رواية جديدة أرهقته حر با لتوتا محمود - الفصل 23 - الأربعاء 2/4/2025
رواية أرهقته حربًا الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية أرهقته حر با الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل الثالث والعشرون
تم النشر بتاريخ الأربعاء
2/4/2025
الليل كان هادئًا، لكن داخلها لم يكن كذلك.
جلست على الرمال، البحر أمامها يمتد بلا نهاية، مياهه تتراقص تحت ضوء القمر، لكنه لم يكن كافيًا ليهدئ النيران التي تشتعل بداخلها.
الهواء البارد لامس وجهها، لكنه لم يحمل معه الراحة التي كانت تحتاجها، بل زاد من إحساسها بالفراغ، كأن شيئًا ما ينقصها، كأنها تبحث عن إجابة لن تجدها بسهولة.
الأمواج كانت تتحرك بوتيرتها المعتادة، ترتفع ثم تهبط، تضرب الشاطئ بخفة، تمامًا مثل أفكارها، تأتي بقوة، ثم تنسحب، لكنها لا تختفي أبدًا.
لم تكن وحدها، كان كمال يجلس بجوارها، لكنه لم يكن يتحدث، فقط كان يراقبها بصمت، وكأنه ينتظر أن تتحدث أولًا.
وأخيرًا، قطع الصمت بصوته الهادئ، ذاك الصوت الذي كان دائمًا يحمل شيئًا من الحكمة رغم بساطته :
ـ هو ده اللي مزعلك؟؟
لم تتوقع السؤال، انتفضت عيناها نحوه بسرعة، وكأنها خرجت من أفكارها للتو.
لم تكن نظراتها غاضبة، بل كانت تحمل حيرة، وكأنها تحاول استيعاب كيف يمكن لهذا السؤال أن يكون بهذه البساطة.
اعتدلت في جلستها، تحركت قليلًا على الرمال حتى جلست مواجهته، نظراتها أصبحت أكثر جدية وهي تهتف بحِدة، لكن صوتها كان يحمل ارتباكًا واضحًا:
ـ سبب مش كافي إني أزعل؟؟.
كانت نبرتها مليئة بالمشاعر المتضاربة، الغضب، الإحباط، وربما جزء صغير من الخوف، لكنها لم تكن مستعدة للاعتراف به.
كمال لم يبدُ عليه التأثر بانفعالها، فقط نظر إليها بهدوء، هز رأسه قليلًا وكأنه يخبرها أن ما حدث لا يستحق كل هذا الانفعال.
كانت إيماءته البسيطة كفيلة بإشعال المزيد من الغضب بداخلها.
كيف يمكنه أن يكون بهذه اللامبالاة؟ كيف لا يرى أن ما حدث كان كافيًا ليجعلها تشعر بأن الأرض تهتز تحت قدميها؟
أخذت نفسًا عميقًا، عيناها تلمعان بانفعال واضح، قبل أن تخرج الكلمات من شفتيها وكأنها تحمل ثقلًا كبيرًا لا تستطيع تحمله وحدها:
ـ يمن كتبت كل حاجة باسم أيان، أسهم الشركة، حتى البيت؟! كل حاجة كتبتها له، كل حاجة، يعني كل حاجة
كانت تتحدث بسرعة، وكأنها تحاول أن تخرج كل الغضب العالق في صدرها دفعة واحدة.
يداها كانت تتحرك بتوتر، تغوص أصابعها في الرمال، ثم تنفضها بعصبية، وكأنها تحاول التخلص من التوتر الذي يسيطر عليها.
كمال ظل هادئًا، لم يقاطعها، لم يحاول إيقافها، فقط استمع حتى النهاية، وحين انتهت، زفر نفسًا بطيئًا، ثم قال بصوته المتزن، الذي لم يكن يحمل أي ذرة انفعال:
ـ خلاص، يبقى هي تتحمل نتيجة أخطائها، ولو أيان فعلًا بيضحك عليها، هي اللي هتكتشف ده بنفسها، ليه بقى تزعلي نفسك؟؟
كانت كلماته مثل رياح باردة اصطدمت بجدران غضبها، لكنها لم تطفئه تمامًا.
نظرت إليه، تبحث في وجهه عن شيء آخر، عن قلق، عن خوف، عن أي شيء يجعلها تشعر أنها ليست وحدها في هذا، لكنها لم تجد سوى هدوئه المعتاد، ذاك الهدوء الذي كان أحيانًا يريحها، وأحيانًا أخرى يجعلها تشعر بأنها وحدها في معركتها.
الأمواج واصلت حركتها الرتيبة، وكأنها تعكس أفكارها، ترتفع بقوة، ثم تهبط، لكنها لا تختفي.
أما هي، فكانت لا تزال تحاول أن تستوعب كلماته، تحاول أن تفهم إن كان محقًا أم أنها الوحيدة التي ترى أن ما حدث لم يكن مجرد "خطأ" يمكن إصلاحه بسهولة.
كانت الأمواج تهمس للشاطئ بهدوء، تتكسر برفق وكأنها تشاركها ثقل أفكارها، لكنها لم تكن تشعر بأي سكينة.
جلست هناك، عيناها تحدقان في البحر الممتد أمامها، لكن عقلها لم يكن يراه، بل كان عالقًا في دوامة من المشاعر التي لم تستطع السيطرة عليها.
حاولت أن تتحدث، أن تخرج ما في قلبها، لكنها فشلت.
ماذا يمكنها أن تقول له؟
هو لم يشعر بحزنها، لم يفهم اضطرابها، فماذا سيغير كلامها؟ ما فائدة أن تشرح له ألمًا لم يدركه بنفسه؟
زفرت بصمت، وكأنها تحاول أن تطرد كل المشاعر التي تخنقها.
نظرت إلى البحر للحظات، ثم بدون أي مقدمات، خرج صوتها هادئًا، لكنه كان يحمل نغمة حزينة واضحة، نغمة تحمل استسلامًا خفيفًا لا يمكن تجاهله:
ـ معاك حق فعلًا، أنا اللي مأفورة، وأسفة إني ضيعتلك وقتك.
قالتها ببرود متعمد، كأنها تحاول أن تخفي مشاعرها خلف حاجز من اللا مبالاة، لكنها لم تدرك أن صوتها خانها، أن الحزن تسرب منه رغمًا عنها.
ختمت حديثها، وقلبها ينبض بسرعة، وكأنها تستعد للهروب.
تحركت لتقف، أرادت أن تغادر بسرعة قبل أن تنهار أكثر، قبل أن يقول شيئًا آخر يجعلها تفكر في مشاعرها التي تحاول جاهدة تجاهلها.
لكنها لم تصل إلى خطوتها الأولى، لأنه أمسك بيدها بلهفة، بقوة لم تتوقعها.
لم يمنحها فرصة للهرب، بل جذبها نحوه وجعلها تجلس مجددًا، أقرب إليه هذه المرة، حتى باتت تشعر بحرارة يده التي لا تزال تحيط بمعصمها، كأنها تحاول أن تثبتها في مكانها، تمنعها من التراجع أكثر.
لم يكن ينظر إليها مباشرة، بل كان يحدق في البحر، لكن حين تحدث، كان صوته يحمل مزيجًا من الحدة والدفء، وكأن كل كلمة كانت اعترافًا لم يكن مستعدًا لقوله:
ـ تبقي غبية لو فكرتي إني شايف زعلك ده حاجة صغيرة وتافهة .
توقفت أنفاسها للحظة، عيناها تجمدت على ملامحه التي لم تكن تحمل أي استهزاء أو سخرية، فقط صدق خالص.
أكمل، ونبرة صوته أصبحت أكثر عمقًا، أكثر دفئًا، لكنه لم يترك يده، بل زاد إحكام قبضته عليها، كأنه يخبرها أن لا تهرب مجددًا :
ـ زعلك ده بالنسبالي حاجة كبيرة أوي، والدليل إني دورت عليكي، ومش عارف كنتي فين، فضلت أدور عليكي زي المجنون، لمجرد إني سمعت صوتك وحش، وعرفت إن في حاجة معاكي .
كلماته أصابتها كالسهم، لم تكن تتوقعها، لم تكن تتخيل أنه لاحظ غيابها إلى هذا الحد.
ظل البحر يواصل غناءه الهادئ، لكن داخلها كان هناك صخب لم يهدأ، قلبها كان يدق بعنف، ليس بسبب كلماته فقط، بل بسبب إحساسها المفاجئ بأن هناك من يراها، يفهمها، حتى لو لم تقل شيئًا.
صمتت.
لم تستطع أن تتحدث، لم تستطع حتى أن تفكر بوضوح.
كأن كلماته هزت شيئًا عميقًا بداخلها، مشاعر لم تكن مستعدة لمواجهتها الآن.
شعرت أن قلبها قد امتلأ فجأة، امتلأ بمشاعر لم تكن تدري بوجودها، بمشاعر لم تكن تعلم أنها كانت تبحث عنها طوال هذا الوقت.
كانت تظن أنها وحدها في معركتها، أن لا أحد يراها حقًا، أن الجميع يرى قوتها فقط ولا يرى ما وراءها، لكنها الآن تدرك أنها كانت مخطئة.
أفاقت من شرودها عندما شعرت بيديه تلامسان وجهها برفق، كأن لمسته وحدها كانت قادرة على إعادتها إلى الواقع.
كان ينظر إليها بعمق، نظرة تحمل دفئًا لم تعتد عليه، كأن كل جدار وضعته بينهما قد تحطم في تلك اللحظة.
هتف بصوت هادئ، لكن كل حرف فيه كان يحمل دفئًا لم تعهده:
ـ وعد، انتِ غالية عليا أوي، ويهمني زعلك أوي، بس أنا مقصدش والله، أنا أقصد إن كل واحد يشيل شيلته .
كان صوته حنونًا، لكن كلماته كانت عقلانية، لم يكن يواسيها فقط، كان يحاول أن يريها الحقيقة التي لم تكن تريد أن تراها.
أنزل يديه عن وجهها ببطء، لكنه لم يتركها تمامًا، أمسك بيدها، وعانق أصابعها بين يديه وكأنه يحاول أن يخبرها بطريقة أخرى أنه هنا، أنه لن يتركها وحدها وسط هذا كله.
أكمل بصوته الهادئ، لكن هذه المرة كان أكثر جدية، أكثر عقلانية، كأنه يريدها أن تستوعب الأمر جيدًا :
ـ بمعنى إنك لو عملتي حاجة، شيلي شيلتك، لأنك انتِ اللي هتواجهي العواقب.
صمتت، لم تعرف ماذا تقول، لكنه لم يترك لها مجالًا للرد، أكمل حديثه، لكنه هذه المرة كان يختار كلماته بحذر، وكأنه يعلم أن هذه الكلمات بالتحديد ستصدمها:
ـ وانتِ جربتي تكشفي أيان، حصل إيه وقتها؟؟
تجمدت للحظة.
كان يعرف، كان يعرف تمامًا.
ـ يمن وقعتك من على السلم، واتمدت أكتر عشان انتوا جايين ضدها، يمن اتجوزت عشان حاجتين عشان بتحب أيان، وعشان عايزة تثبت ليكم إنها مبقتش صغيرة، وإنها قد المسئولية.
سمعته يتنهد، كأن هذه الحقيقة تثقل كاهله كما تثقل كاهلها، ثم أكمل بصوت أكثر لينًا، كأنه يحاول أن يُريها الصورة من منظور آخر:
ـ أنا عارف إنها كتبت كل حاجة باسم أيان، ودخلت واحد غريب وسط عيلتها، مش أي واحد، ده واحد عايز ينتقم منكم، ويبعد يمن عنكم بس براحة كده، لو قعدتي بينك وبين نفسك، هتعرفي إن يمن عملت كده بس عشان تعاندكم، مش أكتر، حبيت إنها تعاند، وإنها تثبت إنها قد المسئولية، عشان كده كتبت كل حاجة باسم أيان.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم أكمل، هذه المرة بنبرة واثقة، تحمل شيئًا من الحكمة:
ـ ولو فضلتوا تخططوا من هنا لِصبح إزاي تكشفوا أيان قدام يمن، كل محاولاتكم دي هتفشل، لأن يمن عامية بحب أيان، ويمن الوحيدة اللي تقدر تكشف حقيقة أيان.
لم تكن قد لاحظت أنها كانت تحبس أنفاسها طوال حديثه، لكنها شعرت الآن بدمعة ساخنة تنحدر على خدها، لم تستطع منعها، لم تستطع حتى أن تتظاهر بالقوة أمامه بعد الآن.
لكنه لاحظها قبل أن تتمكن من مسحها بنفسها، رفع يده برفق، وأزال الدمعة من على خدها بحنان لم تعهده، وقال بصوت أكثر دفئًا:
ـ حبل الكدب قصير يا وعد، وتأكدي، أي حد بيكدب، مش أيان بس، هيتكشف، بس كله بوقته.
كان صوته هادئًا، لكنه كان يحمل ثقل الحقيقة، حقيقة أنها لن تستطيع تغيير الأمور بالقوة، وأن الصبر هو مفتاح هذه المعركة.
ثم، بابتسامة خفيفة، كأنه يحاول أن يخفف عنها، أكمل بصوت أكثر حنانًا:
ـ ممكن عشان خاطري، متزعليش نفسك؟ والله الدنيا بتسود في وشي لما بتزعلي .
كانت كلماته الأخيرة كافية لهدم آخر جدار تبقى داخلها.
نظرت إليه، للحظة شعرت أن قلبها يطرق بعنف داخل صدرها، لم تستطع أن تفسر ما تشعر به، لم تستطع حتى أن تفكر في الأمر بوضوح، كل ما شعرت به هو أنها لا تريد أن تبقى بعيدة عنه أكثر.
وبدون أي مقدمات، وبدون أي تفكير، اقتربت منه وعانقته بلهفة.
لم تعرف لماذا فعلت ذلك، لم تكن قد خططت له، لكنه كان الشيء الوحيد الذي أرادته في هذه اللحظة.
لم تكن بحاجة إلى تفسير، لم تكن بحاجة إلى أي كلمات، فقط أرادت أن تكون بين ذراعيه، حيث تشعر بالأمان، حيث تشعر أن هناك من يفهمها، من يدرك كل شيء دون أن تحتاج إلى قول أي شيء.
اليوم، في هذه اللحظة، أدركت شيئًا لم تكن مستعدة للاعتراف به بعد .
أن هذا الشخص، هذا الرجل الذي يجلس أمامها، هو ملاذها، هو ابتسامتها، وهو أكثر شخص تريد أن تبقى بجانبه، مهما حدث.
❈-❈-❈
كان الليل قد أحكم قبضته على المكان، والبرد تسلل إلى عظامها كأن البحيرة لم تكتفِ بإغراقها، بل أرادت أن تترك أثرها محفورًا في جسدها.
كانت أنفاسها غير منتظمة، متقطعة، كأنها لا تزال تصارع أثر الماء الذي كاد يسلبها حياتها.
شعرت بجسدها يرتعش، بردًا أم خوفًا؟ لم تكن تدري.
كل ما كانت تدركه هو أنها بين ذراعي شخص غريب، شخص لا تعرف عنه شيئًا، ومع ذلك، كان هو من أعادها للحياة حين كادت تفقدها.
كانت ترتشف من البرد، شفتيها ترتجفان، وأطرافها تكاد تكون بلا إحساس، لكن شيئًا آخر كان يثير ارتعاشها
وجوده.
لم تعرف ما الذي كانت تشعر به وهي بهذا القرب منه، هل كانت ترتجف من البرودة التي تسكن عظامها، أم من دفء يديه التي تحيط بها، تمنعها من السقوط مجددًا؟
نظر إليها بعينين تحملان قلقًا حقيقيًا، إحساسًا لم تتوقعه من شخص بالكاد تعرفه.
كان يشدّ قبضته على ذراعيها، وكأنه يحاول أن ينقل إليها بعضًا من حرارته، أن يثبتها، أن يؤكد لها أنها بخير، أنها نجت.
لكن هل نجت حقًا؟
صوته اخترق أفكارها، هادئ لكنه محمّل بقلق واضح، قلق لم تعتد أن يُوجه لها بهذه الطريقة:
ـ كاميليا، إنتِ كويسة؟؟
كان اسمه على شفتيه مختلفًا، كأنها تسمعه لأول مرة، وكأن الطريقة التي نطق بها جعلته أكثر قربًا، أكثر تأثيرًا.
لكنها لم تكن تملك إجابة.
شفتاها كانتا باردتين، ثقيلتين، وكأن حتى الكلمات قد تجمدت بداخلها.
لم تستطع النطق، لم تستطع حتى التفكير بما يجب أن تقوله، كل ما فعلته هو أنها رفعت رأسها ببطء، عيناها متعبة، مثقلة، تحملان آثار الرعب الذي مرت به.
وهزّت رأسها ببطء، دون أن تهتف بكلمة واحدة.
كان التعب يسحبها إلى أعماق لا تقل ظلمة عن البحيرة التي خرجت منها، لكن هذه المرة لم يكن هناك ماء يجرّها للأسفل، بل شيء آخر
شعور ثقيل، غريب، لم تفهمه بعد.
عيناها بدأتا تغلقان ببطء، جسدها يتهاوى، ليس لأنها كانت ضعيفة، بل لأن الحياة التي استعادتها للتو كانت ما زالت تثقلها، وكأنها لم تتقبل بعد أنها لا تزال هنا، أنها لا تزال تتنفس.
لكن وسط كل هذا الغموض، وسط كل الأسئلة التي لم تجد لها إجابة، كان هناك شيء واحد فقط مؤكد ، أنها بين يـ ـد شخص لا تعرفه..
كانت الرياح تتلاعب بالبحيرة، تتسلل ببرودتها القاسية إلى جسدها الذي بالكاد استعاد وجوده فوق السطح.
الهواء البارد لم يكن مجرد نسمات، بل كان كالسكاكين الحادة، يضرب وجهها دون رحمة، كأن الطبيعة نفسها تأبى أن تمنحها لحظة من الراحة بعد كل ما مرت به.
تسللت القشعريرة إلى عظامها، لم تكن مجرد ارتجافة عابرة، بل كانت رعشة عميقة، كأن جسدها كله يرفض هذه العودة، يرفض أن يصدق أنها لا تزال هنا، تتنفس، حية.
عينها المثقلة بالكاد استطاعت أن تبقى مفتوحة، الجفون الثقيلة بدأت تستسلم ببطء، كأن النوم يجذبها إلى عالم آخر، عالم لا يحمل هذا البرد القاسي، عالم أكثر هدوءًا من هذه الفوضى التي اجتاحت جسدها وروحها.
حاولت أن تقاوم، أن تبقى مستيقظة، لكن الدفء المفقود لم يعد لها، والماء البارد كان لا يزال يحيط بها، كأن البحيرة ترفض تركها بالكامل، ترفض السماح لها بالنجاة بهذه السهولة.
وفي النهاية، استسلمت.
أغمضت عينيها، كأنها تسلمت للظلام الذي كان ينتظرها، لم يكن هناك خوف في هذه اللحظة، لم يكن هناك قلق، فقط استسلام تام، خضوع كامل للإرهاق الذي تملك منها.
لم تبالِ بنداءاته، لم تسمع صوته وهو يهتف باسمها مرارًا، لم تستطع أن تستوعب القلق الذي ملأ نبرته.
كل شيء بدأ يبتعد عنها، الأصوات، البرد، الشعور بالواقع.
وفجأة، لم يكن هناك شيء، سوى الظلام.
❈-❈-❈
كان الليل قد بدأ ينسحب ببطء، تاركًا خلفه ظلالًا ناعسة من الضوء الخافت الذي يتسلل من النافذة.
الهواء كان ساكنًا، لكن داخلها كان هناك اضطراب غير مفهوم، إحساس بالرهق يُثقل جسدها حتى قبل أن تستعيد وعيها بالكامل.
فتحت نور عينيها ببطء، وكأنها تستيقظ من حلم طويل، لكن ما شعرت به لم يكن راحة، بل ثقل يجثم فوقها.
ألمٌ خفيف خدر كتفها، جعلها تحركه بتوجس وهي تحاول استيعاب ما يحدث.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم جلست ببطء، تتلمس الغطاء الذي يلف جسدها، تحاول أن تستعيد إحساسها بالمكان.
لكن ما رأتَه أمامها جعل كل بقايا النعاس تتلاشى فورًا.
كانت الطاولة الزجاجية التي تتوسط الغرفة قد تحطمت إلى شظايا متناثرة، قطع زجاج صغيرة تلمع تحت ضوء الغرفة كأنها نجوم متكسرة، متناثرة بلا نظام.
رمشت مرتين، ثم نظرت حولها، وكأنها تبحث عن تفسير، عن أي أثر لشخص آخر قد يكون هنا، لكن المكان كان فارغًا، صامتًا بطريقة غير مريحة.
كيف تحطمت الطاولة؟
لم تكن هناك أي حركة، لم يكن هناك أحد هنا حين نامت، فكيف تحولت الطاولة إلى هذه الفوضى؟
تململت قليلًا وهي تبتعد عن الزجاج بحذر، وقفت على قدميها ببطء، ما زال هناك شيء غير مفهوم يضغط على عقلها، إحساس خفيف بالخطر، لكنه لم يكن واضحًا بعد.
سارت نحو الباب، كأنها تبحث عن إجابة في الخارج، كأن عقلها لم يهدأ حتى تعرف كيف حدث هذا.
وحين فتحت الباب...
تجمدت مكانها.
أمامها، وقفت الجدة "حميدة"، واقفة بثبات، عيناها العميقتان تراقبانها بصمت، نظرة كانت كافية لتجعل نور تتلعثم للحظة، تشعر بأنها مكشوفة تمامًا أمام تلك العيون التي اعتادت أن ترى كل شيء.
بلا وعي، خرج اسمها من بين شفتيها بصوت خافت، مذهول:
ـ تيتة .
لم ترد حميدة على الفور، بل نظرت إليها للحظة، ثم نظرت إلى هيئتها، إلى شعرها الفوضوي، إلى ملامحها التي لا تزال تحمل آثار النوم، ثم ببطء، تحركت عيناها خلف نور، إلى داخل الغرفة، حيث كانت بقايا الطاولة المحطمة تلمع على الأرض.
عيناها الضيقتان امتلأتا بشك واضح، ثم هتفت بهدوء، لكن صوتها حمل شيئًا من التوجس:
ـ إنتِ ونوح متخانقين؟؟
نور لم تفهم في البداية، عقدت حاجبيها بارتباك، ثم استدارت ببطء، لتنظر خلفها إلى ما كانت حميدة تراه
الطاولة...
كانت قد نسيت للحظة أنها لا تزال هناك، لا تزال تشهد على فوضى غير مفهومة.
شعرت بأنفاسها تتباطأ، وكأنها تحاول أن تجد تفسيرًا قبل أن تتحدث، ثم أخذت نفسًا سريعًا، كأنها أدركت ما يدور في ذهن الجدة، فسارعت بالهتاف، بلهجة تحمل شيئًا من اللهفة:
ـ لا، لا، أنا ونوح مش متخانقين، أنا لسه صاحيه أصلًا، ومعرفش فين نوح.
أشارت إلى الطاولة بسرعة، وكأنها تحاول أن تؤكد براءتها من هذا المشهد، نبرة صوتها كانت صادقة تمامًا وهي تضيف:
ـ صحيت لقيت الطربيزة مكسورة بالشكل ده، كنت لسه هخرج أنادي هدير عشان تشوفها .
ظل الصمت للحظة، كأن حميدة كانت تقيس صدقها، تراقب ملامحها بعناية، تبحث عن أي تردد، أي شيء قد يدل على أنها تخفي شيئًا.
ثم، أخيرًا، هزت رأسها، وكأنها اقتنعت.
لكن رغم ذلك، ظلت عيناها تتفحص نور، وكأنها لا تزال تراقب، تبحث عن شيء آخر، ثم سألت بصوت أكثر هدوءًا، لكن نبرته كانت مختلفة هذه المرة، حانية، تحمل شيئًا من الاهتمام الحقيقي:
ـ ولا يهمك، أنا هناديها، بس إنتِ كويسة؟؟
لم «نوى» تتوقع هذا السؤال، للحظة شعرت بشيء دافئ يتسلل إلى صدرها، شيء لم تشعر به منذ وقت طويل، اهتمام صادق.
لم تكن معتادة على أن يسألها أحد بهذا الشكل، أن يكون هناك من يهتم حقًا إن كانت بخير أم لا.
شعرت بابتسامة خفيفة تتسلل إلى وجهها، حركة صغيرة، لكنها حملت امتنانًا عميقًا. رفعت يدها ببطء، ومررت أصابعها على جانب رأسها، وكأنها تحاول أن تتأكد أنها لا تحلم، ثم نظرت إلى حميدة بعينين تحملان شكرًا غير منطوق.
لقد حُرمت من هذا الشعور منذ كانت طفلة، منذ أن رحلت والدتها قبل أن تتاح لها الفرصة لتشعر بحنانها، لم تجد هذا الاهتمام إلا في نوح، وفي والدته، لكن الآن، الآن وجدته مرة أخرى.
ابتسمت حميدة، لأول مرة، ربما منذ وقت طويل، ابتسامة خفيفة لكنها كانت كافية لجعل قلب نور يدفأ قليلًا.
ثم هتفت بصوتها الهادئ، لكن ابتسامتها ما زالت تزين ملامحها:
ـ طيب، أنا كنت عايزة نوح بس طالما مش موجود، أكلمه بكرة، وأنا هنادي على هدير تنضف الأوضة قبل ما تمشي
ثم نظرت إليها مرة أخرى، هذه المرة كانت ملامحها تحمل شيئًا من الحنان، شيئًا لم تعتد نور على رؤيته كثيرًا، ثم أضافت، وكأنها تعطيها نصيحة صغيرة:
ـ بس إنتِ ادخلي الحمام، خدي دش، فوقي كده، يلا، تصبحِ على خير.
أنهت جملتها، ثم استدارت بهدوء، وغادرت بنفس الثبات الذي اعتادت عليه.
أما نور، فقد وقفت هناك للحظة، تُحدق في المكان الذي اختفت منه حميدة، ثم فجأة، وجدت نفسها تبتسم...
ابتسامة لم تكن واعية، لكنها كانت حقيقية، كأنها حصلت على شيء نادر، شيء لم تكن تعلم أنها تحتاجه.
شعرت وكأن قلبها امتلأ قليلًا، كأنها كانت بحاجة إلى هذه اللحظة أكثر مما أدركت.
دون أن تفكر، تحركت بسرعة، دخلت إلى غرفتها وأخذت ملابسها، ثم توجهت إلى الحمام بلهفة، كأنها تريد أن تفعل ما طلبته منها الجدة، ليس لأنه أمر، ولكن لأنها شعرت أخيرًا أن هناك من يهتم.
❈-❈-❈
المكتب كان صامتًا، لكنه لم يكن صمتًا مريحًا، بل كان يثقل الأجواء كأنه نذير لعاصفة قادمة.
عاد «أسر» بخطوات سريعة بعد انتهائه من المكالمة، عيناه تبحثان عن شيء محدد، لكن بمجرد أن وقعتا على المكتب، تجمد للحظة.
الأوراق لا تزال هناك، مبعثرة كما تركها، لكن الشخص الذي كان يجلس أمامها... اختفى.
"ديما"...
شعر بأن أنفاسه تتباطأ للحظة، ثم، وكأن شيئًا ما اشتعل بداخله، زفر بحدة، غضبه بدأ يتسلل إلى ملامحه.
لا مجال للهروب الآن.
مد يده وأمسك بالأوراق، قبضته كانت مشدودة عليها، كأنها الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها التحكم في أعصابه.
استدار بسرعة متجهًا إلى غرفتها، كل خلية في جسده كانت تصرخ بأن هذه المواجهة لا مفر منها.
لكن قبل أن يخطو خطوة واحدة، وجد أمامه شخصًا آخر تمامًا...
"عادل".
وقف أمامه بثبات، عيناه القاسية تراقبه، نظرة لم تكن تحمل أي تساؤل، بل كانت مليئة بالحدة، وكأنها تخبره أنه يعرف كل شيء.
لم يتحرك أسر، لكنه شعر وكأن الغرفة أصبحت أصغر، كأن الهواء أصبح أثقل.
اقترب "عادل" منه، لم يبتعد بنظراته ولو للحظة، ثم هتف بصوت منخفض لكنه حمل من التهديد ما جعل الدم يتجمد في عروق أسر:
"انت بتعمل إيه يا أسر؟ كنت هطلق ديما؟ انت اتجننت؟ ولا جرالك حاجة؟"
ارتخت ملامح أسر للحظة، كان على وشك أن يرد، لكن قبل أن ينطق بأي حرف، قطع "عادل" كلماته بحدة أكثر، هذه المرة كانت نبرته مشحونة بالغضب، وكأن لا مجال لأي نقاش:
"طيب اسمع بقى، لو الطلاق جه في دماغك تاني، همشي ومش هتشوف وشي تاني. سامع يا أسر؟"
كانت كلماته كالضربة القاضية، لم تكن مجرد تهديد، بل وعد حقيقي، شيء لم يكن أسر مستعدًا لمواجهته.
حاول أن يرد، أن يبرر، لكن عادل لم يمنحه الفرصة، لم يترك له أي مجال للجدال، بل قطع كلماته مرة أخرى، هذه المرة بصوت أعلى، أكثر صرامة، أكثر قسوة، وكأنه يغلق الباب أمام أي محاولة للاعتراض:
ـ سامع يا أسر؟؟
هذه المرة، لم يكن هناك مفر.
شعر أسر بقبضة غير مرئية تشد على صدره، كأن القرار قد فُرض عليه قبل حتى أن يقرر هو نفسه.
شعر بالعجز يتسلل إليه، لكنه لم يكن قادرًا على محاربة شيء أكبر منه.
تنهد، تنهيدة طويلة، مسموعة، تحمل كل الاستسلام الذي لم يكن يريد الاعتراف به، ثم أجاب بصوت منخفض، لكنه كان كافيًا لإنهاء المحادثة:
ـ سامع يا بابا عادل، سامع
في اللحظة التالية، كان "عادل" قد استدار، غادر بخطوات ثابتة، لكن ما لم يره أسر...
كانت تلك الابتسامة الخبيثة التي ارتسمت على ملامحه بمجرد أن أدار ظهره.
❈-❈-❈
كانت "ديما" مستيقظة، تنظر إلى الشباك بعينين ساكنتين، لكن عقلها كان في حالة صخب لا يُحتمل.
كانت عيناها تحملان بريقًا خافتًا، ليس من الأمل، بل من قلق يتغلغل في أعماقها كجذور شجرة ممتدة لا تنتهي.
تحاول أن تجد مخرجًا، أن تبحث عن أي حل، لكن في كل مرة تدور الأفكار داخل رأسها، تجد نفسها تعود إلى نفس الطريق المسدود.
"ماذا عساي أن تفعل؟"
السؤال ظل يتردد داخلها، كأن صدى صوته يزداد ارتفاعًا كلما حاولت الهروب منه.
"عادل"…
مجرد ذكر اسمه جعل أنفاسها تتباطأ للحظة، كأن الهواء صار أثقل داخل رئتيها.
عادل لم يكن مجرد عم، لم يكن مجرد فرد من العائلة، بل كان سجنًا، قيدًا حديديًا يلتف حول عنقها كلما ظنت أنها استطاعت أن تتحرر.
لم يتركها يومًا تعيش بسلام، لم يسمح لها أن تبني حياتها دون أن يتدخل، كأنها كانت دمية في يده، يحركها كيفما شاء.
لم يكن الأمر متعلقًا بها فقط، بل بعائلتها، بزوجها، بابنتها، بكل شيء تحاول أن تحافظ عليه.
لم تكن تريد أن تكون سببًا في دمارهم، في تمزيقهم بيدها، لكنها لم تكن تملك رفاهية الخيار.
"واجبٌ عليّ أن أستمع إليه، أن أنفذ حديثه... لا يوجد مفر."
الفكرة وحدها جعلت قلبها ينقبض، كأنها تحكم على نفسها بالسجن المؤبد، لكنها تعرف… تعرف أنه لو قررت العصيان، سيدمر كل شيء.
زواجها، حياتها، سعادتها… كلها أشياء هشة في يديه، يستطيع أن يحطمها في لحظة واحدة.
أغمضت عينيها للحظة، محاولة أن تحبس الدموع التي تهدد بالسقوط، لكنها لم تستطع.
شعرت بالحرارة تنزلق على خدها، دمعة واحدة، وحيدة، لكنها كانت تحمل ثقل كل ما تشعر به.
سرعان ما رفعت يدها ومسحتها بقوة، كأنها تحاول أن تمحو أثرها قبل أن تضعف أكثر.
تنفست ببطء، محاولة أن تستعيد سيطرتها على نفسها، ثم امتدت يدها نحو الهاتف، نظرت إليه للحظات، ثم ضغطت على الشاشة ببطء، وكأنها تتردد في اتخاذ الخطوة التالية.
أجبرت نفسها على الحديث، همست بصوت بالكاد تسمعه، وكأنها تحاول أن تخفف من ألم ما ستفعله:
ـ أنا آسفة اوى يا نور، سامحيني.
لم تنتظر كثيرًا، لم تترك لنفسها فرصة للتراجع، فقط أغلقت عينيها واتصلت بها.
مرة…
لا رد.
مرة أخرى…
لا زال الصمت يملأ الفراغ.
حاولت للمرة الثالثة، الرابعة… لكن الإجابة كانت واحدة، الهاتف ظل صامتًا، ونبضاتها بدأت تتسارع مع كل محاولة فاشلة.
تنهدت بعمق، وكأن صدرها أصبح أضيق مما يحتمل، وكأن قلبها يصرخ دون صوت، لكنها لم تستطع أن تفعل شيئًا.
الرفض الصامت كان أقسى من الكلمات، جعل شعورها بالذنب يتضاعف أكثر، جعلها تدرك أن شيئًا ما قد انكسر بالفعل، ربما دون رجعة.
ببطء، وضعت الهاتف بجانبها، نظرت إليه للحظات، كأنها تأمل أن يتغير شيء، أن تتصل بها نور فجأة، لكن لا شيء حدث.
التفتت إلى ابنتها الصغيرة، كانت نائمة بسلام، ملامحها الطفولية البريئة تخلو من أي هم، وكأن العالم لم يمسها بعد بأي شر.
شعرت بغصة في حلقها وهي تحدق فيها، كأنها ترى فيها كل ما فقدته، كل ما تحاول أن تحافظ عليه.
تحركت بهدوء، استلقت بجانبها، ثم سحبتها إلى أحضانها برفق، كأنها تحاول أن تستمد منها بعض الأمان الذي لم تعد تجده.
أغمضت عينيها وهي تتنفس بعمق، تحاول أن تغرق في هذا الشعور للحظات، تدعو من كل قلبها…
تدعو أن تمر هذه العاصفة، أن لا تؤثر على علاقتها بأسر، أن لا يخسرها كما خسرت أشياء كثيرة من قبل.
لكنها كانت تعرف…
كانت تعرف أن الأمور لن تكون بهذه البساطة.
❈-❈-❈
كانت الليلة هادئة، والسكون يملأ القصر كأن الجميع قد استسلم أخيرًا للنوم، لكن "نور" لم تكن واحدة منهم.
خرجت من المرحاض بخطوات ناعسة، منشغلة بتجفيف شعرها بمنشفة صغيرة، بينما الماء لا يزال يقطر من بعض الخصلات التي أفلتت من قماش المنشفة.
كان شعرها الطويل يتمايل بخفة مع كل حركة، أناملها تمر عبره وهي تحاول امتصاص بقايا الماء.
كانت ترتدي فستانًا ورديًا رقيقًا يصل إلى ما بعد الركبة يخفى مفاتـ ـنها
الفستان كان بحمالات رفيعة تكشف عن كتفيها النحيلين، نسيج القماش الناعم يلامس بشرتها برفق، يمنحها إحساسًا بالراحة بعد حمامها الدافئ.
توقفت للحظة عند مدخل غرفتها، عيناها تجولان في الأرجاء قبل أن تلاحظ شيئًا غير مألوف.
الزجاج الذي كان متناثرًا على الأرض قد اختفى تمامًا.
عقدت حاجبيها قليلًا، ثم أدركت بسرعة أن الخادمة قد دخلت أثناء وجودها في المرحاض ونظفت الفوضى دون أن تلاحظ.
تنهدت بخفة، ثم استدارت واتجهت نحو تسريحتها.
جلست أمام المرآة، تأملت انعكاسها للحظات، لاحظت الإرهاق الذي لا يزال يكسو ملامحها رغم الحمام الدافئ، والهالات السوداء التي تحيط بعينيها، كأنها تذكير صامت بكل ما مرّت به.
" محتاجة أكون أقوى "
تمتمت بصوت بالكاد يُسمع، قبل أن تبدأ في تجفيف شعرها بالأستشوار، تمرره بين خصلاتها بحركة روتينية، حتى جف تمامًا.
بعدها، جمعت شعرها في ذيل حصان مشدود، تاركة بعض الخصلات تنسدل على جانبي وجهها، تضفي عليه لمسة من العفوية.
لم تكن معتادة على وضع الكثير من مساحيق التجميل، لكنها قررت هذه الليلة أن تخفي بعض التعب الذي يفضح حالتها، فأخذت القليل من الكونسيلر ومررته برفق أسفل عينيها، تخفي به السواد الذي لم تستطع الأيام أن تمحيه.
نظرت لنفسها للمرة الأخيرة في المرآة، لم تكن الابتسامة جزءًا من انعكاسها، لكنها على الأقل بدت أكثر اتزانًا.
وقفت وسارت إلى باب الغرفة، فتحته بهدوء وخرجت، كأنها تخشى أن توقظ السكون الذي يعم القصر.
كان المكان ساكنًا، الممرات المظلمة والهدوء الذي يلفّ كل زاوية جعلاها تدرك أن الجميع قد نام.
لكن هذا لم يمنع الإحساس الذي بدأ يتسلل إليها، إحساس بالجوع.
وضعت يدها على معدتها بخفة، ثم قررت أنها بحاجة إلى شيء تأكله، لذا تحركت بخطوات هادئة، متجهة إلى الأسفل حيث يقع المطبخ.
لكنها توقفت فجأة عند مدخل المطبخ، عندما سمعت صوتًا.
لم يكن صوت ضوضاء عادية، بل كان صوت "أيان".
رفعت حاجبها بفضول، تراجعت قليلًا ووقفت في الظل تراقبه دون أن يلاحظ وجودها.
كان يقف أمام الثلاجة، يتحدث مع نفسه، وكأن لا أحد غيره في المكان.
ابتسمت نور بخفة، مزيج من التسلية والاستغراب يكسو ملامحها، لم تكن تتوقع أن تجده هنا، وبالأخص، لم تكن تتوقع أن تراه يتحدث مع نفسه بهذا الشكل.
قررت أن لا تقاطع حديثه، بل بقيت مكانها، تتابع بصمت، تراقب، وتنتظر لترى ما الذي سيفعله هذا الرجل الغامض، والذي يبدو أنه ليس غامضًا لهذه الدرجة عندما يكون بمفرده.
❈-❈-❈
كان الليل قد بدأ يفرض سكونه على أرجاء القصر، لكن هذا السكون لم يكن له أي تأثير على عقل "أيان"، الذي كان يضج بالكثير من الأفكار.
دفع باب الغرفة بهدوء، عيناه تبحثان عن "يمن"، كانت غرائزه دائمًا تجعله مترقبًا لكل حركة تقوم بها، لكن ما رآه أمامه جعله يتوقف لوهلة.
نائمة؟؟
عقد حاجبيه، لم يكن يتوقع هذا، بل لم يكن معتادًا أن يجدها تغط في النوم بهذا الوقت.
رفع معصمه ونظر إلى ساعته، عقاربها تشير إلى العاشرة مساءً.
كان هناك شيء غريب في هذا، فـ "يمن" لم تكن من النوع الذي ينام مبكرًا، على العكس تمامًا، كانت دومًا تسهر، سواء في قراءة شيء أو في متابعة أمر ما يخصها.
لكن الليلة، كانت مستلقية بسلام، وكأن شيئًا لم يكن.
ظل واقفًا لبعض الوقت، نظر إليها عن كثب، كان وجهها هادئًا، ملامحها مسترخية، وكأنها لا تحمل أي هموم.
لكن هل كان هذا حقيقيًا؟ أم أنها مجرد واجهة؟
جلس بجانبها على السرير، لكنه لم يبقَ طويلًا، نهض سريعًا وهو يتأفف، كان يشعر بجوع قاتل، جوع لم يكن مستعدًا لتحمله.
مرر يده داخل شعره بملل، ثم استدار مغادرًا الغرفة دون أن يُصدر الكثير من الضوضاء، لم يكن بحاجة لإيقاظها، ليس الآن على الأقل.
تحرك بخطوات ثابتة نحو الدرج، أقدامه تلامس الأرضية الرخامية بصوت خفيف، لكنه في رأسه كان يسمع ضوضاء أخرى، ضوضاء الجوع الذي بدأ ينهش معدته بلا رحمة.
ـ لازم آكل حاجة، مش ممكن أكمل كده.
كان هدفه واضحًا وهو يسير عبر الأروقة المظلمة للقصر، لا شيء في ذهنه سوى المطبخ والطعام الذي يأمل أن يجده هناك.
عندما دخل إلى المطبخ، كان المكان فارغًا تمامًا.
اين الخدم؟؟
نظر حوله بتعجب، لم يكن هناك أحد، لا صوت للأواني، لا خطوات متسارعة، لا شيء يدل على أن هناك من يعمل هنا.
كانت هذه أول مرة يدخل فيها المطبخ ولا يجد أيًّا من الخدم متواجدًا، الأمر الذي زاد من ضيقه.
تقدم ببطء نحو الثلاجة، فتحها بكسل، وترك نظره يتجول عبر الأرفف الممتلئة بالأطعمة.
اللحوم الطازجة، الخضروات المتراصة بعناية، الألبان، الفواكه... كل شيء كان هناك، كل شيء كان متاحًا، لكنه لم يكن على استعداد لطهي أي شيء لنفسه.
زفر بضيق، ثم مد يده والتقط تفاحة حمراء، نظر إليها لثوانٍ، ثم قضم منها ببطء، مضغها بينما عيناه لا تزالان تبحثان في الأرجاء عن أي شيء آخر يمكن أكله.
لكن لا شيء كان جاهزًا، لا شيء يمكنه أخذه دون أن يبذل مجهودًا لتحضيره.
عاد يتأفف من جديد، استند بظهره إلى الطاولة، رفع التفاحة مرة أخرى وقضم منها، لكن هذه المرة خرج صوته ممتعضًا، كأنما يحدث نفسه بصوت مسموع:
ـ آه يا بابا، عمرك ما شِلتني هم إنّي أحضر لك الأكل أبداً، بس أنا في مشكلة دلوقتي... شكلي هقضيها تفاح النهارده.
ابتسم بسخرية وهو يعاود قضم التفاحة، عينيه تلمعان بنظرة تحمل الضيق، لكن في أعماقه... كان هناك إحساس آخر، إحساس لم يكن واثقًا منه بعد.
شعور بأنه هذه الليلة، لن تكون ليلة عادية.
ظل "أيان" مستندًا إلى الطاولة، يقضم من التفاحة ببطء، وكأن هذا هو العشاء الوحيد الذي سيحصل عليه الليلة.
المطبخ كان هادئًا تمامًا، لا صوت سوى أنفاسه الهادئة ومضغه البطيء.
لكن، فجأة، ذلك الهدوء تلاشى.
ضحكة خافتة، سريعة، لكنها كانت كافية لتمزق السكون المحيط به.
تجمد في مكانه، حاجباه انعقدا بتلقائية قبل أن يستدير بسرعة ليرى مصدر هذا الصوت.
"نور."
كانت واقفة عند مدخل المطبخ، تحاول أن تكتم ضحكتها، لكن ابتسامتها العريضة كانت تفضح استمتاعها بما تراه أمامها.
عيناه التقتا بعينيها للحظة، ثم، بلا وعي، ارتسمت ابتسامة على شفتيه.
رفع التفاحة مجددًا إلى فمه، قضم منها بهدوء، ثم هتف بنبرة مرحة وهو يراقب محاولاتها الفاشلة لكتم ضحكتها:
ـ نور، منوّرة والله .
لم تستطع أن تتمالك نفسها أكثر، انفجرت ضاحكة وهي تهز رأسها بمرح، ثم هتفت بسخرية واضحة:
ـ هتقضيها تفاح النهاردة؟
ضحك هو الآخر، وكأن ضحكتها كانت مُعدية بطريقة ما، ثم هتف بنفس نبرتها المرحة، لكن بصوت يحمل شيئًا من التحدي:
ـ والله شكلها مش هنقضيها تفاح، ده لو الجميل بيعرف يعمل أكل .
رفع حاجبيه وهو ينظر إليها بنظرة متفحصة، ثم أكمل بمكر واضح:
ـ ها، هتأكلينا إيه النهاردة؟؟
نور توقفت عن الضحك، نظرت إليه بعينين متفحصتين للحظة، ثم اقتربت منه قليلًا، وكأنها تحاول التأكد من صدقه، قبل أن تهتف بشك:
ـ ليه؟ هو أنت جعان؟؟
لم يرد، فقط هز رأسه بإيماءة واضحة، لكنه لم يتوقف عن قضم التفاحة التي بيده، وكأنها الشيء الوحيد المتاح له الآن.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم هتف بنبرة شبه درامية، وكأنه يشكو حاله:
ـ وكنت مستني الوجبة بتاعت العشا دي، بس تقريبًا اتأخرت.
ابتسمت نور ابتسامة خفيفة، وكأنها تتوقع منه هذا الرد، ثم رفعت رأسها وهتفت بهدوء، لكن بعفوية واضحة:
ـ لا، إحنا مش بناكل آخر وجبة دي
توقف عن قضم التفاحة للحظة، نظر إليها بعينين تحملان قليلًا من الشك، ثم هتف مستنكرًا:
ـ ليه؟ هو أنتوا عاملين دايت؟؟
ضحكت مجددًا، لكن هذه المرة كانت ضحكتها أقرب إلى التسلية، ثم هتفت بمرح وهي تهز رأسها:
ـ لا يا سيدي، تيته حميدة بتنام هي، وماما لبنى، ويمن، وعد، ده لو معندهاش شغل. اللي بيسهروا كاميليا وأنا، واحتمال نوح، ده لو جه متأخر، ومش بياكلوا
ظل صامتًا للحظة، يستوعب هذه المعلومات الغريبة، ثم زفر بسخرية وهو يرمي ما تبقى من التفاحة في القمامة، قبل أن يهتف بصوت خافت، لكنه مليء بالتعجب:
ـ ده إيه العيلة دي يا رب؟؟
ابتسمت نور، ثم رفعت حاجبها بخفة قبل أن تهتف بمكر:
ـ خايف منهم ولا إيه؟؟
أيان لم يرد، فقط ابتسم ابتسامة جانبية وهو يضع يديه في جيبيه، وكأنه يستعد للرد، لكن في داخله، كان يفكر…
أن هذه العائلة، رغم غرابتها، كانت تحمل نوعًا من الدفء الذي لم يعتده من قبل..
المطبخ كان هادئًا، لكن الجو بينهما كان مشحونًا بطاقة غير مفهومة، خليط من التحدي والمرح، كأنهما في مباراة كلامية لا يريد أي منهما أن يخسرها.
ـ لا، مبخافش من حد .
قالها "أيان" بثقة، بينما كان ينظر إليها بنظرة ثابتة، ملامحه لم تحمل أي تردد، وكأنه يريد التأكيد على كلماته.
لكنه لم يتوقف هنا، بل أكمل بنفس النبرة الواثقة، وهو يميل قليلًا للأمام، كأنه يتحدى صبرها أكثر:
ـ ومقولتليش، هتأكليني إيه؟؟
لم ترد «نور» مباشرة، فقط عقدت يديها فوق صدرها، حاجباها ارتفعا قليلًا وهي تنظر إليه بنظرة تحمل خليطًا من الحذر والمرح في الوقت ذاته.
ثم، بعد لحظة قصيرة، هتفت بصوت هادئ، لكنه حمل في طياته شيئًا مريبًا، شيئًا جعله يدرك أنها لن تجيب بسهولة:
ـ ليه واثق أوي كده إني ممكن أعملك الأكل؟، وبإيديا دول كمان؟؟.
كان هناك تحدٍ في عينيها، كأنها تختبره، تنتظر منه إجابة أكثر إثارة للاهتمام.
لكن "أيان" لم يكن من النوع الذي يتهرب من التحديات، بل كان دائمًا مستعدًا للرد.
استند بظهره على الطاولة الرخامية التي كانت خلفه، حرك رأسه قليلاً، ثم هتف بنبرة هادئة، لكنها هذه المرة كانت أكثر صدقًا، أكثر وضوحًا:
ـ عشان انتِ طيبة، مش شبه العيلة دي .
نظر إليها بعينين ثاقبتين، وكأن كلماته ليست مجرد مجاملة، بل حقيقة كان يفكر فيها منذ مدة.
ثم، بعد لحظة صمت قصيرة، أكمل بنفس النبرة المتفحصة:
ـ أنا كنت دايمًا أسأل نفسي، إنتي مش شبههم... إيه اللي خلاكي تقابلي ناس زيهم؟؟
كلماته كانت غير متوقعة، لكنها لم تزعج "نور"، بل جعلتها تأخذ نفسًا عميقًا، وكأنها تستعد للرد على شيء كانت تعرف أنه سيُقال يومًا ما.
تنهدت بخفة، ثم هتفت بنبرة عفوية، لكن كلماتها حملت شيئًا من العمق، كأنها كانت تجيب عن شيء أعمق بكثير من مجرد سؤال بسيط:
ـ الطيور على أشكالها تقع، آه .
نظرت إليه للحظة، ثم أضافت بابتسامة خفيفة، لكن عينيها كانت تحملان معنى أكبر من مجرد كلمات عابرة:
ـ بس دايمًا ربنا بيخلينا نقابل ناس لا هما شبهنا، ولا إحنا شبههم
كان في كلماتها شيء جعله يضيق عينيه قليلاً، كأنه يحاول أن يفهم ما تعنيه بالفعل.
هل كانت تقصد نفسها؟ أم كانت تشير إلى شيء آخر؟
قرر أن يستفهم أكثر، فهتف بنبرة عفوية، لكن في صوته تساؤل غير مباشر:
ـ قصدك على عائلة النويري؟؟
هذه المرة، لم تتردد "نور" في الإجابة، بل رفعت رأسها بثقة، وابتسمت له ابتسامة صافية، كأنها تحاول أن توضح له أنه يخطئ في فهمه للأمور:
ـ لا، قصدي مش عيلة النويري، العيلة دي مختلفة وحلوة أوي، وطيبة جدًا و...
لكن قبل أن تكمل، قاطعها "أيان"، هذه المرة بنبرة مرحة، وكأنه لم يستطع مقاومة تعليق ساخر:
ـ طيبة آه قولتيلي؟؟ والله ده إنتِ اللي طيبة.
ابتسمت "نور" بخفة، لكنها لم ترد، فقط نظرت إليه، وكأنها كانت تسمح له أن يحتفظ برأيه، لكنها تعرف الحقيقة جيدًا.
"أيان"، رغم سخريته المعتادة، شعر بشيء مختلف في هذه المحادثة، كأن هناك طبقة أعمق مما يبدو على السطح.
لم يكن معتادًا على رؤية أحد يدافع عن هذه العائلة بهذه الطريقة، لكنه أيضًا لم يكن معتادًا على أشخاص مثل "نور".
ربما، فقط ربما... كانت مختلفة فعلًا.
❈-❈-❈
كان الليل قد بدأ يرخي سدوله على قصر النويري، لكنه لم يكن هادئًا في قلب "وعد".
السيارة توقفت بسلاسة أمام بوابة القصر، لكن لم يكن هناك أي رغبة في المغادرة، لا من جانب "وعد"، ولا من "كمال".
نظر "كمال" إليها، عيناه لم تكن مجرد عابرة، بل كانت تتمعن في تفاصيلها، في تلك النظرة المتلهفة التي زينها الشوق، في تلك الابتسامة التي حملت ألف شعور غير منطوق.
ـ تعرفي إن الوقت بيعدي بسرعة لما أكون معاكي .
كلماته خرجت كاعتراف، كحقيقة لم يستطع إخفاءها، كانت صوته هادئًا، لكنه كان يحمل بين طياته حرارة لم يستطع كبحها.
شعرت "وعد" بقلبها يضطرب، وكأن صدرها أصبح موطنًا لعاصفة لا تهدأ، ومع ذلك، لم ترد أن تُظهر ضعفها أمامه.
لذا، أخفت ارتباكها خلف ابتسامة غرور خفيفة، ثم هتفت بهدوء، وكأنها تعيد ضبط أنفاسها:
ـ يمكن عشان أنا وعد النويري، ووعد النويري مش أي حد .
قالتها بثقة، لكنها كانت تشعر أن هذه الثقة تتلاشى ببطء تحت وطأة نظراته، تلك النظرات التي كانت تحمل شيئًا أعمق من مجرد إعجاب عابر.
مدت يدها إلى مقبض الباب، مستعدة للرحيل، لكن قبل أن تتمكن من فتحه، شعرت بيده تمسك بها برفق، بأنامله تحيط بمعصمها بحنان لكنها لم تترك لها مجالًا للهروب.
قبل أن تستوعب، كانت شفتيه قد لامست يدها، قبلة دافئة، خفيفة، لكنها حملت ثقلًا أكبر من مجرد لمسة.
ـ مهوا انتِ عشان مش أي حد .
نظر إليها، عينيه تغمرها حرارة مشاعره، ثم أكمل بصوت منخفض، لكنه كان كافيًا ليصل إلى أعماقها:
ـ تعرفي لو حد غريب مكانك، مش هسيب شغلي اللي بحبه، ولا دنيتي كلها، عشان حد غريب، إنما انتِ وعد، وعد قلبي."
شعرت وكأن الأرض اختفت تحت قدميها، وكأنها لم تعد في هذا العالم، بل كانت تحلق في سماء من المشاعر التي لم تعهدها من قبل.
قبل يدها مرة أخرى، هذه المرة ببطء، وكأنه يريد أن يترك أثرًا لا يُمحى، ثم احتضن يدها بين يديه، كأنه يخبرها أنها ملكه منذ الأزل.
كانت "وعد" تشعر بمزيج متضارب من المشاعر، الخجل، الصدمة، الدهشة، لكنها أيضًا، شعرت بشيء آخر، شيء جعل قلبها يرفرف كجناحي طائر تحرر للتو.
لم تجد كلمات ترد بها، فقط تركت يده ببطء، ابتسمت له بلهفة خفية، ثم استدارت وغادرت بسرعة، وكأنها تهرب من تأثير كلماته، لكنها كانت تعرف أنها لا تهرب، بل كانت تحملها معها، تحفظها في قلبها ككنز لا تريد أن يفقد بريقه.
كانت خطواتها أسرع من المعتاد، لكنها لم تكن تشعر بثقلها، بل كانت كأنها تطير، كأنها لم تعد تمشي على الأرض، بل تحلق في فضاء من المشاعر التي لا تستطيع حتى أن تصفها.
بمجرد أن دخلت القصر، أغلقت الباب خلفها، لكنها لم تتحرك.
أسندت ظهرها عليه، أغمضت عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا، محاولة أن تستوعب ما حدث للتو.
شعرت وكأن الهواء الذي تتنفسه يحمل عبير لمسته، كأن حرارة أنفاسه لا تزال تلامس جلدها.
ثم، بلا وعي، نظرت إلى يدها، إلى المكان الذي قبّله منذ لحظات.
رفعتها ببطء، وكأنها تخشى أن تفقد أثره، ثم، وبدون سابق إنذار، قبّلت المكان ذاته، كأنها تحتفظ بهذه الذكرى على بشرتها، حتى لا تمحوها الأيام.
ابتسمت، ابتسامة لم يكن يراها أحد، لكنها كانت الأصدق منذ وقت طويل.
كانت تعلم أن هذه الليلة، لن تُنسى.
كانت تغمض عينيها وتعانـ ـق يـ ـدها كأنها تعـ ـانق «كمال» ولم تشعر بوجود «نور» و «أيان» الذين يقفون يراقبونها بأستمتاع شديدا لها ، مما ابتسمت «نور» وهتفت بصوت عالي حتي تلفت انتباها :
ـ احممم .
لكنها لم تفيق «وعد» كأنها كانت في عالم أخر غير العالم الذى فيه، كادت أن تهتف «نور» مره اخرى ولكن قاطعها «أيان» بمرح ونظر الى «نور» :
ـ انتِ بتعملي ايه يا نور، دي في عالم تانى، مش هينفع معاها الكلام دي .
ختم جملته واقترب من «وعد» بجانب أذنيها :
ـ وعـــد .
افاقت «وعد» وفتحت عينيها بلهفة ونظرت لـ «أيان» بغضب كادت أن تتحدث، ولكن ضحكت «نور» وهى تهتف :
ـ شكلك وقعتي يا وعد، مين ها؟؟ .
نظرت بلهفة الي مصدر الصوت، وهى تزيل يـ ـدها التى كانت تعـ ـانقها وتقف بهدوء وتهتف بتوتر :
ـ نور ايه اللي انتِ بتقوليه ده وقعت ايه بس .
ضحك «أيان» وهو يمثل «وعد» وهي تعـ ـانق يـ ـديها وتقبـ ـلها :
ـ نور ايه اللي انتِ بتقوليه ده وقعت ايه بس .
ختم جملته وضربته «وعد» بخفة وهى تنظر له بغضب، مما ضحكت «نور» وهى تهتف بهدوء، مغير الحديث حتى لا تحرج «وعد» أكثر من ذلك :
ـ يلا يا وعد غيري هدومك، محضرلك مكرونه بشاميل تاكلى صوابعك وراها .
ابتسمت لها «وعد» وهتفت بحماس :
ـ دى اكلتى المفضلة انا ونوح، ثوانى وهغير هدومى وهنزل علطول .
وبالفعل غادرت من امامهم بعد ما رمقت «ايان» نظره غاضبة، وبعد ما غادرت، دخلت «نور» الي المطبخ حتى تكمل ما تفعله، دخل «ايان» خلفها وهو يراقب صنية البشاميل من الفرن، وهو يهتف بلهفة :
ـ مش كفايه عليها كده وتخرجيها .
كانت «نور» تفعل كيك بشوكلاه وكيك من غير الشوكلاه، لان «حميدة» لا تحب الكيك بشوكلاه ولديها حساسية من الشكولاته ، لذلك حبت تفعل كيك من اجلها، وحين سمعت «أيان» يختف بجملته، رفعت رأسها وهى تهتف بسخرية :
ـ يا بنى احنا لسه مدخلنها ، هنخرجها ازاي .
بينما أكملت وهى تنتهى من وضع الكيك الأخير الذى بشوكلاته في ذلك الصينية :
ـ وبعدان تعاله افتح ليا الفرن عشان احطها زي الكيكه بشوكلاته .
وبالفعل فتح لها الفرن حتى تضعها وبعد ذلك غسلت يـ ـدها وضعت كل شئ في مكانه استخدمته مما هتف بحيرة :
ـ انتِ عامله الكيك من غير شوكلاته ده لمين؟؟
كانت مشغولة وهى تضع كل شئ بمكانه بعد ما فعلت تلك الفوضى، مما هتفت بهدوء :
ـ الكيك دي لتيته حميدة، تيتة حميدة مش بتحب الكيك بشوكلاته، عندها حساسيه من الشوكولاته .
مما ابتسم بخفة وهتف بنبرة لم تفهمها :
ـ وانا كمان عندي حساسية من الشوكولاته، وبحب الكيك اللي بفانيليا اللي هي سادة دي مفيهاش حاجه .
ابتسمت له ولم تتحدث اما هو كان منشغل بتفكير«وعد» حينما رأها تبتسم، وليس اي ابتسامة، بلا ابتسامة عاشقة.
مما ابتسم بخبث، فهذا يعني أن «وعد» تحب شخص أخر غير «شهاب»، لذلك عليه أن يعرف من هو هذا الشخص ويدعمه أن يتزوج «وعد» بسرعة، حتى تبتعد عن «شهاب» وعن هوسه…
افاق من تفكيره على صوت اهتزاز الهاتف وكان المتصل هو «شهاب» ، مما تجاهل اتصالاته ، وفعل الهاتف صامت حتي لا يزعجه .
عليه أن يحمي «وعد» من «شهاب» مهما كلفه الأمر..
❈-❈-❈
كانت الغرفة غارقة في السكون، سوى من ضوء الهاتف الخافت الذي انعكس على ملامح "راندة"، وهي مستلقية على الفراش في وضعية كسولة، تتصفح وسائل التواصل الاجتماعي بلا اهتمام حقيقي.
كانت تمرر إصبعها على الشاشة برتابة، كأنها تبحث عن شيء لا تعرفه، أو ربما تحاول الهروب من أفكارها التي لا تتوقف عن ملاحقتها.
كل شيء كان عاديًا، الصور، المنشورات، الأخبار، لكن فجأة، توقفت يدها...
قلبها دق بعنف، كأن أحدهم نقر عليه ليوقظه من سباته الطويل.
كانت هناك صورة أمامها... لم تكن صورة عابرة، بل كانت صورته.
"أسر."
لم تدرك حتى أنها فتحت الصورة، لم تنتبه أنها اقتربت أكثر من الشاشة، وكأنها تحاول أن تحتفظ بكل تفاصيله، وكأن عينيها جائعة لرؤية ملامحه التي لم تتغير.
أطراف أصابعها لامست الشاشة برقة، كأنها تمسح الغبار عن ذاكرة قديمة.
كانت تتأمل كل شيء فيه، عينيه، التي طالما قرأت فيها أكثر مما نطق به لسانه، شفتيه التي كانت تحمل الكثير من الكلمات التي لم تُقال، تفاصيل وجهه التي حفظتها عن ظهر قلب، والتي رغم مرور السنوات، لم تفقد تأثيرها عليها.
شعرت بفيض من المشاعر يغمرها، مزيج من الحنين والشوق والألم، ذلك الألم الذي لم يكن يومًا صاخبًا، لكنه كان دائمًا هناك، ينبض في أعمق زوايا قلبها.
ابتسمت، لكنها لم تكن ابتسامة فرح، بل كانت تلك الابتسامة التي تحمل في طياتها آلاف الذكريات التي لم تبهت أبدًا.
ثم همست بصوت بالكاد خرج منها، لكنه كان يحمل في نبراته كل ما لم تستطع قوله طوال تلك السنين:
ـ عدت سنين وسنين يا أسر... وزي ما انت، متغيرتش أبدًا.
لكنها كانت تعرف الحقيقة...
هو لم يتغير، لكن كل شيء آخر تغير.
الأيام، المسافات، وحتى هي... تغيرت.
ومع ذلك، كان يكفيها أن تعلم أنه هناك، أنه لا يزال موجودًا، حتى لو كان بعيدًا عن متناولها.
كان قلبها يضرب بقوة، وكأن كل نبضة تحمل معها ذكرى قديمة، إحساسًا لم يبهت رغم مرور السنوات.
أصابعها المرتعشة ضغطت على الشاشة دون وعي، فتحت صفحته الشخصية، كأنها تبحث عن دليل يربطها بالماضي، أو ربما عن شيء يؤكد لها أن شيئًا منه لا يزال كما كان.
ظلت تتفحص صوره واحدة تلو الأخرى، كل صورة كانت تأخذها إلى زاوية مختلفة من ذاكرتها، إلى لحظات كانت تظن أنها دفنتها منذ زمن.
كان هو كما تتذكره، نفس الملامح، نفس النظرة، لكن شيئًا ما كان مختلفًا... شيئًا لم تستطع أن تحدده بالضبط، لكنه كان هناك، بين الصور، بين الخطوط التي ارتسمت حول عينيه، بين تفاصيل ملامحه التي لم تفقد وسامتها، لكنها اكتسبت طبقة جديدة من النضج.
مرّت اللحظات بطيئة وهي تتنقل بين صوره، حتى توقفت فجأة.
عينها اتسعت قليلًا، أنفاسها تعثرت للحظة وهي تحدق في الصورة أمامها.
كانت صورة له، لكن لم يكن وحده.
كان يحمل طفلة صغيرة بين ذراعيه، تحتضنه ببراءة، بينما هو ينظر إليها بحنان لم تره في عينيه من قبل.
شعرت بشيء يخترق صدرها، إحساس لم تكن مستعدة له، وكأن الصورة لم تكن مجرد صورة، بل كانت الحقيقة التي كانت تهرب منها طوال هذه السنوات.
فهى كانت تعرف أنه أصبح أب من شقيقها «نوح» ولكن ولا مره رأته هو وإبنته مما ألامها هذا الشئ بقوة .
الواقع ضربها بقوة، كأن كل ما كانت تحاول إنكاره انهار أمام عينيها، لم يعد ذلك الشاب الذي عرفته يومًا، لم يعد ذلك الرجل الذي كان قلبه ينبض باسمها فقط.
مرت لحظات طويلة، شعرت فيها وكأنها فقدت القدرة على التنفس، قبل أن تسقط دمعة، واحدة فقط، لكنها كانت تحمل ثقل سنوات من الكتمان.
لم تستطع التحمل أكثر، أغلقت الهاتف فجأة، كأنها تحاول أن تمحو المشهد من أمامها، لكن ما رأته كان قد حُفر بالفعل داخل قلبها، لا يمكن نسيانه، لا يمكن الهروب منه.
حاولت أن تتمالك نفسها، حاولت أن تبقى قوية، لكن جسدها كان يرفض التعاون معها.
انهارت على الفراش، الدموع بدأت تخونها، تخرج رغمًا عنها، وكأنها تحمل معها كل ما لم تستطع قوله، كل ما لم تستطع الاعتراف به.
وفي لحظة ضعف، خرج صوتها متحشرجًا، مليئًا بالألم، صوت لم يكن موجهًا لأحد، بل كان نداءً :
ـ ليه يا رب؟؟، ليه يا رب مشلتش حبه من قلبي زي ما شاله من قلبه؟ ليه يا رب كده؟؟
لكن الغرفة كانت صامتة...
لا أحد سمعها، لا أحد شعر بها.
وكما هو الحال دائمًا، لم يكن هناك من يجيب.
❈-❈-❈
كان الليل قد أسدل ستاره على القصر، لكن الدفء لا يزال ينبض في أرجائه، تحديدًا في المطبخ حيث اجتمع ثلاثة أشخاص حول المائدة، يملأهم جو من الألفة والمرح.
في الطابق العلوي، أنهت "وعد" تغيير ملابسها، ارتدت منامة قطنية مريحة ذات ملمس ناعم يلامس بشرتها بلطف.
كان اليوم طويلًا، لكنها كانت بحاجة إلى لحظة من الهدوء، إلى لحظة تتخلص فيها من ثقل الأفكار التي تحاصرها.
سارت بخطوات هادئة عبر الممر، وعندما وصلت إلى الدرج، انبعثت إليها رائحة شهية، رائحة طعام منزلي دافئ تسللت إلى حواسها، مما جعل معدتها تهمس بجوع خفيف.
عندما وصلت إلى المطبخ، وجدت المشهد أمامها بسيطًا لكنه كان يحمل طابعًا خاصًا.
السفرة كانت مُعدّة بعناية، أطباق الطعام المصطفة بشكل مرتب، الدخان المتصاعد برائحة شهية، والأهم... كان هناك "نور" و"أيان" يجلسان في انتظارها.
لكن عينيها تجنبت "أيان" تلقائيًا، وكأنها لم تره، أو بالأحرى، لم ترغب في رؤيته.
بدلًا من ذلك، ابتسمت لـ"نور"، اقتربت وجلست بجانبها، قبل أن تهتف بمرح، محاولة كسر أي توتر قد يكون موجودًا:
ـ إيه الريحة التُحفة دي؟ تسلم إيدك عمومًا.
كانت كلماتها موجهة إلى "نور"، لكنها لم تفوت كيف أن "أيان" كان يراقب تفاعلها، وكأنه يلاحظ كل تفصيلة صغيرة فيها.
جلست "نور" أخيرًا، وبعدها جلس "أيان" بهدوء، لكن ابتسامة دافئة لمعت على وجهها قبل أن تهتف بمحبة حقيقية:
ـ بالهنا والشفا يا قلبي .
لم تنتظر "وعد" أكثر، أمسكت الملعقة وبدأت تتناول الطعام، اللقمة الأولى وحدها كانت كافية ليغمض عينيها للحظة استمتاعًا بالنكهة.
"نور" كانت طاهية ماهرة، لم يكن الأمر مجرد وصفات أو مكونات، بل كانت تضع شيئًا من قلبها في الطعام، وهذا ما جعله مختلفًا.
أما "أيان"، فكان يأكل بصمت، لكن من الواضح أنه كان مستمتعًا بكل قضمة، كأن الطعام كان تجربة جديدة له، شيء لم يعتد عليه. لم يكن شخصًا يتناول طعامًا منزليًا كهذا كثيرًا، لكن اليوم، كان يستمتع به كأنه أفضل وليمة تذوقها.
الحديث بدأ يتدفق بين الثلاثة، أصوات الضحكات الصغيرة تتردد بين أركان المطبخ، أجواء من الألفة التي لم تشعر "وعد" بها منذ فترة.
لكن تلك اللحظة، ذلك المشهد الدافئ، لم يدم طويلًا.
على بعد خطوات، كان هناك شخص آخر يراقب كل شيء بصمت.
"نوح."
كان قد عاد لتوه، وجهه مرهق، عينيه محملتان بإرهاق يوم طويل، لكنه لم يكن بحاجة إلى الراحة بقدر حاجته إلى معرفة سبب الضحكات التي تصله من داخل المطبخ.
توقف عند المدخل، عيناه جالت بين الجالسين على السفرة، ركز للحظات على "نور" و"وعد"، كانتا في عالمهما الخاص، ثم انتقل نظره إلى "أيان"، الذي كان يجلس معهما وكأنه جزء من العائلة.
هنا، شيء ما بداخله انقبض.
ظل يراقبهم بصمت، لا يتحدث، لا يقاطع، لكنه شعر بعدم ارتياح يتسلل إليه ببطء.
لم يكن مشهد الألفة هو ما أزعجه، بل كان وجود "أيان" بينهم هو ما جعله يشعر بأن شيئًا ليس في مكانه الصحيح.
وكأن هذا المكان... ليس مكانه.
المطبخ كان مشحونًا بطاقة غير مرئية، جو من الهدوء الظاهري يخفي تحته بركانًا من التوتر.
الضحكات التي ملأت المكان منذ لحظات، بدأت تخفت شيئًا فشيئًا، وكأن الجميع شعر باقتراب العاصفة.
"نوح" لم يكن بحاجة إلى الإعلان عن وصوله، فقد كان حضوره كافيًا ليُشعر الجميع بوجوده.
خطواته الهادئة لم تكن سوى قناع لصخب داخلي يتزايد مع كل لحظة.
اقترب أكثر، عيناه مسلطة على شخص واحد "أيان".
كانت نظراته أشبه بشفرات حادة، تنطق بأشياء لم يقلها لسانه بعد، بينما كان "أيان" على الجانب الآخر يبادله النظرات، لكن نظراته لم تحمل أي تردد، بل كانت مليئة بالاستفزاز، وكأن وجوده في هذا المكان تحدٍ بحد ذاته.
شعرت «نور» بطاقة التوتر بينهما قبل أن تراه، وحين التفتت ورأته واقفًا هناك، ابتسمت له، محاولة أن تبعث ببعض الدفء إلى هذا الجو المتوتر.
لكنه لم يبادلها الابتسامة، فقط نظر إليها للحظة، ثم عاد ليركّز عينيه على "أيان" كأنه يريد أن يفتت وجوده بنظراته وحدها.
جلس "نوح" بجانب "نور"، لكنه لم يتوقف عن التحديق بـ"أيان"، نظراته كانت تقول شيئًا واحدًا واضحًا: "هذا ليس مكانك".
لكن "أيان" لم يكن من النوع الذي يستسلم بسهولة، بل رفع حاجبه بخفة، وألقى نظرة استفزازية على "نوح"، وكأن المشهد بأكمله يسلّيه أكثر مما يزعجه.
لم تكن ترغب «نور» في تصعيد التوتر أكثر، قررت أن تكسر هذا الجو المشحون، فهتفت بعفوية، محاولًة تغيير مسار الحديث:
ـ احطلك مكرونة؟ عاملة مكرونة بشاميل حلوة أوي، هتعجبك
لم ينتظر "نوح" ليجيب، فقد وضعت أمامه صحنًا ممتلئًا، دفعته بلطف باتجاهه، لكنه لم ينظر إليه مباشرة، بل ظل محافظًا على تركيزه على "أيان"، كأنما يقول له بلا كلمات: "وجودك هنا مرفوض".
أمسك بالشوكة، وبدأ يأكل ببطء، لكن عينيه لم تفارق "أيان"، وكأن كل لقمة يضعها في فمه كانت رسالة تهديد غير معلنة.
لكن "أيان" لم يكن من النوع الذي يتراجع أمام الضغط، بل قرر أن يرفع مستوى التحدي، فابتسم ابتسامة جانبية مستفزة، ثم هتف بصوت يحمل جرعة مضاعفة من الاستفزاز:
ـ مالك يا نوح؟ لما جيت بتبصلي كده ليه، كأني وحشتك؟ هو أنا وحشتك بجد .
ضحكة ساخرة خرجت من "نوح"، لكنها لم تكن ضحكة تسلية، بل كانت ضحكة تهديد خفي، ثم هتف بنفس النبرة المستفزة:
ـ لا يا حبيبي، اللي زيك محدش بيوحشه، مستغرب بس، إنت جايب البجاحة دي كلها منين؟ قاعد في البيت ولا كأنه بيتك، وقاعد مع عيلتي ولا كأنها عيلتك .
ابتسامة "أيان" اتسعت أكثر، وكأنه استمتع بالكلمات أكثر مما انزعج منها، ثم هتف ببرود، وكأن كل ما قيل لم يكن له تأثير عليه:
ـ هو فعلاً بيتي، ولا انت نسيت إن يمن كتبتلي كل حاجة، حتى نصيبها في البيت كتبتهولي .
ثم توقف للحظة، نظر إلى "نوح" بنظرة ذات مغزى، قبل أن يضيف بجملة كانت كفيلة بإشعال شرارة الغضب:
ـ وبالنسبة لعيلتك، آه، هي عيلتي و…
لم يُكمل جملته، لأن "نوح" لم يمنحه الفرصة.
بغتة، ضرب "نوح" بيده على الطاولة بقوة، جعلت الأطباق تهتز للحظة، مما جعل الجميع يتوقف عن الحركة، صدى الضربة كان كافيًا لإعلان أن الحدود قد تم تجاوزها.
عينيه اشتعلتا بالغضب، نبرته تحولت إلى شيء أكثر حدة، أكثر خطورة، وهو يهتف بلهجة لم تقبل أي جدال:
ـ إياك يا أيان... إياك
توقفت الطاولة عن الاهتزاز، لكن التوتر في الجو كان أقوى من أي اهتزاز مادي.
ـ العيلة دي مش عيلتك، ولا هتكون، فمتتعشمش أوي عشان مفيش حد فيهم طايقك أصلاً .
كلماته كانت قاطعة، كالسيف، لكنها لم تكن النهاية، بل البداية فقط.
ـ وبالنسبة لبيتك اللي بتتكلم عليه، فأنا هرجع وأقولك تاني.
نظر إليه نظرة جعلت الهواء في الغرفة يثقل، ثم أكمل ببطء، وكأن كل كلمة تخرج منه كانت تهديدًا حقيقيًا:
ـ يوم من الأيام، هاخد كل حاجة منك، وهخليك تندم على اليوم اللي فكرت فيه تيجي هنا، هخليك تبكي بدل الدموع دم،وهخليك تتمنى الموت على كل لحظة قربت فيها من العيلة دي .
صوته كان منخفضًا، لكنه حمل ثقل العاصفة التي لم تهب بعد.
ثم اقترب أكثر، همس بجملة أخيرة، لكنها كانت كافية لجعل شيء ما يتغير في وجه "أيان":
ـ افتكر كلامي كويس، لأنك لحد دلوقتي... مشفتش الوش التاني لعيلة النويري .
كان التحدي قد بدأ، لكن ما لم يكن أحد يعلمه... أن هذه الليلة، لن تمر مرور الكرام.
كان التوتر لا يزال معلقًا في الهواء، كأنه كائن حي يزحف بين الجالسين، يضغط على أنفاسهم، يختبر صبرهم.
"أيان" لم يكن شخصًا يستسلم بسهولة، بل كان دائمًا يفضل مواجهة النار بالنار، لكنه تعلم أن يعرف متى يجب عليه التراجع، ومتى يكون الصمت هو السلاح الأقوى.
ابتسم ابتسامة جانبية تحمل كل معاني الاستفزاز، رفع شوكته من جديد، وأخذ لقمة أخرى وهو يراقب "نوح" بعينين مليئتين بالتحدي، ثم هتف بصوت خافت لكنه مليء بالسخرية:
ـ والله بقى أنا قاعد مستني أشوف الوش التاني، بس أنا استنيت كتير والوش مظهرش ،بس براحتكم طبعًا، على أقل من مهلكم، أنا مش مستعجل.
ضحكة قصيرة، باردة، خرجت من "نوح"، لكنها لم تكن ضحكة تسلية، بل كانت ضحكة شخص يعرف أن لديه اليد العليا، شخص يعلم أنه يتحكم في مجريات الأمور أكثر مما يظن "أيان". ثم، وبنبرة حادة، لكنها مرعبة، كفيلة بجعل من أمامه يشعر بجدية التهديد الذي يلقيه، هتف بهدوء مشوب بالخطر:
ـ لا... ما هو ده هدوء ما قبل العاصفة ، شوية والعاصفة تبدأ ، والعاصفة هتاخد كل حاجة، وممكن تاخدك إنت معاها ،فـ خلي بالك من نفسك الأيام الجاية.
أنهى جملته، وبدأ يأكل من طبقه باستمتاع واضح، وكأنه لم يلقِ قبل لحظات تهديدًا صريحًا. كانت تلك طريقته في إحكام قبضته على الموقف، أن يجعلك تشعر أنك في مأمن، ثم يسحب الأرض من تحت قدميك دون أن تدرك.
"أيان" كاد أن يرد برد قوي، لكنه لمح "نور"، كانت تهز رأسها بخفة، تخبره بصمت أن يتوقف، أن لا يزيد من حدة الأمر، أن يدع هذه الليلة تمر بسلام.
نقل نظره إلى "وعد"، التي كانت هي الأخرى تهز رأسها بلا، لكنه أدرك أنها كانت تفكر بطريقة مختلفة. كانت تعلم أن "نوح" إذا استمر في هذا المستوى من الاستفزاز، فلن يصمت، لن يسمح للأمور أن تبقى عند هذا الحد. كانت تخشى عليه، تعرف أنه متهور، وأنه حين يصل إلى هذه الحالة، قد يرتكب أي شيء دون أن يفكر في العواقب.
قرر أن يستمع إلى صوتهما الصامت، تنهد ببطء، ثم دفع كرسيه للخلف وابتعد عن الطاولة. لم يكن الأمر هروبًا، لكنه كان اختيارًا للحكمة على التهور، على الأقل هذه المرة.
خرج من المطبخ بخطوات هادئة، لكن النار لا تزال مشتعلة بداخله.
"نوح"، من جهته، لم يكن يشعر بأي تأنيب ضمير، بل على العكس، ابتسم بسخرية، وكأنه استمتع بالموقف، وكأن رؤية "أيان" ينسحب كانت انتصارًا صغيرًا له. ثم، وكأن شيئًا لم يحدث، عاد ليكمل طعامه وكأنه لا يوجد شيء يستحق التوقف عنده.
"نور" شعرت بانقباض خفيف في قلبها وهي تراقب انسحاب "أيان". لم يكن يجب أن تسير الأمور بهذه الطريقة، لم يكن يجب أن يُدفع أحدهم بعيدًا عن الطعام بسبب وجود شخص آخر.
نقلت نظرها إلى "وعد"، التي كانت تشاركها نفس الشعور. كلاهما كان يدرك أن "أيان" قد فعل الكثير ضد العائلة، لكن هذا لا يعني أن يتم منعه حتى من تناول الطعام.
لم تتحدث "وعد"، لكن عينيها التقت بعيني "نور"، وأرسلت لها رسالة صامتة، تطلب منها أن تشغل "نوح" عنها للحظات. لم يكن الأمر يحتاج إلى شرح، "نور" فهمت فورًا.
وقفت من مكانها وتوجهت نحو الفرن، ثم نادت على "نوح"، محاولة إبعاده عن الطاولة ولو للحظات:
ـ نوح، بعد إذنك ممكن تطلعلي الكيك من الفرن؟ استوى، وأنا مش بعرف أخرجه .
"نوح"، الذي لم يشك للحظة في نواياها، وقف بهدوء، متجهًا إلى الفرن ليخرج الكيك.
في تلك الثواني القليلة، كانت "وعد" تتحرك بسرعة وحرص.
رفعت المزيد من الطعام في طبق، وضعت عليه شوكة، ثم بحركة سريعة، أمسكت به، وغادرت المطبخ قبل أن يلاحظ "نوح" ما فعلته.
سارت بخطوات سريعة، صاعدة السلالم، حتى وصلت إلى الطابق العلوي. لم تستغرق وقتًا طويلًا حتى وجدته، كان يقف أمام باب غرفته، كاد أن يدخل، لكن صوتها أوقفه.
ـ أيان.
التفت نحوها، ووجدها تقف أمامه، تحمل في يديها طبقه. نظر إليها بحيرة، ثم إلى الطبق، عينيه حملتا صدمة غير متوقعة، كأنه لم يتوقع منها هذا التصرف.
كان على وشك أن يتحدث، لكن "وعد" لم تمنحه الفرصة، بل تحدثت أولًا، بنبرة هادئة، لكن كان فيها صدق لا يمكن إنكاره:
ـ آه، بينّا مشاكل كتير، بس أنا ولا نور ميرضينش إنك متأكلش.
نظر إليها للحظة، ثم أجاب ببساطة، بصوت هادئ، لكنه كان يحمل في طياته شيئًا لم تفهمه:
ـ تسلمي يا وعد، بس أنا شبعت الحمد لله.
عقدت حاجبيها، نظرت إليه بغضب خفيف، ثم هتفت بلهجة عاتبة:
ـ كداب ، انت مشبعتش ولا حاجة. اللي كلتهم يدوب معلقتين بس، والزعل مالوش دعوة بالأكل ،كل وكبّر دماغك، ومتزعلش، تصرف نوح طبيعي، اللي عملته فينا برضه مش سهل ولا قليل .
ثم، بابتسامة خبيثة، أكملت وهي ترفع حاجبها قليلًا:
ـ وبعدين راعي إنّي جاية لحد عندك عشان أديك طبقك.
نظر إليها للحظة، ثم ابتسم، لأول مرة، لم تكن ابتسامة ساخرة، بل ابتسامة امتنان حقيقي. مد يده وأخذ الطبق منها، ثم هتف بصوت دافئ لم تعهده منه من قبل:
ـ شكرًا يا وعد، تسلميلي حقيقي ،تعبتك.
ضحكت بخفة وهتفت بمرح:
ـ على إيه؟ أنا ماعملتش حاجة ،ولو عايز تاكل تاني، كده كده نوح شوية وهيطلع أوضته، وهخلي نور تسيبلك صينية المكرونة في المطبخ. وبالهنا والشفا .
أنهت جملتها قبل أن تستدير بسرعة، تهبط الدرج بخفة، محاولة أن تعود إلى المطبخ قبل أن يلاحظ "نوح" غيابها.
لكن وهي تغادر، لم تلحظ أن "أيان" ظل واقفًا في مكانه للحظات، ينظر إلى الطبق بين يديه، ثم إلى حيث اختفت "وعد"، وعينيه تحملان شيئًا لم يكن يتوقع أن يشعر به تجاهها.
شيئًا لم يعرفه منذ زمن طويل...
الدفاء .
كانت خطواتها على الدرج سريعة، مرتجفة بعض الشيء، لكنها لم تهتم، كل ما أرادته هو أن تصل إلى "أيان" قبل أن يلاحظ "نوح" غيابها.
قلبها كان يدق بسرعة، وكأنها تخشى أن يُفضح أمرها في أي لحظة.
لكن في اللحظة التي وضعت فيها قدمها على الأرضية الرخامية للطابق السفلي، تجمدت في مكانها.
شهقة خفيفة، لكنها كانت كفيلة بأن تعبر عن الذعر الذي تملكها.
"نوح" كان هناك.
لم يكن في المطبخ كما توقعت، لم يكن مشغولًا بأي شيء آخر، بل كان واقفًا، وكأنه كان يعلم أنها ستعود، وكأنه كان ينتظرها خصيصًا.
كان يسند ظهره على الحائط بجوار مدخل المطبخ، يداه معقودتان أمام صدره، ونظراته... آه، تلك النظرات، كانت تحمل شيئًا جعل الرعب يتسلل إلى عروقها.
ابتسم، ابتسامة بطيئة، لكنها لم تكن تبعث على الاطمئنان، بل كانت مرعبة مثل نبرته الهادئة التي حملت في طياتها سؤالًا واحدًا، لكنه كان كفيلًا بأن يجعل أنفاسها تتباطأ، أن يجعلها تشعر بأن الوقت قد توقف:
ـ ليه يا وعد؟؟
كان سؤالًا بسيطًا، مجرد كلمتين، لكنه كان محملًا بألف معنى.
لم يكن يحتاج إلى أن يرفع صوته، لم يكن يحتاج إلى أن يعبر عن غضبه بصراحة، فقد كانت نبرته الهادئة أكثر تخويفًا من أي صراخ قد يلقيه في وجهها.
شعرت أن حلقها جف، أن قدميها لم تعدا قادرتين على التحرك، وكأنها أصبحت أسيرة لهذا الموقف.
ببطء، نظرت إلى "نور"، وكأنها تبحث عن أي نوع من الدعم، أي مخرج قد يساعدها.
لكن "نور" لم تستطع أن تفعل شيئًا، بل على العكس، أغمضت عينيها بأسف، وكأنها تتذكر ما حدث بغياب "وعد"، وكأنها تدرك أن لا شيء يمكنه أن ينقذها الآن.
Flash back
تحرك بهدوء، مد يده وأخذ القفازات، ارتداها بإتقان قبل أن يسحب الصينية الساخنة، يضعها على الطاولة الخشبية في منتصف المطبخ، ثم نظر إلى "نور" بابتسامة راضية:
ـ تسلم إيدك يا نور عيني، بجد شكلها تحفة ، ولا إيه رأيك يا وعد؟
كان يتحدث إليها وهو يتوقع منها ردًا، لكنه لم يسمع شيئًا.
انتظر لحظة، ثم التفت نحو الطاولة التي كانت تجلس عليها منذ دقائق، لكن... لم تكن هناك.
ـ وعد؟؟
لم يسمع جوابًا، لم يرَ سوى مقعدها الفارغ.
في تلك اللحظة، كان هناك شيء خاطئ، شعور خفي زحف إلى صدره، إحساس بأن هناك أمرًا يحدث دون علمه.
عيناه جالتا في المكان، تبحثان عن دليل، عن أي شيء غير معتاد، لكن ما لفت انتباهه لم يكن غياب "وعد"، بل كان أمرًا آخر تمامًا.
طبق "أيان"... لم يكن موجودًا.
لم يكن بحاجة إلى أن يسأل، لم يكن بحاجة إلى أي تفسير، فقد أدرك كل شيء على الفور.
عينيه التفتتا بسرعة نحو "نور"، التي كانت تحاول أن تحافظ على هدوئها، لكنها لم تكن بارعة في إخفاء توترها.
كان يعلم أنها تعرف، كان يعلم أنها تدرك ما الذي حدث، لكنه أراد أن يسمع منها، أراد أن يتأكد.
نبرته كانت هادئة حين سأل، لكنها كانت مشبعة بشيء لم تفهمه "نور"، شيء جعلها تشعر بأن أي كلمة خاطئة قد تؤدي إلى عواقب لا تحمد عقباها:
ـ وعد راحت فين؟؟
حاولت أن تبدو طبيعية، حاولت أن تبقي صوتها ثابتًا، لكن التوتر كان واضحًا في كل حركة من حركاتها، في كل نفس تأخذه وهي تحاول أن تجد إجابة مناسبة:
ـ هي... راحت الحمام تغسل إيديها، وجاية حالًا.
كذبة صغيرة، لكن "نوح" لم يكن شخصًا يسهل خداعه.
لم يكن بحاجة إلى دليل آخر، لم يكن بحاجة إلى أن يرى الأمر بعينيه، فهو قد فهم كل شيء الآن.
عينيه ضاقتا قليلًا، لم ينطق بأي كلمة أخرى، فقط أدار جسده ببطء، وتراجع خطوة إلى الخلف، وكأنه يستعد لشيء ما.
"نور" لم تكن غبية، كانت تعلم أنه لن يترك الأمر يمر بهذه السهولة، لكنها لم تستطع أن تفعل شيئًا سوى أن تشاهده وهو يغادر المطبخ، يسير بخطوات هادئة، لكنها كانت تحمل في طياتها عاصفة قادمة، عاصفة لن تهدأ قبل أن يحصل على إجابة لسؤاله.
End Flash back
عادت "وعد" إلى الواقع، وقلبها لا يزال ينبض بسرعة.
لم تكن بحاجة إلى أن تسأل "نور" عمّا حدث، فهي قد فهمت كل شيء من الطريقة التي نظر بها "نوح" إليها، من هدوئه المريب، ومن تلك الابتسامة التي لا تحمل أي شيء سوى الإنذار.
نظراته اخترقتها بالكامل، جعلتها تشعر بأنها عالقة في زاوية لا مفر منها. كان ينتظر جوابًا، لكن أي جواب يمكنها أن تقدمه الآن؟
بل، هل هناك أي مفر من هذه المواجهة
شعرت ببرودة غريبة تسري في أوصالها، وكأن الهواء من حولها قد أصبح أثقل، كأن نظراته وحدها قادرة على خنقها.
كانت يدها ترتجف، أصابعها الصغيرة تتشابك ببعضها في محاولة يائسة للسيطرة على التوتر الذي بدأ يتسلل إلى كيانها.
كانت تحاول أن تجد كلمات، أي كلمات، تبرر بها ما فعلته، لكنها لم تستطع.
وكأن لسانها قد انعقد، وكأن عقلها لم يعد يعمل سوى على تحليل مدى غضب "نوح".
لم يكن غضبًا صاخبًا، لم يكن ثورة عارمة، بل كان هدوءًا قاتلًا، نظرة جامدة تحمل في طياتها عاصفة وشيكة.
لم يُمهلها كثيرًا، لم يسمح لها حتى بمحاولة الدفاع عن نفسها، فقط تقدم منها بخطوات ثابتة، لكنها حملت معها رهبة لا يمكن وصفها، حتى قبل أن يصل إليها كان قد ألقى كلماته كسهام حادة اخترقت صدرها دون رحمة:
ـ إنتِ ناسية هو عمل فينا إيه؟؟
كان صوته قويًا، لكنه لم يكن صراخًا، بل كان أقرب إلى تحذير، إلى لوم عميق، إلى ألم لم يبرأ بعد.
لم يمنحها فرصة للرد، لم يكن يريد سماع أعذار، كان يريد إجابة واحدة فقط، إجابة لم تكن تملكها.
أشار بيده إلى الدرج خلفه، وكأن الإشارة وحدها كانت كافية لإعادة الذكرى أمام عينيها، ليجعلها تتذكر الألم الذي حاولت دفنه منذ وقت طويل.
"ده خلي يمن تقلب علينا، خلي يمن توقعك على السلم ده بدون أي شفقة .
ارتجفت شفتاها، عينيها اتسعتا وهي تستعيد المشهد كأنه يحدث من جديد، كأنها لا تزال تشعر بألم السقوط، بالصدمة التي جمدت ملامحها حينها، بالحيرة التي مزقت قلبها عندما لم تجد في عيني "أيان" أي ندم... أي رحمة.
ارتجفت عينيها وهي تحاول ألا تبكي، لكنها لم تستطع، شعرت بالدموع تتجمع عند أطراف رموشها، تهدد بالسقوط في أي لحظة.
لكن "نوح" لم يكن قد انتهى بعد. على العكس، صوته هذه المرة كان أكثر حدة، أكثر قسوة، كأن الغضب الذي حاول كبحه انفجر في وجهها بلا هوادة:
ـ اتجوز يمن من ورانا، وخلى كل حاجة تتكتب باسمه على الجاهز، ولسه بيفرق في عيلتنا، وانتِ بطيبة قلبك ادتيله الأكل؟! طب ليه؟؟
كان يريد إجابة، لكنه لم يحصل على شيء.
كانت نظراتها هاربة، كأنها تخشى مواجهته، تخشى أن تنظر في عينيه فترى الخذلان الذي تحملهما.
عضت على شفتها السفلى، كأنها تحاول منع نفسها من الحديث، من الاعتراف بأن جزءًا منها لم يستطع رؤية "أيان" وهو يتضور جوعًا، رغم كل شيء فعله بهم.
لكن "نوح" لم يكن بحاجة إلى سماع الإجابة، لم يكن بحاجة إلى أن تخبره لماذا فعلت ذلك، فقد كان يعرفها جيدًا، يعرف قلبها الطيب الذي لم يستطع يومًا أن يحمل الضغينة، حتى لمن أساء إليها.
ورغم كل غضبه، رغم كل قسوته، كان هناك جزء منه لا يستطيع أن يغضب منها حقًا.
كان يعلم أنها لم تفعل ذلك إلا لأنها "وعد"... لأنها لا تستطيع أن تكون قاسية حتى لو أرادت.
تنهد بعمق، محاولةً منه للسيطرة على عصبيته، ثم رفع يده ببطء، ليلامس وجهها بحنان مفاجئ.
لم يكن مجرد لمس، بل كان احتواء، كان يحاول أن يجعلها تنظر إليه، أن تواجهه.
وعندما رفعت رأسها أخيرًا، عندما تلاقت نظراتهما، لم يكن هناك غضب في عينيه هذه المرة، بل كان هناك شيء آخر... شيء يشبه الألم.
نبرته عندما تحدث لم تكن قاسية كما كانت منذ لحظات، بل كانت هادئة، لكنها حازمة، كأنه يريد أن ينقش كلماته داخل قلبها حتى لا تنساها أبدًا:
ـ قولتها لكِ قبل كده يا وعد، وهقولها لكِ تاني... متخليش حد يستغل طيبة قلبك، مهما كان.
شعرت بشيء دافئ يتسلل إلى صدرها، شيء يشبه الأمان الذي لم تشعر به منذ وقت طويل. لم تستطع أن تتحدث، لم تستطع سوى أن تهز رأسها بصمت، كأنها تستسلم لكلماته، كأنها تعترف أنه على حق، حتى لو لم تستطع أن تغير قلبها.
ثم، بحركة بطيئة، انحنى قليلًا، وقبّل جبينها بحنان أخوي دافئ، قبلة لم تحمل فقط الحماية، بل حملت كل المشاعر التي لم يستطع أن يعبر عنها بالكلمات.
لم تكن مجرد ابنة عمه، لم تكن مجرد فرد من العائلة، بل كانت شقيقته، ابنته التي لم ينجبها، الشخص الذي حمله بين يديه عندما كانت طفلة، والذي ظل مسؤولًا عنه طوال حياته.
كانت الأقرب إلى قلبه، ولا شيء في هذا العالم كان يمكنه أن يغير ذلك.
ابتسمت " نور " التي كانت تراقبهم ، لكنها لم تكن ابتسامة سعادة، بل كانت ابتسامة محبة ممتزجة بالألم.
تلك اللحظة ذكرتها بشقيقها الراحل "خالد"، ذكرتها بحبه لها، بحنانه الذي كان يشبه حنان "نوح" الآن.
شعرت بشيء يخنقها في صدرها، بدموع تريد أن تسيل مرة أخرى، لكنها لم تفعل، بل اكتفت بأن تدعو له بصمت، أن تتمنى له الرحمة والمغفرة، كأنها تخبره أنها لم تنسه، ولن تفعل أبدًا.
كانت تلك لحظة قصيرة، لكنها كانت كفيلة بأن تترك أثرًا عميقًا في قلبها .
❈-❈-❈
في جوف الغرفة، حيث الهدوء يسود، كان "أيان" يجلس مسترخيًا، يتناول طعامه بشهية وكأنه يستمتع بلحظات نادرة من السكينة.
ومع كل لقمة، كان يشعر بدفء ذكرى "وعد"، تلك اللحظة التي مدت له فيها الطعام برغم كل شيء، برغم ما بينهما، برغم كل ما فعله.
لم يكن يدري لماذا فعلت ذلك، لماذا ظلت بجانبه ولو للحظة، لكن قلبه كان ممتنًا لها بطريقة لم يفهمها حتى هو نفسه.
لكن سكون الغرفة لم يدم طويلًا.
اهتز الهاتف بجانبه فجأة، كسر تلك اللحظة الهادئة، كأنه جاء ليذكره أن الراحة ليست من نصيبه بعد.
نظر إلى الشاشة بطرف عينه، رأى الاسم الذي ظهر عليها، "شهاب".
شرد لثانية، ثم تجاهله دون تردد. ليس الآن... ليس وهو مستمتع بهذه اللحظة القليلة من السلام.
أعاد تركيزه على طعامه، على اللقمة التي لم يبتلعها بعد، لكن الهاتف لم يكن ليتخلى عنه بهذه السهولة.
رن مجددًا. هذه المرة، لم يكن "شهاب".
هذه المرة، الاسم الذي ظهر على الشاشة جعله يلتقط الهاتف على الفور، يرد بلهفة لم يستطع إخفاءها.
ـ ألو يا خالو
لكن بدلًا من سماع صوت خاله المعتاد، جاءه صوت آخر، صوت لم يكن يريده، صوت جعله يغمض عينيه للحظة، يحاول أن يتمالك نفسه قبل أن يلعن بصوت منخفض اللحظة التي التقط فيها الهاتف.
كان "شهاب". وبنبرته المعتادة، بنبرته التي تحمل دائمًا شيئًا من السخرية المبطنة، قال:
ـ لا يا حبيبي، أنا مش خالك ، ما أنت ماسك التليفون أهو، مش راضي ترد عليا ليه .
أيان أبعد الهاتف عن أذنه للحظة، تنهد بعمق، كأنه يحاول استجماع طاقته للحديث معه. ثم، بصوت ثقيل، مليء بالمضض، رد :
ـ خير يا شهاب
لكن "شهاب" لم يكن ليتأخر في كشف نواياه، جاء سؤاله مباشرًا، دون لف أو دوران:
ـ هي وعد نامت ولا لسه؟؟
كانت جملة بسيطة، مجرد سؤال، لكنه كان كافيًا ليشعل في عيني "أيان" نارًا شرسة، ليجعل ملامحه تتصلب، لتحول وجهه في لحظة إلى وجه شخص لا يرحم.
رفع رأسه ببطء، كأنما يحاول استيعاب وقاحة السؤال، ثم رد بصوت حاد، بنبرة تحمل تهديدًا صريحًا:
ـ وإنت مالك بوعد، نامت ولا لأ؟؟
على الطرف الآخر، بدا "شهاب" غير مكترث بغضبه، بل ربما كان يتوقعه ، ضحك ضحكة خفيفة، ثم رد بنفس الهدوء الذي يستفز أكثر مما يهدئ:
ـ متتعصبش يا أيان ، أنا عايز أشوف وعد دلوقتي، فقوللي، نايمة ولا لأ، عشان أجي .
وهنا، لم يعد "أيان" قادرًا على البقاء جالسًا.
نهض بعنف، الكرسي تحرك للخلف مصطدمًا بالحائط، عروقه نبضت بغضب، وكأن كل كلمة قالها "شهاب" كانت تزيد من اشتعال النار داخله.
قبض على الهاتف بقوة، كأن يده يمكنها أن تعصره، ثم هتف بشراسة، بصوت يكاد يزلزل المكان:
ـ طب ورحمة أمي، يا شهاب، لو قربت بس لوعد، وهي نايمة أو صاحية، لأنسي إنك ابن خالي، وهتكون العداوة معاك انت
لكن "شهاب" لم يكن ليسمح له بالسيطرة على الحديث، بل باغته بجملة كانت كافية لجعل الدم يغلي في عروقه أكثر:
ـ وعد ملكي يا أيان، ولو ما ساعدتنيش إني أشوفها النهاردة، فأنا هعرف إزاي أساعد نفسي .
هنا، لم يعد الغضب مجرد شعور داخلي، بل تحول إلى شيء ملموس، إلى قوة تفجرت داخله دون تحكم.
شعر بالدماء تفور في رأسه، بصدره يعلو ويهبط كأنه يوشك على الانفجار.
ارتفع صوته أكثر، صار أكثر وحشية، أكثر تهديدًا، حتى أن صدى كلماته ملأ الغرفة، أيقظ "يمن" التي كانت نائمة على السرير القريب.
لكنه لم يهتم، لم يكن يرى شيئًا أمامه سوى الاسم الذي ظهر على شاشة الهاتف، سوى الوجه الذي تخيله أمامه الآن، سوى الشخص الذي لو كان أمامه في هذه اللحظة، لما تردد للحظة في سحقه.
ـ طيب ورحمة أمي، لو قربت منها بس، لكون قتلك .
كانت كلماته نهائية، غير قابلة للنقاش، غير قابلة للتهدئة.
ثم، دون أن يمنحه فرصة للرد، أغلق الخط بعنف، كأن قطع الاتصال هو الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله كي لا ينفجر أكثر.
لكن الغضب لم يهدأ.
لم ينطفئ. على العكس، كان يتصاعد داخله، كان يحرقه من الداخل. شعر بحاجة ملحة للذهاب إليها، للتأكد أنها بخير، أنها لم تشعر بأي شيء، أنها لا تزال نائمة بسلام، بعيدًا عن جنون "شهاب".
لكنه لم يتحرك.
لم يستطع.
لأن صوتًا ناعمًا، صوتًا مليئًا بالفضول والشك، جاءه من خلفه، جعله يتجمد في مكانه.
هي مين دي... اللي لو حد قرب منها لتقتله؟ ومين اللي كان بيكلمك أصلاً؟؟ .
كان ذلك صوت "يمن".
كانت قد استيقظت، كانت تراقبه، وكانت تنتظر إجابة.
لكن المشكلة لم تكن في سؤالها، بل في أنه، ولأول مرة، لم يكن يعرف كيف يجيب.
لم يكن يعرف كيف يخرج من هذه الورطة.
الكلمات هربت من فمه، كأنها ترفض أن تكون جزءًا من هذه اللحظة.
التفت إليها ببطء، نظر في عينيها، لكنه لم يجد ما يقوله.
فقط، صمت.
وصمته، كان أثقل من أي كلمة.
❈-❈-❈
في قلب الغرفة الفاخرة، حيث الألوان الذهبية تتراقص على الجدران، والأثاث يعكس بريقًا ملكيًا كأنه جزء من عالم لا يُمس، كانت "كاميليا" نائمة على الفراش الضخم، مغطاة بغطاء حريري ناعم، وكأنها أميرة غافية في قصرها العاجي.
وقف "فيكتوريا" عند الباب للحظات، عينيه تتأملانها بصمت عميق، بشيء يشبه التملك، لكنه كان أكثر تعقيدًا من مجرد امتلاك.
تقدم ببطء، كأن كل خطوة يأخذها تُرسّخ أكثر فكرته عنها ،أنها ملكه، وستظل كذلك.
جلس بجانبها على حافة السرير، يديه تسترخي على ركبتيه، لكنه لم يستطع مقاومة الرغبة في لمسها، في التحقق من أنها حقيقية، أنها هنا، في غرفته، في قصره، تحت جناحه.
رفع يده ببطء، أنامله تلامس وجنتها بحذر، برفق لم يكن يتوقعه من نفسه.
بشرتها كانت ناعمة، دافئة، خالية من أي زيف، لا مساحيق، لا رتوش ، فقط جمال طبيعي خالص، جمال لم يكن بحاجة إلى أي تعديل.
لقد طلب من خادمته أن تعتني بها، أن تستبدل ملابسها المبللة، أن تجفف خصلات شعرها التي كانت تتساقط فوق وجهها كخيوط الليل، أن تضعها هنا، في هذا المكان الذي قرر أنه سيكون عالمها الجديد.
لم يكن ليسمح بأن يمسها أي أذى، لم يكن ليسمح بأن تبتعد أكثر، ليس بعد أن كادت تضيع منه مرة أخرى.
تذكر كيف اتصل به رجاله، كيف قالوا له إنها هربت من البيت كعصفور مذعور، تركض بلا هدف، بلا وجهة، فقط تهرب.
لم يفكر، لم يتردد، تحرك بسرعة، كان قريبًا من المكان، وكأن القدر رسم له الطريق إليها، وكأنها لم تكن تملك فرصة للهروب منه أبدًا.
الآن، ها هي بين يديه، في عالمه، في دائرته التي لن يسمح لها بالخروج منها مجددًا.
أخرج هاتفه من جيبه، رفعه إلى أذنه، صوته جاء ثابتًا، حازمًا، لا يقبل النقاش:
ـ جهز الطايرة ، عشان بكره هنمشي من البلد .
لم ينتظر ردًا، لم يكن بحاجة لسماع شيء آخر.
أنهى المكالمة وأغلق الهاتف، أنامله شدّت قبضتها حوله للحظة قبل أن يضعه جانبًا.
عيناه لم تفارقا ملامحها الهادئة، وكأنها نائمة دون هموم، دون إدراك لما ينتظرها.
لكنها ستعرف قريبًا ، ستعرف أن هذا لم يكن مجرد حدث عابر، أن هذه الليلة كانت فاصلة، أن كل شيء تغير، وأنها أصبحت ملكًا له ، سواء شاءت أم أبت.
❈-❈-❈
في ظلام الغرفة، حيث الأضواء الخافتة ترمي بظلال باهتة على الجدران، كانت "راندة" غارقة في بحر من الفوضى.
الهواء مشبع برائحة الخمر الثقيلة، تتراقص في المكان كأنها تحاول خنق كل شيء حي فيه.
الزجاجات الفارغة تتناثر على الطاولة، وبعضها سقط على الأرض، محدثًا ضجيجًا لم تأبه له.
جلست على الأرض، ظهرها مستند إلى السرير، وعيناها الزجاجيتان تحدقان في السقف بلا تركيز، كأنها تبحث عن إجابة بين الشقوق الصغيرة التي لم تنتبه لوجودها من قبل.
في يدها زجاجة "الفودكا"، تدور بها بين أصابعها، تارة ترفعها إلى شفتيها، وتارة تضحك بسخرية وكأنها تهزأ من نفسها.
شهقت فجأة، وكأن ذكرى غارقة في الألم باغتتها، لتتحول ضحكتها إلى شهقة متقطعة، ثم إلى كلمات خرجت من شفتيها المرتجفتين، نبرة صوتها مخنوقة، متعثرة بين الغضب والخذلان:
ـ أنا حبيتك... ليه عملت فيّا كده.
أمالت رأسها إلى الخلف، عيناها ممتلئتان بدموع لم تسقط بعد، لكنها لم تستطع كبحها طويلًا.
ـ أنا استاهل منك كده؟ طيب ليه؟ ليه سبّتني أحبك طالما محبتنيش؟ ليه اخترتها هي... ومحبتنيش أنا.
رفعت الزجاجة مجددًا إلى فمها، أخذت منها جرعة كبيرة، وكأنها تحاول أن تغرق ألمها في عمقها الحارق.
نهضت فجأة، خطواتها مترنحة، الغرفة تدور بها، أو ربما هي من كانت تدور حول نفسها، ضحكت بصوت مختلط بالبكاء، وكأنها تحادث نفسها، أو ربما تحادث خيالًا لا يزال يطاردها.
ـ أسر
همست باسمه وكأنها تتذوق مرارته بين شفتيها، وكأن مجرد ذكره يوقظ بداخلها نيرانًا لا تهدأ، حبًا تحول إلى لعنة لا تعرف كيف تتخلص منها.
استمرت في الدوران داخل الغرفة، وكأنها تحاول الهروب من واقعها، من قلبها، من كل شيء ، لكن الحقيقة كانت واضحة، قاسية، عالقة في عينيها الحمراوين وملامحها المرهقة ، الحقيقة أنها ما زالت تحبه.
دفعت "راندة" الباب ببطء، خطواتها المرتبكة تقودها نحو الصدمة دون أن تدري.
كان عقلها المثقل بالخمر مشوشًا، لكن المشهد أمامها كان أوضح من أي شيء رأته في حياتها.
هناك، وسط ظلال الغرفة الخافتة، كان "شهاب" يحمل "وعد" بين ذراعيه، وجهه قريب منها حد الالتصاق، حتي كاد أن يقبـ ـلها ، عيناه مسمرة على ملامحها الغائبة في النوم، وطريقة احتضانه لها لم تكن عادية ، لم تكن بريئة.
تسمرت في مكانها، وكأن جسدها فقد القدرة على الحركة.
قلبها خفق بقوة، لكن هذه المرة لم يكن الخمر هو السبب، بل الغضب، الصدمة، والشيء الذي شعرت به عالقًا في حلقها ولم تستطع تسميته.
ثم، في لحظة مميتة الصمت، نطقت، بصوت متقطع لكنه قوي كفاية ليخترق السكون:
ـ شهاب ؟؟
تجمد "شهاب" في مكانه، كأن تيارًا كهربائيًا ضربه فجأة.
لم يتحرك، لم يلتفت، فقط تجمدت أنفاسه في صدره.
تململت "وعد" في غفوتها بين ذراعيه ولكنها مازالت نائمة ، لكنه لم يعد يشعر بها.
لم يعد يشعر بأي شيء سوى بالنظرة التي اخترقته من على عتبة الباب ، نظرة "راندة"، تلك النظرة التي حملت ألف سؤال، وألف اتهام، وألف لعنة صامتة.
ابتلع ريقه ببطء، صدره يعلو ويهبط في اضطراب، وعيناه التقتا بعينيها أخيرًا، فقط ليجد فيهما شيئًا لم يتوقعه أبدًا...
❈-❈-❈
خرج "نوح" من الحمام بخطوات هادئة، الماء لا يزال يقطر من خصلات شعره، ينساب على كتفيه العاريين، ينحت مسارات رقيقة على بشرته الدافئة.
كان يرتدي بنطالًا قطنيًا أسود، جسده مبلل قليلًا، والهواء البارد يلفحه لكنه لم يُظهر أي انزعاج.
رفع منشفة لتجفيف شعره، وفي اللحظة التي أنزلها عن وجهه، التقت عيناه بعيني "نور" التي كانت تقف في منتصف الغرفة، تنظر إليه بخجل واضح، عيناها تهربان منه بسرعة، بينما تورّد وجنتاها كأن حرارة الغرفة ارتفعت فجأة.
شعرت بوخزة من الإحراج، فتوجهت مسرعة إلى الحمام، أغلقت الباب خلفها بحركة سريعة، محاولة تهدئة ضربات قلبها المتسارعة.
وقفت للحظة أمام المرآة، تنظر إلى انعكاسها وكأنها تواسي نفسها، ثم بدلت ملابسها إلى منامة حريرية ناعمة، لونها ينعكس برقة تحت الأضواء الخافتة.
جمعت شعرها في كعكة فوضوية قبل أن تخرج من الحمام، وعندما فعلت، وجدت "نوح" قد جلس على الأريكة، مرتديًا قميصًا قطنيًا بنصف كم، لكن نظراته ما زالت مشتعلة، كأنه كان ينتظرها.
رفع نظره إليها وسأل بصوت هادئ، لكن في أعماقه شيء خفي، شيء يشبه الترقب:
ـ مش هتنامي؟
أجابته بنفس الهدوء، وهي تتجه نحو غرفتها، تحاول أن تبقى طبيعية رغم الشعور الغريب الذي يزحف تحت جلدها:
ـ ثواني، هجيب حاجة من الأوضة وهنام.
اختفت عن نظره، لكن قلبها ظل معلقًا في الهواء، وكأن نظراته لم تغادرها حتى بعد مغادرتها.
فتحت خزانتها بلهفة، تبحث عن علبة المنوم التي وضعتها في الصباح، لكنها لم تجدها! قلبت الملابس، دققت في الأرفف، ازداد توترها، أناملها تتحرك باضطراب، عيناها تمسحان المكان بقلق متزايد… أين اختفى؟
وفي وسط ارتباكها، جاءها صوته من خلفها، هادئًا لكنه يحمل شيئًا خفيًا، كأنه يعرف تمامًا ماذا يدور في رأسها:
ـ بدوّري على ده؟
تجمدت في مكانها، شهقت بخفوت وهي تلتفت إليه ببطء، وكأنها لا تريد أن تصدق… كان يقف عند الباب، علبة المنوم بين أصابعه، يرفعها قليلاً في الهواء، نظراته لم تكن هادئة أبدًا، بل عميقة، خطيرة، أشبه بفخ وقعَت فيه دون أن تدرك.
حبست أنفاسها، وعيناها توسعتا بصدمة، بينما تسللت خطوة إلى الخلف دون وعي… لكنها كانت تعرف تمامًا أن الهروب الآن لم يعد خيارًا.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة توتا محمود من رواية أرهقته حر با، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية