رواية جديدة على سبيل الألم لرانيا ممدوح - الفصل 19 - الجمعة 24/1/2025
قراءة رواية على سبيل الألم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية على سبيل الألم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا ممدوح
الفصل التاسع عشر
تم النشر الجمعة
24/1/2025
الرجل بصرامة " هتقدر تنفذ ؟"
شوقي، بابتسامة خبيثة مليئة بالطمع:
"يا باشا أنا أصلا بكرهها، مش طايقها ولا حابب وجودها في وسطنا، القاتلة دي! بس قلت أي حاجة تجيب فلوس وخلاص."
نظر له الرجل بنظرة صارمة وقاسية، تعكس ازدراءه الواضح لشوقي وطمعه:
"بس بس، خلاص هتقعد ترغي لحد السنة الجاية؟ ورينا فين بيتك ده؟"
قاد شوقي الرجل إلى الحي الذي يسكن فيه سبيل.
الرجل، وهو يلتفت إلى شوقي ببرود:
"اسمع، علشان البت دي ترضى تروح معانا بدون مشاكل ودوشة، لازم تكون القصة تكون واضحة."
شوقي، متحمسًا للتعاون:
"قول يا باشا، هنعمل إيه؟"
الرجل، بنبرة حازمة:
"ادخل، خليها تحس إنك جاي تطمن عليها أو تقول إنك جبت لها شغل جديد. بس بلاش غباء، ما تعملش حاجة تخليها تشك أو تهرب مننا ."
شوقي، محاولًا أن يبدو ذكيًا:
"بسيطة! خليها عليّ، دي هتيجي ورايا زي الكلب من غير ما تقول كلمة."
الرجل، محذرًا بحدة:
"خلي بالك! لو حصل أي غلط، هتدفع الثمن غالي جدًا."
أومأ شوقي برأسه بتوتر، ثم فتح الباب ودخل المنزل.
إلتفت شوقي ثم قال بصوت يحمل نبرة خبث وضيق:
"إسمع، علشان البت دي ترضى تروح معاكم بدون مشاكل ودوشة، اطلب منها عقد البيت مقابل الدين. وأكيد هي مش هترضى تضحي بالبيت علشان مراتي وبناتي، وهتروح معاك بهدوء. اسمع مني، دي بنت أخويا وأنا عارفها قلبها طيب و حنين."
وافق الرجل بإيماءة صامتة، ثم أشار لحراسه بالاستعداد.
دخل شوقي المنزل وصعد إلى الطابق العلوي بخطوات ثقيلة. وقف أمام باب غرفة سبيل وبدأ يطرق الباب بعنف متعمد، صوته يعلو بحدة لا تحتمل:
"قومي ياختي، اخلصي! افتحي الباب بدل ما أكسره عليكِ"
فتحت سبيل الباب بتوتر واضح ووجه شاحب من القلق. نظرت إلى شوقي بحذر وسألته بنبرة متوترة:
"في إيه؟ عامل دوشة ليه؟ مش خلاص أخدت الفلوس بتاعتي، عايز إيه تاني؟"
نظر إليها شوقي بنظرة ماكرة وقال بحدة:
"عقد البيت يا روح أمك اخلصي طلّعيه حالًا."
ارتبكت سبيل للحظة، ثم ردت بنبرة حازمة ومشحونة بالغضب:
"عقد إيه؟! معيش عقودات، وبعدين ده بيتي ومالوش علاقة بأي حاجة تخصك"
لكن قبل أن تُكمل حديثها، اقتحم الغرفة فجأة رجال الرجل الثري. دخلوا بنظرات حادة ومهيبة، مما جعل سبيل تتراجع للخلف بصدمة.
"إيه ده؟! مين دول؟! عايزين إيه؟!" سألت وهي تنظر إليهم بخوف وتوتر، بينما كانت تتراجع بخطوات مترددة إلى الوراء.
ابتسم شوقي ابتسامة خبيثة وابتعد عن الباب ليفسح المجال لهم، وقال بنبرة متهكمة:
"دلوقتي هتعرفي بنفسك يا ست سبيل."
فتحت سبيل عينيها بصدمة عندما رأت الرجال الغرباء يقتحمون غرفتها. تراجعت خطوة إلى الخلف وهي تشير إليهم بيد مرتجفة و كررت سؤالها:
"مين دول؟!"
لكنها لم تحصل على إجابة. اقترب منها اثنان منهم وأمسكا بها بقوة، رغم مقاومتها وصراخها:
"سيبوني! إنتو عايزين إيه؟!"
❈-❈-❈
تم سحبها بعنف إلى حديقة المنزل حيث وقف الرجل الثري في انتظارها. كانت عيونه الداكنة تخترقها بنظرة متفحصة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، دون أن يرف له جفن. شعرت سبيل بأن الأرض تميد تحت قدميها، لكنها تماسكت، تحدّق فيه بحدة، وقالت بصوت متقطع من القلق:
"انت مين؟! عايز مني إيه؟!"
رفع الرجل حاجبيه ببرود، وقال بنبرة هادئة لكنها تحمل تهديدًا خفيًا:
"عمك عليه خمس ملايين للدين، والبيت ده هو الشيء الوحيد اللي هيغطي الدين. عايزين عقد البيت، أو تيجي معانا."
تسارعت أنفاسها وهي تحدق فيه بعدم تصديق، وأجابته بعصبية:
"أجي معاكم فين؟ انت مجنون؟!"
ضحك الرجل بخفة وأشار بيده بإيماءة صغيرة:
"خلاص، هاتي عقد البيت ونمشي ونفضها سيرة."
ترددت سبيل للحظة، ثم رفعت صوتها بحزم:
"معييش عقد البيت! أنا لسه خارجة من السجن ومعرفش عنه حاجة."
لم تُكمل حديثها حتى قطع شوقي الصمت بصوت ساخر:
"أنا عارف هو فين، في الشراب اللي لبساه."
التفتت سبيل نحوه بصدمة وعينين تتقدان غضبًا:
"كداب! أنا معرفش هو فين!"
لكن أحد الرجال الضخام اقترب منها بقسوة ودفعها لتجلس على الأرض، ثم نزع جواربها بعنف بينما هي تصرخ وتحاول دفعه. أخرج الرجل أخيرًا عقد البيت من الجورب ورفعه في الهواء بابتسامة انتصار.
❈-❈-❈
تسمرت سبيل في مكانها وهي تنظر إلى العقد وكأنها ترى حياة أسرتها تنهار أمام عينيها. تذكرت الفتاتين اللتين كانتا تبكيان بحرقة في غرفتهما، وتذكرت وجه زوجة عمها المريضة، التي بالكاد تستطيع الوقوف. دمعت عيناها وهي تهمس بصوت مخنوق:
"هيعملوا إيه دلوقتي؟ هيروحوا فين؟"
رفعت رأسها أخيرًا، ونظرت إلى الرجل الثري الذي بدأ يدير ظهره كمن انتهى من مهمته. صرخت بصوت متألم:
"استنى!"
توقف الرجل في مكانه دون أن يلتفت، لكنها تابعت بصوت مليء بالألم والخضوع:
"سيب العقد لمرات عمي سلوى... وأنا هروح معاكم."
تجمد الجميع في مكانهم للحظة، ثم استدار الرجل ببطء، وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه، نظرة انتصار واضحة في عينيه. قال بنبرة هادئة مليئة بالرضا:
"ماشي... كويس."
انخفضت رأس سبيل، دموعها تنساب على خديها، وهي تشعر أنها على وشك الدخول في نفق مظلم لا تعرف نهايته، لكنها لم تملك خيارًا آخر سوى التضحية.
ركب الرجل السيارة وجلس بجانبها، بينما كانت سبيل تنكمش في مقعدها، ترتعش وترتجف من البرد، ودموعها تنهمر بلا توقف. كانت تضع يديها حول نفسها في محاولة يائسة للاحتماء من كل ما أصابها؛ البرد، الخوف، والإذلال. لم تكن تبكي فقط لما حدث منذ قليل، بل لمصيرها المجهول مع هذا الرجل الغريب الذي لا تعرف عنه شيئًا، حتى اسمه.
التفت الرجل نحوها، وألقى عليها نظرة مزيجها اللطف والغموض. بصوت هادئ، كسره دفء خفي، قال وهو يلف حول كتفيها غطاءً ثقيلاً يبدو عليه أنه باهظ الثمن:
"شكلك بردانة."
بقيت سبيل صامتة، لكن نظراتها الحذرة لم تفارق وجهه، وكأنها تحاول قراءة نواياه من خلال عينيه. أخرج من جيب سترته منديلاً باللون الرمادي، ملمسه ناعم وكأنه مصنوع خصيصًا لأمثاله من الأثرياء. كان المنديل قطعة ثمينة، تمزج بين القطن والكتان بحرفية دقيقة.
مدّ يده نحوها بالمنديل، وقال بصوت مطمئن:
"امسحي دموعك دي، مفيش داعي للبكاء."
ترددت لثوانٍ قبل أن تأخذ المنديل من يده، دون أن تنبس بكلمة واحدة. فتحته ببطء، لتلاحظ اسمًا مطرزًا بخيوط ذهبية على إحدى زواياه: "شاهر". تجمدت عيناها على الاسم، في محاولة لفهم ما إذا كان هذا اسم الرجل نفسه، أم اسم شخص آخر ينتمي لعالمه.
لكن صوت الرجل قاطع أفكارها بهدوء وثقة:
"ده اسمي... أنا اسمي شاهر، يا سبيل. وماتقلقيش، أنا مش هنا علشان أذيكِ. أنا هنا علشان أساعدك."
نظرت إليه بعينين حائرتين، وكأنها تحاول أن تستوعب كلماته وتقرر ما إذا كانت ستصدقه أم لا. لكن كلماته الأخيرة غرست فيها شعورًا متناقضًا بين الخوف الذي لم يغادرها، وبارقة أمل صغيرة لا تملك سوى التعلق بها.
❈-❈-❈
فتح شاهر حقيبة جلدية صغيرة بجانبه وأخرج منها عدة أوراق ووضعها على المقعد بينه وبين سبيل. نظر إليها بنظرة جادة، ولكنها لم تخلو من الهدوء والتفهم، ثم قال بصوت هادئ لكن واثق:
"ده ورق قبولك في النادي اللي كنتِ روحتيه أقصد في النادي الرياضي اللي كنتِ بتتدربي فيه... ورفضوكِ بعد كده. وده كمان ورق التعليم... علشان لو حبيتي تكملي مذاكرة بسيطة وتقدري تقدمي في أي جامعة أو تخصص نفسك فيه."
نظرت سبيل إلى الأوراق، فاضطرابها وحيرتها كانا واضحين في عينيها. لم تعرف ما إذا كان عليها أن تثق بهذا الرجل أو أن تسأل عن نواياه الحقيقية. شاهر ابتسم ابتسامة صغيرة وكأنه يقرأ أفكارها، وقال بلطف:
"أنا عارف إنك بتفكري ليه أنا بعمل كل ده... بس مش هقدر أجاوبك دلوقتي. في الوقت المناسب هشرحلك كل حاجة."
قبل أن ترد سبيل بأي كلمة، فتح شاهر يده ورفع أمامها شيئًا أضاء عينيها برهة... سلسلة ذهبية كانت تعرفها جيدًا. كان هذا السلسال هو آخر ما تبقى لها من والدتها، قطعة ثمينة لا تُقدر بثمن في عينيها، تحمل ذكريات عمرها كله. ابتسم شاهر وهو يمسك بالسلسلة برفق:
"دي السلسلة بتاعتك... أنا اشتريته بعد ما بعتيه على طول."
امتلأت عينا سبيل بالدموع، ولكنها هذه المرة لم تكن دموع حزن، بل دموع سعادة خالصة. لم تصدق أنها ستراه مجددًا، تلك القطعة الصغيرة التي كانت الدليل الوحيد على وجود والدتها، والتي لطالما شعرت أنها تربطها بها رغم غيابها.
مدت يدها المرتجفة لتأخذ السلسلة، ونظرت إلى شاهر بابتسامة امتنان ممزوجة بدهشة شديدة. قالت بصوت متقطع، وكأن الكلمات تخونها:
"مش مصدقة... السلسلة دي... ده الشئ الوحيد اللي كان بيثبت إن أمي كانت موجودة، لما أنكر الكل وجودها."
لم يقل شاهر شيئًا، بل اكتفى بالنظر إليها بتعاطف عميق، وكأن صمته يحمل وعدًا خفيًا بمستقبل مختلف. كانت هذه اللحظة نقطة تحول صغيرة، وربما بداية لخيط من الثقة بدأ يتشكل بينهما.
❈-❈-❈
وقفت السيارة أمام قصر شامخ، بدا كأنه قطعة من أحلام سبيل المستحيلة. فُتحت البوابة الحديدية الضخمة ببطء، وكأنها ترحب بقدومها إلى عالم لم تتخيل يوماً أنها ستدخله. تحركت السيارة بخفة إلى الداخل، وكانت عينا سبيل تتحركان في كل اتجاه، تلتهمان المشهد الذي بدا كأنه لوحة خيالية: مساحات شاسعة من الخضرة تُزينها أشجار باسقة، وحمام سباحة يتلألأ ماؤه تحت أشعة الشمس، وأرضيات رخامية تتناغم مع الحدائق المنسقة بعناية.
توقف السائق أمام الباب الأمامي للقصر، وفتحت سبيل باب السيارة بخطوات مترددة. وضعت قدميها على الأرض وهي تشعر بثقل لا تدري مصدره، ربما خوفها من المجهول، أو ربما دهشتها مما تراه. رفعت عينيها لتجد شاهر يتقدم بخطوات واثقة إلى الداخل، ثم توقف ونظر إليها وهو يشير بيده:
"يلا ندخل... مستنية إيه؟"
ابتلعت سبيل غصتها وابتسمت بارتباك، ثم خطت خلفه إلى داخل القصر. بدا الداخل أكثر فخامة مما تصورت؛ غرفة المعيشة وحدها بدت وكأنها تحتضن أربعة منازل مثل منزلها القديم. الأرضيات اللامعة تعكس الأضواء الناعمة، والتحف الفنية والأثاث الفاخر كانت أشبه بقطع من عالم آخر. ظلت سبيل تتأمل المشهد في ذهول، بينما عقلها يردد بإلحاح:
"هل أنا سأمكث هنا؟ هل هذا حقيقي؟ هذا المكان يبدو وكأنه من عالم الأحلام."
لم يمنحها شاهر وقتاً للتفكير، إذ انطلقت خادمة مسرعة نحوهما، وجهها بشوش وابتسامتها عريضة.
"تعالي يا هانم، أوريكِ أوضتك وأعرفك على المكان."
تبعتها سبيل بخطوات حذرة ولكن مفعمة بالدهشة. كانت تلتفت يميناً ويساراً، تنظر إلى الأروقة المزخرفة والدرج الحلزوني الذي بدا كأنه يأخذها إلى السماء. صعدت إلى الأعلى مع الخادمة حتى وصلتا إلى غرفة واسعة تُشع بالهدوء.
فتحت الخادمة الباب وأشارت بيدها:
"دي أوضتك يا هانم. الدولاب مليان لبس، وفي حمام خاص بيكِ. لو محتاجة حاجة قوليلي."
هزّت سبيل رأسها وهي تشكرها بصوت خافت:
"لأ، شكراً."
غادرت الخادمة، وتركت سبيل تقف وسط الغرفة تتأملها بدهشة. كل زاوية كانت تنطق بالجمال والرفاهية؛ الألوان الهادئة، الأثاث العصري، والإضاءة الدافئة التي تضفي على المكان شعوراً بالراحة. تقدمت بخطوات بطيئة نحو خزانة الملابس وفتحتها لتجدها ممتلئة بملابس عديدة، اختيرت بعناية فائقة تناسب مقاسها تماماً. كان الأمر أشبه بمعجزة.
سحبت من الخزانة منامة حريرية باللون الزهري ومنشفة ناعمة، ثم اتجهت إلى الحمام الخاص بها. المكان بدا وكأنه منتجع صحي؛ كل شيء فيه يشع بالنظافة والرقي. فتحت المياه الساخنة ووقفت تحتها، تسمح لدفئها أن يزيل عنها تعب اليوم، ولعلها تمحو ذكريات ما حدث قبل ساعات قليلة.
بينما كانت تغسل وجهها بالماء، أخذت تفكر في كل ما مرت به اليوم. صحيح أن السعادة غمرت قلبها لرؤية هذا النعيم غير المتوقع، إلا أن عقلها لم يتوقف عن التساؤل:
"لماذا يساعدني هذا الرجل؟ ما المقابل الذي يريده؟"
لكنها قررت، ولو للحظة، أن تترك كل هذه الأسئلة جانباً. أرادت أن تعيش هذه اللحظة، وأن تستمتع ببعض الراحة التي افتقدتها لسنوات.
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي، استيقظت سبيل على صوت طرق خفيف على باب غرفتها. فتحت عينيها ببطء، كانت تشعر بنعاس شديد، فقد حصلت على أول نوم هادئ وعميق منذ سنوات طويلة.
توجهت نحو الباب وهي تتمطى بخفة، وفتحت لتجد الخادمة تقف بابتسامة لطيفة:
"صباح الخير يا هانم، البيه مستني تحت وعايز يفطر معاكي."
سبيل، وهي تحاول إخفاء خجلها من هذا الاهتمام:
"تمام، هجهز وهاجي وراكي على طول."
أغلقت الباب برفق وبدأت في تجهيز نفسها. فتحت خزانة الملابس، واختارت فستانًا باللون الأحمر الهادئ. كان بسيطًا لكنه لائق للغاية، وكأنه صُمم خصيصًا ليبرز أناقتها الطبيعية. نظرت إلى المرآة للحظة، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة:
"مش مصدقة إن دي أنا... هو ده حلم ولا حقيقة؟"
بخطوات مترددة، نزلت إلى الأسفل. لم تكن قد اعتادت بعد على أجواء هذا المكان ولا على فخامته. عندما وصلت إلى أسفل الدرج، سمعت صوت شاهر يناديها بحماس:
"تعالي يا سبيل، الفطار ناقصك"
كانت نبرته مليئة بالدفء، لكنها أيضًا زرعت بداخلها شعورًا بالارتباك. تقدمت نحو طاولة الطعام التي كانت تمتد أمامها كأنها مأدبة ملكية. أنواع الطعام كانت أكثر مما يمكن أن تتخيل: أطباق متنوعة من الجبن، البيض المعد بطرق مختلفة، لحوم مصنعة، زيتون طازج، وخبز أسمر صحي مرتب بعناية.
توقفت سبيل للحظة وهي تتأمل الطاولة، قبل أن ترفع عينيها وتنظر إلى شاهر الذي كان يجلس مبتسمًا:
"بتبصي على إيه؟ اقعدي وكلي براحتك... البيت بيتك."
شعرت سبيل بشيء من الخجل لكنها جلست بهدوء، وقالت بصوت منخفض:
"بصراحة، أنا مش عارفة أقولك إيه. كل حاجة هنا أكتر من اللي كنت أتمناه."
شاهر، وهو يملأ كوبًا من العصير ويضعه أمامها:
"مفيش داعي للكلام ده، يا سبيل. أنا وعدتك إنك هنا هتعيشي حياة تليق بيكي، ومش عايز أشوفك محرجة."
ابتسمت سبيل بخجل وهي تتناول قطعة صغيرة من الجبن:
"شكراً، بجد، على كل حاجة بتعملها لي."
شاهر، بنبرة أكثر جدية:
"مفيش شكر بينا يا سبيل... اللي بينا أكبر من كده."
رفعت سبيل عينيها إليه فور سماع تلك الكلمات. كانت نظرتها تحمل مزيجًا من الدهشة والحيرة:
"أكبر من كده؟ تقصد إيه يا شاهر بيه؟"
ابتسم شاهر، لكنه لم يرد فورًا. أخذ رشفة من فنجان القهوة أمامه، ثم نظر إليها قائلاً:
"هتفهمي قريب، بس مش عايز أستعجل وأقولك كل حاجة مرة واحدة."
سبيل، وقد ازداد فضولها:
"طب ليه مش دلوقتي؟ يعني، أنا طول الوقت بسأل نفسي... ليه بتساعدني؟ ليه بتعمل معايا كل ده؟"
تنهد شاهر، وكأن كلامها أصابه بشيء من الحرج، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه:
"خلينا نقول إن ليكي معزة خاصة... وحاجة كده بقالها سنين، يمكن ما تعرفيهاش دلوقتي، لكن مع الوقت كل حاجة هتظهر."
شعرت سبيل بالارتباك أكثر. الكلمات كانت غامضة لكنها تحمل في طياتها شيئًا أكبر مما تتخيل. حاولت أن تغير الموضوع قليلًا، فقالت وهي تشير إلى الطاولة:
"الأكل هنا شكله فعلاً رائع، مش فاكرة آخر مرة أكلت فيها حاجة شبه كده."
ضحك شاهر بخفة:
"طيب يلا، كلي بقى ."
بدأت سبيل في تناول الطعام، لكنها لم تستطع تجاهل الأفكار التي كانت تدور في رأسها. ماذا يعني شاهر بكلامه؟ ولماذا يراوغ دائمًا ولا يريد أن يوضح سبب اهتمامه بها؟
❈-❈-❈
بعدما أنهيا الإفطار، وضع شاهر فنجانه على الطاولة ونظر إليها قائلاً:
"بالمناسبة، بعد ما تخلصي فطار، هتلاقي عربية مستنياكِ بره. السواق هيكون معاكِ علشان يوصلك للنادي. لازم تبدأي تتدربي كويس."
نظرت إليه سبيل بامتنان، لكنها لم تستطع أن تخفي قلقها:
"أنا متشكرة جداً على كل ده، بجد، بس برضو مش قادرة أوقف دماغي عن التفكير... ليه بتعمل كل ده عشاني؟"
شاهر، وهو ينظر إليها بابتسامة دافئة:
"هقولك حاجة، يا سبيل. أنا مش من النوع اللي بيعمل حاجة وخلاص. لما أقرر أساعد حد، يبقى عندي سبب وجيه، بس هطلب منك حاجة واحدة."
سبيل، وهي تنظر إليه بترقب:
"إيه هي؟"
شاهر:
"ثقي فيا. أنا مش هأذيكِ. بالعكس، اللي جاي كله هيكون لصالحك."
رغم كلماته المطمئنة، شعرت سبيل أن هناك سرًا أكبر يخفيه عنها. لكن في هذه اللحظة، قررت أن تصمت وتترك الأمور تسير كما يشاء القدر.
بعدما انتهيا من الفطور، وقف شاهر ونظر إلى سبيل بإصرار وهدوء:
"دلوقتي لازم تجهزي نفسك كويس وتبقي مستعدة للي جاي. النادي اللي هتروحيه مش مجرد مكان تدريب عادي، ده مكان بترتاحي فيه ."
وقفت سبيل ببطء، ما زالت الكلمات تدور في رأسها. لم تستطع أن تخفي قلقها، لكنها لم تجد سوى أن تهز رأسها بالموافقة. خرجت معه إلى الخارج، حيث كانت السيارة الفاخرة تنتظرها أمام المدخل.
"السواق هيكون معاكي طول الوقت. أي حاجة تحتاجيها، اطلبيها منه. ولو في أي مشكلة، كلميني على طول." قال شاهر وهو يشير إلى السائق، ثم أضاف:
"وأتمنى تشوفي أمنياتك و اعتبري ده بداية جديدة ليكي."
ابتسمت سبيل بخجل وأومأت برأسها:
"هحاول. شكراً، يا شاهر بيه."
وقبل أن تركب السيارة، اقترب شاهر بخطوات بطيئة، ونظر إليها بعينين مليئتين بالثقة:
"على فكرة، مش لازم تقولي لي شكراً كل شوية. اللي بعمله ده مش محتاج شكر. و كمان اسمي شاهر بس"
أحست سبيل بالارتباك من نبرته الحازمة، لكنها اكتفت بالصمت. ركبت السيارة، وراقبت شاهر وهو يقف عند المدخل، يراقبها بنظرة غامضة.
داخل السيارة، جلست سبيل بهدوء وهي تتأمل المشاهد التي تمر من النافذة. كانت تحاول أن تستوعب ما يحدث في حياتها، الانتقال المفاجئ من الفقر والمآسي إلى هذه الحياة الفاخرة والمليئة بالفرص.
"كل ده ليه؟" تساءلت في نفسها وهي تضغط يدها على حقيبتها الصغيرة.
❈-❈-❈
وصلت السيارة إلى النادي، وكان المكان فخمًا أكثر مما تخيلت. الحديقة الواسعة، المباني الأنيقة، والمرافق الحديثة... كل شيء كان يلمع بجمال ورفاهية. السائق فتح لها الباب بابتسامة، ونزلت من السيارة بخطوات مترددة.
"اتفضلي يا هانم، لو عايزة حاجة أنا مستني هنا." قال السائق باحترام.
دخلت سبيل إلى الاستقبال، حيث استقبلتها موظفة بابتسامة عريضة:
"أهلاً وسهلاً، أنتي سبيل، صح؟ شاهر بيه بلغنا عنك."
هزت سبيل رأسها بالموافقة وهي تشعر بشيء من التوتر.
"تعالي معايا، هنوريكي المكان ونعرفك على المدربين."
كانت الجولة في النادي سريعة، لكنها تركت انطباعًا قويًا لدى سبيل. شعرت وكأنها دخلت عالمًا مختلفًا تمامًا عن الذي كانت تعيش فيه. المدربات بدأن في التعريف بأنفسهن، وبدأت سبيل تشعر بشيء من الراحة..لقد تغير كل شئ تقريبا .
كان هناك مدرب خاص لها فقط يدربها في مكان للأثرياء فقط لم تكن تعرف انه يوجد مثل هذا المكان داخل النادي .
بعد ساعات من التدريب الأول، كانت سبيل متعبة لكنها ممتلئة بالطاقة. شعرت أن جسدها يتحرك بطريقة لم تعهدها من قبل، وكأنها بدأت تستعيد شيئًا كانت تفتقده.
عندما عادت إلى المنزل، كان شاهر ينتظرها في غرفة المعيشة، يجلس بهدوء ويقرأ شيئًا في جهازه اللوحي. رفع عينيه فور دخولها وقال بابتسامة خفيفة:
"ها؟ كان أول يوم في النادي عامل ايه؟"
"كان مختلف، ومتعب، لكن... عجبني." ردت سبيل وهي تضع حقيبتها جانبًا.
"كويس. دي البداية. كل يوم هتحسي بتحسن أكتر." قال شاهر وهو يشير لها بالجلوس.
جلست سبيل، ثم ترددت للحظة قبل أن تسأل:
"شاهر بيه... ممكن أسألك سؤال؟"
"أكيد."
"إيه هدفك من كل ده؟ يعني أنا مش قادرة أفهم لحد دلوقتي ليه بتعمل معايا كل ده؟"
❈-❈-❈
ابتسم شاهر، لكنه هذه المرة لم يكن غامضًا تمامًا كما اعتادت:
"أحيانًا يا سبيل، في حاجات بنعملها علشان نصلح أخطاء الماضي. وفي أوقات تانية، بنعملها علشان ندي فرصة جديدة لحد تاني، يمكن يكون يستحق أكتر."
"بس أنا مش شايفة نفسي مستحقة لكل ده." قالت سبيل بصوت منخفض.
"أنتِ تستحقي أكتر مما تتخيلي." رد شاهر بثقة، ثم أضاف بابتسامة دافئة: "لكن مش هقدر أقولك كل حاجة دلوقتي. زي ما قلتلك قبل كده... الوقت المناسب هيجي."
نظرت إليه سبيل في صمت، كلماتها علقت في حلقها. شعرت بشيء من الأمان، لكنها لم تستطع أن توقف الشكوك التي تدور في ذهنها. من هو شاهر حقًا؟ ولماذا يبدو أنه يعرف عنها أكثر مما تعرف هي عن نفسها؟
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا ممدوح، لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية