رواية جديدة على سبيل الألم لرانيا ممدوح - الفصل 15- الجمعة 17/1/2025
قراءة رواية على سبيل الألم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية على سبيل الألم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا ممدوح
الفصل الخامس عشر
1
تم النشر الجمعة
17/1/2025
ردت سبيل بقلق: "مفيش حد غير أنا وأنتِ يا جليلة."
لكن جليلة صرخت فجأة، وهي تنظر حولها بعيون مليئة بالجنون: "لأ! شهيرة أهيه واقفة وبتضحك قدامي! شهيرة موجودة!"
نظرت سبيل بحيرة حولها، لكنها لم تجد أحدًا غير جليلة. شعرت بأن الوضع يزداد غرابة، ولم تفهم ما يحدث.
تجمدت سبيل في مكانها، وعيناها تدوران في كل زاوية من الغرفة المظلمة. "إنتِ بتقولي إيه؟ شهيرة مش هنا مفيش حد هنا " قالت بصوت مرتعش، وهي تحاول أن تجد تفسيرًا لما يحدث.
لكن جليلة ابتسمت ابتسامة غريبة، وقالت بصوت بارد: "أنتِ مش فاهمة حاجة، يا سبيل. شهيرة هنا، لكنها مش هتقدر تساعدك هي مبسوطة باللي هيحصلك." ثم اقتربت منها أكثر، ربطت يديها بالحبل بقوة أكبر.
❈-❈-❈
سبيل بدأت تشعر بالذعر، وكلما زادت محاولاتها للفهم، كلما زاد الضغط عليها. "أنا مش عارفة إيه اللي بتحاولي تعمليه، يا جليلة. لكن مش هخاف منك أبدا" قالت وهي تحاول سحب يديها من الحبل، لكن دون جدوى.
ابتسمت جليلة بهدوء وقالت: "إنتِ مش هتقدري تهربي من هنا، يا سبيل. كل شيء تحت سيطرتي دلوقتي."
جليلة كانت تراقب سبيل بنظرة شريرة وقالت: "قوليلها يا شهيرة إنك موجودة."
قالت سبيل بصوت مرتعش، محاولة أن تكون هادئة رغم الرعب الذي يملأ قلبها: "فوقي، مفيش حد هنا... أنتِ لوحدك يا جليلة."
لكن جليلة نظرت إليها بعينين مليئتين بالشر وقالت بنبرة متسلطة: "لا، أنتِ مش فاهمة حاجة. هي موجودة هنا قدامي، مش لوحدي مش هاكون لوحدي أبدًا ."
فجأة، سكتت جليلة للحظة، وتلمس وجهها وكأنها تحاول التأكد مما يحدث حولها. عندما قالت سبيل بصوت قوي "شهيرة مش موجودة هنا"، كانت جليلة قد تراجعت إلى حالة من الارتباك.
أخذت جليلة نفسًا عميقًا وأجابتها بصوت منخفض، كأنها تتحدث لنفسها: "شهيرة... أهيه، هنا، قالتلي إعملي كده... ليه مش بترد؟ ليه صوتها اختفي؟"
بدأت جليلة تتلفت حولها بعيون تائهة، وكأنها تبحث عن أختها التي لا وجود لها. "مش معقول، أنا... أنا مش لوحدي هنا ،شهيرة هنا، موجودة لا يمكن تتخلى عني."
ثم التفتت إلى سبيل، وصرخت بغضب: "أنتِ مش فاهمة، هي هناااااااااا هي دايمًا معايااااااااا، هي اللي بتدعم تصرفاتي، ليه مش بتساعدني دلوقتي؟!"
جليلة صرخت بصوت مرتفع، وجهها شحب من الألم والانهيار: "إرجعي يا شهيرة، روحتي فين ؟ ليه مش موجودة؟! إرجعي ليا، مش قادرة أعمل حاجة لوحدي"
❈-❈-❈
كانت دموعها تتساقط بغزارة، وكأنها في صراع داخلي لا يستطيع أحد أن يفهمه. راحت يديها ترتجفان وهي تحاول أن تمسك بالخيالات التي لا يمكنها رؤيتها، لكنهم اختفوا فجأة كما ظهروا.
"مش قادرة أعيش من غيرك، يا شهيرة، إرجعي ليا" كررت جليلة وهي تهز رأسها بحركات متسارعة، وكأنها ترفض أن تصدق أنها وحدها الآن.
جلست جليلة على الأرض، وجهها شاحب وعيناها مغرورقتان بالدموع. كانت تتحدث مع نفسها بصوت منخفض، كما لو أنها تحاول إقناع نفسها بشيء لم تعد تعرفه:
"شهيرة عايشة... مامتتش... مش كده؟ ليه بتخليها تسيبني؟ مش ممكن تكون مش موجودة... هي كانت معايا هنا، أنا كنت شايفاها... كنت شايفاها قدامي..."
كانت كلماتها تتداخل مع بعضها البعض، كما لو أنها تبحث عن مخرج من الحفرة التي حُشرت فيها. في تلك اللحظة، كان الواقع يتلاشى أمام عينيها، وكل ما كان يهمها هو أن تشعر بوجود شهيرة، حتى لو كانت في خيالها فقط.
سبيل كانت تنظر لها بحذر، غير قادرة على أن تجد كلمات تعبر عن ما تشعر به تجاه ما يحدث. كانت جليلة في حالة انهيار تام، وتكاد تذوب في خيالاتها، وهي تنادي على شخص لا يراه أحد سواها.
كانت سبيل مقيدة على الكرسي، عيناها مليئتان بالخوف والقلق. لم تستطع تحريك يديها أو حتى الوقوف. كانت مشاعرها بين الرعب والشفقة على جليلة، التي كانت غارقة في أوهامها وتصارع مع نفسها.
جليلة جلست على الأرض بجانبها، وهي ما زالت تردد بصوت مختنق: "شهيرة... أرجوكِ، ارجعي ليا... إزاي تسيبيني كده؟".
سبيل حاولت أن تجد صوتها، أن تقول لها شيئًا، لكن الكلمات لم تكن قادرة على الخروج بسهولة من فمها. كانت تحاول أن تبقى هادئة، رغم الوضع المرعب الذي كانت فيه، بينما جليلة كانت تتخبط في أفكارها، متوهمة أن أختها لا تزال موجودة.
"أنا هنا، مش لوحدي... أنا مع شهيرة... شوية و هترجع تاني" قالت جليلة بصوت منخفض، لكن الحزن والضياع في كلماتها كان واضحًا.
سبيل، رغم خوفها، حاولت بصعوبة أن تنطق: "جليلة... شهيرة مش موجودة... أنتي لوحدك هنا... أنا اللي هنا... ممكن تفتحي عينيكي وتفهمي اللي بيحصل و تواجهيه؟".
لكن جليلة لم ترد. كانت غارقة في عالمها الخاص، تعيش في حلم مُرّ لا تريد أن تستفيق منه.
❈-❈-❈
جليلة قالت كلماتها بصوت متألم، كما لو أن الماضي ينهش قلبها:
"أمي السبب في اللي أنا فيه، حكمت أبو المعاطي. أمي كانت سجانة قوية وشرسة، جوا السجن وبرا السجن. من صغرنا، أنا وأختي شهيرة، كانت شديدة معانا، وبتعلمنا القوة، بتعلمنا ندوس على الناس. كانت بتفرح لما أضرب زمايلي أو لما يخافوا مني."
كانت عيون جليلة تدمع بشكل غير إرادي، وكأنها كانت تعيد تجربة تلك الأيام، تكاد تتنفس الألم في كلماتها. "كنت بخاف منها. بخاف أرفض لها طلب. دايمًا كانت تقرر لنا كل حاجة، حتى المدرسة اللي كنت شاطرة فيها، خرجتني منها علشان أبقى مشرفة في السجن."
كانت العبارات تتناثر من فم جليلة وكأنها تنزع جرحًا عميقًا كانت قد أخفته لسنوات طويلة. ربما كانت تبحث عن تبرير لنفسها، ربما كانت تبحث عن إجابة، لكنها لم تجد غير الحزن في كلماتها.
جليلة أكملت حديثها بمرارة، ويدها ترتجف قليلاً عندما قالت: "خلتني أشرب سجاير. كان كله لازم يكون زي ما هي عايزة، كل خطوة وكل تصرف. كنت حاسة إن دي الطريقة الوحيدة اللي أقدر أهرب بيها من الواقع اللي كنت فيه."
كان الألم في صوتها يزداد مع كل كلمة، وكأنها تروي قصتها لأحد لم يتفهمها من قبل. تلك السجاير لم تكن مجرد عادة، بل كانت مهربًا، كانت بمثابة الأداة الوحيدة التي شعرت أنها تمنحها بعض الراحة وسط كل هذا الضغط.
❈-❈-❈
جليلة أغمضت عينيها لفترة وكأنها تسترجع تلك اللحظات العميقة في الذاكرة، ثم قالت بصوت منخفض، مملوء بالحزن: "في يوم المُدرسة قالتلي، 'أنتِ شاطرة في الرسم يا جليلة ورسمت رسمة حلوة'. كنت فخورة بنفسي، وحسيت إنني ممكن أكون حاجة. لكن بعدين،ماما قطعت لي الرسمة وقالتلي: 'الرسم للناس الضعيفة يا جليلة'. وضربتني بالقلم على وشي. كانت ضربة مؤلمة أوي، بس الأشد لما قالتلي: 'دموعك ما تنزلش قدامي، فاهمة؟'. وكنت مجبور أسيطر على نفسي، كنت عايزة أصرخ، أعيط، لكني كنت خايفة. خايفة من غضبها. كانت بتعلمني إن المشاعر ضعف، وإني لو أظهرتها هبقى ضعيفة و الناس هتأذيني زي الناس اللي حواليها."
قالت جليلة بحزن: "أمي قتلت كل الإنسانية جوايا. خليتني حد بدون مشاعر وأحاسيس".
ثم قالت جليلة بصوت مليء بالمرارة: "كانت دايمًا بتعلمني إزاي أكون قاسية، إزاي أضغط على الناس وأخليهم يخافوا مني. مكنتش قادرة أكون زي أي حد طبيعي، وكل حاجة كانت لازم تبقى تحت سيطرتي. وأنا كمان كنت عايزة أكون زيه، لكن عمري ما كنت فاهمة إن اللي بعمله ده كان غلط ".
أضافت جليلة، بصوت مكسور: "أنا حاولت أكون قوية عشان مافقدش نفسي زي ما أمي علمتني، لكن كل اللي حصل إن أنا فقدت كل حاجة... فقدت حتى نفسي. ودايمًا كنت بحاول أملأ الفراغ اللي جوايا بأي حاجة، سواء بالقوة أو بالخوف أو حتى بالسجائر".
ثم سكتت جليلة للحظة، وابتسمت ابتسامة خفيفة، وكأنها تحاول إخفاء ألمها، وقالت: "لكن دلوقتي أنا مش عارفة أعمل إيه. كل اللي كان في حياتي ضاع، مش قادرة أرجع زي ما كنت، ومش قادرة أكون زي ما الناس عايزيني".
كانت جليلة تضم ركبتيها إلى وجهها، تحاول إخفاء دموعها، بينما تلتصق أصابعها ببعضها البعض بشكل عصبي. ثم قالت بصوت مبحوح: "كل حاجة اتخربت يا سبيل... أنا مش عارفة أرجع تاني. كنت دايمًا عايشة في سجن... سجن أمي، سجن الظروف، سجن نفسيتي اللي اتشوهت".
ثم لامست جليلة وجهها بيدها، وكأنها تحاول مسح آثار الحزن عن ملامحها، لكنها كانت عاجزة. تابعت، "كنت فاكرة إن القوة هي الحل، بس ما كنتش عارفة إن القوة الحقيقية هي في إنك تكون عندك قلب، إنك تحس... تحب... مش بس تحارب كل اللي حواليك."
ثم نظرت إلى الأرض، متجمدة في مكانها، وكأنها في صراع داخلي بين الخوف من الماضي ورغبتها في التغيير.
قالت سبيل بفضول "مين شهيرة ؟"
❈-❈-❈
أغمضت جليلة عينيها للحظة قبل أن ترد بصوت منخفض، كأنها تتذكر شيئًا بعيدًا: "شهيرة كانت أختي الكبيرة... كنا سوا في كل حاجة، كنا مقربين، لكن... كل حاجة اتغيرت بعد ما ماتت."
ثم نظرت إلى سبيل بحزن وقالت: "شهيرة كانت زي النور في حياتي، بس بعد ما راحت... كل حاجة اتكسرت فيّ. حسيت إن الدنيا مش ليا من بعدها."
تنهدت جليلة بعمق وأكملت: "كنت شايفاها دايمًا هي اللي بتقويني، هي اللي بتعلمني الصح من الغلط. ومش قادرة أتقبل إنها راحت."
أومأت جليلة برأسها بحزن وقالت: "أيوة، كانت متمردة، ودايمًا بتتخانق مع ماما. كانت بتشوف الدنيا بشكل مختلف، مش زي ما ماما كانت عايزة. ماما كانت دايمًا تحاول تتحكم في كل حاجة في حياتنا، وتفرض علينا رأيها، لكن شهيرة كانت دايمًا ترفض وتواجهها بكل شجاعة كان قلبها أبيض و طيبة و كل الناس بتحبها ."
ثم توقفت للحظة، وكأنها تتذكر شيء، وأضافت: "ماما كانت بتعتبر إن شهيرة مش قوية، وإنها بتسبب لي مشاكل لأني كنت خاضعة ليها بكل كياني، لكن أنا كنت شايفة شهيرة زي الجبل زي الطير اللي بيطير لوحده من غير ما حد يقيده، مش قادرة أواجه الدنيا من غيرها كانت بسمتي و فرحتي و حضني و أماني هي اللي كنت بجري عليها في عز ضعفي هي اللي كنت بعيط قدامها من غير خوف و لا قلق كانت بتفرحني بتجيبلي كراسة رسم و تقولي ارسمي يا جليلة ، و احلمي و طيري في السما بحرية اوعي تخافي طول ما أنا موجودة هنا معاكي "
ثم تعالت شهقاتها " لكن هي سابتني مبقاش عندي حضن سكن أبكي فيه براحتي بقى عندي خوف و الأمان راح من بعدها و أمي كانت بالنسبالها شهيرة ضعيفة كانت دايما تقولها أنتي مش بنتي "
ردت جليلة بصوت حزين مليئ بإنكار الضعف الذي حاطها في تلك اللحظة : "أيوة، بالنسبة لي كانت شهيرة ضعيفة. ماما كانت دايمًا بتقول إن شهيرة مش قوية كفاية زينل، وإنها مش قادرة تتعامل مع الحياة زي ما أنا بعمل. بس أنا كنت دايمًا بحس إنها قوية برحمتها بالناس، كانت عندها حاجة مش موجودة عندي، زي ما كان عندها شجاعة مختلفة. ماما مش شايفاها زيي، وأنا مش عارفة ليه مصرة نكون معندناش رحمة قاسيين بشعيين."
جليلة (وهي تلتقط نفسًا عميقًا): "أنتي عارفة يا سبيل، شهيرة كانت دايمًا مختلفة. كانت دايمًا مش قادر تحكم على الناس زيي. حتى لما ماما قالت لها تشتغل في السجن، رفضت. كانت شايفة إن ده بيغير شخصيتنا، بيخليها تتخلى عن حاجات مهمة. لكن أنا... أنا كنت بسمع كلام ماما وأتقبل كل حاجة علشان كنت بخاف منها ماكنش القدرة أقول لأ."
سبيل (بفضول): "ايه اللي حصل بعد كده ؟"
جليلة وهي تبتسم بحزن: "شهيرة كانت دايمًا تقول لي، 'ماما مش دايمًا صح ،و الناس مش كلهم زي ما ماما بتقول.' لكنها كانت دايمًا في مشكلة مع ماما. كانت تكره إنها تكون تحت سيطرتها. وفي يوم، بسبب رفضها، ماما طردتها من البيت. وأنا... كنت شايفة إن ده الحل الوحيد عشان أكون قوية زي ما ماما كانت عايزة إني أشتغل في السجن و اثبت نفسي لحد ما أسمع إني زي حكمت أبو المعاطي."
سبيل متحيرة: "بس أنتِ كنتِ شايفة إن الشغل في السجن بيخليكِ أقوى؟"
جليلة بحزن عميق: "أيوه... بس قوة شكلية. ماما كانت بتخليني أكون قاسية مع الناس. كنت خايفة أرفض وتشوف نظرة الضعف في عيني."
جليلة بصوت ضعيف: "لكن في النهاية، كل اللي عملته ماما، حتى لو كانت عاوزة تخليني أقوى، خلاني أخسر نفسي. شهيرة كانت بتحاول تفتح عيني، تقول لي إن الحياة مش بس كده. بس أنا كنت خايفة أسمعها، خايفة أكون ضعيفة في نظر ماما. ومع الوقت... بعد ما مشيت شهيرة... حسيت إني بقيت لوحدي، وأنا مش عارفة أكون مين و لا أعمل ايه ."
سبيل بلطف: "ممكن يكون في أمل، يا جليلة. يعني لو عايزة تلاقي الطريق الصح، هتقدري تلاقيه."
جليلة بنبرة متسائلة: "إزاي؟ أنا ضيعت كل شيء، ضيعت نفسي... وضاعت شهيرة."
سبيل بهدوء: "أنتِ مش لوحدك يا جليلة. لما تحسّي إنك ضايعة، فيه دايمًا فرصة للتغيير. الحياة مش نهاية. إيه اللي حصل لشهيرة"
جليلة تبتلع دموعها: "في يوم كانوا بيتخانقوا... ماما ما كانتش هادية خالص... شهيرة كانت بتقاوم، كانت مش راضية تشتغل في السجن، كانت دايمًا بتحاول تعيش حياتها بطريقتها، وكانت بتواجه ماما بكل قوة. بس ماما... مش قادرة أوصفلك إزاي كانت عنيفة معاها. في النهاية، شهيرة ماتت قدام عيني، وأنا ما كنتش قادرة أعمل حاجة."
سبيل بحنان: "يا ربي.. . إزاي قدرتي تتحملي ده؟"
جليلة بصوت مرتجف: "ما كانش في مجال للتحمل، سبيل. عيشت في جحيم، بس لما ماتت شهيرة... حسيت إن الجزء الحي من قلبي اتكسر للأبد."
أكملت جليلة بصوت مكسور: "بعد ما ماتت شهيرة، أمي ما قدرتش تعيش بعدها... كانت متدمرة من جواها. أنا ما شفتش ماما تاني زي ما كنت أعرفها، كانت بتعيش في حالة انهيار... كانت بتعيط ليل ونهار، وكل لحظة بتمر كانت بتزود في الألم. وأنا كنت براقبها، ما كنتش قادرة أعمل حاجة، حتى مش قادرة أواسيها. كانت الحياة بالنسبة لها ضباب، وأنا كنت فيها مجرد شخص ضايع .
أمي ماتت من الحزن عليها، خلاص فقدت كل حاجة كانت شايفاها قيمة. وكأنها ماتت في داخلها قبل ما تموت جسديًا. ومن بعدها، أنا كمان، كنت ميتة معاهم. شعرت إني فقدت كل شيء، حتى نفسي... قلبي بقى خالي، وعقلي مش قادر يستوعب اللي حصل. كل شيء حولي كان بيتكسر، وأنا كل يوم كنت بعيش في كابوس ما فيهش مخرج."
❈-❈-❈
سبيل (بتساؤل): "ليه كنتي بتكرهيني؟"
جليلة (بغضب): "علشان كنتي عنيدة و قوية و بتقاومي أي ظلم زي شهيرة مش عايزة مصيرك يكون زيها"
جليلة بصوت مرتفع: "كنتِ دايمًا في وجهي، بتصمدي، مش زي كل الناس اللي حوليا كنتِ بتوريهم إن فيه حاجة تانية غير الخوف، وده كان بيخليني أكرهك أكتر كنتِ بترفضي العيشة اللي فرضوها علينا، وكنتِ دايمًا بتدافعي عن نفسك."
سبيل بصوت هادئ: "ما كنتش عايزة أعيش زيكم، ما كنتش عايزة أكون زيكم. كنت عايزة أكون أنا... بس انتِ كنتِ بتألم، وكنتِ مش قادرة تشوفي ده."
جليلة بصوت مكسور: "ما كانش في حد فاهمني... ولا حد شايفني. كنت لوحدي، حتى لما كنت مع شهيرة..كله شايفني قاسية و بعذب البنات رغم إني اتعلمت اكون كده "
سبيل بحزن: "إنت مش قاسية يا جليلة، إنت مش بس بتعذبي غيرك، ده إنتي كمان كنتي بتعذبي نفسك. كنتي بتدوري على القوة في مكان غلط من خلال ضعف الآخرين."
جليلة بتنهيد: "محدش عرف يحس بيا، ولا حد حاول يفهمني. أمي علمتني إن القوة هي اللي بتحميني، وكنت دايمًا خايفة من الضعف."
سبيل بصوت دافئ: "لكن القوة الحقيقية مش في العنف ولا في إنك تكوني وحيدة. القوة في إنك تواجهي نفسك، وتقدر تحبيها حتى لو تعبتي ."
❈-❈-❈
جليلة بدموع تكاد تكون مخفية: "كنت دايمًا بشوف الناس من بعيد، أقول لنفسي ما فيش حد هيحبني لو أنا ضعيفة. القوة كانت بتخليني أحس إني عندي سيطرة، وأني مش هكون ضحية زي ما كنت دايمًا شايفة الناس حواليا."
سبيل بتنهد: "لكن في النهاية، السيطرة دي ما بتجيبش سعادة. الناس اللي بتحبك مش هتحبك علشان تكوني قوية بشكل ظاهر، هم بيحبوا شخصك، بيحبوا اللي جوه. لو قدرت تكوني حقيقية مع نفسك، هتلاقي إنك مش لوحدك."
جليلة وهي تبكي بصمت: "وأنا كمان... عايزة أكون حقيقية، بس مش قادرة أتخلى عن الحواجز اللي بنيتها حواليا."
سبيل بصوت مطمئن: "مفيش حاجة مستحيلة، يا جليلة. كل حاجة بتبدأ بخطوة صغيرة، وممكن تبدأي دلوقتي."
جليلة بحزن: "بتساعديني ليه؟ وأنا كنت سبب في آذيتك. أنا اللي خليتك تعيشي في خوف، في ألم، ليه بتسامحيني؟"
سبيل بتنهد برفق: "جليلة، ما كنتيش سبب في كل ده. في ناس كتير ميتة من جوه زيك، بس مش الكل بيعرف يعبر عن نفسه. أنا شايفة إنك محتاجة لفرصة تانيه، زي أي حد فينا. أنا مش جايه علشان ألومك، أنا هنا علشان أساعدك لو إنتي جاهزة."
جليلة تسحب نفسًا عميقًا: "لكن أنا مش عارفة إذا كنت جاهزة أو لا. كل ما حاولت أكون أفضل، كنت بضيع تاني."
سبيل بحزم: "لازم تعرفي إنك مش لوحدك اللي فقد عزيز عليه. أنا فقدت بابا بطريقة بشعة، وأمي معرفش عايشة ولا ميتة، ورغم كده، أنا لسه عايشة. محاولتش أأذي حد، بالعكس، بدأت من أول وجديد. حتى لو في مكان ضلمة زي ده، لسه عندي أمل."
جليلة بصوت منخفض: "إزاي؟ إزاي قدرتي تحافظي على الأمل بعد كل ده؟"
سبيل بابتسامة حزينة: "الإيمان باللي جاي، يا جليلة. الحياة دايمًا بتقدم فرص تانية، ولو كانت صغيرة، لازم نتمسك بيها."
جليلة بصوت خافت، مليء بالندم: "مش هقدر، أنا طول عمري كده، اتربيت كده يا سبيل. اتعودت أشتم، أضرب، أكسر، أشرب سجاير وأعمل كل اللي أنا عايزاه. كنت فاكرة إن ده هو الصح."
سبيل بحزن: "لكن ده مش صح، يا جليلة. ده مش هيوصلك لحاجة غير الألم. الناس اللي بتعذب غيرها، بتعذب نفسها أكتر."
فكت جليلة قيد سبيل ببطء، وكأنها كانت تتردد في اتخاذ القرار، ثم قالت بصوت ضعيف: "مفيش حاجة في الدنيا تستحق إننا نفضل في الألم ده طول عمرنا. يمكن دلوقتي لسه متأخرة، لكن لازم أبدأ من جديد."
❈-❈-❈
أحتضنت سبيل جليلة برفق، وكأنها تحاول نقل بعض من قوتها إليها.
تمسكت جليلة بسبيل بشدة، وكأنها أخيرًا وجدت الشخص الذي يمكن أن يخفف عنها آلامها. بدأ البكاء يتساقط منها بحرارة، صوتها كان مليئًا بالهستيريا والألم، بينما كانت تقول: "أنا مش قادرة... مش قادرة أعيش كده... أنا ضيعت كل حاجة... ضيعت نفسي"
سقطت جليلة فجأة بين يدي سبيل، وبدأ جسدها يترنح، ثم فقدت الوعي تمامًا. كانت سبيل في حالة ذهول، لا تعرف ماذا تفعل، لكنها تماسكت بسرعة وأخذت جليلة بين يديها، محاولة أن تبقيها مستيقظة. "جليلة... جليلة" نادت بصوت مرتجف، لكن لم يكن هناك جواب.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا ممدوح، لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية