-->

رواية جديدة على سبيل الألم لرانيا ممدوح - الفصل 9 - الأربعاء 5/1/2025

 

 قراءة رواية على سبيل الألم كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية على سبيل الألم 

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا ممدوح 

الفصل التاسع


تم النشر الأحد

5/1/2025


في تمام الثانية عشر مساء ، كان الظلام يلف الزنزانة الكبرى، وأصوات النساء تتردد كأنها أصداء أرواح محبوسة تبحث عن مخرج. لم تكن سبيل تعلم أن الليلة الأولى في هذا المكان ستكون أسوأ مما تخيلت. دخلت مع ثلاث سجينات جديدات إلى زنزانة مجهولة ، أعينهن متوجسة والخوف جلي في ملامحهن.


كانت السجينات القديمات ينتظرن، بعيون تلمع تحت الأضواء الخافتة. لم تكن هذه نظرات ترحيب، بل أشبه بذئاب تتربص بفريستها. فجأة، قُرع باب الزنزانة بعنف، ودخلت المشرفة، "جليلة"، بوجهها القاسي الذي يخفي وراءه سنوات من الظلم والعذاب.

❈-❈-❈

وقفت جليلة وسط الزنزانة وقالت بصوت غليظ: "كل سجينة جديدة تدخل هنا لازم تتعلم القانون. هنا إحنا عيلة واحدة ... بس عيلة ليها قوانينها، واللي ما تسمعش كلامنا مصيرها معروف."


بدأت السجينات بالتجمع حول الجدد، مكونين دائرة محكمة. كان هذا طقس "الاستقبال"، كما وصفته جليلة بإبتسامة ساخرة. واحدة من السجينات أمسكت بيد سبيل بقوة، دفعتها  وسط الدائرة، بينما الأخرى دفعت فتاة صغيرة بجانبها.


"إيه رأيك نبدأ بيهم؟" قالت جليلة وهي تنظر نحو سبيل، وكأنها تختبر قوتها. حاولت سبيل التراجع، لكن الأيدي كانت كثيرة، وسرعان ما بدأت الاحتفالية المرعبة.


أمرت جليلة إحدى السجينات بجلب الماء البارد وصبته على الفتيات الجدد. أصوات الضحك ارتفعت، بينما ارتجفت سبيل ورفيقاتها من الصدمة والبرد. لم يكن هذا كافيًا بالنسبة لجليلة؛ أمرت بإطفاء الأنوار، وأطلقت السجينات القديمات عليهن بحرًا من السخرية والعبث.


بين كل هذا، حاولت سبيل أن تتمالك نفسها. أدركت أن هذه البداية ليست سوى اختبار، اختبار عليها أن تتجاوزه كي تنجو.


في الزاوية، كانت هناك «هنا» تراقب بصمت، نظراتها مشفقة. همست لسبيل عندما مرت بجانبها: "لو وقعتِ الليلة، ماحدش هيحترمكِ هنا. قومي... وعيشي الدور و كافحي علشان تفوزي اوعي تبيني ضعفك أبدا."


حينها، ولأول مرة، اشتعلت في عيني سبيل نظرة تحدٍ. استقامت ورفعت رأسها وسط الضحكات القاسية، وحين اقتربت جليلة منها مرة أخرى، نظرت إليها بثبات، كأنها تخبرها: "مش هتكسر أبدا ."


وهكذا انتهت الحفلة، ولكن بالنسبة لسبيل، كانت تلك اللحظة بداية معركة طويلة للبقاء.

❈-❈-❈


"إيه الجديد دلوقتي .. ناويين يعملوا ايه تاني في الحفلة؟" همست إحدى الفتيات الجدد لسبيل، بينما كانت محاولات الخوف قد بدأت تظهر على وجوههن.


فجأة، ظهرت جليلة مرة أخرى، وهي تحمل حقيبة قديمة في يدها. نظرت إلى سبيل والرفيقات الجدد بابتسامة باردة، وقالت بصوت متعالي:


 "الليلة لسه ما خلصتش... دلوقتي هنرحب بيكم بطريقة تانية.. تليق بينا يا حلويات منك ليها.. هخليكم ترقصوا رقصة البجعة "


قالت سبيل بصوت شبه راجف " ايه رقصة البجعة دي ؟"



أمرت جليلة إحدى السجينات أن تفتح الحقيبة، وعندما فعلت، بدأت جليلة بتفريغ محتوياتها في الزنزانة. كانت فيها البيض الفاسد الذي له رائحة قذرة للغاية ، التي تساقط على الأرض وكأنها حمم فاسدة تتناثر في كل مكان.


"دي طريقة الترحيب الرسمية هنا" قالت جليلة بابتسامة ، بينما كان البيض يتناثر على أجسام السجينات الجدد. كان كل شيء يصبح أكثر سوءً؛ البيض الفاسد يغطي الجدران، والملابس، والشعر، بينما كانت السخرية تملأ المكان.


حاولت سبيل أن تتحرك، لكن قدميها كانتا تتزلقان على البيض المكسور. شعرت بالخجل، ولكن في نفس الوقت كان هناك شيء آخر يشعل قلبها: الغضب. لم تكن لتسمح لنفسها أن تصبح مجرد ضحية في هذه اللعبة القذرة... كانت الفتيات تتحركن مثل رقصة البجعة .


رقصة البجعة ترمز إلى اللحظة الأخيرة التي يقدم فيها المرء أفضل ما لديه قبل النهاية، مستوحاة من أسطورة غناء البجعة أعذب ألحانها قبل الموت. إنها تعبير عن الإبداع أو الجهد الأخير الباهر الذي يسبق السكون الأبدي.



❈-❈-❈

بينما كانت السجينات يضحكن، حاولت سبيل أن ترفع رأسها مرة أخرى، وتثبت نفسها. لم تكن لتسمح لهذه الحفلة المؤلمة بأن تكسرها. في قلبها، بدأت تتشكل عزيمة لم تكن تعلم أنها تمتلكها من قبل.


"هوا ده الترحيب بتاعكم؟" قالت سبيل أخيرًا بصوت منخفض ولكنه حازم. نظرت إليها جليلة بابتسامة شريرة، لكنها لم ترد.


ثم بدأت السجينات في العودة إلى أماكنهن، بينما تجمدت سبيل في مكانها، تمسكت بعزيمتها، وعرفت أن هذه المحنة ستكون بداية لتغيير كبير في حياتها.




بعد الترحيب الأول، استمرت جليلة في اختبار قوة سبيل ورفيقاتها. أمرت بإحضار صندوق يحتوي على عصي خشبية، ثم بدأت تضرب سبيل على قدميها. الألم كان قاسيًا، لكنها صمدت دون أن تُظهر ضعفًا.


ابتسمت جليلة بسخرية وقالت: "اللي بيعيش هنا لازم يتعلم."


 ثم أمرت بفرك الملح على جسد سبيل، مما جعل الألم لا يُحتمل.


وسط الضحك الساخر، همست هنا بصوت غير مسموع: "لو عايزة تبقي هنا، لازم تبيني قوتك."


 شعرت سبيل بالألم، لكن عزيمتها كانت أقوى، وقررت ألا تُكسر، بل ستظل تقاوم مهما كانت التحديات.

❈-❈-❈

استمر الاختبار بلا رحمة. السجينات القديمات كن يراقبن عن كثب، وكل حركة كانت بمثابة تقييم. جليلة كانت تتنقل بينهن، يديها مغلفتين بعصا خشبية، عيونها تلمع بشراسة، وتبتسم ابتسامة غير مألوفة.


"الضعفاء ما لهمش مكان هنا، يا سبيل" قالت جليلة بصوت منخفض، لكنها قاطعته قائلة بنبرة ساخرة: "وإذا كنتِ بتفكري في الهروب، انسِ الموضوع. إحنا هنا عيلة، بس عيلة مع قوانين قاسية. لو حاولتِ تعارضينا، هتعرفي إزاي هيكون الوضع ساعتها."


سبيل وقفت، قلبها ينبض بقوة، شعرت بحرقة في عينيها من الدموع التي كانت تحاول أن تمنعها من التساقط. تلك الضغوط كانت تفوق قوتها، لكنها كانت تعرف أن التراجع ليس خيارًا. حين التفتت إلى باقي السجينات، كان واضحًا أن تلك الفتاة التي تقف أمامهم كانت "الضحية" التالية في سلسلة من الاختبارات القاسية.


أحد السجينات، التي كانت تراقب عن كثب، ضحكت وقالت: "تعالي هنا، يا بنت. شوفِ لو كنتِ فعلاً قوية زي ما بتقولي."


سبيل حاولت أن تتمالك نفسها، شعرت بالبرودة الشديدة داخل الزنزانة وبالضحك المرير يملأ المكان. كانت تلك السجينة تقترب منها بثقة. لكن، في داخل سبيل، كان هناك شيءٌ يشتعل. لم تكن على استعداد لتكون مجرد ضحية.


عندما اقتربت السجينة منها، هزت رأسها وقالت بحزم: "أنا مش هكون زي الباقي. مش هخضع ليكم أبدا أنا مش ضعيفة ."


ضحكت السجينة الأخرى بشدة، ثم قالت: "هتلاقي نفسك في مكان مش قادره تخرجي منه بسبب عنادك ده. كل واحدة فينا مرّت بنفس اللي بتقولي عليه، بس في النهاية، الكل بيشبع من الذل اللي بيقع فيه ، خلي بالك لسانك هيسببلك مشاكل كتير ماتخلنيش أضطر اقطعهولك."


تقدمت جليلة إلى الأمام وقالت بنبرة حادة: "إحنا مش جايين هنا علشان نتسلى و بس . اللي مش قادر على البقاء، لازم يطلع برة و يقعد في زنزانة قذرة بيعيش فيها الحيوانات." كانت تتحدث وكأنها تملك المكان كله، والنساء في الزنزانة مجرد قطع شطرنج في يدها.


سبيل، على الرغم من الألم الذي كانت تشعر به، أجابت بثبات: "مستحيل أطلع برة. مهما عملتي فيا مش هتنازل عن كرامتي ليكم."

❈-❈-❈

ارتفعت الضحكات حولها، لكن جليلة كانت لا تزال تراقبها بعيون حادة. "إنتِ فاكرة إنك هتقدري تقفي قصادي يا ما غيرك حاولوا بس فشلوا ؟ الفشل هنا مش بس في خسارتك ده في  جسدك، ده في روحك. ده في كل حاجة فيكي."


لكن سبيل، وبالرغم من الكلمات القاسية، شعر قلبها يشتعل بالعزيمة. "أنا هنا علشان أبقى بكرامة محفوظة . أنا مش هكون زي باقي السجينات."


حين سمعت هذا، كان الجو في الزنزانة مشحونًا بالانفعالات، والضغوط مازالت تطاردها، لكن سبيل كانت تعرف شيئًا واحدا أن كرامتها تستحق الدفاع عنها .


أمسكت جليلة العصى و بقية من يساندنها و أخذن يضربنها بقسوة منتظرين منها أن تستسلم و تمتنع عن الحديث و أن تتوسل لهم ، لكنها فقدت الوعي .


عندما سقطت سبيل على الأرض فاقدة الوعي، ساد الصمت فجأة في الزنزانة. الجميع توقف عن الحركة، والأنفاس صارت متسارعة، كل السجينات بدأن يتبادلن النظرات، وكأنهن أدركن أنه تم تخطي الحدود التي لا يجب تجاوزها. جليلة كانت تقف وسطهن، وعينها تتنقل بين سبيل التي ساقتها الأحداث إلى السقوط وبين باقي السجينات اللاتي بدأن يظهر عليهن الارتباك.


"إحنا عملنا إيه؟" همست إحدى السجينات، وقد بدا القلق واضحاً في صوتها.


"إحنا لازم نوقف، مش كده؟" قالت أخرى، بصوت خافت مليء بالخوف. "إحنا هنتحاسب لو ماتت."


لكن جليلة، التي كانت واقفة في مكانها بلا حراك، ردت ببرود: "إنتوا مش قد المسؤولية. لو هنرحم كل واحدة هنا، يبقى ده مش  سجن، يبقى ده ملاهي ."


إحدى السجينات، وهي غير قادرة على رفع عينيها من على سبيل، قالت بصوت ضعيف: "إحنا ماكنش المفروض نوصل لده، كانت مجرد لعبة."


لكن جليلة ردت بحدة: "إنتوا ضعفاء، لو كانت هتموت، يبقى ده كان اختيارها. ده مكان مافيش فيه رحمة."


بدأت بعض السجينات يبتعدن قليلاً عن سبيل التي كانت ملقاة على الأرض، وبدأت الهمسات تدور بينهن.


"إحنا مش المفروض نوصل لكده، مش لازم نقتل حد عشان نتأكد إنه ضعيف و أنه يستسلم لنا ." قالت واحدة بصوت هادئ، فغمزت لها جليلة، وكأنها لم تكترث لما قالته.

❈-❈-❈

"لو كانت هتموت، يبقى ده كان اختيارها. ده اختبار للي هنا، مين يقدر يصمد ومين مش قادر.. و اللي مش قادر لازم يكون ذليل لنا لحد ما يخرج " قالت جليلة، وقد بدت قسوتها تزداد.


سادت لحظة من الصمت الثقيل بعد كلامها، وبدأت السجينات ينظرن إلى سبيل بنظرات متنوعة. البعض شعر بالندم، بينما البعض الآخر استمر في التفكير بأن هذا كان جزءً من اللعبة القاسية التي تحكم هذا المكان.


وفي تلك اللحظة، بدأ جسد سبيل يتحرك قليلاً، والجميع تجمد في مكانه، يراقبون بحذر. بعد قليل، فتحت سبيل عينيها ببطء، ونظرت حولها وكأنها استوعبت تماماً حقيقة ما حدث.


بعد أن فتحت سبيل عينيها، كانت أنفاسها متقطعة وجسدها يعاني من الألم. نظرت حولها، وجدت السجينات جميعهن يراقبونها في صمت، وخصوصاً جليلة التي كانت تقف أمامها بثبات. رفعت سبيل رأسها بصعوبة، وحاولت أن تقف، لكن الألم كان أقوى من أن تتحمله.


"إيه ده؟" همست بصوت ضعيف، لكنه مليئ بالاصرار وكأنها تحاول أن تستجمع قواها. "إيه اللي حصل خلصت قوتكم يبقى انتم اللي خسرتم مش أنا؟"


جليلة اقتربت منها بخطوات هادئة، ثم قالت بصوت قاسي: " لو كنا كملنا ماكنتيش وقفتي على رجلك تاني و كان زمانك في القبر ..ده كان اختبار، يا أختي. أنتي هنا علشان تنكسري وتنهاري، إنتي هنا علشان تتعلمي إن ليكي أسياد محتاجة رضاهم."


سبيل حاولت أن تستقيم على ركبتيها، رغم الألم الذي يعصر جسدها. "أنا مش هخاف منكوا... مهما حصل.. و أنا ماليش أسياد .. و كبيري هو ربنا و بس و هو اللي برضيه ،  غير كده لأ"


ضحكت جليلة ضحكة ساخرة، وقالت: "أنتِ فاكرة إنك هتستحملي؟ لو كنتِ قوية، ما كنتيش وقعتي من أول ضربة."


لكن سبيل لم ترد، نظرت إلى باقي السجينات، وشعرت بنظراتهن المختلفة. البعض كان يشفق عليها، بينما البعض الآخر لم تكن تتمنى لو كانت مكانها.


"إنتي هتفضلي تعاني هنا لو ما تعلمتيش... لو مافيش غير ده اللي عندك، هتفضلي تحت رجلينا طول الوقت." قالت واحدة من السجينات.


لكن سبيل لم ترد. شعرت بتعبٍ شديد، لكنها أيضاً شعرت بشيء آخر بدا يشتعل في داخلها. شعورٌ بالرفض لما يحدث، وللحياة التي كانت تفرض عليها بالقوة. قررت أن تبقى صامدة، مهما كلفها الأمر.

❈-❈-❈

جليلة اقتربت منها مرة أخرى وقالت بلهجة أكثر قسوة: "إنتي مش هتعيشي هنا لو مش قدرتي  تتحملي. لو كنتِ عايزة تكملي، حاولي تريحي نفسك... لأن ده كان أول اختبار.. اختبار على ولائك"


وفي تلك اللحظة، أدركت سبيل أن هذا السجن ليس مكاناً للجميع. لكنه كان المكان الذي قد يجعلها إما تنهار أو تصبح أقوى مما كانت عليه.


وهي تتنفس بصعوبة، تعهدت في نفسها بأنها ستظل تقاوم.

❈-❈-❈

دخلت مشرفة طيبة تُدعى نهى، التي كانت في إجازة بسبب زفاف ابنتها. حينما عادت إلى عملها، كانت قد غابت لفترة عن السجن، وكان الغياب بمثابة فرصة للراحة بعد أيام شاقة.

دخلت المشرفة نهى إلى الزنزانة، وهي تحمل في عينيها نظرة هادئة، ولكن حينما رأت المشهد أمامها، جمدت في مكانها. كانت تلك الصدمة في وجهها واضحة، وعينيها تلاحق كل تفصيل في المكان، ثم انتقلت نظراتها إلى السجينات اللواتي كن يقفن في دائرة حول سبيل، وبعضهن يضحكن على مصيبتها.


نهى كانت امرأة في الأربعينات من عمرها، ذات ملامح طيبة وهادئة.


"إيه اللي بتعملوه ده؟!" قالت نهى بصوت مرتفع، محاولًة كبح غضبها، ولكن لا شك أن الصدمة كانت قد تسللت إلى قلبها.


نظر إليها الجميع للحظة، وصمتت جليلة، ثم قالت بنبرة غامضة: "إنتي مش هنا علشان تحكمي علينا. ده نظامنا... لازم الجديد يتعلم الأدب."


نهى تقدمت بخطوات سريعة نحو جليلة، وقالت بصوت قاطع: "إنتي عارفة كويس إيه القوانين هنا، لكن ده مش قانون السجن، ده تهور مفيش حد هنا هيتعرض للأذى زي كده و هسكت يا جليلة، ولا هيتعامل معاملة وحشية.. و أنا موجودة."


كانت الأجواء ثقيلة، بينما كانت سبيل مستلقية على الأرض، تحاول أن تلتقط أنفاسها بصعوبة، وعينيها مغمضتين.


"إزاي تسيبوا واحدة تتعذب بالطريقة دي؟!" تابعت نهى بحزم، وهى تطلب من السجينات التراجع. "أنا مش هسمح بده تاني، كل واحدة هتتعاقب على تصرفاتها."

❈-❈-❈

بدأت السجينات يتنقلن في صمت، يشعرن بالحيرة من تدخل نهى، فهذه المرة كانت مختلفة عن المرات السابقة. نظرت جليلة إلى الأرض، وكان واضحًا أنها لم تتوقع هذا النوع من الرد.


"مش هكرر ده تاني، لكن لازم نتعلم من غلطنا ... إنتي فاهمة؟" قالت جليلة أخيرًا، و هي تنظر لسبيل وكأنها تعترف ضمنًا بتجاوز الحد.


نهى اقتربت من سبيل، ووضعت يدها على كتفها بحذر، وقالت بصوت دافئ: "إنتي هتكوني بخير. أنا هنا علشان أحميكم. مفيش حد هنا هيقدر يتعرضلكم يا بنات سامحوني ماكنش لازم اطول غيبتي كده لكن طول ما أنا موجودة محدش هيقدر يقربلكم."


سبيل رفعت رأسها ببطء، وعينيها كانت مليئة بالتعب، لكن في أعماقها كانت هناك جذوة من الأمل. شعرت أن نهى قد تكون طوق النجاة الوحيد في هذا الجحيم الذي أصبحت جزءًا منه.


ركضت نهى نحو سبيل بسرعة، وكان قلبها مليئًا بالقلق والألم لما حدث لتلك الفتاة. بمجرد أن وصلت إليها، انحنت وأمسكت بها بلطف، ثم احتضنتها برفق شديد، محاولة أن تمنحها بعض الأمان وسط هذا الجو العنيف.


"معلش يا حبيبتي، مفيش حاجة هتأذيكي تاني، أنا هنا معاكِ" قالت نهى بصوت حنون، وكأنها تحاول أن تمحو كل الألم الذي تشعر به سبيل. كانت كلماتها تهدف إلى تهدئة الفتاة، ولو لحظيًا، من الواقع المرير الذي كانت تعيشه.


سبيل كانت متعبة جدًا، عينها نصف مغمضة وكأنها غير قادرة على تحمل المزيد. لكن بين ذراعي نهى، شعرت بشيء مختلف، شعرت أن هناك من يهتم بها، من يراها أكثر من مجرد رقم في السجن. كان هذا العناق بالنسبة لها كالملجأ المؤقت من العنف والقسوة.


"أنا مش هسيبك يا بنتي، مهما كان." أضافت نهى بحنان، وهي تمسح على رأسها برفق.


سبيل نظرت إلى نهى، وكان هناك شيء في عينيها بدأ يلمع، ربما كان الأمل أو ربما كانت تلك اللحظة هي لحظة الفجر في ظلام حياتها. "شكراً ليكي... شكراً إنك جيتي في الوقت المناسب" همست بصوت ضعيف، لكنها كانت صادقة.


نهى ابتسمت لها بحنان، وقالت: "إنتِ مش لوحدك هنا، دلوقتي في ناس هتحميكِ."


❈-❈-❈

بعد أن تم الحكم على سبيل بالسجن، وثبوت التهمة عليها، تم إسقاط كل حقوقها من الميراث. فقد كان القانون يقضي بأن القاتل لا يرث، وبذلك فقدت سبيل كل شيء. أصبح شقيق والدها، شوقي، هو الذي ورث كل ممتلكات القتيل عبدالله الوكيل. تحولت ممتلكات والدها إلى يديه، ليبدأ في السيطرة على ما كان له.




شوقي بثقة: "كده كل حاجة بقت بتاعتي و ملكي و كمان  أقدر أقعد في بيت أخويا براحتي بدل القرافة اللي ساكن فيها."


الضابط: "لا، البيت ملك سبيل. والدها كان كاتبه باسمها من ساعة ما اشتراه. مش هتقدر تملك البيت ده."


شوقي بغضب: "يعني إيه؟ دا الميراث كله حقي."


الضابط: "الميراث زي ما هو، لكن البيت مش هتقدر تاخده. دي وثائق رسمية ومكتوبة باسمها."


شوقي مكملًا بغضب: "يعني كده مش هقدر حتى أريح دماغي في بيت أخويا؟!"


الضابط: "للأسف، ده الوضع. بيت والدها مش ليك، والورث زي ما قالوا."


شوقي بقلق: "طيب، مفيش حاجة أقدر أعملها أنا عايز البيت ده بالذات ياما كان نفسي  أقعد  في العز ده ؟"


الضابط: "اللي حصل حصل، والقرارات القانونية مش هتتغير. خلي بالك من كل خطوة، وإلا هتلاقي نفسك في مشاكل أكتر مع القانون."


شوقي: "يعني مفيش حل؟! "


الضابط: "لا، تقدر تقعد فيه عادي. بس مفيش حاجة تقدر تعملها قانونيًا فيه. هو مش ملكك، ملك سبيل."



بعدما ترك شوقي الضابط وتأكد من قراره، عاد إلى منزله المتواضع و تحدث مع زوجته بلامبالاة


شوقي: "يلا هاتي فرح وجنة خلينا نمشي."


سلوى: "هنروح فين؟ في حاجة حصلت؟"


شوقي: "أخلصي مش كل حاجة رغي رغي."


لكن فجأة شوقي نظر إلى سلوى بابتسامة مليئة بالطموح والطمع، وقال بصوت هادئ:


"خلاص، أيام الفقر راحت، دلوقتي هنتدلع يا سلوى. هنعرف نعيش أحسن، هنتعشى عسل بدل المر اللي بنطفحه طول عمرنا."


سلوى نظرت إليه بعينيها الممتلئتين بالشك، ثم قالت: "إزاي يعني؟ "


شوقي، وهو يحاول أن يطمئنها، أجاب: "هتشوفي"


يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا ممدوح، لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة