رواية جديدة فراشة في سكٌ العقرب لناهد خالد الفصل 10 - الإثنين 20/1/2025
قراءة رواية فراشة في سكٌ العقرب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية فراشة في سكٌ العقرب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة ناهد خالد
الفصل العاشر
تم النشر يوم الإثنين
20/1/2025
قطعت هي الصمت وقالت بجمود:
- مازن اللي عاوزني اقطع علاقتي بيه أنا معرفوش اصلاً, عمري ما جمعتني بيه علاقة, لا بحبه ولا بيحبني, هو عمل كل ده عشان يوقعك انتَ, كان عارف انك هتجبني هنا, او هتحاول تقربلي, والمفروض اني وقتها اكسبك في صفي... لو سألتني ليه هقولك معرفش, بس اللي اعرفه انه كان هيستفيد بيا بعدين.
أخرجت ما في جعبتها وزفرت أنفاسها وقد انتهت دون أن تهتم برؤية معالمه وأثر حديثها وهي تردد في داخلها
"كسبت نفسي
نجوت بنفسي
وليحترق الجميع
لن أخسر طاقتي لأجل أحد
لن أضحي لأجل أحد فلا أحد يستحق
ولا شيء يستحق
أنا أولاً ثم... لاشيء بعدي.."
اقتضاب بسيط ظهر بين حاجبيهِ كان هذا رد فعله على ما سمعه منها الآن, وسألها مرددًا:
- أنتِ قولتِ ايه؟
أكدت على حديثها بإعادته وهي تقول بتعب جعل نبرتها خافتة بعض الشيء:
- زي ما سمعت, أنا مفيش علاقة تربطني بمازن, كل الحكاية منفعة متبادلة.
ضيق عينيهِ الحادتين وهو ينظر لها كالثعلب الذي ينظر لفريسته ويقيمها قبل الانقضاض عليها:
- منفعة متبادلة!
ذم شفتيهِ يكمل بتساؤل باهتمام زائف ظهر فبدى مستفزاً لها:
- ويا ترى هي ايه؟
زفرت أنفاسها على مهل وهي ترتب أفكارها قبل أن تنطق موضحة توصل له ما يريد سماعه:
- انا عندي شقة ورثي من امي, عليها مشاكل كتير بيني وبين اهل امي, وطبعًا بما إني بنت فهم لهم يورثوا معايا ونصيبهم مش قليل ابدًا, وبيضغطوا عليا عشان اتنازل عنها لهم مقابل انهم يراضوني بالفلوس, وانا الفكرة مش في الفلوس ابدًا, الفكرة انها أخر حاجة من ماما, قابلت مازن صدفة وعرفت انه ضابط اتعرفنا على بعض في النادي اللي بنروحه انا وهو, وبعد كام يوم كنت بحكيله عن القضية اللي رافعينها عليا عشان يتمكنوا من حقهم الشرعي في الشقة, وده لو حصل, مش هيخلوني اقعد فيها لحظة من اللي ممكن يعملوه فيا, ووقتها قالي انه عندي الحل وممكن يساعدني وهو عارف ازاي يضغط عليهم عشان هم اللي يطلبوا حقهم فلوس ويسيبولي الشقة..
وصمتت تلتقط أنفاسها وتترقب ردود أفعاله, فوجدتها لا شيء! هو يستمع وكأنه يشاهد فيلمًا في التلفاز, والفيلم.. ممل, ولا يلاقي اهتمامه!
وهذا ما جعلها تتساءل ألا يصدقها؟ ولكن على كل حال يجب أن تكمل اعترافها, ربما يغير رأيه ما إن تكمل باقي القصة.
- طبعًا طلبت مساعدته, فوقتها قالي مصلحة قصاد مصلحة, مفهمتش مصلحة ايه ممكن يحتاجها مني, بس فهمت لما حكالي ان في شخص مجرم عاوز يوقعه بس مش معاه أي أدلة تدينه, وقالي ان الأدلة دي ممكن يحصل عليها لو قدر يزرع حد جوه بيته, حد يكون قريب له ويكون عينه لحد ما تيجي الفرصة المناسبة وياخد اللي هو عاوزه من خلال الشخص ده, سألته وانا ممكن اعمل ده ازاي, مفهمتش غير انه قالي اننا هنمثل ان في علاقة بيني وبينه, وان في راجل من رجالتك بيراقبه وهيوصلك ده, ووقتها انت هتتدخل وهتوصلي, حاولت افهم منه ليه انتَ ممكن تتدخل لما تعرف انه مرتبط ببنت لا وتقرب من البنت دي كمان بس مقاليش حاجه تانية, الحقيقة هو صورلي الموضوع اسهل من كده بكتير...
وابتسمت ساخرة تداري مرارتها:
- صورلي ان المهمة كلها ممكن تخلص في أسبوعين, وإني بمجرد دخولي بيتك في خلال كام يوم هقدر أوصل للي هو عاوزه واخرج منها زي الشعرة من العجين.. هو صحيح مكدبش عليا وقالي إنك شخص مش سهل, بس كمان مقاليش إنك بتأذي الشخص من غير ذنب! هو حذرني من أذيتك لو كشفتني وعرفت إني جاسوسة عليك, بس مقاليش إنك هتأذيني من غير ما اعملك حاجة ومن أول ما تخادني عندك! أنا مكنش عندي مشكلة لسببين, أولاً انتَ شخص مجرم وباللي كنت هعمله مش هأذيك بالعكس انتَ كده هتاخد جزائك وهخلص الناس من أذيتك, والسبب التاني إني في نفس الوقت هستفيد, لكن لما يتعلق الموضوع بحياتي... المعادلة هتختلف.
نقر بأصابعه القوية فوق مكتبه بنقرات ثابتة أثارت اضطرابها وهي تنظر أمامها متجنبه النظر له, لتسمع صوته بعدما نهض من فوق كرسيه وأشعل لفافته منفخًا دخانها من أنفه ثم قال وهو يقف أمامها بطوله الفارع فلم يدرك نظرها على مستواه غير بطنه من جلستها هذه:
- وأنا المفروض اصدق اللي قولتيه ده؟
رفعت رأسها تنظر له باندهاش من رد فعله, وسألته مستنكرة:
- وليه متصدقش؟ معقول هكدب في حاجة زي دي؟
رفع شفته العليا محركًا رأسه برتابة بينما يجيبها:
- وليه لأ! مش يمكن فكرتي وخطرت على بالك القصة دي عشان تنجيكِ.
التوى فمها بابتسامة هازئة وهي تقول بجدية:
- كل ده عشان مابعدش عن مازن! يعني اعترف على نفسي إني كنت ناوية أأذيك, ومزقوقة عليك, وانا عارفه ان ده ممكن يخليك تاخد موقف عدائي ضدي, وهألف كل الفيلم ده عشان ماقطعش علاقتي بمازن!؟ على فكرة كلامك ده فيه إهانة لذكائي, لأني لو بكدب مانا لما هخرج هستمر على علاقتي بيه, طب ما بدل اللفة دي كلها كنت قولتلك سمعًا وطاعة وخرجت عملت اللي انا عوزاه!
سندَ بجانبه على حافة المكتب الخشبي ليميل جسده يسارًا وهو يسألها باستفهام:
- وليه تحكيلي الحقيقة! فرضًا طبعًا إن دي الحقيقة! ليه تحكيها مادام ملكيش علاقة بيه, كنتِ قولتيلي هقطع علاقتي بيه وخرجتِ من هنا نفذتِ, والموضوع أسهل مادام مفيش علاقة بينكوا أصلاً, ليه تحكيلي كل ده وتحطي نفسك في خطر إني ممكن أأذيكِ لإنك فكرتِ واتفقتِ معاه على أذيتي.
صمتت لثواني تفكر, تفكر في حديثه فلن تستطيع إخباره بأنها إن خرجت وابتعدت عن "مازن" لن يبتعد هو عنها! والفعل المتوقع منه أنه سيسجنها كما هددها لأنها لم تنفذ المهمة, لن تستطيع إخباره بهذا لأنها إن فعلت ستكون قد كشفت نفسها تمامًا له, التمعت إجابة منطقيه في رأسها لتجيبه بثبات:
- عشان انا لسه محتاجه حد يساعدني في حوار الشقة, ومادام هخسر دعم مازن, يبقى ممكن اكسب دعمك.
رفع حاجبه الأيسر وهو يميل برأسه يمينًا متفاجئ من إجابتها, فيبدو أن التي أمامه امرأة لا تهتم سوى لمصالحها الشخصية حتى في أسوء الظروف:
- وأنا ايه يخليني أقبل! مفيش منفعة متبادلة بينا!
ابتسمت ما إن وصلها مغزى حديثه, لتلتمع عيناها بمكر تعرفه علمه لها الشارع والاختلاط مع ناس يجري الشر والتلاعب في دمائهم:
- منفعتك إن اللعبة تتقلب لصالحك, يعني بدل ما أكون جاسوسة لمازن عمران, أكون جاسوسة عليه... تعرف تحركاته من خلالي, وكل اللي يوصله عنك يكون بس اللي انتَ عاوز توصلهوله.. عرض مغري مش كده!
حسنًا يعترف أنها أيضًا تجيد التلاعب, اعتدل في وقفته وأصدر صوتًا ضاحكًا بسخرية من حنجرته وهو يعقب بينما يعود بخطواته لكرسيه:
- شكلك شاطرة في اللعب, والأكيد إنك مش أول مرة تلعبي.
تنهدت وهي تقول متهكمة:
- مستغرب ليه! الحياة نفسها لعبة كبيرة, وأنا وقت طويل قضيته لوحدي سواء هنا أو في لندن, وقابلت كتير, وابقى غبية لو بعد كل ده ماتعلمتش اتعامل بذكاء.
- مش كنتِ بتقولي إني مجرم وإني باللي هتعمليه هاخد جزائي! نسيتِ كل ده وعاوزه تتحالفي معايا!؟
_ الحقيقة يا أستاذ شاهين الغبي هو اللي يلعب على حياته، أو يدخل في معركة خسرانة، واقصد بالخسارة هنا إن المكسب ميستاهلش التضحية اللي ممكن تقدمها في المعركة، يعني تفتكر أنتَ مكسبي في الحرب اللي بينك وبين مازن بيه لو حبيت اكون طرف فيها مجزي؟ مكانتش شقة دي اللي تخسرني حياتي، ومهما كانت غالية عندي فحياتي وكرامتي
أغلى بكتير أوي، وحياتي وكرامتي مش محفوظين مع مازن، وده اكتشفته لما جيت هنا.
استرخى بجلسته وعاد بظهره مستندًا لكرسيه وهو يقول بملل:
- ماشي, هعمل نفسي مصدقك إلى أن يثبت العكس, بس خدي بالك عيني هتكون عليكِ.
ابتهج وجهها فجأة وسعدت ملامحها وهي تسأله بفرحة داخلية للتخلص من هذا المكان المريب وسم العقرب الذي يجلس أمامها والذي لم ترى منه إلا القليل:
- يعني همشي؟
قطب ما بين حاجبيهِ بضيق وهو يعقب:
- شكلي هغير رأيي فيكِ, فين ذكائك! تمشي ازاي يعني؟ ده هيخلي مازن يشك فيكِ, مهو مش طبيعي اخطفك واسيبك بالسهولة دي, وبعدين لما تمشي هاخد منفعتي ازاي؟
فهمت ما يرمي إليه بحديثه, فقالت عابسة الوجه:
- ايوه مانا لو قعدت بردو مش هنستفيد حاجه, مازن كان سايبلي تليفون صغير اتواصل معاه بيه لو في خطر, والتليفون ده مش معايا دلوقتي هتواصل معاه ازاي!؟
أطفأ لفافته أخيرًا بعد أن امتلأت الغرفة برائحة الدخان الذي تكرهه لكن وهل ستعبر عن هذا! واستند على مكتبه بذراعيهِ وهو يقول لها:
- ماتشليش هم التواصل, أنا هعرف ازاي اخليكِ تتواصلي معاه, المهم ان ضيافتك هنا مستمرة لحد مانا كمان أخد اللي انا عاوزه, ووقتها هشوفلك حوار شقتك وهمشيكِ.
ارتعبت وشحب وجهها وهي تستمع لحديثه, هل ستبقى هنا مجبرة؟ هل فشل مخططها ولم تنجِ بما أخبرته بهِ كما توقعت؟ وعن أي ضيافة يتحدث؟ هل يقصد تلك الضيافة التي كادت تصيبها بالهلع والجنون وهي تمكث في تلك الغرفة التي تطبق جدرانها عليها وأصوات الصراخ لا تنقطع بها!؟
- لا, ضيافة ايه أنا...
رفع كفه يوقفها عن الحديث وابتسم بتلاعب وهو يخبرها:
- متقلقيش مش ضيافة زي اللي فاتت, المرادي ضيافة شاهين المنشاوي على حق.
نظرت له بقلق لم تستطيع التخلص منه رغم حديثه المطمئن, لكنه لم يبالي بحديثها وهو ينادي بعلو صوته الأجش على "صفاء" ليرتجف جسدها خوفًا وكل الأحداث تُعاد أمامها كما حدث أمس, دلفت "صفاء" لتسمعه يقول لها بنظرة تعلمها:
- خدي الأنسة خليها ترتاح فوق.
وزفرت "فيروز" أنفاسها المحبوسة حين سمعت كلمة "فوق", لتطمئن وهي تصدق حديثه السابق بأنها لن تذهب لذلك المكان مرة أخرى.
نهضت تتحامل على تعبها والدوار الذي أصابها فور وقوفها كي لا تُظهر ضعفها أمامه, جرت قدميها لتخرج من الباب وما إن خرجت حتى أمر "صفاء" قائلاً:
- ابعتي حد يجيبلها كام طقم يناسب اقامتها هنا مدة.
أومأت برأسها بطاعة وخرجت لتجدها واقفة على بُعد سنتيمترات من الباب تنتظر قدومها, وما إن سبقتها حتى أتبعتها وهي تنظر لظهرها بغيظ, صعدا الدرج الطويل حتى وصلا لطرقة بها عدة غرف ودلفت "صفاء" لأحدهم لتتبعها "فيروز" ناظرة لأرجاء الغرفة الفاخرة كباقي المنزل, اثاث أنيق وألوان هادئة مريحة للعين ومساحة واسعة, إن لم تكن قد سبق لها رؤية مثل هذه الفخامة في الشقة التي نقلها إليها "مازن" لفغر فاهها ذهولاً مما تراه, ولكنها لا تنكر أن الفخامة هنا تفوق, وقفت في منتصف الغرفة بفتور لتلتفت لها "صفاء" بابتسامة بسيطة مجاملة:
- ارتاحي حضرتك والبيه أمرني أبعت اشتريلك لبس يناسبك عشان تغيري هدومك.
الغيظ يمتلكها تجاه هذه السيدة المقيتة أو التي أصبحت مقيتة لها منذُ اصطحبتها لذلك المكان المريع, فلم تتمالك نفسها وهي تسألها بابتسامة صفراء:
- أنا قولتلك قبل كده إن شكلك حلو يا مدام صفاء؟
اومأت "صفاء" متذكرة مدحها لها أمس, لتختفي ابتسامة "فيروز" السِمجة وهي تخبرها:
- بسحب كلامي, شكلك عادي على فكرة, أنا بس كنت بجاملك فكرتك شخص كويس قولت اجبر بخاطرك, لكن مادام شغالة مع راجل زي ده يبقى خسارة فيكِ المجاملة.
فغر فاه "صفاء" بصدمة وهي تستمع لحديثها المهين لها, وكادت تتحدث مدافعة عن نفسها بأنها فقط تنفذ الأمور, ولكن رفعت "فيروز" كفها أمامها تمنعها من الحديث مشيرة لها بالخروج:
- اقفلي الباب وراكِ.
ولم تجد "صفاء" حيز للحديث فخرجت وقد أشعرتها كلمات "فيروز" ببعض الذنب تجاهها, لكنها سرعًا ما نفضته وهي تهمس لنفسها:
- اكيد غلطت وتستاهل عقاب الباشا, الباشا مبيأذيش حد من غير سبب.
ولا تدري هل هي تبرر لنفسها لتُخرص ضميرها أم تبرر لرب عملها لأنها لا تراه مخطئ مهما فعل!
رمت نفسها فوق الفراش بتعب والآن سمحت لدموعها بعودة الإعلان عن نفسها, فتهاوت بكسل وكأنها متعبة كتعب صاحبتها, وعقلها بدأ يفكر فيما فعلته, وما عليها فعله, هي لم تخرج من اللعبة كما أخبرت "شاهين" بل لقد غمست نفسها بها أكثر, والآن أصبحت طرفًا فيها, وتتلاعب بخيوطها التي تملكها للآن, ولكن السؤال المهم لمتى ستملكها؟ متى ستنقطع الخيوط وتسقط العرائس مُعلنة فساد العرض!
تخشى أن تخرج هي الوحيدة الخاسرة, تخشى أن تصل في النهاية لطريق مسدود وتعض أصابعها ندمًا لأنها هي من أدخلت نفسها في هذا الطريق من البداية, هل تخطو خطوات واثقة نحو نهاية مضمونة؟ أم تخطو نحو الهاوية!؟
تقوقعت على نفسها فوق الفراش تحتضن جسدها ببرودة تجتاح أواصرها, وخواء مريب تشعر بهِ, وضعت كفها فوق أذنها تغلقها والأخرى دفنتها في الفراش لتُسكت أصوات الصراخ الذي لازمها يومًا كاملاً, تريد النوم... وبالأدق تريد الهروب لترتاح قليلاً فالمعركة لم تبدأ بعد, وعليها أن تتسلح بالقوة والثبات وأن تكون بكامل عقلها فذلة قادرة على أن تطيح بها.
❈-❈-❈
ضرب المكتب بقبضته بقوة وهو يصرخ بمن يجلس أمامه:
- يعني ايه؟ يعني رجالته كلهم أوفياء! مفيش واحد منهم عارفين نغريه بالفلوس ولا التهديد نافع معاهم!
ضجر "مدحت" من صراخه منذُ أتى له, ليقول بضيق:
- في ايه يا مازن ماحنا حاولنا اهو! لحد الجنايني حاولنا معاه من بعيد ومحدش فيهم قابل يخونه حتى لو الخيانة دي مجرد انه يوصلنا بيها او يعرفنا بيحصلها ايه جوه.
دار وطاف في مكتبه باختناق مرددًا وهو يشعر نفسه على وشك الجنون:
- ليه؟ وازاي! مش معقول يكونوا كلهم كلاب له كده!
عقب "مدحت" بتفسير:
- يمكن خايفين, مش شرط يكونوا أوفياء.
نفى "مازن" برأسه يردد:
- لا, مش خوف, انتَ مسمعتش كلام المخبر, بيقولك ردوا عليه قالوله احنا منخونش شاهين بيه ولو على رقبتنا.
- شاهين مش سهل يا مازن, واحنا عارفين ده من البداية, المهم نفكر دلوقتي هنعمل ايه مادام خطوتنا دي فشلت.
التقطت علبة سجائره وأخرج واحدة يشعلها بالقداحة بحركات عصبية ظهرت جلية عليه, أخذ نفس منها وزفره بقوة قبل أن يقول:
- محتاج افكر تاني, معرفش ممكن اوصلها ازاي وهي...
قطع حديثه وهو ينظر ل"مدحت" بنظرة غريبة, ليجعد الآخر حاجبيهِ يسأله:
- ايه؟ سكت ليه؟
ضم قبضة يده بقوة وهو يغمغم بكره وحديثه كان مجرد لغز ل "مدحت":
- مضطر الجأ لها, هي الوحيدة اللي هتقدر توصلني بيها.
سأله "مدحت" بفضول متلهف:
- هي مين؟
لم يجيبه فقط شرد بنظره وهو يرى نفسه مرغمًا على سلك طريق مخزي مثل هذا والتواصل مع من قطع علاقته بها منذُ سنوات من أخر موقف جمعه بها, وكل هذا فقط من أجل الوصول لها "فيروز".
❈-❈-❈
دقات فوق باب غرفتها دفعتها للاستيقاظ من غفوتها المؤقتة, لتنهض بإرهاق تفتح الباب لتجد "صفاء" أمامها وهي تحمل عدة حقائب ورقية أنيقة, قدمتهم لها وهي تخبرها مبتسمة وكأنها لم تقذف بكلماتها في وجهها منذُ قليل:
- الهدوم وصلت يا هانم, لو في أي مشكلة في المقاسات بلغيني.
التقطتهم منها وما كادت تغلق الباب في وجهها بضجر حتى قالت حين شعرت بجوعها وقرصة معدتها من خوائها:
- هاتيلي أكل, بس يكون نضيف مش زي البواقي اللي كنتوا بتقدموهالي تحت.
حافظت "صفاء" على ابتسامتها الباردة وهي تجيبها باحترام:
- أوامرك يا هانم, دقايق والأكل يكون عندك.
أغلقت الباب بوجهها للمرة الثانية ودلفت للغرفة تفتح الحقائب لترى ما جلبوها لها, مطت شفتيها بمقت حين رأت الثياب منحلة من وجهة نظرها, فهي رغم تغييرها لثيابها الرثة التقليدية لكنها لم ترتدي ثياب ضيقة أو قصيرة, وطبعًا ما جلبوه يخالف تمامًا مبادئها, ولكنها مضطرة, فهل ستمثل أنها قضت أعوامًا في لندن وبنفس الوقت تعترض على ثياب أقل من الطبيعي لمثيلاتها!
حاولت انتقاء أفضلهم وكان بنطال أسود يلتصق بجسدها وكنزة زرقاء فاتحة بدون أكمام فقط حمالة رفيعة بفتحة صدر واسعة تبين عظمتي الترقوة لكنها لم تصل لمقدمة صدرها, كان لونًا جميلاً ملائمًا لبشرتها السمراء, وحذاء رياضي أبيض وجدته بين المشتريات, وبالطبع كل هذا كان بعد استحمامها لتتخلص من أثار الليلة السابقة, ولم تمشط شعرها فقط اكتفت بتجفيفه وتركه ثائرًا مثلها.
وقفت أمام المرآة تنظر لمظهرها بغير رضى وهي ترى نصفها العلوي ظاهرًا بسخاء هكذا, لكنها مضطرة, فما إن قبلت الدخول لهذا العالم عليها وبكل أسف أن تصبح شبههم.
- بيرتاحوا ازاي في الهدوم العريانة دي! لا والواحده منهم تبقى ماشية ولا كأنها لابسة نقاب!
هكذا عقبت ناقمة على تلك الثياب وعلى مرتديها, قبل أن تتجه لشرفة الغرفة وتقف فيها بعدما أزاحت الستار ليظهر أمامها المنظر الخارجي للفيلا, مساحة واسعة يتخللها أشجار وحشائش خضراء وطريق مرصوف للسيارات, وبوابة ضخمة يقف على حراستها ثلاث رجال ضخام الجثة, وشخص ذو بنية متوسطة وثياب تختلف عن ثيابهم الرسمية وقد خمنت أن مهمته تنحصر في فتح البوابة, المنظر في مجمله مريح للنفس بعيدًا عن البوابة ومن يقفون أمامها.
فتركت لعينيها حرية الركض بينا أرجاء المكان مركزة على الخضرة ونافورة المياه ذات المظهر الجذاب الذي يزين المنتصف.
❈-❈-❈
مكان ما... لكنه في نفس المحافظة.
فيلا عالية الفخامة تشبه القصر, مكتظة بالحرس, والخدم, وبداخل أحد غرفها والمخصصة كمكتب ضخم, كان يجلس هذا الرجل ذو الأربعة وخمسون عامًا بخصلاته البيضاء في أغلبها وملامحه التي يبدو عليها الجمود والخطورة, مشعلاً لفافة بنية أنيقة منفخًا دخانها وأعقب يقول للشخص الجالس أمامه:
- الشحنة هتوصل المينا بكره الساعة 2 بليل, جهز رجالتك وأول ما تستلمها وتعدي المينا شاهين هيكون مستنيك برجالته على طريق الصحراوي عشان يتصرف فيها.
سأله الجالس أمامه وهو يضيق عينيهِ بسوادهما الكحيل:
- وليه شاهين يستلمها على طول كده ومن الطريق؟ مش بيستلمها من مخزن الجبل؟
- اليومين دول في عوء, والحكومة مفتحة عينها, خلينا نخلص من الشحنة على طول عشان منلفتش نظر, وكمان في رجاله مستنياها لأنها اتأخرت كام يوم بسبب ظروف الموردين والناس مصالحها متعطله.
دقات خافتة فوق الباب تبعها دلوف أحد رجاله وهو يقول:
- مختار باشا, وصلني معلومات عن شاهين ب...
وقبل أن يكمل ويسترسل في حديثه رفع "مختار" كفه له يوقفه وهو يحدقه بنظرات حارقة, لينتبه الآخر لنفسه وأنه لم يكن عليه الحديث أمام الجالس.
خرج بعدما أشار "مختار" له بالخروج مؤجلاً أي حديث لوقت لاحق, أردف الجالس بعدما خرج الرجل:
- لسه بتراقبه؟ معرفش ليه مقلق من شاهين كده.
أردف "مختار" كاشفًا عن الحقيقة وهو ينهض من فوق كرسيه ليستند على ظهره وهو يقول بمغزى:
- مش شاهين بس, أنا عيني على الكل, ولازم تكون على الكل, أنا مش هسمح يحصلي زي اللي حصل للي قبلي, أنا من وقت ما قعدت على الكرسي ده وانا مش ناوي اسيبه ولو على موتي.
قالها وهو يضرب على ظهر الكرسي الطويل بكفه مرتين, وأكمل:
- دياب الحلاوني, ومراد وهدان, وطارق حربي, كل دول كانوا سبب إن اللي قبلي يسيب الكرسي ده, لكن أنا مش هبقى غبي واقرر الغلطة, لازم تبقى عيني عليهم عشان ميفكروش حتى يهربوا زي اللي قبلهم, بس مقدرش انكر انهم فادونا, يعني لولاهم مكنتش هبقى قاعد على الكرسي ده وبقى ليا مكانة كبيرة في المنظمة, وانتَ كمان يا غسان, لولا هروب دياب مكانش زمانك مكانه.
طرق "غسان البلتاجي" بأصابعه على المكتب وهو يقول:
- معاك حق, مصائب قوم عند قوم فوائد, بس مش ده السبب الرئيسي لمراقبتك لشاهين, انتَ قلقان علاقته بمازن عمران ترجع.
ولم يراوغه "مختار" وهو يقول:
- صح, شاهين مينفعش ترجع علاقته بمازن, وانا هفضل واقف بينهم زي الشوكة في الزور, مش هسمح يرجعوا تاني, مازن بيأثر على شاهين وبحسه مذبذب, وغير كده.. انا دلوقتي مستفيد من الاتنين, لكن لما بيتكلموا وعلاقتهم بتكون كويسة, بقلق مازن يشك فيا.
رفع "غسان" حاجبه بمكر يعقب:
- عشان طول ما مازن ميعرفش عن شغلك انتَ في آمان, وشاهين هو اللي في وش المدفع ومازن مركز معاه هو.
اومأ مؤكدًا وهو يقول:
- وشاهين كمان هادي ومكمل في اللي بيعمله, بس شاهين مش سهل ونابه أزرق ولو عرف إنك مستغل مازن لمصالحك مش هيسكت.
- طول ما شاهين ومازن الدنيا والعة بينهم مش هيعرف, عشان كده مينفعش الدنيا تهدى بينهم.
قالها باصرار وهو ينظر ل "غسان" بقوة ليدرك الأخير أنه لن يتوقف عن زرع الفتنة بين "مازن وشاهين" لتستمر الحرب بينهما.
" غسان البلتاجي من شخصيات رواية بكِ أحيا اللي حابب يعرف قصته عشان يبقى فاهم معانا سير الأحداث يقرأ الرواية"
❈-❈-❈
تابعت تمشيط خصلاتها ببطء وهي تستمع لحديث "سوسن" عن ما فعله "شاهين" مع الفتاة المجهولة التي أخرجها من القبو وأمر صفاء أن توصلها لأحد غرف المنزل, بل والأدهى هي بعث "صفاء" لأحد الحرس ومعه إحدى الخادمات ليشتريا بعض الثياب للضيفة, غمغمت "شدوى" بضيق وهي تتابع ما تفعله:
- وليه بيعمل معاها كل ده؟ وحوار الهدوم ده معناه انها قاعدة هنا شوية.
أكدت له "سوسن" حديثها:
- ايوه اكيد, هي لما طلعت من تحت غابت في مكتب الباشا شوية وبعدها خدتها صفاء للأوضة, بس شكل حوار البت دي كبير.
رمت مشاطة الشعر بضيق مصدر صوت عالي, ونهضت تواجه "سوسن" تقول بغضب:
- لازم اعرف ايه حكايتها البت دي, وكويس انها طلعتلي عشان اعرف اوصلها بسهولة, هي لسه في الأوضة؟؟
اومأت "سوسن" تقول:
- لسه صفاء طالعلها بشنط الهدوم.
هزت رأسها عدة مرات وهي تغمغم بترقب:
- ماشي... يبقى لازم ارحب بالضيفة دي مهما كانت في بيتي.
وشددت على جملتها الأخيرة وكأنها بهذا تقنع نفسها وتؤكد بأنها صاحبة المنزل وستظل هكذا.
❈-❈-❈
هتفت "صفاء" وهي تتابع رص الأطباق فوق المائدة الطويلة, وما إن رضت عن شكلها وتأكدت من وجود جميع ما يحتاج له أفراد الأسرة, حتى قالت بأمر ل "مستكة" و "سوسن":
- يلا على المطبخ كده السفرة جاهزة.
تحركا فورًا للداخل, فوجودهم بالمنزل ينحصر في المطبخ إلا لو كان لهم عمل خارجه وسرعان ما يدلفوا له, فهذه إحدى قواعد المنزل الذي فرضها "شاهين" وقاعدة أخرى كانت تنص على أن الطعام لا يؤكل سوى على المائدة وفي غرفة الطعام, وهذا ما جعل "فيروز" تنزل مرغمة للأسفل وتجلس فوق الطاولة الضخمة لتتناول طعامها بعدم أخبرتها "صفاء" بعدم إمكانية صعود الطعام لها في الأعلى.
نظرت للطاولة التي تحوى كراسي عديدة تكفي لأسرة بأكملها, وهي تشغر كرسي واحد منها, لتشعر بالفراغ الغريب وهي تنظر لباقي الكراسي, فغمغمت حانقة:
- بقى عشان اكل لقمة اقعد على السفرة دي كلها لوحدي! ايه التخلف اللي عندهم ده! فيها ايه لما اكل في الأوضة!
صمتت عن حديثها لذاتها حين استمعت طرقات كعب حذائي يقترب من الغرفة, لتظهر بعد لحظات فتاة ترتدي فستان يصل لركبتيها وبدون أكمام ويلتصق بجسدها بشدة حتى سألت "فيروز" نفسها معلقة عليه "كيف استطاعت ارتدائه؟" خطت نحو المائدة وهي تنفض خصلاتها الصفراء الناعمة وجلست بغطرسة فوق الكرسي المقابل ل "فيروز" تنظر لها بتمعن قوي قبل أن يبتسم ثغرها المطلي بالحمرة القانية وتقول:
- عرفت إن في ضيفة في بيتي فقولت لازم ارحب بيها.
قطبت "فيروز" ما بين حاجبيها تسألها مستغربة:
- بيتك؟ هو انتِ مين؟
تحولت ابتسامتها المجاملة لأخرى ساخرة وهي تجيبها:
- المفروض انتِ اللي تجاوبي على السؤال ده, انتِ مين؟ وبتعملي ايه في بيتي؟ وايه علاقتك بشاهين؟
رفعت "فيروز" رأسها لأعلى بإدراك وقد عرفت تقريبًا هويتها:
- ااااه, انتِ مراته؟
- ايوه مراته, وأم ابنه, انتِ بقى مين؟
سألتها الأخيرة بتعالي واضح أغاظها ونظراتها تصعد وتهبط مقيمة "فيروز" باستخفاف واضح, فتناولت الشوكة ورشقتها في قطعة الدجاج الصغيرة لتتناولها باستمتاع ثم قالت لها ببرود تام:
- مش المفروض تكوني عارفة انا مين من غير ما تسأليني؟ يعني ازاي جوزك يستضيف حد في بيتكوا وانتِ متعرفيش! بصراحة حركة مش لطيفة, إلا لو أنتِ مش مسيطرة....!
وغمزت لها في جملتها الأخيرة ليشتعل وجه "شدوى" غضبًا وتبتسم "فيروز" وهي تدرك أنها ردت لها الصاع صاعين ونجحت في استفزازها..!
ولكن "شدوى" ليست بهينة, فقالت لها وهي تكظم غيظها وتسترخي في جلستها, وعيناها بها نظرة فهمتها "فيروز":
- لو مش عاوزه تقولي عادي مش مهتمة اعرف, انا لما نزلت اشوفك فكرتك واحدة أقلق على جوزي منها, لكن الحقيقة شاهين عمره ما هيبصلك, انتِ مش نوعه خالص, ولا فيكِ حاجة ممكن تشد راجل... بالعكس.
وكلمتها الأخيرة كانت إهانة واضحة ل"فيروز"...!
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة ناهد خالد، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية..