رواية جديدة الخطيئة لرانيا ممدوح - الفصل 4 - السبت 8/3/2025
قراءة رواية الخطيئة كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية الخطيئة
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا ممدوح
الفصل الرابع
تم النشر السبت
8/3/2025
أمسك هاتفه مرة أخرى، وقرر أخيرًا أن يرسل لها رسالة:
"رباب، محتاجين نتكلم في موضوع مهم. ممكن نشوف بعض قريب؟"
ضغط على زر الإرسال، ثم وضع الهاتف بجانبه وأغمض عينيه. لم يكن متأكدًا مما سيحدث لاحقًا، لكنه كان يعلم أن الليلة ستكون طويلة، مليئة بالتفكير والأرق.
عابد كان يعيش صراعًا داخليًا عميقًا، كأنه يقف على حافة هاوية بين ما يريده قلبه وما يفرضه عليه الواقع. كلما تذكر ملامح رباب وضحكتها التي كانت تنير يومه، شعر وكأنه ينهار من الداخل. هي ليست فقط حبيبته، بل كانت مصدر إلهامه ودافعًا له للاستمرار في أصعب الأوقات.
لكنه الآن يواجه الحقيقة الصادمة التي كشفها تقرير الجد. والدها المتورط في أعمال غير مشروعة، والديون التي تثقل كاهل عائلتها، كلها أشياء تهدد سلامة مستقبلهما معًا. كان عقله يصرخ به:
"إزاي هتعيش في استقرار مع حد كل عيلتها غارقة في المشاكل؟"
وفي الوقت نفسه، كان قلبه يرفض أن يتخلى عن رباب. تلك اللحظات التي قضوها معًا، أحلامهما المشتركة، ووعوده لها بأنه سيكون دائمًا بجانبها. كيف يمكن أن ينقض تلك الوعود الآن؟
في أعماقه كان يشعر بأنه مقيد بسلاسل ثقيلة. قرار تركها كان يبدو وكأنه خيانة لنفسه قبل أن يكون لها. لكنه أيضًا كان يشعر بعبء المسؤولية، فهو ليس شابًا عاديًا، بل ضابط في الجيش، يحمل قيمًا ومبادئ تجعله يضع الاعتبارات العائلية والمجتمعية في مقدمة أولوياته.
كلما فكر في كلام الجد، شعر بالخجل. الجد لم يكن قاسيًا، بل كان يحاول حمايته، ومع ذلك، كلمات الجد كانت كأنها خنجر يغوص في قلبه:
"الحب مش كفاية يا عابد... لازم تبص للصورة الكبيرة."
في لحظة، وجد نفسه يمسك برأسه بين يديه، وكأن الألم النفسي أصبح جسديًا. تساءل بصوت خافت:
"هل أنا ضعيف لو اخترت أسيبها؟ ولا أناني لو فضلت معاها وأغفلت كل ده؟"
كان يشعر وكأن عقله وقلبه يخوضان معركة لا نهاية لها. العقل يضع أمامه كل الحقائق المنطقية، بينما القلب يغرقه بذكريات الحب والمشاعر التي جمعتهما. حتى أنه تذكر كلماتها وهي تقول:
"أنا معاك في كل خطوة، ومهما حصل، هنعدي أي حاجة مع بعض."
لكن الآن، كان السؤال الذي يطحنه داخليًا:
"وهل فعلاً كل حاجة ممكن تتعَدَّى؟"
" أنا بس مش عارف أظبط حياتي"
جلس في غرفته تلك الليلة، يحدق في السقف، عيناه غارقتان في الحيرة، وروحه مثقلة بقرار لم يكن يتخيل يومًا أنه سيضطر لاتخاذه.
ردت رباب : "تمام، نتقابل في المكان المعتاد."
في أحد المقاهي الهادئة على أطراف المدينة، جلس عابد على طاولة بجوار النافذة، يراقب الشارع من خلف الزجاج العريض. كانت يداه متشابكتين أمامه، وأنامله تضغط على بعضها في توتر واضح. كان يرتدي بدلته العسكرية التي تحمل رمزية حياته المليئة بالالتزام والمسؤولية، لكن عينيه المرهقتين فضحتا صراعًا داخليًا أكبر.
في الجهة الأخرى من الشارع، ظهرت رباب بخطوات مترددة، ترتدي فستانًا بسيطًا يبرز أناقتها الطبيعية. كانت ملامح وجهها تحمل مزيجًا من القلق والحب، بينما يتراقص فستانها مع نسمات الهواء الخفيف. تقدمت نحو المقهى ببطء، وعندما دخلت، التقت عيناهما للحظة واحدة. تلك اللحظة كانت كافية لتكشف عن مشاعر مختلطة بينهما: شوق، حيرة، وقلق.
ابتسمت رباب ابتسامة خافتة وهي تقترب من الطاولة. عابد وقف ليبادلها التحية، ثم جلسا معًا. لم يكن هناك حاجة للكلمات في البداية، فقد كان الصمت بينهما مشحونًا بألف سؤال.
"إزيك يا رباب؟" قال عابد بصوت هادئ لكنه محمل بالجدية، وهو ينظر في عينيها العسليتين وكأنه يحاول أن يجد الإجابات فيها.
"الحمد لله، وأنت؟" ردت رباب بابتسامة صغيرة حاولت من خلالها إخفاء القلق الذي يظهر في عينيها.
عابد حرك كوب القهوة أمامه دون أن يشرب منه، ثم قال وهو يخفض صوته:
"رباب، إحنا محتاجين نتكلم بوضوح. في حاجات كتير لازم تتقال."
رباب عقدت حاجبيها قليلًا، وأمالت رأسها للأمام كأنها تستعد لسماع كلمات قد تثقل قلبها. قالت بهدوء:
"طبعًا، أنا معاك. قولي اللي في بالك."
عابد أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال:
"بصي، أنا مش بحب ألف وأدور. علاقتنا فيها تحديات مش سهلة. مشاعري ليكِ مفيش شك فيها، بس الظروف حوالينا بتضغط علينا بشكل كبير. جدي مش راضي على العلاقة دي، وعنده أسبابه اللي شايفها منطقية."
نظرت رباب إلى عينيه مباشرة، وكان في نظرتها مزيج من الجدية والحب:
"وأنت؟ إنت شايف إيه يا عابد؟ إنت راضي عننا؟"
سؤالها أصاب عابد بالصمت للحظة. ثم رد بصوت خافت لكنه قوي:
"أنا راضي عنك وعن العلاقة. لكن خوفي الحقيقي إنك تتأذي بسبب الضغط اللي حوالينا. حياتي مش سهلة، شغلي في الجيش مليان مخاطر ومسؤوليات. وأنا عارف إن الحب لوحده مش كفاية أحيانًا."
رباب حاولت السيطرة على دموعها التي لمعت في عينيها، لكنها حافظت على هدوئها. قالت بثقة:
"عابد، أنا مش واخدة الموضوع ده باستهتار. أنا عارفة إن حياتك مش سهلة، وإن الدنيا مش وردي. لكن أنا اخترتك وأنت عارف ده كويس. مش هسيبك تواجه أي حاجة لوحدك."
ابتسامة صغيرة ارتسمت على وجه عابد رغم ثقل الحديث. قال:
"إنتي دايمًا قوية. يمكن ده أكتر حاجة بحبها فيكي. بس الواقع صعب، و جدي ورا الموضوع ده مش هايسكت بسهولة. إحنا محتاجين نبقى جاهزين لأي حاجة... و بصراحة جدي عرف عن شغل والدك الغير مشروع و عن الديون"
نظر عابد إلى رباب وهو يشعر بتمزق داخلي، بين مشاعره الصادقة نحوها وبين كلمات جده التي كانت تدوي في رأسه كجرس إنذار. كانت رباب جالسة أمامه، تمسك بطرف الطاولة بأصابع مرتجفة، وعيناها تغمرهما الدموع التي لم تستطع كبحها.
قالت بصوت مخنوق وهي تحاول أن تشرح:
"أنا معرفش حاجة عن شغل بابا يا عابد... والله ما لي دخل في أي حاجة تخص شغله. كل اللي أعرفه إنه طول عمره بيشتغل عشان يوفرلنا حياة كريمة."
عابد أغمض عينيه للحظة، محاولًا جمع شتات أفكاره. كان كلامها صادقًا، لكنه كان يشعر بثقل الحقيقة التي عرفها من تقرير جده. فتح عينيه ونظر إليها بحزم:
"رباب، أنا عارف إنك ما ليكيش ذنب، وعارف كمان إنك أنضف من أي حاجة حوالينا. لكن المشكلة مش بس فيكِ. المشكلة إننا هنواجه مجتمع وأهل وكل حد حواليكِ وحواليا. أنا لازم أكون صريح معاكِ."
رباب حاولت كبح دموعها وهي تقول بصوت مرتعش:
"يعني إيه؟ إنت شايف إن كل اللي بينا يضيع بسبب حاجة ماليش ذنب فيها؟ أنا مش فاهمة يا عابد، إنت بتلومني على حاجة ما عملتهاش؟"
أمسك عابد بكوب القهوة أمامه، لكنه لم يرفع عينيه عن وجهها. قال بهدوء لكنه يحمل نبرة حزن:
"مش بلومك يا رباب. بالعكس، أنا بلوم نفسي إني ما قدرتش أواجه الحاجات دي من الأول. إنتي عارفة إني بحبك، لكن الحب ساعات بيبقى مش كفاية لو الظروف أكبر مننا."
نظرت رباب إليه بدهشة، وكأنها لا تصدق ما تسمعه. قالت باندفاع:
"ظروف إيه اللي بتتكلم عنها؟ أنا هنا، معاك، مستعدة أتحمل أي حاجة. لكن إنت دلوقتي بتتكلم كأنك عايز تهرب!"
عابد شعر بثقل كلماتها وكأنها خنجر أصاب قلبه. رفع عينيه ببطء وقال بصوت مشحون بالمشاعر:
"مش هروب يا رباب... أنا مش خايف على نفسي، أنا خايف عليكِ. خايف من إنك تدخلي حياة كلها مشاكل وصراعات مالكيش يد فيها. مش عايزك تدفعي تمن حاجة إنتي مش مسؤولة عنها."
دموع رباب انهمرت بغزارة، لكنها لم تترك مكانها. رفعت رأسها وقالت بحزم، رغم ارتعاش صوتها:
"أنا أتحمل، يا عابد. أتحمل أي حاجة طول ما إنت جنبي. لكن اللي مش قادر أفهمه، إزاي إنت مش شايف إننا ممكن نعدي ده مع بعض؟"
صمت عابد للحظة، ثم قال بصوت منخفض:
"رباب، جدي عنده كلام كتير صعب أتجاهله. وده مش بس هيأثر عليا، ده هيأثر على شغلي، على اسمي، وعلى كل حاجة بنيتها. إنتي عارفة إن شغلي في الجيش حساس، ومشاكل زي دي ممكن تبوظ كل حاجة."
هزت رباب رأسها نفيًا وقالت:
"بس إحنا لسه ما عملناش حاجة غلط! ليه بنحاسب نفسنا على حاجة لسه ما حصلتش؟"
ابتسم عابد ابتسامة حزينة وقال:
"الحياة ما بترحمش، يا رباب. أنا بحاول أحميكِ. وبحاول أحمي كل حاجة حوالينا. يمكن ده مش اللي إنتي عايزة تسمعيه، لكن ده اللي لازم أقوله."
كان الصمت بينهما ثقيلًا كالصخر، ولم يكن أحدهما يعرف كيف يكسره. كانت رباب تشعر أن
رباب مدت يدها بهدوء ولمست يده على الطاولة. شعرت بدفء يده الباردة، وقالت:
"مش مهم. طول ما إحنا مع بعض، هنقدر نعدي أي حاجة. خلي ثقتك فينا أكتر من أي عقبة."
نظر عابد إلى يدها فوق يده، ثم إلى عينيها. كان يرى في تلك اللحظة وضوح حبها له وثقتها فيه، رغم كل التحديات. قال أخيرًا:
"لو ده قرارك، يبقى إتحمليه لوحدك ."
ابتسمت رباب أخيرًا، ابتسامة مليئة بالإصرار والطمأنينة. قالت:
"وأنا معاك، يا عابد، في أي وقت وفي أي مكان."
أنهيا حديثهما بمزيد من الأمل، رغم أن الغموض كان ما زال يحيط بمستقبلهما. عابد شعر بأنه استعاد جزءًا من قوته بفضل ثقة رباب، أما هي، فكانت تعلم أن الحب الحقيقي يُختبر في لحظات كهذه.
قال عابد منهيًا هذه المحادثة الصعبة عليه و عليها
" بس أنا مقدرش أقف قدام عيلتي"
ساد الصمت بينهما للحظات
رباب لم تستطع تحمل هذا الصمت الذي بدا كأنه إعلان عن نهاية شيء كانت تظنه أبديًا. نظرت إلى عابد بعينيها الغارقتين في الدموع، وقالت بصوت مختنق:
"يعني خلاص؟ ده القرار النهائي؟ هتسيبني عشان حاجة ما ليش يد فيها؟"
عابد لم يرد مباشرة. كان يعلم أن أي كلمة سيقولها ستزيد من ألمها، لكنه أيضًا كان يشعر بأنه في معركة بين قلبه وعقله. بعد لحظة طويلة، قال بهدوء:
"رباب، أنا مش بسيبك عشان ما بحبكيش، بالعكس. أنا بسيبك عشان بحبك، ومش عايزك تعيشي حياة مليانة مشاكل بسبب شغلي وظروفك."
رباب هزت رأسها نفيًا وقالت بمرارة:
"ده مش حب، يا عابد. الحب مش إنه يبعد عن اللي بيحبه بحجة إنه بيحميه. ده هروب. إنت بتستخبى ورا كلام العقل عشان ما تواجهش الحقيقة."
عابد شعر بلكمة في صدره من كلماتها، لكنه لم يظهر أي ضعف. قال بصوت ثابت:
"يمكن كلامك صح، يمكن أنا فعلاً مش قادر أواجه. لكن صدقيني، أنا عارف إن ده في مصلحتنا إحنا الاتنين."
رباب وقفت بغضب، ودموعها تسيل على وجنتيها. قالت بصوت متحشرج:
"مصلحتنا؟ مصلحتنا إيه اللي تتبني على الفراق؟! إنت بتقول كلام كبير، لكن الحقيقة إنك بتختار تسيبني وأنا محتاجاك."
حاول عابد أن يمد يده ليهدئها، لكنه تراجع عندما رأى نظرة الألم والغضب في عينيها. قالت له وهي تلتقط حقيبتها:
"لو إنت شايف إن ده الصح، يبقى خلاص. لكن أوعدك بحاجة، يا عابد... أنا مش هنسى ده أبداً."
❈-❈-❈
غادرت المكان بخطوات متسارعة، تاركة عابد خلفها، جالسًا على كرسيه كأن الأرض قد توقفت عن الدوران. شعر بثقل الكلمات التي تركتها ورائها، وكأنها طوق حول رقبته.
عاد إلى المنزل تلك الليلة وهو يشعر بفراغ داخلي. كل شيء بدا له بلا معنى. جلس في غرفته، يحدق في الجدران، يتساءل إن كان قد ارتكب أكبر خطأ في حياته.
عندما عاد عابد من موعده مع رباب، كان المنزل هادئًا، باستثناء صوت خطواته التي كانت تصدح في الممرات. شعر بثقل اللقاء الأخير مع رباب يجثم على قلبه، ورغم ذلك، حاول أن يبدو طبيعيًا وهو يتجه إلى غرفة المعيشة، حيث كان جده وهدان يجلس منتظرًا.
رفع الجد عينيه بمجرد أن رأى عابد يدخل الغرفة. لم يحتج إلى كلمات ليفهم أن الحفيد كان يحمل على كتفيه صراعًا داخليًا. أشار له بالجلوس بجواره وقال بصوته العميق الذي يحمل دائمًا مزيجًا من الحكمة والحزم:
"خير يا عابد؟ قابلتها؟"
أومأ عابد برأسه وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يرد:
"قابلتها، يا جدي. حكيت معاها بصراحة زي ما نصحتني."
الجد مال للأمام قليلًا، وكأنه يحاول قراءة تفاصيل حديثهما في وجه حفيده. قال بهدوء:
"وقالت إيه؟"
نظر عابد إلى الأرض لوهلة، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره، ثم قال بصوت مزيج من الحزن والإصرار:
"رباب قالت إنها مكنتش تعرف حاجة عن شغل والدها، وإنها مستعدة تعمل أي حاجة تثبت بيها إنها مش زيهم."
صمت الجد للحظة، ثم قال بنبرة جادة:
"وأنت شايف إيه؟"
عابد رفع عينيه إلى جده، وقال بثقة:
"أنا عارف إنها بريئة، يا جدي. دي إنسانة صادقة، وعمري ما شفت منها غير الخير. بس... المشكلة مش فيها، المشكلة في اللي حواليها."
الجد تنهد بعمق، وأخذ يعبث بمسبحته التي لم تفارق يده. قال بعد تفكير:
"يا عابد، في حياتنا، لازم نفكر بعقلنا قبل قلبنا. الحب حاجة جميلة، لكن لو هيدخلك في مشاكل أكبر من طاقتك، لازم توقف وتفكر. أنت مش لوحدك، يا ابني. اسم العيلة وسمعتنا حمل كبير، ولازم تختار بحكمة."
عابد شعر بثقل النصيحة، لكنه لم يكن قادرًا على التخلي عن رباب بهذه السهولة. قال بنبرة تحمل بعض الألم:
"أنا بحبها، يا جدي. وعارف إن الدنيا مش سهلة، لكن هل نقدر نحكم على حد بس عشان الظروف اللي اتولد فيها؟ مش دي قيمتنا؟ إننا نعرف نفرق بين الصح والغلط؟"
الجد نظر إليه نظرة طويلة، مليئة بمزيج من الفخر والقلق. قال في النهاية:
"كلامك مظبوط يا عابد، بس الحكمة كمان بتقول إنك متدخلش معركة أنت مش مستعد لها. خليك واعي، وافتكر إن القرار اللي تاخده النهارده هتدفع تمنه بكرة مش بس أنت، لكن كل اللي حواليك."
عابد أومأ بصمت، وعيناه تائهتان في أفق الغرفة. كان يعرف أن القرار الذي سيأخذه لن يكون سهلًا، لكنه أدرك أن الجد محق. الحب وحده لا يكفي، والواقع دائمًا أشد قسوة من الأحلام.
تركه الجد وحيدًا في الغرفة، وغادر دون أن يضيف كلمة أخرى. أما عابد، فجلس يحدق في الفراغ، مشغولًا بصراع داخلي بين قلبه الذي يريده أن يتمسك برباب، وعقله الذي يخبره أن الطريق أمامهما مليء بالعقبات.
في تلك الأثناء، كانت رباب وحدها في غرفتها، تبكي بصمت. كانت تعيد شريط اللحظات التي جمعتهما، تتذكر ضحكاتهما وأحاديثهما الطويلة، وتتساءل كيف يمكن لكل هذا أن ينتهي بهذه الطريقة.
مرت الأيام، لكن الصمت بينهما كان أشد وقعًا من أي كلمات. كل منهما كان يحمل قلبًا مثقلًا بالألم، وكأنهما فقدا جزءًا من روحيهما لن يعود أبدًا.
كان عابد في عمله بالجيش كعادته، يعمل بجد وكأن كل شيء في حياته يسير على وتيرة واحدة، لكن في أعماقه كان قلبه غير مستقر، مشغولًا بتفاصيل حياته الشخصية التي تزدحم في ذهنه. كانت مهمته اليوم تتطلب منه التنسيق بين فريقه وتطبيق بعض الإجراءات العسكرية الروتينية، لكنه كان يشعر أن شيئًا ما يثقل عليه، وكأن قلبه عالق بين واجب عمله وحبه لرباب.
عندما دخل إلى مكتبه، وضع حقيبته على الطاولة وحاول أن يركز في الأوراق أمامه، لكنه لم يستطع. أفكاره كانت تذهب بعيدًا عن العمل، تتنقل بين وجه رباب، تلك الفتاة التي أحبها، وبين حديث جده الأخير الذي تردد في ذهنه.
كان عابد عادةً رجلًا حازمًا، ينفذ أوامره بسرعة ودون تأخير، لكن اليوم كان يشعر أن عقله مشتت. يمر الوقت ببطء، وبين كل لحظة وأخرى كان يتساءل في نفسه: "هل فعلاً قرار الابتعاد عن رباب هو الصح؟ هل تسيطر الظروف عليهما أكثر من قدرتهما على التحكم في مصيرهما؟"
❈-❈-❈
رغم أن زملاءه في العمل كانوا مشغولين بتنفيذ المهام العسكرية، إلا أن عابد كان غارقًا في صراعه الداخلي. كانت الرسالة التي تلقاها من رباب في ذهنه بشكل دائم، كأنها تلاحقه في كل خطوة. كانت رباب في كل لحظة تظهر له في أفكاره، تهمس في أذنه "أنت هتسيبني؟" وكأن السؤال كان يطارد قلبه في كل زاوية.
أحيانًا كان يحاول إبعاد كل هذه الأفكار عن ذهنه، فيستغرق في العمل، يتحدث مع زملائه، يحل بعض المشكلات العسكرية، لكنه يعلم أن هذه اللحظات لا تدوم طويلاً. في كل لحظة كان يكتشف أن العمل مجرد هروب مؤقت، لكنه لن يستطيع أن يهرب من قراره الكبير.
عاد عابد إلى منزل العائلة بعد فترة غياب طويلة بسبب عمله في الجيش. كان قد أمضى شهورًا مليئة بالتحديات والمسؤوليات الثقيلة التي تطلبت منه القوة والتركيز، لكنه لم يستطع أن يمنع أفكاره من العودة دائمًا إلى لحظاته مع رباب.
دخل المنزل، وتردد صدى خطواته في الأرجاء، وكأنه يعلن عن عودته. كانت أمه، امتثال، أول من استقبله، واحتضنته بحرارة، وقالت بلهفة:
"نورت البيت يا عابد، وحشتنا أوي."
ابتسم عابد بابتسامة خفيفة، لكنه لم يستطع أن يخفي التعب الذي انعكس في ملامحه. جلس في غرفة المعيشة مع والدته، التي بدأت تسأله عن أحواله وتحدثه عن أخبار العائلة. لكنه كان يشعر أن جزءًا منه ما زال في مكان آخر.
بعد فترة قصيرة، انضم الجد وهدان إلى الجلسة. نظر إلى حفيده نظرة مليئة بالاحترام، لكنه لم يخفِ القلق الذي كان يسيطر عليه. قال بصوت هادئ:
"إزيك يا عابد؟ الجيش شكلك زودك رجولة، بس عينيك بتقول إنك شايل هم كبير."
عابد ابتسم ابتسامة باهتة وقال:
"الحمد لله يا جدي. الشغل صعب، لكن واجبنا نحمي بلدنا، وأنا فخور بشغلي."
لكن الجد كان يعرف حفيده جيدًا، ورأى ما خلف الكلمات. بعد لحظات من الصمت، قال له:
"يا ابني، القوي مش اللي بيشيل كل حاجة على قلبه لوحده. القوي اللي يواجه ويختار الطريق الصح، حتى لو كان صعب."
عابد شعر بكلمات جده تخترق قلبه. حاول أن يغير الموضوع، لكن الحديث كان يسحب إليه شعورًا غريبًا بالاعتراف.
في المساء، دخل عابد غرفته التي ظلت كما هي منذ رحيله. جلس على السرير وأخرج صندوقًا صغيرًا كان قد خبأه في دولابه منذ سنوات. فتحه ببطء، ووجد بداخله رسائل وصورًا قديمة جمعته برباب. أخذ إحدى الرسائل، وبدأ يقرأها بصوت خافت، وكأن صوتها ما زال يرن في أذنيه:
"يا عابد، الحياة معاك كانت دايمًا أمان."
كلماتها أعادت إليه كل الذكريات دفعة واحدة، وكأنها موجة جرفت كل ما حاول نسيانه. تردد في أخذ خطوة، لكنه شعر بشيء في داخله يطالبه بأن يصلح ما انكسر.
في اليوم التالي
قرر عابد زيارة والدته في المطبخ. بعد تبادل الحديث العادي، قال فجأة:
"ماما، رباب... أخبارها إيه؟ حد سمع عنها حاجة؟"
امتثال توقفت عن تقطيع الخضروات ونظرت إلى ابنها بدهشة. قالت بتردد:
"بنت محترمة أوي، يا عابد. لكن... اللي بينكم خلص خلاص، ولا أنت شايف غير كده؟"
عابد لم يرد مباشرة. قال بعد لحظة من التفكير:
"أنا محتاج أتكلم معاها، يا ماما. يمكن أكون ظلمتها."
امتثال نظرت إليه بابتسامة خفيفة وقالت:
"أوقات كتير يا عابد، الرجولة الحقيقية مش في البُعد عن اللي بتحبه خوفًا عليه، لكن في الوقوف جنبه مهما كانت الظروف."
كانت تلك الكلمات بمثابة الشرارة التي أشعلت داخله شعورًا بالتصميم. قرر أن يواجه الماضي، مهما كانت النتيجة، ليعيد فتح صفحة قد تكون مليئة بالألم، لكنها تحمل في طياتها أملًا جديدًا.
❈-❈-❈
جلس قلب ريم في حيرة، وهي تقرأ الرسالة التي وصلت إليها على هاتفها. كانت كلماتها تحمل بين طياتها نوعًا من الشوق والقلق، وهذا ما جعلها تشعر بشيء غريب داخلها، مزيج من التوتر والإثارة. أدركت جيدًا من هو، لكن لم ترد أن تعترف لنفسها بذلك، خصوصًا في تلك اللحظة التي كان كل شيء فيها يبدو غامضًا.
وصلت رسالة جديدة :
"أنا عارف إني مش مفروض أكتبلك دلوقتي، لكن مش قادر أتمالك نفسي. كنت حاسس إنك موجودة، وإنك هتكوني هنا معايا."
تنفست ريم بعمق، قلبها يخفق بشدة. هل هي حقًا سترد عليه الآن؟ هل كانت مستعدة لهذه اللحظة؟ بينما كانت تداعب أطراف أصابعها على شاشة الهاتف، لم تستطع منع نفسها من الابتسام.
"إنت دايمًا بتكتفي بالكلام، مش كده؟ ليه مش بتقول كل حاجة على طول؟"
انتظرت لحظات قبل أن تأتي الرسالة التالية.
أنتِ عارفة ليه؟ لأني كل ما إتكلمت معاكِ، كل ما شعرت إن الكلمات مش كفاية، مش قادر أوصف لك قد إيه أنتِ مهمة بالنسبة لي. فيكِ شيء بيخليني أنسى كل حاجة حواليا."
كانت هذه الكلمات كفيلة بأن تشعل مشاعر ريم أكثر. تمنت لو أنها تستطيع الرد عليه بحروف تعبر عن مشاعرها الحقيقية، لكنها شعرت في تلك اللحظة أن الكلام لا يكفي، وأن هناك نوعًا من الصمت بينهما يكشف أكثر من الكلمات.
الرد:
"أنت ليه دايمًا بتحاول تقنعني إنك مختلف؟ أنا عارفة كل حاجة عنك، يمكن أكتر من أي حد تاني. بس، مش عارفة ليه لسه مش قادرة أصدق."
الرسالة:
"صدقيني، أنا مش بحاول أقنعك بحاجة. لكن لما تكوني معايا، الدنيا كلها تختفي، وكل شيء يبقى مش مهم. أنا مش قادر أوصفلك قد إيه غيابك بيؤثر فيا."
قرأت ريم الرسالة مرة أخرى، وبدا لها أن الكلمات تعكس شخصًا عميقًا، شخصًا يعرف جيدًا كيف يلامس قلبها. شعرت بشيء غريب يتسرب إليها، كما لو أن كل شيء بينهما كان مكتوبًا في السطر الأول، ولكن لم يأتِ الوقت بعد ليُكشف.
لمعت عيناها لتكتب :
"وأنا ليه مش قادرة أقول إنك لسه مش بعيد عني؟ ليه دايمًا بتيجي في بالي حتى لما بحاول أنساك؟"
"لأنك عارفة تمامًا، إنك جزء مني، مش هقدر أعيش من غيرك. حتى لو كانت حياتنا مش مفهومة، حتى لو كانت بينا مسافات، لكن في النهاية، كل شيء بيقربنا أكتر ."
ابتسمت ريم قليلاً، شعرت وكأنها تخطو خطوة نحو شيء قد لا تكون مستعدة له بعد، لكنها في ذات الوقت شعرت برغبة قوية في أن تكون هناك، أن تظل جزءًا من هذا العالم الذي يصنعه لها.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رانيا ممدوح، لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية