رواية جديدة على سبيل الألم لرانيا ممدوح - الفصل 18 - الخميس 23/1/2025
قراءة رواية على سبيل الألم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية على سبيل الألم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا ممدوح
الفصل الثامن عشر
تم النشر الخميس
23/1/2025
وجدت سبيل الفتاتيْن تبكيان بحرقة على ما حدث لوالدتهما. اقتربت منهما واحتضنتهما بحزن شديد، ثم توجهت إلى تلك المسكينة البائسة التي كانت ترقد على الأرض، تعاني من كدمات كبيرة وألم واضح يكسو ملامحها.
قالت سبيل بصوت حزين وهي تجلس بجانبها:
"ماما سلوى، أنتِ كويسة؟"
ردت سلوى بصوت متعب ومكسور:
"بخير يا بنتي... خلي بالك من البنات بس متشغليش بالك، أنا متعودة على كده من زمان."
نظرت سبيل إليها بعينين تملؤهما القهر وقالت بإصرار:
"حالتك صعبة أوي، ومحتاجة دكتور حالاً. أنا هنزل أجيب دكتور وأرجع."
قاطعتها سلوى بصوت متهدّج:
"مفيش فلوس يا سبيل... الراجل الضلالي الظالم واكلنا أول بأول. كل ما نجيب حاجة يضيعها، حتى الفلوس اللي كانت معايا سحبها مني، قوليلي هنجيب دكتور و ندفعله منين؟"
نظرت سبيل حولها، ثم عادت تنظر إلى والدتها بتحدٍ:
"لو مفيش فلوس، أنا هتصرف... مش هسيبك كده، انتي عملتي كتير علشاني، ومش هنسى ده أبداً."
وقفت سبيل بعزيمة واضحة وخرجت من الغرفة، والدموع تغلي في عينيها، لكنها عازمة على إيجاد حل مهما كلفها الأمر.
❈-❈-❈
نظرت سبيل إلى القلادة الذهبية التي تعتلي عنقها، تلك القلادة كانت أغلى ما تملك، آخر ذكرى تربطها بوالدتها التي لا تعلم عنها شيئًا منذ سنوات. حدقت بها طويلاً، وملامح الألم تعلو وجهها. كانت تعرف أن التخلي عنها يعني قطع آخر خيط من الذكريات، لكنها لم ترَ حلاً آخر.
همست لنفسها بحزن:
"مع الأسف... مفيش حل تاني. لازم أبيعها... يمكن بس كده ألاقي شغل وأريح ماما سلوى من اللي هي فيه، وأبعد عمّي عننا."
مدت يدها ببطء لتخلع القلادة، كأنها تودعها. احتضنتها للحظة قبل أن تضعها في كف يدها، تشعر بثقل القرار.
"سامحيني يا أمي... بس ما فيش خيار غير كده."
خرجت من الغرفة ودموعها تلمع في عينيها، لكنها أخفتها عن الجميع. كانت تعرف أن هذه الخطوة هي البداية، لكنها كانت مستعدة لتحمل أي شيء من أجل أن تُحدث فرقًا في حياتهم.
❈-❈-❈
خرجت سبيل من المنزل متوجهة إلى محل بيع الذهب، وقلبها يعتصر ألمًا لفقدان أغلى ما تملك. باعت القلادة وحصلت على المال، ثم سارعت بشراء ما تحتاجه العائلة. أحضرت طبيبًا لزوجة عمها، واشترت لها الدواء الذي كان باهظ الثمن. لم تنسَ شراء بعض الخضروات، الفاكهة، واللحوم، واحتفظت بالقليل من المال للطوارئ.
ما إن عادت إلى المنزل وهي تحمل تلك الأشياء، حتى وجدت عمها شوقي أمامها. كانت عيناه مليئتين بالجشع وهو ينظر إلى ما بين يديها.
قال بنبرة مليئة بالطمع:
"كل ده جبتيه امتى و ازاي ؟ أنا عارف إنك شاطرة زي أبوكي، وتعرفي تجيبي القرش كويس. يلا هاتي الفلوس اللي معاكِ لعمك "
نظرت إليه سبيل باستنكار وهي تحاول السيطرة على أعصابها:
"فلوس إيه؟ الفلوس خلصت على الأكل والدواء."
لكن شوقي لم يصدقها. اقترب منها بعنف، أمسكها من كلتا يديها وجعلهما خلف ظهرها بقوة. حاولت أن تتخلص منه وهي تصرخ:
"سيبني! بقولك سيبني!"
لكن دون جدوى. بدأ يفتش ملابسها دون خجل، وأخيرًا وجد المال القليل الذي احتفظت به في جيبها الخلفي. أمسك المال بفرحة عارمة ودفعها بعيدًا لتسقط أرضًا بقوة.
نظرت إليه سبيل بألم وذل، بينما هو يغادر المكان وكأن شيئًا لم يكن، يلوح بالمال بيده وكأنه انتصر. لم يلتفت إلى جسدها المرتعش على الأرض، ولا إلى صرخاتها المكبوتة التي تحولت إلى دموع صامتة.
حاولت سبيل النهوض بصعوبة، ثم بدأت تجمع الطعام والدواء الذي تناثر على الأرض. قلبها مثقل بالحزن والقهر، لكنها تماسكت من أجل زوجة عمها وبناتها الصغيرات. حملت الأغراض بصمت ودخلت إلى المنزل وهي تحاول كتم دموعها.
توجهت مباشرة إلى زوجة عمها التي كانت مستلقية على الفراش بإعياء واضح، وضعت الطعام والدواء بجانبها وقالت بصوت مرتجف:
"جبتلك الدواء يا ماما سلوى، وهعملك شوربة دلوقتي علشان تاكلي حاجة قبل ما تاخدي الدواء."
نظرت إليها سلوى بضعف وابتسامة شاحبة:
"الله يعينك يا بنتي... كان نفسي أشوفك مرتاحة لما تخرجي من السجن لكن ما باليد حيلة ،بس ربنا كبير و موجود."
تجاهلت سبيل كلماتها، وأسرعت إلى المطبخ لتحضير الطعام وهي تحاول إخفاء ألمها ودموعها عن الصغيرتين اللتين كانتا تراقبان المشهد بصمت وخوف.
بعد أن أنهت سبيل إعداد الطعام، حملت طبقًا من الشوربة الساخنة وتوجهت به إلى سلوى. جلست بجانبها على حافة السرير وقالت بلطف:
"يلا يا ماما سلوى، كلي شوية علشان تستردي قوتك."
تناولت سلوى الملعقة بيد مرتجفة، وأخذت رشفة صغيرة، ثم نظرت إلى سبيل بحنان وقالت:
"ربنا يخليكي يا بنتي، وجودك هنا هو اللي مخليني أتحمل."
ابتسمت سبيل ابتسامة باهتة وأجابت:
"متفكريش في أي حاجة دلوقتي، المهم صحتك."
بعد أن تأكدت سبيل من أن سلوى قد أكلت وشعرت ببعض التحسن، توجهت إلى الفتاتين، قدمت لهما الطعام، وجلس الثلاثة يتناولون وجبتهم بصمت ثقيل.
كانت سبيل تفكر طوال الوقت في الخطوة القادمة. المال الذي معها انتهى، وعمها لن يتركها بسلام طالما هي تحت سقف هذا المنزل. نظرت إلى الفتاتين وعينيها تمتلئان بالتصميم:
"مش هنفضل عايشين كده. لازم ألاقي شغل وأغير حياتنا كلها."
ردت إحدى الفتاتين بخوف:
"لكن بابا لو شاف الفلوس مش هيسيبك."
نظرت سبيل إليها بحزم وقالت:
"خليه يحاول. المرة دي مش هسكت."
سلوى بنبرة قريبة للبكاء:
"شكرًا يا سبيل، معرفش من غيرك كنت عملت إيه بجد."
سبيل بلطف ورقة:
"مفيش داعي للكلام ده، أنا لقيت شغل في سوبر ماركت، الحمدلله وافقوا يشغلوني عندهم."
سلوى بدهشة:
"معقول أنتِ هتسمعي كلام الراجل الضلالي ده؟ فكك منه."
سبيل بهدوء:
"هنصرف منين بس؟ وانتِ شايفة حالنا كده."
سلوى بحزم:
"أنا نازلة الشغل علشان أصرف عليكم، وربنا يعيني بجد."
سبيل بابتسامة خفيفة:
"معلش، أنا كمان هشتغل بدل قعدتي كده."
سلوى باستسلام:
" خلاص اللي تشوفيه."
سبيل بلطف:
"خلاص حضرتك نامي وارتاحي علشان الدواء تقيل شوية."
سلوى أغمضت عينيها بينما ابتعدت سبيل لتجعلها تستريح.
خرجت سبيل من الغرفة بعد أن أغلقت الأضواء، و ذهبت إلى غرفة الفتاتان الصغيرتان و قبلت جبهتهم بحنان و قامت بتغطيتهم جيدًا ، و كأنها تعتني بنفسها و هي صغيرة و تستعيد حنان والدها و والدتها ، لم تستطع منع دموعها التي تسقط على وجنتيها بحرقة و مرارة من أثر الاشتياق لهما كثيرًا شتان بين والدها و أخيه الجشع و المريض و المدمن الذي لا يعرف شيئا سوى أخذ المال .
❈-❈-❈
عملت سبيل في السوبر ماركت بجدٍ واجتهاد، كانت تبدأ يومها بالعمل الشاق والتركيز الشديد على أداء مهامها بدقة. وفي نهاية اليوم، كانت تتلقى مبلغًا بسيطًا من المال. وعلى الرغم من قلّته، إلا أنه كان يكفي بالكاد لجلب الطعام وتلبية الاحتياجات الأساسية.
سبيل كانت تشعر بالرضا النسبي لأنها أخيرًا تعتمد على نفسها وتساعد عائلة عمها، لكنها في الوقت ذاته لم تستطع تجاهل القلق الذي كان يسيطر عليها بسبب المستقبل المجهول وظروفها الصعبة.
❈-❈-❈
دخلت سبيل النادي الرياضي، المكان الذي كانت تشعر فيه دومًا بالقوة والحياة. كانت تشعر بكثير من الذكريات التي عادت إليها مع كل خطوة تخطوها. لا شيء تغير، إلا أنها كانت هي التي تغيرت، أصبحت أكثر صلابة وأكثر عزيمة بعد كل ما مر بها. لم يمر وقت طويل حتى رأت مدربها القديم، خالد، يقف على طرف الملعب يتحدث مع أحد اللاعبين. اقتربت منه بخطوات هادئة، تحمل في قلبها أملًا كبيرًا.
سبيل بابتسامة خفيفة لكنها مترددة:
-أستاذ خالد، ازيك؟ أنا رجعت وعاوزة أبدأ تاني.
نظر إليها خالد لثوانٍ قبل أن يخفف من ابتسامته، كان وجهه مشوشًا، وكأن هناك شيئًا ثقيلًا يضغط عليه. أجاب بصوت حزين، كأنه يعلم أنها ستسمع ما لا تود سماعه.
خالد بنبرة خافتة:
-أزيك يا سبيل... بس... يعني مش عارف أقولك إيه.
فوجئت سبيل برده، تحركت شفتاها لتبتسم من جديد، لكن ابتسامتها ذبلت بسرعة. شعرت أن هناك شيء ما خاطئ، شيء في نظرته لم يطمئن قلبها.
سبيل بتعجب واضح:
-مش عارف تقول إيه؟ أنا مستعدة أرجع وأدؤب زي الأول وأحسن، مش كده؟
خالد بابتسامة مترددة ووجهه مليء بالأسى:
-أنا عارف... بس... للأسف... رئيس النادي مش هيوافق إنك ترجعي.
سبيل بصدمة واضحة على وجهها:
-ليه؟ ده أنا كنت من أكتر الناس المميزة هنا! كنت دايمًا متفوقة!
خالد بتنهيدة ثقيلة، نظر إلى الأرض ثم رفع عينيه ليجد سبيل في عينيها حزنًا متزايدًا:
-أنا عارف يا سبيل... بس أنتِ عارفة السياسة الجديدة...
سبيل بنبرة يملأها الغضب والدهشة:
-السياسة الجديدة؟ يعني كل اللي عملته هنا ما يعنيش حاجة؟ علشان مجرد إنك كنت في السجن؟ هو ده السبب؟
خالد محاولًا تهدئتها وهو يحاول تجنب نظراتها الثاقبة:
-مش بإيدي، والله. حاولت معاكِ، بس القرار جاي من فوق... مش قادر أغيره.
وقفت سبيل لثوانٍ، تشعر وكأن قلبها قد انخلع من مكانه. شعرت بالغربة عن المكان الذي كان يومًا ما مصدر قوتها، عن الأشخاص الذين كانوا يدعمونها. كل هذه الذكريات التي كانت تملأها بالأمل الآن أصبحت كالخنجر في قلبها.
سبيل بصوت مليء بالحزن والخذلان:
-يعني علشان دخلت السجن، لازم كل شيء في حياتي يتدمر؟ كل التعب والسنين اللي قضيتها هنا مالهمش أي قيمة؟
خالد، وجهه شاحب وأعينه مليئة بالندم، يبتعد عن المواجهة:
-أنا آسف، والله... ده كان القرار من فوق...
سبيل بنبرة مشبعة بالمرارة، والدموع تكاد تنحدر من عينيها، تغالبها بحزم:
-الأسف مش هيغير حاجة يا كابتن... شكراً، لكن يبدو إن مافيش مكان لناس زيّنا هنا.
واختفت سبيل عن أنظار خالد، مغادرة النادي الذي كان يومًا ملاذًا لها، بينما كانت تشعر بنار تغلي داخل صدرها. لم يكن هناك مكان آخر تذهب إليه، لكن الأمل مازال ينبض في قلبها، ولو كان ضعيفًا، لكنها كانت مصممة على أن تقاتل وتثبت لنفسها وللعالم أنها تستحق أكثر من أن تكون مجرد ذكرى.
❈-❈-❈
وقفت سبيل أمام النادي، عيناها تمسحان المكان كأنها تبحث عن شيء ضاع منها، أو ربما عن شخص يذكرها بما كانت عليه قبل كل شيء. كان كل شيء حولها يبدو غريبًا، حتى الهواء نفسه، كأنها قد رحلت عن هذا المكان ولم تعد واحدة من هؤلاء الذين يعيشون فيه. كانت أقدامها تقف على الأرض، لكنها كانت تطير في مكان آخر بعيد، حيث الذكريات لا تزال تراودها، حيث كانت جزءًا من شيء أكبر، مكانًا يعيد إليها شعور الكمال.
خرجت من النادي بكل أسف ، لكنها وجدت صوتًا يأتي من خلفها .
-سبيل ..سبيل .. سبيل .
اقترب منها شخص و هو يركض
ثم سمعته ينادي، وبصوت خفيف هز قلبها من مكان بعيد:
- سبيل، أهلاً، حمد لله على السلامة! أنتِ رجعتي إمتى؟
استدارت بسرعة لتجد شابًا طويلًا، يتألق جسمه باللياقة، وعيناه مشعة بالدهشة وكأنها كانت تنتظرها منذ وقت طويل. كان يحمل بيده المضرب الرياضي، كأن الحياة تعود له على يدها. لكن سبيل لم تستطع تذكره، فقد غمرها شعور غريب من الحيرة. هل من الممكن أن يكون هناوشخص يتذكرها؟ هل هي حقًا جزء من الماضي الذي نسيته؟
سبيل، بتعجب، وعيناها تبحثان في ملامحه بحيرة:
معلش، إنت مين؟
نظر إليها الشاب، وكانت ملامح وجهه تعكس التوتر، ثم أضاءت عيناه بلمحة من الفرح، وكأنها لحظة انتظار طويلة قد أخيرًا حدثت:
- مش فاكراني؟ أنا ليث، زميلك في التمرين، كنت أنا الأول وأنتِ المركز الثاني على طول.
بينما كان يتحدث، كانت سبيل تراجع شريط الذكريات في ذهنها، لكنها لم تجد شيئًا. كانت تلك الحقبة من الزمن قد اختفت تمامًا، كما لو أن الذاكرة قد أخذت أجمل ما فيها. حاولت أن تتذكر، لكن كل شيء كان ضبابيًا. وجهه كان مألوفًا، لكنه لم يكن له مكان في ذاكرتها.
سبيل، محاولة أن تكون مهذبة، بصوت هادئ لكنه يحمل شعورًا عميقًا من الخيبة:
للأسف، أنا مش فاكرة... على العموم، شكرًا على سؤالك واستقبالك.
لكن ليث لم يتركها تبتعد، بل اقترب أكثر، وملامح وجهه تكتسي بالحزن العميق الذي حاول إخفاءه. تحدث بنبرة تحمل الكثير من الأسى، كأن قلبه يتفطر لما جرى لها.
- أنا زعلت لما سمعت الكابتن بيعتذر لكِ يا سبيل... كنت أتمنى أرجعك، لكن ما فيش فايدة أبدًا.
كان صوته مشبعًا بالأسف، وعينيه تجسدان مدى خيبة الأمل. وعيناه تتبعتها بتمعن وكأنهما تريدان أن تعود إليها الذكريات، لكنه كان يعلم أن كل شيء قد تغير.
أحسّت سبيل بحزن في قلبها، لكن الحزن لا يغير شيئًا. أجابت بصوت منخفض وكأنها تسرد قصة بعيدًا عن المكان الذي هي فيه الآن.
سبيل، برقة، وفي صوتها خفوت الحزن:
شكرًا على مشاعرك الرقيقة يا كابتن ليث... عن إذنك.
ثم ابتعدت، رغم أن قلبها كان يتوجع من الداخل. شعرت بعينيه تتابعها، وكلما ابتعدت خطوة، كانت تزداد ثقلاً في قلبه. لكنه بقي واقفًا، يراقبها وهي تغادر، مستغربًا كيف أن الحياة قد قلبت حالها رأسًا على عقب. همس في نفسه بصوت غير مسموع:
- سبحان مغير الأحوال بجد...
كان هذا مجرد ذكرى أخرى، تنمحي مع مرور الزمن، لكن ليث شعر أن هذه اللحظة، لحظة لقائهما من جديد، ستكون في ذاكرته طويلًا، لأنه عرف جيدًا أن سبيل لن تكون كما كانت، ولم يكن هو أيضًا كما كان.
كانت هناك سيارة سوداء تراقبهما طوال الوقت من بعيد خطوة خطوة .
❈-❈-❈
بعد أن عادت سبيل من عملها وجدت عمها ينتظرها و اخذ منها المال عنوة و غصب كالعادة حتى يذهب إلى الحانة؛ ليشرب خمرة و بعد المشروبات المذهبة للعقل من مال لم يعمل من أجل الحصول عليه أو التعب من أجل امتلاكه ، فقد وجد منفذ جديدًا للمال غير زوجته التي كانت تقف أمامه في كثير من الأوقات من أجل بناتها.
نامت في سريرها كقتيل بعد أن عادت من عملها المرهق للغاية .
في الزاوية المظلمة من الحانة المزدحمة، جلس شوقي مستمتعًا بوقته. كان يمسك بكأسه بيد مهتزة، يتنقل بينه وبين رشفات من مشروبه الكحولي، وكلما مر الوقت، كانت ملامح وجهه تزداد ضبابية أكثر. المال الذي جمعه من تعب ابنة أخيه كان ينساب بين أصابعه مثل ماء زائل، وكان يشعر بارتياح بالغ وهو يفكر في حالها الآن، وهي تكدح في عملها.
ثم، اقترب منه رجل في ملابس رسمية، يتنقل بخطى واثقة، ليجلس بجانبه. لم يكن شوقي في مزاج يسمح له بالتفاعل مع أحد، فنظر له بنظرة متعالية، جاعلًا نفسه في مكانة أعلى. وعيناه تراقب الرجل من الأعلى إلى الأسفل، وكأنه يرى فيه أحد من جامعي الديون الذين اعتادوا زيارته كل يوم.
شوقي، وهو يرفع كأسه إلى شفتيه بابتسامة باهتة:
-معييش فلوس، روح لسبيل خد منها الفلوس بتاعتك.
لكن الرجل لم يتحرك، بل ظل يحدق في شوقي بهدوء. ثم قام بتحريك سترته قليلًا، ليظهر سلاحه الذي كان يحمله في حزامه.
الرجل بصوت أجش وهادئ:
-ياريت نخرج بهدوء، ومش من مصلحتك أبدًا المقاومة.
شوقي، رغم احتقاره لهذا الموقف، قرر أن يتجاوب مع الرجل دون إحداث ضجة، فأخذ نفسه ومضى معه بصمت. توجه الرجل إلى سيارة سوداء فاخرة، حيث كان ينتظره رجل آخر ذو ملامح حادة، ومظهره يوحي بالثروة والسلطة. يرتدي ملابس رسمية، سوداء اللامعة، تعكس رقيًا وثراءً لا حد له. كانت الأضواء الساطعة تنعكس على الزجاج، مما جعل المكان يبدو أكثر هيبة.
الرجل الجالس، ينظر إليه بصمت ثم يتحدث بصوت بارد:
-يا ترى انت عارف قاعد معانا ليه؟
شوقي، وقد شعر بشيء من الارتباك، أجاب بسرعة:
-أكيد علشان الدين.
ثم تابع، وهو يضحك باستهزاء:
-أنا مش معايا فلوس أبدًا، مقشفر خالص.
لكن قبل أن يتمم جملته، شعر بصفعة قوية على وجهه، من الحارس الشخصي الذي كان يقف إلى جانب الرجل.
شوقي، وهو يعبر عن استيائه باندفاع:
-بتضربني ليه؟ بقولك مش معايا فلوس إنت ما بتفهمش؟
تلقى شوقي صفعة أخرى، أقوى من الأولى. شعر بالغضب يشتعل في صدره، لكن الرجل الذي أمامه أشار للحارس بالابتعاد، ليبقى هو وحده مع شوقي في تلك اللحظة.
شوقي، محاولًا الهدوء ليخرج نفسه من المأزق:
-قولي عايز إيه، خلصني، أنا مش فاضي.
أخرج الرجل بعض الأوراق من جيبه، وبدأ يلوح بها أمام شوقي.
الرجل، بنبرة لؤم:
-ده الدين الخاص بيك. أنا دفعته، وأخدت الورق من الديانة بمعرفتي. وطبعا لازم تسد لي الدين ده.
شوقي انفجر ضاحكًا، لكن الضحكة كانت مليئة بالاستهزاء، وكأن الموقف لا يعنيه:
-قلتلك معنديش فلوس.
الرجل، مبتسمًا بشكل خبيث:
-ومين قال إني عايز فلوس؟
شوقي، متعجبًا، وقد بدأ يشعر بأن الموقف مختلف:
أومال عايز إيه؟
الرجل، وهو يحدق فيه بجدية:
-سبيل.
شوقي اتسعت عينيه بدهشة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة سخرية.
شوقي، وهو يضحك بصوت عالي:
-أوبا، لأ فهم بقى! تقصد إيه؟
الرجل، بنبرة باردة:
-تسلم لي سبيل مقابل الدين ده.
شوقي، متفاجئًا، وهو يفكر في الأمر ببطء:
-متقول كده من الصبح! بس أنا شايف إن بنت أخويا تستحق أكتر من الدين ده، عايز ثلاثمائة ألف زيادة عليها.
الرجل، وهو يبتسم بلؤم:
-موافق. لكن بشرط تنسى إن ليك بنت أخ اسمها سبيل.
شوقي، وهو يضحك بطريقة خبيثة:
-خلاص، موافق بس هات حبايب قلبي دول الأول.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا ممدوح، لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية