-->

رواية جديدة على سبيل الألم لرانيا ممدوح - الفصل 28 - الأحد 16/2/2025

 

 قراءة رواية على سبيل الألم كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية على سبيل الألم 

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا ممدوح 

الفصل الثامن والعشرون


تم النشر الأحد

16/2/2025



بعد مرور أسبوعين من بدء الحملة الإعلانية


بدأ ليث يعتاد على الأضواء والكاميرات، لكن عقله لم يكن حاضرًا تمامًا. كان يؤدي عمله بإتقان، لكنه كان يرى في كل عدسة كاميرا احتمال أن تكون سبيل تراه من بعيد، أن تتعرف عليه، أن تعود إليه بطريقة ما.


في أحد الأيام، بعد انتهاء جلسة تصوير مكثفة، اقتربت يارا منه بابتسامة ناعمة وقالت:

"أنت فعلاً موهوب، مش بس في التنس، حتى قدام الكاميرا. طبيعي جدًا، وده اللي بيخلي الناس تحب تشوفك على طول."


نظر إليها ليث بهدوء وقال بفتور:

"أنا بس بعمل اللي المفروض أعمله و المطلوب مني."


ضحكت يارا وهي تضع يدها على ذراعها، تميل قليلاً نحوه وقالت بنبرة أكثر لطفًا:

"مش لازم تاخد كل حاجة بجدية كده، الشهرة ليها مميزاتها، مش بس مسؤوليات و تنفيذ أوامر."


لم يرد ليث، لكنه لاحظ نظرتها المختلفة، الطريقة التي تتحدث بها وكأنها تحاول الاقتراب أكثر. لم يكن هذا الأمر يعنيه، لكنه لم يرد أن يلفت انتباهها إلى أنه غير مهتم.


أخرجت يارا هاتفها وقالت بحماس:

"بالمناسبة، عندي حفلة صغيرة في بيتي بكرة بالليل، هيكون فيها ناس مهمين جدًا في عالم الرياضة والإعلانات، وجودك هناك ممكن يفتح لك أبواب كتير تتمنى تدخلها."


نظر إليها ليث للحظات، ثم قال بصوت محايد:

"مش بحب الحفلات."


ضحكت يارا وقالت بمكر:

"دي مش حفلة صاخبة، مجرد تجمع راقٍ، وممكن يكون فرصة كويسة ليك. فكر في الموضوع كويس."


تركته وغادرت قبل أن يمنحها إجابة مباشرة، لكنه شعر أن يارا ليست فقط مهتمة بعمله كعارض أزياء، بل بشيء آخر... شيء لم يكن لديه أي رغبة في الالتفات إليه.

❈-❈-❈

في المساء، بينما كان ليث جالسًا في غرفته، دخلت ليان بعد أن طرقت الباب بخفة، تحمل في يدها كوبًا من العصير ووضعته أمامه على الطاولة، ثم جلست على الأريكة المقابلة له وهي تراقبه بحذر.


قالت بنبرة فضولية:

"إيه الحكاية؟ شكلك شارد كده ليه؟"


نظر إليها ليث للحظات ثم قال بهدوء:

"يارا الكحلاوي عزمتني على حفلة في بيتها بكرة."


ارتفع حاجبا ليان باهتمام، وابتسمت بمكر قبل أن تقول:

"آه، واضح إن صاحبة الشركة معجبة بيك مش بس كعارض أزياء."


تنهد ليث بضيق وقال وهو يميل بجسده إلى الخلف:

" بتقولي ايه بس ،أنا مش مهتم بالحفلات ولا بالمجاملات دي، ولا حتى بحياتها الشخصية.مجرد شغل معاها و بس"


ضحكت ليان وقالت وهي تضع يدها تحت ذقنها:

"بس ممكن تكون فرصة ليك، فكر فيها من زاوية تانية."


نظر إليها ليث بشك وقال:

"زاوية إيه؟"


رفعت ليان كتفيها وقالت بحماس:

"إنت نفسك قلت إنك وافقت على الشغل ده عشان لو سبيل محبوسة في مكان وشافتك، تعرف توصلك، مش كده؟ طيب الحفلة دي فيها ناس من كل المجالات، ممكن حد يعرف حاجة، ممكن تلاقي طرف خيط."


لم يتحدث ليث مباشرة، لكن عينيه تلألأتا بتفكير عميق، فأكملت ليان بحماس أكبر:

"بعدين، إنت طول عمرك شخص اجتماعي وبتعرف تتعامل مع الناس، مش لازم تنعزل كده، بالعكس، ممكن تستفيد من وجودك في وسط الناس دي."


زفر ليث وقال بصوت منخفض:

"مش عارف يا ليان، مش مرتاح للفكرة."


اقتربت منه ليان وضربته بخفة على ذراعه وقالت بمزاح:

"يا بني مش هتتجوزها، دي حفلة بس، روح واندمج مع الناس، يمكن تلاقي حد عنده معلومة تفيدك، وبعدين وجودك هناك هيأكد إنك بقيت مشهور أكتر، وده ممكن يساعد في وصول صورتك لسبيل."


أخذ ليث نفسًا عميقًا، ثم أغمض عينيه للحظة قبل أن يفتحها ويقول:

"طيب خلاص، هروح."


ابتسمت ليان بسعادة وقالت:

"برافو عليك! بس أوعى تنسى تاخد بالك من يارا، شكلها مش ساهلة."


هز ليث رأسه بابتسامة ساخرة وقال:

"أنا فاهم لعبتها، بس مش فارق معايا، أنا عندي هدف واحد بس و أنتي عارفاه."


نهضت ليان وربتت على كتفه قائلة:

"كويس إنك متأكد من ده، المهم بقى، هنلبسك إيه للحفلة؟"


ضحك ليث أخيرًا بعد أيام طويلة من الجدية، وهو يعلم أن ليان لن تتركه حتى تجهز له كل التفاصيل.

❈-❈-❈

وصل ليث إلى الحفل متأخرًا قليلًا، لكنه لم يكن مهتمًا بذلك. كان الحضور قد ملأ المكان، والأضواء تتراقص على أنغام موسيقى هادئة في الخلفية. وقف عند المدخل للحظة، يأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يخطو إلى الداخل. لم يكن معتادًا على مثل هذه الأجواء الصاخبة والمليئة بالمظاهر البراقة، لكنه جاء لهدف واضح في ذهنه.


قبل أن يتمكن من التقدم أكثر، ظهرت أمامه يارا الكحلاوي، مرتدية فستانًا أحمر أنيقًا، وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيها. اقتربت منه وهي تمد يدها لمصافحته بحماس قائلة:

"أخيرًا! الكابتن ليث بنفسه في حفلتي! كنت فاكرة إنك هتتراجع في آخر لحظة."


صافحها بفتور وقال بصوت هادئ:

"وعدتك إني هاجي."


ضحكت يارا بخفة وهي تمسك بذراعه بلطف وتقوده إلى الداخل:

"أنا ممتنة إنك جيت، بس ما ينفعش تقف كده عند الباب كأنك غريب. تعالى، لازم أعرفك على شوية ناس مهمين."


كان المكان مليئًا برجال الأعمال، عارضي الأزياء، والرياضيين المشهورين، مزيج من الشخصيات المؤثرة في مجالات مختلفة. أدرك ليث أن الحفل لم يكن مجرد تجمع عادي، بل مناسبة لاستعراض النفوذ وبناء العلاقات. لم يكن مهتمًا بكل هذا، لكنه كان يدرك أن أي فرصة للظهور قد تساعده في تحقيق هدفه الحقيقي… إيجاد سبيل.


أثناء سيرهما وسط الحضور، توقفا عند مجموعة من الأشخاص الذين كانوا يتحدثون بصوت منخفض. ابتسمت يارا وقالت وهي تشير إلى رجل أنيق في منتصف الخمسينيات:

"كابتن ليث، اسمح لي أعرفك على السيد عماد السيوفي، أحد أكبر المستثمرين في مجال الملابس الرياضية."


مد الرجل يده لمصافحة ليث وقال بود:

"تشرفت بلقائك، سمعت عن إنجازاتك في التنس، لديك مستقبل واعد."


صافحه ليث باحترام وقال بهدوء:

"سررت بمعرفتك، وشكرًا على الإطراء."


تدخلت يارا وهي تميل قليلًا تجاه عماد بابتسامة مكر:

"وهو مش بس لاعب موهوب، قريبًا هيكون الوجه الإعلاني لشركتنا و بس."


رفع عماد حاجبيه وقال باهتمام:

"هذا رائع! العمل في الإعلانات يمكن أن يفتح لك أبوابًا كثيرة، مش بس في الرياضة، لكن في عالم الشهرة والأعمال أيضًا."


اكتفى ليث بإيماءة بسيطة، بينما كان عقله مشغولًا. كان يستمع إلى المحادثات، لكنه كان يبحث عن أي شيء… قد يشغله عن هذا الحفل .


قطعت يارا حبل أفكاره عندما ناولته كأسًا من العصير قائلة بابتسامة:

"أظن إنك مش من محبي المشروبات الكحولية، ففكرت أجيب لك عصير فريش."


أخذ الكأس منها وقال دون أن ينظر إليها:

"شكرًا."


لاحظت شروده، فاقتربت منه قليلًا وهمست بمكر:

"أنت مش مستمتع بالحفلة، صح؟"


رفع عينيه إليها وقال بجدية:

"أنا مش معتاد على الحفلات دي."


ضحكت يارا وقالت بنبرة مغازلة:

"يبقى لازم أعوّدك، الحفلات دي مش مجرد تجمعات، دي فرص لتوسيع العلاقات، و… للتعرف على أشخاص جدد.مش أي أشخاص دي دنيا تانية ."


لم يرد على تلميحها المباشر، لكنه قال بنبرة ثابتة:

"وأحيانًا بتكون فرصة للبحث عن أشخاص قدامنا بس مش شايفينهم."


رفعت يارا حاجبها باستغراب:

"مش فاهمة قصدك."


نظر إليها ليث للحظة، ثم قال ببطء:

"ولا يهمك، مجرد تفكير بصوت عالي."


شعرت يارا أن هناك سرًا خلف تصرفاته، لكنها لم ترد الضغط عليه. بدلًا من ذلك، ابتسمت وقالت:

"تعالَ، فيه ناس لازم أقعدك معاهم، هيعجبوك."


سار معها بين الحضور، بينما كان قلبه يزداد اضطرابًا. كان يشعر أن هذه الليلة قد تكون بداية شيء جديد… لكنه لم يكن يعلم بعد إن كان هذا الشيء لصالحه أم ضده.


استمر الحفل في الصخب، وبدأت يارا تأخذ ليث من مجموعة إلى أخرى، تعرفه على رجال أعمال، مصممين، ومشاهير في مختلف المجالات. كان يكتفي بالمصافحات والكلمات المجاملة، لكن عقله كان يعمل بجهد، يبحث بين الوجوه عن أي شيء مألوف، أي شخص قد يكون مرتبطًا بسبيل أو بالماضي الغامض الذي اختفت فيه.


بعد حوالي ساعة، شعرت يارا أن ليث لا يزال متحفظًا، فقررت أن تأخذه إلى زاوية أكثر هدوءًا حيث يوجد بعض الشخصيات المهمة التي قد تكون مهتمة به كوجه إعلاني جديد. جلست معه على طاولة أنيقة مضاءة بإضاءة خافتة، ثم نظرت إليه وقالت بابتسامة ناعمة:

"إيه رأيك في الحفلة لحد دلوقتي؟ متأكد إنك مش مستمتع، بس لازم أعترف إنك جذبت انتباه كتير من الناس."


نظر إليها ليث ببرود وقال:

"ما أظنش إن الهدف من وجودي هنا هو جذب الانتباه."


ضحكت يارا برقة وأمالت رأسها قليلًا قائلة:

"كل حاجة في عالم الإعلانات والشهرة بتبدأ بجذب الانتباه، دي أول خطوة. الناس لازم تشوفك الأول، وبعدين تبدأ تهتم بيك، وبعدها تبدأ تسأل عنك، وبعد كده…"


توقفت قليلًا ثم أضافت بنبرة مغرية:

"كل حاجة بتتغير."


رفع ليث حاجبه قليلًا وقال بنبرة خالية من الاهتمام:

"مش متأكد إن ده نوع التغيير اللي أنا بدور عليه."


ابتسمت يارا وهي تلعب بخاتمها الذهبي وقالت:

"طب إنت بتدور على إيه بالظبط؟"


ظل ليث صامتًا لثوانٍ قبل أن يقول بهدوء:

"أنا مش هنا علشان الشهرة، ولا علشان أكون واجهة إعلانية، أنا هنا لأن عندي هدف، ولأن في حد مهم بالنسبة لي ممكن يكون في مكان ما بيتفرج عليّ دلوقتي."


تقلصت ابتسامة يارا قليلًا وهي تحاول فهم كلامه، لكنها لم ترد أن تظهر اهتمامًا زائدًا. بدلاً من ذلك، قالت وهي تضع كوعها على الطاولة وتسند ذقنها على يدها:

"مثير للاهتمام… بس أيًا كان الشخص اللي بتدور عليه، أنا واثقة إنه لو شافك دلوقتي، هيكون فخور بيك."


نظر ليث إليها نظرة باردة ثم قال بحزم:

"أنا مش عايز حد يكون فخور بيا، أنا عايز ألاقيه."


قبل أن ترد يارا، اقترب منهم رجل أنيق في منتصف الأربعينيات، يضع نظارات طبية ويبدو عليه النفوذ. ابتسم وقال وهو يمد يده لمصافحة ليث:

"مساء الخير، أنا حسام العزمي، أحد الممولين الرئيسيين لشركة يارا."


صافحه ليث بإيماءة قصيرة وقال:

"تشرفت بمعرفتك."


نظر حسام إلى يارا وقال بابتسامة جانبية:

"سمعت إن عندك نجم جديد في فريقك، قررتِ تقتنصي الموهوبين حتى قبل ما يدخلوا مجال الإعلانات فعليًا، ها؟"


ضحكت يارا بخفة وقالت:

"أنا دايمًا باخد الخطوة قبل غيري، وبحب أفوز بأفضل الناس في فريقي."


نظر حسام إلى ليث بتقييم ثم قال بصوت يحمل اهتمامًا حقيقيًا:

"بصراحة، أنا تابعت بعض مبارياتك، وشايف إن عندك مستقبل واعد، بس اللي محيرني… ليه قررت تدخل مجال الإعلانات دلوقتي؟"


لم يرد ليث فورًا، لكنه شعر أن هذه اللحظة قد تكون فرصة للفت الانتباه أكثر إلى قضيته، فقال بنبرة مدروسة:

"أحيانًا، الشخص بيحتاج يستخدم أي وسيلة متاحة للوصول لحاجة أهم."


رفع حسام حاجبه وقال بفضول:

"حاجة أهم؟ تقصد الشهرة ولا المال؟"


نظر إليه ليث نظرة ثاقبة ثم قال بهدوء:

"أنا بدور على شخص مهم ضاع مني من سنين، ولو كان الظهور في الإعلانات وسيلة تساعدني في كده، فمش هتردد."


ساد صمت قصير، قبل أن يقول حسام وهو يعقد ذراعيه باهتمام:

"ده مثير جدًا للاهتمام… وشبه درامي شوية. تحكيلي أكتر؟"


تدخلت يارا بسرعة قبل أن يتكلم ليث، قائلة بابتسامة متكلفة:

"لازم نسيب شوية أسرار، مش كده؟"


ضحك حسام وهز رأسه قائلاً:

"طبعًا، بس لو احتجت أي مساعدة، أنا عندي شبكة علاقات واسعة، ممكن تساعدك بطريقة أو بأخرى."


تأمل ليث كلماته، ثم قال بصوت خافت لكن حازم:

"هفتكر ده."


شعر أن هذه المحادثة قد تكون بداية لشيء ما، لكنه لم يكن واثقًا مما سيكون عليه… أو إلى أين سيقوده.


❈-❈-❈

في إحدى الليالي، وبعد انتهاء جلسة تصوير لإحدى الحملات الإعلانية، استغلّت يارا الفرصة لتتقرب أكثر من ليث. اقتربت منه بابتسامة دافئة وهي تضع يدها على كتفه بلطف، قائلة بصوت ناعم:


"ليث، أنا فخورة جدًا بيك، الحملة دي هتكسر الدنيا، وعقدك مع الشركة كان من أحسن القرارات اللي خدتها في حياتي بجد.. وإنت كمان لازم تحتفل بنجاحك، إيه رأيك نخرج نتعشى في مكان رايق؟ بس أنا وأنت."


كان ليث يضع أغراضه في حقيبته دون أن يظهر أي حماس لاقتراحها. رفع نظره نحوها للحظة، ثم عاد لترتيب حاجاته وهو يرد بصوت هادئ لكن غير مكترث:


" شكرًا يا يارا، بس أنا تعبان شوية، وعايز أروّح."


ضحكت يارا بخفة وهي تضع يدها على خصرها قائلة بمزاح:


"مش معقول يا كابتن، طول الوقت شغل وتدريبات، ماينفعش كده، الحياة مش بس شغل، لازم يكون في شوية وقت للمتعة."


أغلق ليث حقيبته ونهض مستعدًا للمغادرة، ثم نظر إليها سريعًا وقال باقتضاب:


"أنا مستمتع بشغلي، ومش محتاج حاجة تانية."


رفعت يارا حاجبها بدهشة، ثم تقدمت خطوة أقرب إليه، محاولة قراءة تعابير وجهه. لم يكن سهلاً عليها أن تتقبل التجاهل، خاصةً وهي معتادة على أن يكون الرجال من حولها أكثر اهتمامًا بها. تنهدت قليلًا وقالت بنبرة أكثر جدية:


"ليث، أنا مش غبية، وعارفة إنك دايمًا سرحان وبتفكر في حد معين… حد مش هنا، صح؟"


تصلّب ليث قليلًا، لكنه لم يرد، فقط نظر إليها نظرة باردة قبل أن يتجه نحو الباب. لكنه لم يصل إليه حتى سمع صوتها مجددًا، هذه المرة بنبرة أكثر دفئًا:


"أحيانًا… الحياة بتاخد مننا ناس، وبتجبرنا نكمل من غيرهم، بس ده مش معناه إننا نفضل عايشين في الماضي. لازم نفتح باب جديد، نحاول ندي نفسنا فرصة… ليه مش تحاول تشوفني مثلا؟ يمكن أكون الشخص اللي يقدر يساعدك تتخطى اللي إنت فيه."


توقف ليث في مكانه، لكنه لم يلتفت إليها. مرر يده في شعره بضيق، ثم قال بصوت منخفض لكنه حاسم:


"يارا، أنا مش من النوع اللي بيدور على بدائل، ولا بستخدم حد عشان أنسى حد تاني. في حياتي في شخص واحد بس، وأنا مستني اللحظة اللي ترجعلي فيها. لو كنت بدوّر على فرصة جديدة… كنت شفتك بشكل مختلف."


سادت لحظة صمت طويلة بينهما، شعرت فيها يارا بثقل كلماته وكأنها صدمة غير متوقعة. كانت تتوقع أي رد آخر، لكنه كان واضحًا وصريحًا لدرجة جعلتها تشعر بالعجز. حاولت الاحتفاظ بهدوئها، لكنها لم تستطع منع نبرة خيبة الأمل من التسرب إلى صوتها وهي تقول بابتسامة باهتة:


"أنا مش بقولك تنساها، بس… لو ما رجعتش؟ هتفضل كده للأبد؟"


هنا التفت إليها أخيرًا، عيناه كانتا مليئتين بالألم والحب في آنٍ واحد، لكنه قال بثقة لا جدال فيها:


"سبيل مش حد ممكن يتنسي… وهي راجعة، أنا حاسس بكده."


تنهدت يارا وهي تهز رأسها باستسلام، لكنها رغم كل شيء، لم تكن مستعدة للاستسلام تمامًا. ربما الآن لم تستطع الوصول إليه، لكن من يدري؟ الزمن قد يغير الكثير…

❈-❈-❈

ابتسمت يارا نصف ابتسامة وهي تتقدم نحوه خطوة أخرى، محاوِلة أن تجعل كلماته القاسية أقل وطأة عليها. وضعت ذراعيها على صدرها ونظرت إليه نظرة مليئة بالتحدي، ثم قالت بصوت هادئ لكن يحمل في طياته الكثير:


"بص حواليك، شوف الدنيا والناس، الحياة بتمشي وأنت الوحيد اللي واقف…"


ظل ليث صامتًا، عيناه شاردة بعيدًا، وكأن كلماتها لم تصل إليه أو ربما لم يرِد أن تصل. لكن يارا لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة، لذا أكملت، هذه المرة بنبرة أكثر جدية، دون أن تفقد هدوءها:


"كلنا فقدنا ناس، كلنا عندنا وجع جوانا، بس الفرق بين اللي بيعيش واللي بيموت وهو عايش… إن الأول بيقرر يتجاوز الألم، والتاني بيفضل عايش فيه للأبد. وأنت لسه واقف في نفس النقطة بقالك سنين، بتنتظر شيء مش مضمون، بينما الحياة ماشية وناس تانية بتتقدم. أنت ليه مصرّ تعيش جوه الحزن ده؟"


نظر إليها ليث أخيرًا، بعينين تحملان خليطًا من الألم والغضب، وكأنه يرفض الاعتراف بصحة كلامها. مرر يده في شعره بعصبية، ثم قال بصوت خافت لكنه واضح:


"مش أنتِ اللي تقرري أنا لازم أعيش إزاي. أنا عارف أنا بعمل إيه، وسبيل… مش مجرد حد في حياتي، هي حياتي نفسها."


تنهدت يارا بعمق، لكنها لم تفقد هدوءها، بل اقتربت أكثر حتى أصبحت المسافة بينهما ضئيلة جدًا، ثم همست بصوت منخفض لكنه قوي:


"يمكن لما تلاقي إنك فضلت وحيد في النهاية… تفهم إن الحياة عمرها ما بتقف على حد، وإنك ضيعت وقتك في وهم."


نظر إليها ليث نظرة حادة، ثم قال بثقة لا جدال فيها:


"سبيل عمرها ما كانت وهم."


ثم استدار ليخرج، تاركًا يارا خلفه وهي تنظر إليه بإحباط، لكنها لم تستسلم تمامًا. ربما لم يكن اليوم يومها، لكنها لم تكن من النوع الذي يقبل الهزيمة بهذه السهولة…

❈-❈-❈

ظل ليث مستلقيًا في غرفته، يحدّق في السقف دون هدف، بينما تردد في ذهنه صوت يارا مرارًا وتكرارًا. رغم أنه رفض الاعتراف بذلك، إلا أن كلماتها تسللت إلى أعماقه، وبدأت تزرع داخله شعورًا لم يعرفه من قبل… اليأس.


مرّت الأيام ولم يصل إلى أي جديد، بل إن حتى منصور، رجب، وسعيد لم يستطيعوا تقديم أي معلومات تساعده في الوصول إلى سبيل. كانت كل الطرق مغلقة، كل الآمال تتلاشى واحدة تلو الأخرى، وكأن الحياة بأكملها تحاول أن تجبره على الاستسلام.


في إحدى الليالي، جلس ليث في مكتبه، ينظر إلى الشيكات التي وقعها مسبقًا لمنصور ورجب وسعيد، كان يعلم أن استمرارهم معه كان بسبب المال فقط، وليس لأنهم يؤمنون بقضيته. زفر بعمق، شعر بأنه استنزف كل ما لديه، لم يعد هناك سبيل، لم يعد هناك دليل، ولم يعد هناك حتى أمل.


أمسك القلم بقوة، ثم بدأ في تمزيق الشيكات واحدًا تلو الآخر، صوته وهو يشق الورق كان وكأنه يمزق آخر خيط كان يربطه بقضيته. وقف من مكانه، ثم قال بصوت خافت لكنه حاسم:


"خلاص… انتهى كل شيء."

❈-❈-❈

في صباح اليوم التالي، أرسل ليث رسالة إلى منصور ورجب وسعيد يخبرهم أنه لم يعد بحاجة إلى خدماتهم، وأن بإمكانهم المضي في حياتهم كيفما شاؤوا. لم يرد أحدهم بإلحاح، بل كانوا متوقعين هذا القرار منذ فترة.


خرج ليث إلى شرفته، نظر إلى السماء التي بدأ نور الشمس يتسلل إليها، ثم همس لنفسه بسخرية مريرة:


"يمكن يارا كانت عندها حق… الحياة ماشية وأنا الوحيد اللي واقف."


لكن رغم ذلك، رغم كل هذا الاستسلام الظاهري… كان هناك جزء صغير بداخله يرفض أن يصدق أن سبيل قد اختفت للأبد.


يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا ممدوح، لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة