-->

رواية جديدة على سبيل الألم لرانيا ممدوح - الفصل 29 - الإثنين 17/2/2025

 

 قراءة رواية على سبيل الألم كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية على سبيل الألم 

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا ممدوح 

الفصل التاسع والعشرون


تم النشر الإثنين

17/2/2025



في أحد المقاهي الراقية، جلس ليث مقابل يارا، يتأملها وهي تحرك ملعقتها في كوب القهوة برفق، بدا وكأنه لا يزال غير متأكد مما يفعله هنا، لكنها بدت مستمتعة بوقتها معه، كما لو أنها تخطط لهذا اللقاء منذ فترة.


يارا بابتسامة: "وأخيرًا، قررت تطلع من عزلتك، كنت فاكرة إنك هتفضل محبوس جوه نفسك طول حياتك!"


ليث بنبرة هادئة: "أنا مش محبوس… بس كنت بمر بحاجات صعبة."


يارا، وهي تميل برأسها باهتمام: "وأنا قولتلك قبل كده… الحياة مش بتوقف عشان حد، وإنت شخص ناجح جدًا، عندك حاجات كتير تعيش ليها، حرام تسيب كل الفرص اللي قدامك وتفضل متمسك بالماضي."


ظل ليث صامتًا للحظة، ثم قال بنبرة خافتة: "الماضي مش حاجة سهل أنساها، في حاجات بتفضل محفورة في القلب حتى لو حاولت تخرجها."


يارا وضعت كوب القهوة أمامها، ثم أسندت ذقنها على يدها وهي تنظر إليه بفضول: "قولي يا ليث، إيه الحاجة اللي مخلياك متمسك بيها بالشكل ده؟ يعني ليه مش قادر تبدأ من جديد؟"


نظر إليها ليث بعينين حزينتين، وكأن كل شيء مر به يمر أمامه من جديد، لكنه قرر ألا يخوض في التفاصيل كثيرًا، فقط قال بصوت هادئ: "لأنها كانت كل حاجة بالنسبة لي."


يارا زفرت بضيق، ثم قالت بنبرة شبه منزعجة: "بس هي مش موجودة دلوقتي، مش كده؟ طيب ليه تضيع حياتك على حاجة خلاص راحت؟"


شعر ليث بغصة في حلقه، لم يكن يريد سماع هذه الكلمات، لكنه في نفس الوقت بدأ يفقد الأمل تدريجيًا، فابتسم بسخرية وهو يرد: "أنتي بتتكلمي كأن المشاعر حاجة نقدر نتحكم فيها بزرار نضغط عليه ننسى ."


يارا ضحكت بخفة، ثم قالت: "مش بزرار… بس بإرادتك. وإرادتك دي اللي هتحدد إنت هتفضل في مكانك، ولا هتمشي للأمام."


نظر ليث إليها طويلًا، ثم أخذ رشفة من قهوته قبل أن يقول بنبرة أخف: "طيب خليني أسألك… أنتي إزاي بتقدري تتجاوزي أي حاجة بسهولة كده؟"


يارا بابتسامة واثقة: "لأني مش بسمح لأي حاجة تعطلني، عشت حياتي كلها وأنا ببني نفسي، مفيش حاجة اسمها حد يوقفني، ولو حاجة انتهت؟ خلاص، أكمل طريقي بقى هو لو كل شوية هقف عشان موقف مؤلم يبقى مش هوصل لأي حاجة و أبص الاقي حياتي خلصت من غير ما أعمل حاجة و لا أوصل لحاجة  ."


ظل ليث يتأملها، وجد فيها شخصًا مختلفًا تمامًا عنه، عقلية مستقلة، قوية، لا تنظر للخلف أبدًا. شعر بأنه ربما عليه أن يتعلم منها، ولو قليلًا.


يارا، وهي تميل للأمام قليلًا وتخفض صوتها، قائلة بمكر: "على فكرة… أنا عندي ليك مفاجأة، بس مش هقولك عليها دلوقتي."


نظر إليها ليث بشك: "إيه المفاجأة؟"


يارا ضحكت: "مش هقولك، بس أوعدني إنك مش هتتراجع وترجع لعزلتك تاني."


أطلق ليث زفرة خفيفة، ثم ابتسم لأول مرة منذ فترة طويلة: "أنا هنا أهو، مش ناوي أرجع، قوليلي بقى… المفاجأة إيه؟"


ضحكت يارا وهي تهز رأسها: "لأ لسه، بس هتعرف قريب جدًا."


ظل ليث يحدّق فيها، شعر أن حياته بدأت تأخذ منعطفًا مختلفًا، لكنه لم يكن متأكدًا بعد إن كان هذا المنعطف للأفضل… أم للأسوأ.

❈-❈-❈

مرت الأيام وبدأ ليث يجد نفسه يقضي وقتًا أطول مع يارا، لم يكن الأمر مجرد خروج عابر، بل كان هناك شيء يجذبه إليها، ربما ليس حبًا، لكنه نوع من الراحة التي لم يشعر بها منذ وقت طويل. كانت يارا تعرف كيف تملأ الفراغ الذي تركته سبيل، أو على الأقل، كانت تحاول.


في إحدى الليالي، جلست يارا مع ليث في أحد المطاعم الراقية على ضوء الشموع، الموسيقى الهادئة تعزف في الخلفية، وكانت الأجواء مثالية لأي شخصين في موعد رومانسي، لكنها كانت تعلم أن ليث لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، لذا قررت ألا تضغط عليه.


يارا بابتسامة وهي تحرك كأس العصير أمامها: "أظن إني لازم أخد كل الفضل في التحسن اللي وصلتله."


ليث، وهو يرفع حاجبه بسخرية خفيفة: "آه؟ ليه بقى؟"


يارا، وهي تميل للأمام قليلاً: "لأني أنا اللي خرجتك من قوقعتك، مش كده؟ أنا اللي خليتك تشوف الحياة من منظور مختلف، ولو حتى بنسبة بسيطة."


ليث زفر بخفة وهو ينظر إلى الطاولة: "ممكن… بس ده مش معناه إني نسيت أو إني تمام."


هزت يارا رأسها وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بالثقة: "ماحدش بيطلب منك تنسى، بس الناس بتتغير، والمشاعر بتتغير، وصدقني، لو فضلت في مكانك مش هتوصل لحاجة."


ظل ليث صامتًا، كلماتها كان لها تأثير عليه، لكنه لم يكن متأكدًا إن كان هذا التأثير إيجابيًا أم لا. شعر وكأنه يُجبر على شيء لم يكن مستعدًا له بعد.


بعد العشاء، خرج الاثنان من المطعم واتجهت يارا إلى سيارتها، لكنها التفتت إليه قبل أن تركب وقالت بابتسامة خفيفة: "بالمناسبة… المفاجأة اللي كنت بقولك عليها قربت، استعد لها."


نظر إليها ليث بفضول: "هو أنا مش هعرف أبدًا؟"


ضحكت يارا وهي تفتح باب سيارتها: "لأ، بس قريب جدًا، وأوعدك إنها هتعجبك."


راقبها ليث وهي تقود بعيدًا، ثم تنهد وهو ينظر للسماء… كان يشعر أن هناك شيئًا ما يتغير، لكن لم يكن متأكدًا إن كان يريد لهذا التغيير أن يحدث أم لا.

❈-❈-❈


في اليوم التالي، استيقظ ليث على اتصال من يارا، كان صوتها مليئًا بالحماس كما لو كانت تخطط لشيء كبير.


يارا، بحيوية: "صباح الخير، يا نجم الإعلانات!"


ليث، وهو يتثاءب: "صباح الخير… في إيه؟"


يارا، بمرح: "حاجة صغيرة جدًا… جهز نفسك، عندنا تصوير جلسة جديدة، وعايزة أشوفك بكامل طاقتك!"


ليث، وهو يحك رأسه: "ما قولتليش عن الموضوع ده قبل كده…"


يارا، بمكر: "أنا بحب المفاجآت، وصدقني، هتحب ده."


بعد ساعات، كان ليث يقف في موقع التصوير، يرتدي إحدى القطع الجديدة لشركة يارا، الأضواء، الكاميرات، وفريق العمل من حوله… كل شيء كان يوحي أنه انتقل لعالم مختلف تمامًا عن ذلك الذي كان يعيش فيه منذ سنوات قليلة فقط.


عندما بدأ التصوير، لاحظ ليث أن يارا كانت تراقبه باهتمام شديد، كانت تقف في زاوية المكان، تتابعه بعينين مليئتين بالإعجاب. وبعد انتهاء الجلسة، اقتربت منه بابتسامة راضية.


يارا، وهي تصفق ببطء: "أنا فخورة بيك… كنت رائع، زي ما توقعت بالظبط."


ليث، وهو يمسح العرق عن جبينه: "بصراحة… كان غريب شوية، بس مش سيء."


يارا، وهي تميل نحوه قليلًا: "مش قلتلك؟ هتتعود عليه وهتحبه، وبعدين، مش ده جزء من خطتك؟ إنك تبقى معروف أكتر علشان… تعرف توصل لحاجة؟"


كان هناك شيء في نبرتها جعل ليث يتردد للحظة، هل كانت تعرف أكثر مما تبدو عليه؟ أم أنها فقط تخمن؟ قرر ألا يسألها مباشرة، لكنه شعر أن يارا ليست فقط مهتمة بمساعدته، بل ربما لديها أهداف أخرى.


ليث، وهو ينظر إليها بتمعن: "وبعدين؟ عندك إيه تاني جوا نفسك؟"


يارا، وهي تبتسم بثقة: "عندي حاجة هتخليك نجم مش بس في الإعلانات… استعد لحاجة أكبر، وخلينا نحتفل الليلة."


نظر إليها ليث بصمت، لم يكن متأكدًا مما تخطط له، لكنه كان يعلم أنه يسير في طريق مختلف تمامًا عما تخيله لنفسه. السؤال الحقيقي… هل كان يريد ذلك حقًا؟


❈-❈-❈

في المساء، استعد ليث للخروج مع يارا، ارتدى قميصًا أنيقًا وبنطالًا أسود، شعر بأنه يدخل عالمًا جديدًا، لكنه لم يستطع إنكار أن جزءًا منه كان لا يزال متعلقًا بالماضي.


عندما وصل إلى المكان، كان الحفل فخمًا، الأضواء الساطعة، الموسيقى الراقية، وأشخاص من عالم الأعمال والفن والإعلام، كانت يارا تتحرك بثقة وسط الجميع وكأنها في بيتها.


يارا، وهي تقترب منه بابتسامة: "جاهز يا بطل؟ الليلة دي خطوة جديدة ليك."


ليث، وهو ينظر حوله: "أنا مش متأكد إن ده مكاني."


يارا، وهي تمسك بذراعها بخفة: "المكان اللي بتكون فيه هو اللي بيكون مناسب ليك، افتكر دايماً إنك تستحق تكون وسط الكبار."


اقترب منهما رجل يبدو في أواخر الأربعينات، ذو لحية مهذبة ونظارات أنيقة، مد يده لمصافحة ليث.


الرجل، بابتسامة رسمية: "أخيرًا اتقابلنا، سمعت عنك كتير، يارا مش بتبطل عن الكلام عن موهبتك."


ليث، وهو يصافحه بتحفظ: "تشرفت بمعرفتك، بس… موهبتي في إيه بالظبط؟"


ضحكت يارا وهي تنظر للرجل قائلة: "ليث متواضع جدًا، رغم إنه موهوب في كل حاجة بيلمسها!"


الرجل، وهو ينظر ليث بتمعن: "أنا كريم الصاوي، عندي وكالة إعلانات وإدارة مواهب، وأعتقد إنك ممكن تكون واجهة جديدة نبحث عنها."


ليث، وهو يشعر بالتردد: "أنا بس بدأت مؤخرًا… مش عارف إذا كنت مستعد لحاجة زي دي."


يارا، وهي تضع يدها على كتفه: "ليه لا؟ أنت شخصيتك قوية، كاريزما، حضور، والناس بدأت تلاحظك، ليه متستغلش ده؟"


صمت ليث للحظات، لم يكن متأكدًا مما يريده، لكنه كان يعلم أن هذا الطريق قد يوصله إلى شيء أكبر… أو ربما إلى طريق لا رجعة منه.


في زاوية الحفل، وقف يراقب الناس، وبدون وعي، بدأ يبحث في الوجوه عن سبيل، رغم علمه أنها لن تكون هنا، لكنها كانت تسكن روحه، هل كان هذا خيانة لها؟ أم مجرد محاولة للتعايش؟


يارا، وهي تقاطعه من شروده: "إيه رأيك؟ عندنا جلسة تصوير ضخمة قريب، وعايزاك تبقى الوجه الرئيسي فيها."


نظر إليها ليث طويلًا قبل أن يجيب… هل يقبل ويمضي في هذا الطريق؟ أم يتراجع قبل أن يصبح شيئًا آخر غير الذي كان عليه؟


نظر ليث إلى يارا بجدية وقال: "مش عايز أنسى شغفي بالرياضة، أنا لاعب تنس قبل أي حاجة، وده اللي عشت عشانه سنين و مش سهل أتخلى عنه."


يارا، وهي تبتسم بثقة: "مين قال إنك هتنسى؟ بالعكس، ده هيكون داعم ليك، شهرتك هتساعدك أكتر في مسيرتك كلاعب، تخيل لما يكون عندك جمهور بيتابعك مش بس عشان أدائك في التنس، لكن كمان عشان حضورك القوي وإطلالتك."


ليث، وهو ينظر بعيدًا مفكرًا: "أنا بحب الرياضة لأنها بتخليني أشعر بالحياة، بتحسسني إني بعمل حاجة ليها معنى، مش مجرد صورة على غلاف مجلة."


يارا، وهي تميل برأسها قليلًا: "وأنا مش عايزاك تكون مجرد صورة، أنا عايزاك تكون رمز، تكون قدوة للشباب اللي بيحبوا الرياضة، وتبقى مثال للقوة والإصرار… وصدقني، النجاح مش بس في الملعب، النجاح هو إنك تعرف تستغل كل الفرص اللي قدامك و تنشهر أكتر و أكتر ."


ليث، وهو يضع يديه في جيبه بتردد: "أنا مش ضد الفرص، بس خايف أضيع في طريق مش بتاعي."


يارا، وهي تنظر إليه بعمق: "وأنا عايزاك تفكر فيها كمرحلة، مرحلة تساعدك توصل لحاجة أكبر، متخليش مخاوفك توقفك و متخليش سقف لطموحك."


ظل ليث صامتًا للحظات، بداخله صراع بين شغفه وحاجته للتقدم في الحياة، وبين إحساسه بأن هذا الطريق قد يبعده عن حلمه الحقيقي. لكنه أدرك أيضًا أنه إن أراد العثور على سبيل، فعليه أن يكون في كل مكان، عليه أن يكون معروفًا، أن تكون صورته في كل مكان، ربما… ربما تراها هي، وربما يكون هذا هو الخيط الذي يعيده إليها.


تنهد وقال بهدوء: "هفكر في الموضوع."


ابتسمت يارا بانتصار وهمست: "عارفة إنك هتاخد القرار الصح، وأنا هكون جنبك في كل خطوة برضو كمديرة و كأي حاجة بتفكر فيها."


مرّت الأيام، وأصبح ليث أكثر انخراطًا في عالم الإعلانات والموضة، يقضي وقته بين جلسات التصوير والمقابلات، وبين التدريبات التي لم يتخلَّ عنها رغم كل شيء. يارا كانت دائمًا إلى جانبه، تدعمه وتدفعه للأمام، لكنها في نفس الوقت تحاول التقرب منه أكثر، بطريقة غير مباشرة لكنها واضحة.


في أحد الأيام، وبعد انتهاء جلسة تصوير مرهقة، جلست يارا بجانبه على الأريكة في الاستوديو، وهي تحمل كوبًا من القهوة ومدّته له.


يارا بابتسامة ناعمة: "أنا مش فاهمة، ليه كل مرة بنخلص فيها شغل، بتحس إنك غريب عن المكان؟ أنت ناجح، وموهوب، والكل شايفك قدوة."


ليث وهو يتناول القهوة دون اهتمام: "عشان يمكن ده مش مكاني الحقيقي، أنا لسه بحاول أفهم نفسي في العالم ده."


يارا وهي تقترب منه قليلًا: "بس بجد، أنا مبهورة بيك… مفيش حد عنده الإرادة اللي عندك، لما شفتك أول مرة كنت عارفة إنك مش مجرد وجه وسيم، أنت شخص عنده قصة، وعنده روح قوية."


ليث وهو ينظر إليها نظرة سريعة ثم يعيد عينيه إلى كوب القهوة: "كل واحد عنده قصة، بس مش كل القصص بتبقى سعيدة."


يارا وهي تضع يدها على كتفه بلطف: "وإنت ليه مش بتسيب القصة القديمة وتبدأ واحدة جديدة؟ ليه حابس نفسك في الماضي كل ده ؟"


نظر ليث إليها نظرة عميقة، كان يعلم تمامًا ما تحاول قوله، لكنه لم يكن مستعدًا لسماع ذلك، ليس بعد.


ليث بصوت هادئ لكنه حازم: "مش دايمًا القصص القديمة بتنتهي، أحيانًا بتكون لسه مستمرة حتى لو الناس افتكروا إنها خلصت."


يارا وهي تتنهد بابتسامة خفيفة: "طيب ما فكرتش إنك ممكن تلاقي سعادة في مكان تاني؟ مع حد تاني؟"


ظل ليث صامتًا للحظة، ثم وضع الكوب جانبًا ونهض من مكانه، التفت إليها بابتسامة باهتة وقال: "أنا محتاج أروح النادي، عندي تدريب."


نظرت إليه يارا وهو يبتعد، ثم تمتمت لنفسها: "لسه مش قادر ينسى… بس أنا مش هستسلم."


وبينما كان ليث يقود سيارته متجهًا إلى النادي، وجد نفسه يتساءل… هل هو حقًا متمسك بسبيل لأنها حبه الأول؟ أم لأنه يشعر بالذنب لأنه لم يستطع إنقاذها؟ وماذا لو كانت يارا على حق؟ ماذا لو كان عليه أن يبدأ من جديد؟

❈-❈-❈

كانت ليان غارقة في العمل حتى رأسها، تتنقل بين القضايا والمرافعات والاجتماعات، بالكاد تجد وقتًا للراحة. لم تكن قد تحدثت مع ليث منذ فترة طويلة، ولم تعرف كيف تسير حياته بعد كل ما حدث. كانت تشعر بالذنب قليلًا، لكنها كانت تبرر لنفسها أن كل منهما لديه حياته الخاصة، وأن ليث ربما بدأ يتعافى ويمضي قدمًا.


في إحدى الليالي، وبينما كانت ترتب ملفاتها في مكتبها استعدادًا للمغادرة، رن هاتفها، كان رقمًا غير مسجل، لكنها أجابت.


ليان: "ألو، مين معايا؟"


يارا بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة خفية من التحدي: "مساء الخير، أنا يارا الكحلاوي، عارفة إنك صديقة مقربة لليث مش بس بنت عمه و زي أخته."


ارتسمت علامات الاستغراب على وجه ليان، فقد سمعت عن يارا من بعض معارفها، لكنها لم تتوقع أبدًا أن تتصل بها.


ليان بحذر: "أه، خير؟ في حاجة حصلت لليث؟"


يارا بابتسامة خفيفة، وكأنها تستمتع بالموقف: "لا، هو كويس جدًا، في الحقيقة، هو بدأ حياة جديدة بعيد عن كل الحزن اللي كان غرقان فيه… وكنت عايزة أعرف، إنتِ مش شايفة إنه يستحق ده؟"


شعرت ليان بانقباض في قلبها، لم تكن قد رأت ليث منذ فترة، لكن فكرة أنه بدأ "حياة جديدة" بهذه الطريقة أثارت شيئًا بداخلها.


ليان بجفاف: "مش فاهمة قصدك، تقدري توضحي أكتر؟"


يارا بلهجة واثقة: "ليث بدأ يركز على مستقبله، بقى وجه إعلاني مهم، بيتقدم في حياته، وأنا معاه… بقرب منه كل يوم أكتر."


تجمدت يد ليان فوق ملفاتها، لم تكن تتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد. لقد كانت تعرف أن يارا امرأة قوية وجريئة، لكنها لم تتوقع أن تحاول استبعادها من حياة ليث بهذه الطريقة.


ليان ببرود مصطنع: "لو كنتِ بتتصلي علشان تقوليلي إنك قربتي من ليث، فده مش من اختصاصي، حياته تخصه هو و بس."


يارا بضحكة خفيفة: "تمام، بس كنت حابة أتأكد إنك مش هتكوني عقبة في طريقه."


أغلقت ليان الهاتف ببطء، ثم تنهدت وهي تستند إلى مكتبها. كان عليها أن ترى ليث، أن تعرف الحقيقة بنفسها، قبل أن تفقده تمامًا.

❈-❈-❈

في أحد الأيام، تلقت ليان مكالمة غير متوقعة من يارا الكحلاوي. كانت نبرتها مرحة ومبتهجة كعادتها، لكنها حملت في طياتها نية غير مفهومة.


يارا: "ليان، إزيك؟ مشغولة ولا عندك وقت تجربي حاجة جديدة؟"


ليان بحذر: "تجربي حاجة جديدة؟ قصدك إيه؟"


يارا ضحكت بخفة: "أنا شايفة إنك شغلك واخدك تمامًا، بس الحياة مش كلها محاكم وقضايا، لازم تفكري في نفسك شوية. فقلت ليه ما أعرفكيش على شخص مناسب ليكي؟"


ليان رفعت حاجبها بدهشة: "شخص مناسب؟ انتي بتهزري؟"


يارا بجدية مصطنعة: "بالعكس، أنا بتكلم بجد. اسمه زياد الشرقاوي، رجل أعمال ناجح جدًا، وسيم، مثقف، وعنده كل المواصفات اللي ممكن أي بنت تتمناها. وبصراحة، حسيته لايق عليكي جدًا."


ليان زفرت بضيق: "يارا، أنا مش بفكر في الحاجات دي حاليًا، وعندي حاجات أهم أركز فيها."


يارا بمكر: "طب إيه رأيك تقابليه بس، مجرد عشاء ودي، شوفيه واحكمي بنفسك، مفيش خسارة في ده."


ترددت ليان للحظات، لكنها شعرت أن يارا تحاول دفعها بعيدًا عن شيء ما… أو شخص ما. هل تحاول إشغالها عن ليث؟ أم أنها مجرد محاولة لتأكيد نفوذها في حياته؟


ليان ببرود: "هفكر في الموضوع، ولو قررت حاجة، هبقى أقولك."


أغلقت الهاتف وهي تشعر بعدم ارتياح… كان عليها أن تعرف نوايا يارا الحقيقية، ولكن الأهم من ذلك، كان عليها أن ترى ليث بنفسها.


في المساء، جلست ليان في شرفة منزلها، تنتظر عودة ليث. كانت تشعر بالتوتر والقلق، فهي لم تره منذ فترة، وتريد أن تفهم ما الذي يجري معه. عندما سمعت صوت محرك سيارته يقترب، نهضت بسرعة واتجهت نحوه. خرج ليث من السيارة، بدا متعبًا لكنه كان أنيقًا كعادته، ورغم الإرهاق الذي ظهر على ملامحه، إلا أن شيئًا آخر كان مختلفًا فيه.


ليان وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها: "أخيرًا قررت تفتكرني!"


ليث رفع حاجبيه بدهشة: "إيه ده؟ هجوم مفاجئ ولا إيه؟"


ليان بحدة: "أنا اللي أسألك! أنت فين بقالك أسابيع؟ مابتردش، مشغول طول الوقت، ومش عارفين عنك حاجة غير اللي بيظهر في الجرائد والمجلات؟"


ليث بتنهد وهو يخلع سترته: "مشغول شوية، وعندي حاجات شغلالي بالي."


ليان بتهكم: "حاجات ولا يارا الكحلاوي؟"


نظر إليها ليث بجمود، لم يكن يريد الدخول في هذا النقاش، لكنه أدرك أنها لن تترك الأمر بسهولة.


ليث وهو يجلس على الكرسي: "يارا زميلة في الشغل، مش أكتر."


ليان وهي تقترب منه وتجثو أمامه بجدية: "مش أكتر؟ بجد يا ليث؟ كل الناس بتتكلم عنك وعنها، بتخرجوا سوا، بتظهروا في كل الحفلات والمناسبات، وأنت حتى مش شايف إنها بتحاول تسيطر على حياتك؟"


ليث وهو يشيح بنظره بعيدًا: "أنا عارف هي بتحاول تعمل إيه، بس ده مش معناه إن في حاجة بيني وبينها. الحياة لازم تمشي يا ليان، مش هفضل عايش في الماضي للأبد."


ليان وقد بدأت تشعر بالغضب: "وده معناه إنك تنسى سبيل؟ دي كانت كل حياتك، كنت هتموت عليها، دلوقتي فجأة يارا بقت الأهم؟"


نهض ليث بغضب، وحدق بها بعينين مليئتين بالألم: "أنا مش ناسي سبيل، بس أنا تعبت! تعبت من البحث، تعبت من إني كل يوم أصحى على أمل كاذب، تعبت من الانتظار اللي ملوش نهاية!"


ليان بحزن: "بس ده مش أنت يا ليث، مش اللي أعرفه، الليث اللي أعرفه مابيستسلمش، مابيسيبش اللي بيحبه بسهولة."


ليث وهو يمرر يده في شعره بعصبية: "وإيه المطلوب مني؟ أكمل حياتي كلها أدور على شخص ممكن يكون مات؟ أعيش على ذكرى واحدة وميّتة؟"


صمتت ليان للحظات، ثم قالت بهدوء: "أنا مش بقولك تعيش على الذكرى، بس متخليش حد ياخدك في طريق مش بتاعك، متخليش حد يستغل ضعفك وألمك علشان يتحكم فيك."


نظر إليها ليث مطولًا، وكأن كلماتها أصابت شيئًا داخله، لكنه لم يعترف بذلك. بدلاً من الرد، أدار وجهه عنها وسار نحو باب المنزل.


قبل أن يرحل، استدار وقال بصوت هادئ لكنه عميق: "أنا مش ضعيف، يا ليان… أنا بجد تعبت."


راقبته ليان وهو يغادر، وداخلها إحساس قوي بأن يارا لم تكن مجرد "زميلة في الشغل"، بل كانت تحاول أخذ ليث لعالم آخر… عالم قد لا يعود منه أبدًا.


يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا ممدوح، لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة