دَلفت للمنزل بابتسامة خافتة،

بعد جلوسها مع القطة،

لكنها اختفت تمامًا وهي ترى عمر واقفًا أمامها، يُناظرها بغضب وقلق يتضح للأعمى.

ثم اندفع نحوها، يتفحصها بعصبية وقلق، وهو يُناظرها بتفحُّص:

"فريدة،

إنتِ كنتِ فين؟

عمال أرنَّ عليكِ من الصبح،

مَبترديش،

وبعدين الموبايل مغلق.

إنتِ اتجنَّني؟

سايباني مرعوب عليكي كل ده؟"

تنهدت بتعب، وهي تقول بلا طاقة وأسف:

"أنا آسفة يا عمر،

الفون فصل مني،

وبعدين كنت محتاجة أقعد مع نفسي شوية، فدخلت المسجد صليت المغرب والعشاء،

فطولت شوية.

بعتذر منك."

قالتها بتعب.

هي مخطئة، لن تنكر أبدًا،

لكنها ليست قادرة على خوض هذا النقاش.

دخل الغرفة خلفها، وهو يراها تبدل ملابسها بلا طاقة.

لوهلة، وفي بداية دخولها، كان يريد أن يضربها ويعنفها بقوة من شدة خوفه.

فهو يجلس فوق النيران طوال اليوم في العمل، لا هو قادر على الذهاب للاطمئنان عليها بسبب تلك الحيرة التي تمنعه،

ولا هي تطمئنه على نفسها.

لكن عينيها كانتا غريبتين.

كان بهما شيء، حاول مرارًا وتكرارًا جعلها تنساه.

كانت حزينة كما رآها أول مرة.

بها شيء اختلف.

فتراجع غضبه،

وحل محله خوفه.

❈-❈-❈

اقترب منها وهو يراها ترتدي قميصها القطني الطويل بلا مبالاة وسكون.

تحركت من أمامه لتجلس أمام المرآة، تمشط خصلاتها بشرود غريب على طبيعتها.

يقف خلفها ولا تراه.

يبتسم لها ولا تبادله.

لا تطلب منه أن يمشط خصلاتها ولا تدلله.

لم تكن ترى في تلك اللحظة سوى مشهد أمها تضم آسيا بحب.

مشهد مؤلم لقلبها.

مشهد لم يره هو، لكن رآه متشكلاً على وجهها.

زوجته غادرت وعادت بقلب متألم، وهو لا يدري السبب.

اقترب منها، أوقف يدها عن تمشيط خصلاتها، ناظرتها في المرآة كأنها حقًا لا تراه.

أمسك يدها، يلفها نحوه متسائلًا بقلق: "في إيه؟ حصل إيه؟ أنتي كويسة؟"

حاولت أن تبتسم، لكن لم تستطع، لتشهق باكية بشكل جعله يرتعب مسرعًا بضمها إلى صدره بقوة، محاولًا معرفة ما حدث.

لكنها لم تقدر.

حملها برفق نحو فراشهم، يضمها لتبكي.

فقط في تلك اللحظة كانت تريد البكاء، ولم يخذلها هو.

بل أحاطها بدفئه، يضمها إلى قلبه، مرتلاً عليها آيات القرآن حتى غفت بين ذراعيه شاعرة بالأمان.

غفت ودموعها عالقة، أبَت أن تحرر، كما ظنت أنها تحررت.

❈-❈-❈

تركها نائمة، ورغم جوعه أصرَّ أن ينتظرها ليأكلا سوياً.

أعدَّ القهوة، وجلس لينهي الأعمال المتراكمة التي وضعتها روفيدا فوق عاتقه.

أصبحت امرأة لا تُطاق. حسناً، هي لم تكن تُطاق في يوم من الأيام، 

لكن الوضع يزداد سوءاً. ماذا تغير بعدما تزوج؟ كانت جيدة، لكن أصبحت غريبة، ونظراتها أغرب منذ أعلن خبر زواجه. 

زفر بغضب وهو يتذكر ما فعلته تلك الحرباء اليوم. 

نظرات وأفعال تغضبه،

تجعله يشعر بالقرف منها، وربما من نفسه.

❈-❈-❈

                "اليوم في المكتب"


كان يجلس ينهي أعمالاً جديدة، وكلَّتها إليه. أعمال كثيرة جديدة متراكمة. كلما أنهى جزءاً، أُضيف فوق رأسه أضعافه. رفض وأخبرها أن توزع العمل على الجميع، لكنها رفضت بحجة أن لكل منهم عمله الخاص الذي وكلته له. هي تكذب، وهو يعلم، لكن لا يعلم السبب حقاً.


أعاد وجهه نحو الملفات ليقطع انشغاله اقتراب الساعي منه، وهو يبلغه بأدب أن مدام روفيدا تطلبه في غرفة مكتبها، وتطلب منه أن يأتي بآخر ثلاث ملفات. قطب حاجبيه بغضب: أي ملفات؟! لم تعطه إياها إلا منذ بضع ساعات، كيف لها أن تتخيل أن ينهيهم؟ أظنها روبوتاً؟!


زفر بغضب وهو يحمل الملفات بتعب، يريد قذفهم في وجهها، تلك الحية، وهو يتوجه إليها بتعب وإرهاق شديد. طرق الباب، سمحت له بعد أن جعلته ينتظر قليلاً.


دلف للمكتب ليجد عيونها متربصة له، تناظره متحدية أن يعلق أو ينطق حتى. وضع الملفات بصمت، لتتمسك بها وتقلبها وهي تعلم أنه لم ينتهِ. لكن ما المشكلة في بعض التوبيخ؟


ألقت الملفات باهمال أمام وجهه، وهي تقول باهتزاء: "وأنا المفروض أستني حضرتك لما تفوق من شهر العسل؟! إمتى عشان تشوف شغلك كويس؟! الملفات مخلصتش ليه؟! أي لعب العيال ده؟"


قاطعها بحدة، ولم يهتم قائلاً بثقة: "مسمحش لحضرتك! أنا هنا من كذا سنة، والمكتب وحضرتك واستاذ سعد عارفين إني عمر ما حد علق على شغلي. الشغل ده محتاج أقل شيء شغل يومين. حضرتك عايزة يتعمل في كام ساعة؟! على العموم، الشغل مع حضرتك، تقدري تديه للي يخلصه في الوقت ده. أنا بعتذر عنه."


رفعت حاجبها بإعجاب، لم تخطئه عينه، ليخفض وجهه مستغفراً. يريد الخروج من هذا المكتب بأسرع وقت ممكن. هو لا يريدها أن تقترب منه.


أراحت ظهرها قبل أن تحرك مقعدها، تربت على آخر بجانبها بصوت هامس: "تعالي هنا، هتخلص شغلك هنا معايا في المكتب، وهنحله سوا بسرعة، وهوريك إنه بيخلص بسرعة."


ظل ينظر للمكتب، لها، ليدها، للمقعد، قبل أن يقول بحزم: "بعتذر من حضرتك، لكن معاد الشغل خلص، وللأسف عندي ظروف مش هقدر أقعد وقت إضافي. أنا هاخد معايا الشغل البيت وأخلصه."


وحمل الملفات سريعاً وغادر، وكانت هي تناظره بإعجاب، ورغبة في الحصول عليه، مهما كلف الأمر.


                "عودة للوقت الحالي"


أفاق من شروده وهو يتذكر ما حدث.

أصبحت روفيدا مساحةً لا يريد الاقتراب منها.

هو لا يريد أن يقترب.

أزاح روفيدا من تفكيره، فهي ليست مهمة في كل الأحوال، ولم تكن يوماً.

الأهم إلى قلبه نائمة بالداخل، تصارع شيئًا لا يعلم عنه شيئًا.

يكفيه أن تكون بخير، وهو سيحارب لأجلها دائمًا.

❈-❈-❈

تقلبت في الفراش تنظر حولها بتشوش وهي تفكر: متى نامت؟

كيف غفت دون أن تشعر بهذا الشكل؟

تحركت من الفراش تتمطى، تحرك ذراعها محاولةً أن تفك هذا التيبُّس،

وهي تمسك رأسها تشعر به يكاد ينفجر.

صداع يضرب رأسها دون رحمة.

فركت عيناها بضيق،

وهي تأخذ من جانبها حبة مسكن علَّها تقلل وجع رأسها.

قبل أن تتحرك وتخرج للخارج باحثة عن عمر،

وقبل أن تبحث،

وجدته يجلس هناك في ركنهم المفضل،

يعمل بتعب واضح،

بجانبه فناجيني قهوة.

أطالت النظر نحوه.

هل يمكنها أن تقول إن هذا الرجل كان عوضها؟

أم لا تستطيع؟

لماذا لا تقدر على تخطي تلك المرحلة؟

الخوف الدائم رغم وجود الأمان.

الخوف من الأمان نفسه.

الخوف من عمر.

الغريب أن كلمة "الخوف من العلاقات" أصبحت مرتبطة بها بشكل مرضي.

آثار الطفولة تطفو بكل لحظة مقتحمة حياتها.

تنهدت وظلت محلها لا تريد الحركة.

هو أمامها،

وهي بجانبه،

ورغم انشغاله، لكنه لا يدري لماذا رفع رأسه في تلك اللحظة

ليراها هناك.

تناظره بحب،

وبابتسامة شاردة،

كطالب يواجه مسائل رياضيات صعبة الحل،

ولا حل لها سوى حلها.

حبيبته تتألم،

وهو سيحل تلك المعضلة.

أهداها أحد ابتساماته وهو يتحرك نحوها،

ضامًا إياها إلى صدره،

وهو يقول بمشاكسه:

"صح النوم يا كسلانة.

أنا مكلتش لسه، مستني ناكل سوا.

إيه رأيك ناكل؟"

ابتعدت عنه سريعًا وهي تغمغم بندم:

"أنا آسفة يا حبيبي، حقيقي محستش بنفسي غير وأنا نائمة.

سامحيني، أكيد ميتة من الجوع.

روح خد شاور، عقبال ما أعمل الرز."

منعها بيده وهو يقول بهدوء:

"مش مشكلة، ناكل بعيش."

قطبت حاجبها وهي تسأله باستغراب:

"عيش؟

هناكل الغداء بعيش؟

بس سارة قالت لي يتعمل رز."

أرجع رأسه للخلف يضحك وهو يضمها إلى صدره،

ويقول مؤكدًا:

"معظم الأكل عادي يتاكل بعيش.

عادي، أنا عمتي كثير كانت بتعمله بعيش."

أومأت له وهي تقول موافقة:

"تمام، بس أنا معنديش عيش.

خلص ونسيت أجيب."

هز رأسه وهو يقول:

"تمام، هنزل أجيب.

سخني أنتِ الأكل،

وتعملي طبق سلطة."

قالها وهو يلتقط مفاتيحه ويتوجه للأسفل،

وهي خلفه شاردة مفكرة في معضلة جديدة

وهي كيفية عمل السلطة.

❈-❈-❈

جهزت الطاولة، أشعلت الشموع، أضافت الماء والعصير، وضعت الطعام بالأطباق، وأيضًا أعدت السلطة حينما اتصلت بسارة لتخبرها بالطريقة. وأخيرًا، الطاولة جاهزة. وضعت الخبز، ووقفت تنظر للطاولة بسعادة. أول مرة من يدها، إنجاز تستحق الشكر عليه. ست سنوات متواصلة، وإجازة اثني عشر سنة من دخول المطبخ.


اقترب منها عمر، يحاوط خصرها، ينظر للطاولة بدهشة شديدة، وهو يقول بإعجاب: "ما شاء الله تبارك الله." وأكمل مشاكسًا: "معقول أول مرة تطبخي؟ أنتِ بتضحكي عليّ صح؟"


ابتسمت برقة، وهي تشعر بالسعادة. ثم ابتعد عنها، يسحب المقعد لتجلس. جلست برقة تناسبها، ليجلس هو بجانبها، سعيدًا، سعيدًا للغاية.

❈-❈-❈

سَفَقَ بيدِه بحماسٍ وهو يَستنشقُ رائحة الطعام الشهي.

كان ذا شكلٍ ورائحةٍ خلابة.

وضع لها ولنفسه.

نظرت له بتشجيعٍ منتظرةً مدحه.

أمسك الملعقة أولاً ليتذوق البطاطس.

وضع الملعقة في فمه يتذوق،

وتجمد لبضع ثوانٍ،

مُتسِعَ العينين بشدة،

قبل أن يمسك كوب الماء يرتشفه بسرعةٍ بوجهٍ أحمر.

ارتبكت فريدة وهي ترى ملامحه،

لتقول بتوترٍ محاولَةً فهم ما يحدث:

"عمر، أنت كويس؟"

مسح وجهه وهو يقول بصوتٍ مبحوح:

"إيه؟"

تسائلت مرةً أخرى:

"مالك؟ الأكل عجبك؟"

وكادت برفع الملعقة لفمها،

ليمنعها وهو يهز رأسه برفضٍ.

أصرت وهي ترفع الملعقة

وتضعها بفمها،

قبل أن تلتقط منديلًا تبصقه،

وتستغفر ربها وهي تقول بتقذذ:

"إيه ده؟"

كان مالحًا وحارًا وذا طعم غريب.

هز عمر كتفه بعدم معرفة وهو يتساءل:

"إنتِ حطيتي قد إيه ملح؟"

هزت رأسها بعدم تذكرٍ وهي تُجيبه:

"مش فاكرة، بس زي الوصفة."

زم شفتاه وأكمل:

"وقد إيه شطة؟"

إجابتها مرةً أخرى:

"زي الوصفة."

حرك رأسه بحسرةٍ وهو يردد:

"يخرب بيت الوصفة!

وصفة مين المدعوقة دي؟"

إجابتها بثقة:

"سارة صاحِبتي."

ضحك بقوةٍ وهو يصيح:

"تقطعي علاقتك بسارة دي في أقرب وقت!"

ونظر للطعام وهو يقلب فيه بحيرة،

ليردف بعدها:

"خلاص، ناكل الفراخ."

وأمسك الورك يقسمه،

يعطيها نصفه ويتذوقه،

ليردف بتركيز:

"حادق شوية بس مش زي البطاطس."

هم الاثنين مش نفس الخلطة.

هزت رأسها موافقة وهي تتذوق هي الأخرى

وتفكر.

تجربة لن تتكرر مرةً أخرى بإذن الله.

قبل أن تميل عليه تهمس بتفكير:

"تيجي نعمل شاي بلبن ونأكل جبنة سايحة؟"

نظر للطعام تارةً ولها تارة،

قبل أن يهز رأسه موافقًا،

لينفجرا في الضحك سويا،

وهو يقف مقررًا:

"يلا بينا."

وبداخل كلٍ منهما،

دعاءٌ بدوام الضحكة للأبد.

❈-❈-❈

بجلستهم المعتادة،

يضمها إلى صدره، يغطيهم دثار يمنحهما دِفْءً خاصًا.

كانت تحكي له ما حدث اليوم بقلب حزين.

ليسألها بدهشة حقيقية من موقف صفية العجيب:

"بس مش غريبة؟ ليه بتفرق في المعاملة؟ المفروض العكس. يعني في الأول والآخر أنتِ بنتها. بنت خالك هتطلع هتنزل مجرد بنت أخوها."


هزت رأسها بشرود وهي تقول:

"المفروض بقى... بس اللي حصل عكس ما المفروض يحصل يا عمر.

آسيا كانت أكثر إنسانة مؤذية في حياتي.

خدت كل حاجة من حقي من زمان أوي، من قبل حتى ما أتولد، حتى!

ماما خالو ولدت ومامي حامل فيا، وتوفت وهي بتولدها.

خالو دخل في فترة اكتئاب شديدة، وآسيا اتربت عندنا لحد ما قدر يفوق لنفسه.

وقتها هي اللي سمتها.

وقضت وقت كبير معاها.

ولما أنا جيت كان مكاني خلاص شغله غيري.

كان الاهتمام لآسيا، الحب ليها، الحنان، كله كان ليها.

اتولدت وأنا علاقتي بيها وحشة أوي.

كانت هي طلباتها كلها مجابة.

ومن مين؟ من مامي.

وأنا حتى الطلب مش من حقي أفكر فيه.

مانا بقى دمية مطرزة بالذهب.

ده كفاية عليا."


قالتها باختناق وقلب متألم.

حاول أن يجعلها تتوقف عن الحديث، لكنه أصرت وهي تكمل:

"عارف، أنا شفت قد إيه مقارنات... قد إيه هي ليها...

الحب... الاهتمام...

خدت كل حاجة.

وفي المقابل أنا ولا حاجة.

ماكنتش بفهم السبب.

ومش لاقية مبرر أبدًا أبدًا لده يا عمر... غير أن مامي ظالمة.

وأنا عمري ما هسامحهم على كسر قلبي."


قالتها ببكاء، ليضمها إلى صدره.

راغبًا بحمل حزنها بقلبه،

فقط ليريح قلبها الحزين.

فليذهب كل شيء إلى الجحيم... إلا بسمتها،

إلا هي.

❈-❈-❈

كادت أن تغفو بين ذراعيه، إلا أنه قال متذكّرًا:

"أه، صح، الحمد لله إني افتكرت.

إنتِ عارفة أنا من يوم الفرح مروحتش البيت هناك، ودي أول مرة أعملها، حقيقي.

وعمتو زعلت مني.

وأنا لازم أروح أراضيها، بس للأسف بسبب ضغط الشغل والوقت المتأخر، مبعرفش أروح لأنها بتكون نامت بدري.

فبإذن الله تعملي حسابك، هنروح لهم خلال الأسبوع ده، بإذن الله، عشان نصالحها ونقعد معاها."


التفتت تنظر له وهي تسأله بخفوت:

"أنا كذا مرة أكون عايزة أسألك وأنسى. هم ليه محضروش كتب الكتاب؟"


أجابها بهدوء:

"إنتِ عارفة أن صحتها تعبانة.

وقتَها تعبت جامد، للأسف.

وكنت خلاص حددت المعاد مع والدك.

وكان صعب أغيره، وهي صعب تتحرك.

وبرضو مكنتش تقدر تيجي هنا برضو.

فأنا قلتلها إني بإذن الله هنروح لها إحنا."


إجابتها بتوتر:

"بس أنا مشفتهاش قبل كده، وأكيد هتكسف."


ربت على يدها قائلًا بثقة:

"أنا جنبك، متخفيش.

طول ما إحنا سوا، متخفيش."


أهدت ابتسامة رقيقة، وهي تعود حيث كانت، بين أحضانه.

لا يهمها شيء.

هو صادق.

طالما هما معًا، لن تخاف من شيء أبدًا.

❈-❈-❈

كان يهبط الدرج يهاتف أحمد يستمع إلى شكوته من خطيبته، إلا أنه توقف وهو يرى والده يتحدث مكالمة مرئية.

أغلق في وجه أحمد بسرعة وتوجه نحوه ليجده يحادث حسام.

وقبل أن يظهر من خلف والده ويلاحظه أحد، انطلق صوت حسام بقول بتزمر وتأكيد:

"أيوة يا بابا، أيوة بجد لازم يتجوز. هو تميم مش هيتربي غير لما واحدة تدخل حياته تجيب أجله... قصدي تجبله عيال.

أنا معرفش ليه رافض الجواز، هو مش شايف الهنا اللي أنا فيه أنا وأخوه، يجي يشوف حياتنا هيعشق الجواز."

إجابة والده بحزم هو الآخر:

"اخرس يا حيوان، إزاي تتكلم عن أخوك الكبير كده؟"

وأكمل مؤكدًا بأسف:

"بس فعلاً عندك حق، هو عيل مش متربي، بقي أنا يحرجني الإحراج ده، عديم التربية."

ثواني وظهر صوت عالي آخر كخوار الثور.

ولم تكن سوى أخته الحرباء "آلاء" وهي تغمغم بضيق وصوت غريب كأنها تأكل:

"فعلاً عندك حق. أنا قلتلك يا بابا نشوف البت جميلة صاحبتي... جمال وأخلاق وأدب."

قاطعها حسام باستخفاف قائلاً مستفسرًا:

"قصدك جميلة بنت سيد كمال؟ البت اللي كانت بتضرب العيال أيام المدرسة وتنزل فيهم عجن كل يوم وكل يوم باستدعاء ولي أمر جديد؟

وكان شوية وهتدخل الأحداث!"

أؤومت له مؤكدة بثقة وهي تجذب ابنتها من ملابسها لتلحق بوعاء المقرمشات من يدها،

لكنها ركضت به بسرعة الريح لتخلع خفها وتلقيه في الهواء،

لكن لم يصبها، لتصرخ بصوت عالي جعل والدها يضع يده على أذنه:

"هاتي الشبشب وتعالي أحدفه ثاني عشان مجاش عليكي."

وأكملت:

"أيوة صح بعينها، دي بقت قمر يا واد يا حسام. والله شفتها آخر مرة من بتاع ست سنين ولا حاجة، كانت زي غزال."

قاطعها والدها قائلاً بتفكير:

"بس دي اتجوزت خلاص يا آلاء، شوفي غيرها."

اتسعت عيناها وهي تغمغم بشتمة وتقول:

"الكلبة معزمتنيش. ماشي، ماشي."

وأكملت:

"مش مشكلة، تروح ناديه تيجي سوسو، نشوف غيرها. هنغلب يعني، ما العرايس على قفا من يشيل. يكش بس حد فيهم يقبل بابنك ده."

صاح بها والدها بتحذير:

"آلاء!"

ردت بقهر مصطنع:

"الله، مش بقول الحق."

وأكملت همسة:

"مش فالح غير يزعق فيا. طيب هنعمل إيه؟ الواد مش عايز يتجوز."

وأكملت بصوت عالي:

"هي فين ملك؟ ساكته ليه؟"

وفي نفس الثانية ظهرت ملك في الشاشة وهي تردف برقة:

"وحشتوني أوي. وحشني يا دادي، وحشني يا حوسو."

نظر لها حسام بقرف، لتكمل هي بمكر تناظر الواقف خلف أباها وهي تغمز لهم:

"هاي تيمو، وحشني يا حبيبي."

شهقت آلاء وهي ترى تميم أمامها يناظرها بنظرات قادرة على قتلها، وخرجت سريعًا من المكالمة قبل أن تطير رقبتها.

وتبعها حسام وتميم يتوعده بالسلخ.

ليتبقى أباه في محله قائلاً بقرف:

"كلبة."

لتنطلق ضحكاتها وهي تنظر خلفه لذاك المتهجم،

وهو يشاهد خططهم لتزويجه.

وبداخله قرر قتل آلاء وتعليقها على باب المنزل،

وتعليق حسام في الحديقة الخلفية.

أما ملك فليتركها لتساعده.

❈-❈-❈

كانت آسيَا تجلس في غرفتها الخاصة.

كان لها غرفة كغرفة فريدة، وأجمل بمنزل عمتها صفية.

لا يدخلها أحد أبداً.

تنتظرها دائماً وأبداً.

تحركت بدلال تتناول الحلوى،

وهي تتفحص مواقع التواصل،

تحديداً صفحة واحدة.

ألقت بنفسها على الفراش،

وهي تمسك الهاتف،

تناظر ذاك الوسم الذي استحوذ على قلبها من أول لحظة.

صورة تلو الأخرى،

تخطف قلبها،

تجذبها له أكثر فأكثر.

تناظرها بعين راغبة به وليس لسواه.

تريده هو.

ابتسمت بمشاغبة،

قبل أن تضغط زر المتابعة.

أصبحت تتابعه،

ولم تتردد قبل أن تبعث له

طلب صداقة.

مقتربة من أولى الخطوات،

سيتبعها ألف خطوة منه.

تثق بذلك،

وتراهن عليه.


يتبع...

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة عفاف شريف، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة