-->

رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 28 - الأحد 20/4/2025

 

  قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة عفاف شريف


الفصل الثامن والعشرون

تم النشر الأحد 

20/4/2025



خسارة واحدة مؤلمة،

وإن كانت بإثنتين،

قد تكون منقذة.


ربما وراء كل خسارة، طوق نجاة،

وتذكرة خروج من وهم الحياة،

وهمٍ ظننّاه حقيقة،

حتى انطفأت أرواحنا،

وهُدمت آمالنا،

وخسرنا قلوبًا أنهكتها الحياة.


ربما الحياة ما هي إلا صفحات

تملؤها أنفسنا بما تراه،

لنقف نطالع كتابًا شوّه الخذلانُ معانيه،

وبين لحظة وأخرى

نقف ننظر إلى الخواء حيث حُطّمت القلوب،

وأُحرقت الوعود،

وحينها نبتسم بانكسار، وربما انتصار،

مستعدين لنرى النيران تحرق وهم الأيام،

لعل رمادها يُخرج لنا العنقاء،

ونبتسم لبداية ما ظنناها سوى نهاية.


❈-❈-❈

كانت تتحرك في الشقة ذهابًا وإيابًا،

تضع يدها على صدرها،

والقلق ينهش قلبها.

نقلت عينيها نحو الساعة وهي تردد بقلق:

"فينك يا آلاء؟ اتأخرتي أوي، ليه كده؟

يا ريتني ما سيبتك رُحتِ.

يا ريتني...

يا رب سترك،

سترك يا رب سترك،

عشان خاطر عيالها يا رب، عشان خاطر عيالها."

رفعت الهاتف نحو أذنها مرةً أخرى، تهاتفها بقلق وخوف يزداد دقيقةً تلو الأخرى.

لكن لا رد.

مرةً بعد مرة،

حتى فتح الخط أخيرًا.

شهقت بسعادةٍ متنهّدةً براحة.

راحةٌ لم تدم طويلًا.

❈-❈-❈

وسط هذا الظلام، نظن أنها النهاية.

فيُضي لنا ضوء خافت في نهاية الممر لنعلم أنه لم يحن الوقت بعد.


في تلك الشقة التي شهدت اغتيال روحها،

شقة الأحلام التي أسستها بنفسها قطعةً قطعة.


حيث ظنت أنها ستحصل على السعادة والكثير من الحب،

لتجد نفسها لا تجني سوى التعاسة.

كان مقدرًا لها أن تبدأ فصلًا جديدًا من حياتها هنا،

لكن لم تكن تعلم أنه سيكون الأخير.

وتنتهي الحكاية بنهايتها.


كانت محلها حيث تركها،

حيث ظنت أنها فقدت روحها.

ملقاة ومتكومةً على الأرض غارقةً وسط بركةٍ من دمائها،

بوجه شاحب وجسد ممدد.

كانت كجثةٍ هامدة،

تحارب وتحاول أن تنتشل نفسها من بين تلك الدوامة التي تبتلعها.

كانت تتألم،

وكان الألم لا يتوقف.

تشعر بنفسها تنزف بقوة،

وتقلصاتٍ عنيفة لا تنفك بالألم.

حتى تكاد تقسم أن ظهرها قسم من شدة الألم.

صوتٌ ما انتشلها من وسط ظلمتها،

فلم يكن سوى صوت رنين هاتفها المستمر،

المُلْقَى بعيدًا عنها ببضع خطوات.

لا يكف عن الرنين.

كانه يخبرها أنه ما زال هناك أمل في النجاة.

بضع خطواتٍ قليلة البُعد،

لكنها كانت أبعد ما يكون عنه في وضعها الحالي.

ورغم ألمها ونزيفها الحاد،

كانت تحاول التحرك،

تحارب للنجاة،

لأجلها وصغارها.

وبالفعل بدأت بالزحف،

ببطءٍ شديد.

فكلما تحركت، تتجمد متأوهةً بشدة.

شاعرةً بروحها تقترب من الخروج منها،

والدماء تنزف منها دون توقف.

والألم في ازديادٍ مستمر،

كان كل عظمٍ جسدها قد تحطم حتى لم يعد هناك ما هو سليم.

وأخيرًا،

وصلت لهاتفها.

بسمةٌ متألمةٍ ارتسمت على وجهها المغطى بالكدمات،

وهي تفتح المكالمة بأصابع ملوثةٍ بدمائها.

ليأتيها صوت سلوى القلق.

وفي تلك اللحظة، لم تكن قادرةً سوى أن تنطق بكلمة واحدة،

كلمة واحدة وهي ما كانت قادرةً على إخراجها في تلك اللحظة:

"الحقيني".

وصمتت،

وسكنت،

واستلمت لتلك الظلمة الموحشة.

لربما غادرت من تلك الحياة،

ولربما غادرها من لم تعلم بوجوده ولم تره من الأساس.


فالخسيس لم يضحي بها وحدها،

بل أودعها ألمًا جديدًا فاق كل الألم.

وإن كان يعلم ما فعلها،

وربما فعلها.

❈-❈-❈

انتفض جسدها وهي تستمع إلى همس الاء الخافت.

كلمة واحدة كانت كفيلة بكل شيء حدث بعدها.

فلم تجد نفسها سوى وهي تسرع راكضة، تخرج من الشقة.

لتقابلها شقة أمها في الجهة المقابلة لشقتها.

وهي ترفع يدها، وقد بدأت بالطرق عليها بعنف، ويدها لم تترك الجرس لوهلة.

ثواني وفتح الباب، وخرجت أمها المرتعبة وآثار النوم لم تغادرها بعد.

وقبل أن تنطق بحرف،

كانت سلوي تتحدث بسرعة ودموعها لا تترك مجالًا للرؤية:ماما، ماما ارجوكِ، ادخلي اقعدي مع البنات،

ولاد آلاء جوة.

في منهم بيبي، ارجوكِ خلي بالك منهم.

دول أمانة آلاء.

وتابعت وهي تتحرك تعود لشقتها، ترتدي ثيابها بعجلة وتخبط: أنا لازم أنزل حالًا.

آلاء... آلاء ، شكل حصلها حاجة .

أنا لازم أنزل حالًا ، لازم.

كانت تقولها وقد تحركت لتحضر حقيبتها،

وأفكارٌ كثيرة كانت تتسابق في رأسها.

وما حدث لها يتكرر أمام عينيها ببشاعة.

وأمها خلفها تحاول أن تفهم،

أن تحثها على الانتظار في هذا الوقت المتأخر،

قائلة بخوف:يا بنتي، استني!

الوقت اتأخر، هتروحي فين بس دلوقتي؟

استني بس، استني يا سلوي!

إلا أنها بكت، تهمس بخفوت، مرتعبة :البنات... البنات جوة،

خلي بالك منهم يا ماما.

دول أمانة... أمانة!

قالتها وكادت أن تغادر،

قبل أن تعود سريعًا لغرفة صغار آلاء ،

وهي تحمل الهاتف الخاص بهم، تنظر نحوهم.

قبل أن تتحرك بعزم على المغادرة وقد رددت لهم بوعد ويقين: مش هرجع غير وماما معايا.

وغادرت،

وقلبها يولمها،

خوف مما قد تراه،

خوف من قصة تتكرر من جديد،

قصة عاشت هي كل ألمها.

❈-❈-❈

ظلّت في محلها متسمّرة، تشاهد محاولة "لوزة" لإخراج صغيرها الأول.

كانت تتنفس بسرعة، وتموء بصوت يشبه البكاء متوتر ومتعب ، تعاني من الألم،

حتى أخرجت طفلها الأول بسلام.


شهقت فريدة بسعادة: يا الله!

واقتربت سريعًا، تجلس بجانبها بحرص وخوف ، تمسد عليها بحنان، تعطيها الأمان.

لا تعرف ماذا تفعل أبدًا،

كانت متوترة خائفة كلوزة، وأكثر.


شاهدتها وهي تنظّفه ،

قبل أن تحاول أن تلد باقي صغارها،

واستمرت الولادة أطول مما تتخيّل،

فقد استغرق خروج كل صغير من عشر إلى ثلاثين دقيقة من الألم.

وكانت هي تجلس بجانبها، تدعمها، تشجعها، حتى وإن لم تفهم ما تشعر به،

ولم تعرف إن كان صائبًا أم لا،

لكنها أسرعت بتشغيل القرآن بجانبهم،

هي فقط تطمئن بسماعه.


وأخيرًا، بعد ساعة ونصف،

تنهدت براحة وهي تراها قد انتهت أخيرًا،

وقد أنجبت أربع صغار يخطفون الأنفاس.

كانت تراقبهم بعيون لامعة سعيدة.


لُوهلة، خافت أن تقترب منهم.

كانوا صغارًا،

صغارًا للغاية،

بأعين مغلقة،

وجسد صغير هزيل،

لكن يظلون رائعين بألوانهم المختلفة.


ابتسمت أكثر وهي ترى "لوزة" تتمدد،

تحاول جمع صغارها،

والغريب أنهم كانوا يتحركون بغريزة عجيبة ناحية جسدها،

يبحثون عن دفء أمهم،

ولم تبخل هي عليهم،

وهي تحيطهم بذيلها كأمٍّ تضمّ صغارها بين أحضانها.


كل منهم يبحث عن صدرها ليرضع،

حتى وصلوا أخيرًا، كل منهم في مكانه،

وبدؤوا في الرضاعة بهدوء،

يصدرون أصواتًا خفيفة تكاد تُسمع.


وأخيرًا، أغمضت "لوزة" عينيها بتعب وارتياح،

وقد بدأت تصدر صوت خرخرة راضية.


وفي تلك اللحظة، كانت تشاهدهم بعين متأثرة.

دمعة خفيفة انسلت من عينها، لا تدري أكانت من الراحة أم من ذاك الدفء العميق الذي ملأ المكان.


بدا المشهد كلوحةٍ مرسومة بالسكينة،

حيث الحياة تبدأ من جديد،

في حضن أمٍ لم تنطق بكلمة، لكنها قالت كل شيء.

❈-❈-❈

دلفَ إلى المنزل بهدوء، ينادي على فريدة.

لياتيه صوتها من الداخل: أنا هنا يا عمر، تعالَ بسرعة!

وبالفعل، دلفَ سريعًا حيث هي.

ليقف في مكانه ينظر إليها، وهي تجلس بجوار لوزة،

والتي لم تكن وحدها كما كانت صباحًا،

بل وبرفقة أربعة صغار.

كانت لوزة مستلقية في هدوء، جسدها ملتفٌّ حول صغارها الأربعة،

عيناها نصف مغضمة، تراقب بحذر وطمأنينة.


أما الصغار،

فأربعة كرات من الفرو مختلفة الألوان، تتقلب ما بين النوم والرضاعة، باحثة عن الأمان.

أحدهم كان رماديًّا خافتًا،

يشبه الضباب في صباح شتوي.

والثاني لونه مشمشيٌّ مائل إلى الذهبي،

يشبه لوزة الشمس ساعة الغروب.

والثالثة،

كانت هادئة، خليطًا بين الأبيض والمشمشي، لون لا يشبه شيئًا محددًا،

لكنه يمنحك شعورًا بالسكينة.

ورابعهم،

كان أسود كالحبر، لكنه يلمع تحت الضوء، كأن به نُجومًا صغيرة مخبّأة.


لم يعرف لماذا ابتسم ابتسامة هادئة، وهو يراقب مراقبة فريدة لهم،

قبل أن ترفع عيناها، تناظره قائلة بسعادة:

لوزة ولدت يا عمر!

شوف، جابت أربعة حلوين إزاي؟

تعالَ شوفهم.


قالتها وهي تمد يدها تحثه على القدوم.

رفع عينيه إلى لوزة التي تناظره بهدوء،

قبل أن يقترب منها بالفعل.

لُوهله كادت لوزة أن تتحفز لاقتراب عمر،

إلا أن يد فريدة التي طمأنتها، جعلتها تناظره بترقُّب وهدوء.


وبالفعل، جلس بجانب فريدة،

قبل أن يمدّ يده يمسك يدها ويشدّ عليها.

فكان مشهدًا هادئًا ورقيقًا،

هو يمسك يدها، وهي تربّت على لوزة،

كعائلة صغيرة.


❈-❈-❈

استيقظ من نومه كما المعتاد كل يوم،

نصف ساعة قبل أذان الفجر،

للصلاة وقراءة القرآن، والدعاء لأحبّته.

عادة اعتاد عليها مع زوجته الحبيبة، رحمها الله،

ولازمته حتى الآن هو وأبناؤه.


تحرّك من فراشه ببطء، يتوضّأ ويختلي بنفسه للصلاة وقراءة القرآن،

وأخيرًا للدعاء.

جلس محله يرفع يده داعيًا لهم تباعًا

أبناؤه، وزوجاتهم، وأزواجهم، وأبناؤهم جميعًا.

حينما انتهى، أراح ظهره للحائط مستندًا عليها، مفكّرًا بداخله بكل واحدٍ منهم.

يشعر بالخوف والقلق عليهم جميعًا


أمير وعلاقته بأبنائه المبعثرة،

ملك وعلاقتها بأم أنس، وحيرة أنس بين زوجته وأمه،

حسام يخفي شيئًا لا يعلمه، رأى هذا بعينه أمس،

تميم حائر صامت يدّعي أنه بخير،

وأخيرًا آلاء،

تلك التي يحمل همّها بطريقة لا توصف،

هي وصغارها الأربعة.


أغمض عيناه مردّدًا بألم:معقول غلطت لما وافقت على رامي؟

معقول نظرتي كانت غلط؟

لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين 


وتابع بألم وافتقاد، وهو ينظر نحو صورة العائلة بغرفته: احفظهم يا رب،

واحميهم من كل شر،

احميهم يا رب.


قالها وهو يتحرّك من محله متوجهًا نحو غرفة تميم،

فقد حان موعد الصلاة والدواء،

والأمران غير قابلين للتأخير.


❈-❈-❈


كان نائمًا بعمق وإرهاق.

فبعد أن غادر أحمد، وبعد وصله شجار امتدت طويلًا، انتهى بموافقته على العمل والصمت لكي لا يضربه، وفي النهاية غادر وتركه،

وجلس هو يُنهي بعض الأعمال المتراكمة، ثم قرّر بعدها النوم براحة.


فحقًا هو متعب جسديًا وروحيًا.

وكالعادة، يزيد الضغط على نفسه حتى يسقط في نومٍ عميق، متعب ومرهق.


لكن في نومه، ووسط الأحلام، فقط في الأحلام، حيث لا يكون له سلطان على نفسه، وقلبه المنهك،

كانت هي رفيقة الأيام،

كانت هي قطعة السكر،

تضيف حلاوة على واقعه المرير، تنير أيامه المظلمة.


رآها ككل ليلة،

تقترب منه بفستانها الهفّاف،

تهديه ابتسامة تقطر عسلًا،

وتمد يدها، تضعها بين يديه.

ابتسامة خلّابة تخصّها وحدها، وهو يرفع يدها يقبّلها قائلًا بحب حقيقي واشتياق:

"بحبك."


وبعدها لم يدرِ ما حدث،

سوى وهو يشعر ببرودة غريبة تلامس وجهه،

هل هذا ماء؟

انتفض من مكانه، ينظر حوله بتيه، يفتح عينًا والأخرى مغلقة بعد.

لقد انتهى الحلم،

والمصيبة أنه لم يكن يقبّل يد فريدة،

بل يد والده الذي يقف أمامه يمسك بيده، يناظره بحاجبٍ مرتفع، متسائلًا بتفكير: واضح إنه حلم قليل الأدب،

فقلت أدخل وأنقذ شرف العيلة بسرعة.


وتابع بتوبيخ:قوم يا قليل الأدب، بقالي ساعة بصحي فيك،

وأنت عامل تبوس إيدي وبحبك ومش بحبك.


عقد تميم حاجبيه بصدمة، وهو يتساءل في نفسه:

هل يتحدث في نومه؟

يا ويلته...

ماذا قال غير هذا؟


حرّك رأسه ينظر حوله بتشوش ونعاس لم يفارقه بعد،

وهو يترك يد والده، بوجهٍ أحمر من الخجل،

قبل أن يلتقط منديلًا يمسح المياه من على وجهه بضيق،

ناظرًا للساعة متسائلًا بعدم فهم ومتهرّبًا من المواجهة:آه، الفجر؟

هقوم أصلي.


وكاد أن يتحرّك،

إلّا أن يد والده منعته، وهو يُخرج حبات الدواء من الشريط، قائلًا بتهكم: فجر إيه؟

قوم يا خويا خد الدوا الأول،

الفجر لسه مأذنش.

خد، قالها وهو يعطيه الماء،

ثم تابع بمشاغبة وهو يلاحظ احمرار وجه ابنه: ألا قولي صحيح،

كنت بتحلم بإيه؟

أصلك كنت مندمج أوي، وشوية وهتقوم تحضني.


قالها وهو يقرّب وجهه منه متفحّصًا آياه.

انتفض تميم من مكانه، مستغفرًا، ماسحًا وجهه المتعرّق، متوجّهًا نحو الحمّام، قائلًا بإرهاق:

بس يا بابا، الله يهديك...

أستغفر الله العظيم،

أستغفر الله العظيم.

روح يلا وأنا هحصلك.


وتابع مبرطمًا:حتى الحلم يا عالم هتبصولي فيه!

ده إيه الهم ده؟"


ولم يرَ بسمة مدحت الحزينة خلفه،

هو فقط لا يعلم كيف يساعده،

ولو يعلم، ما وقف عاجزًا.


❈-❈-❈


وقف ينظر لنفسه في المرآة بغضب،

غضب وحزن،

غضب من نفسه، وحزن على نفسه.

لم يكن يومًا هذا الشخص،

قاعدته الأهم

"ما لا يقبله على نفسه لا يقبله على أي أحد."

لكن ماذا يفعل بقلبه الذي لا ينفك يفكر فيها؟

يشاهد طيفها بكل مكان،

حتى وإن تحكّم في عقله،

فماذا هو فاعلٌ بقلبه المنهك؟


أغمض عيناه بإرهاقٍ شديد،

قبل أن يغسل وجهه عدّة مرات،

علّه يهدي نفسه المتعبة.


رفع وجهه، ينظر لنفسه مجددًا،

كم يكره نفسه، كم يكره تلك الأحلام،

كم يكره ما يحدث.

لكن ماذا يفعل؟

والسؤال المعتاد يُطرح من جديد

هل على القلب سلطان؟

يا ليته كان...


❈-❈-❈

كانت تصعدُ السُلَّمَ مُهرولةً بسرعةٍ،

غير قادرةٍ حتى على انتظارِ المصعد.

وما إن وصلت حتى وقفت تُحاول التقاطَ أنفاسِها المسلوبة،

وما إن قررت التحرك حتى تسمرتْ قدماها، وانعقد حاجبُها وهي تُلاحظ تجمعَ عدةِ أفرادٍ أمام منزل آلاء.

تحاملتْ على نفسِها وهي تُهرول باتجاههم،

وما إن وصلت حتى نطقتْ بلهاثٍ حادٍ وقلبُها يخفقُ بسرعةٍ: في إيه؟ حصل إيه؟

أجابتها إحدى السيدات: كان في صوت صُريخ

من شقة مدام آلاء.

خبطنا كتير ومحدش رد،

وأستاذ كريم طلب الشرطة.

ضربت على الباب بعنف، قائلةً بغضب: وإنتو مستنيين إيه؟

اكسروا الباب ده حالًا!

قابلها الاعتراض من الجميع، حتى نطق أحدهم: لا طبعًا، دي مسؤولية،

إحنا منتظرين الشرطة،

محدش فينا يقدر يتحمل مسؤولية زي دي.

إجاباتُهم بصوتٍ عالٍ، وقد بدأتْ في الصراخ وأعصابها تنهار فعليًا: اكسرُوه على مسؤوليتي أنا،

أنا هتحمّل أي مسؤولية.

وتابعت ببكاءٍ مُرتعب: أرجوكم،

آلاء حصلها حاجة جوه، أرجوكم،

أرجوكم اكسرُوه!

قالتها وهي تضرب على الباب بقوةٍ وعنف،

ورغم رفضهم في البداية، إلا أن مظهرَها المُرتعب

جعل الرجال يبدأون في كسر الباب بالفعل،

ولم يكن بالأمر السهل كما توقعوا.

وبعد القليل، وقد حصلوا على المساعدة، كان الباب قد فُتح على مِصراعيه،

وسلوى تقفُ بوجهٍ شاحبٍ وجسدٍ يترجف،

تشاهد في مرمى عينيها

آلاء المُلقاة أرضًا

وسط بركة،

بركةٍ من دمائها.


❈-❈-❈

لم تدرِ بنفسِها سوى وهي تصرخُ بأعلى صوت:آلآآآآآآء !

قالتها وهي تركض نحو الملقاة أرضًا،

تُلقي نفسها بجانبها،

تناظرُها بعينٍ مُتسعة وفمٍ فاغرٍ غير مُصدق،

كأنها لا تعرفها من كثرة الدماء التي غطت وجهها،

والكدمات والتورم الظاهر بوضوح،

حتى لم تَعُد هناك معالمُ ظاهرة،

لولا ملابسُها لما تعرفتْ عليها أبدًا.

كانت تُحاول أن تُنادي عليها،

لكن لا حياة لمن تُنادي.

نقلت عينيها تنظرُ للدماء بعيونٍ باكيةٍ متسعة،

لا تعلم مصدرها حتى.

كانت مُرتعبة أن تُحرّكها،

وما إن حاول أحدُهم أن يقترب منها، يُقلبها على ظهرها،

حتى صرختْ بهم برعب: لا، لا!

ممكن يكون في كسر!

إسعاف!

اطلبوا الإسعاف بسرعة!

هتموت منّا!

تصنّمتْ في محلها، وأذناها تلتقط همسًا من الخلف، وأحدُهم يُردد بقسوة، حتى وإن لم يكن يقصدها: إنتي متأكدة إنها عايشة؟

شكلها...

إلا أنها التفتت تصرخُ بهم بقوةٍ وانهيار: عايشة!

عايشة!

آلاء عايشة!

ووضعتْ يدَها على صدرِها قائلةً بارتجاف، رغم عينيها المغلقة: في نفس!

في نفس... عايشة!

مش هتموت! لا، لا!

قالتها والانهيار قد بدأ يتمكن منها،

وهي تُمسك بيدها بأصابعٍ مرتجفة، تُقرب وجهها منها قائلةً بصوتٍ خافتٍ مملوء بالشهقات: عايشة...

آلاء، ردي عليا عشان خاطري...

آلاء...

بالله عليكي، ردي عليا، قوليلهم إنك عايشة لِسّه!

قالتها بصوتٍ باكٍ مرتجف،

خليكي معايا عشان خاطر ولادك،

ولادك مستنيينك...

أوعي تسيبيهم،

هتسيبيهم لمين؟

خليكي هنا عشانهم...

قالتها ببكاءٍ وقلبٍ لا يتحمل ما تراه،

وهي تتلمس وجهَها بألمٍ يتعاظم بكل لحظة تمر،

كانت يدُها ترتجف، تنظر لها حيث ملأتها الدماء، وكأنها أرادت أن تزيد من ألمِها، تُحرقها من الداخل.

عيناها تغرقان في بحرٍ من الهموم والدموع، لا تعرف شيئًا، لا تعرف،

إلا أنها شدت على يد آلاء، تهمس بقوة رغم ضعفها: "آلاء، سمعاني؟ خليكي معايا..."

خليكي معايا،

أنا مش هسيبك.

كانت الكلمات تتساقط من فمها كأنها تدفعها للنجاة، رغم أنها كانت تعلم أن الوقت قد يكون قد فات.

لكنها لن تستسلم.

ستنجو.

ستنجو.

❈-❈-❈

صلاة الفجر

كم هي مُقدسة في هذا المنزل،

يراها مدحت بداية مُباركة ليومٍ جديد،

ولا يغفل عنها أبدًا،

مهما كان مُرهقًا، مُتعبًا، مريضًا،

تظل الصلاة هي الأهم، ولا أهم قبلها.

وقف تميم يستغفر ربه،

قبل أن يُشير لأبيه لكي يبدأ الصلاة.

في العادة يتبادلان الأدوار،

مرة هو، ومرة ابوه ،

لكن، ومع مرضه، يتولى أبوه المهمة.

وبالفعل بدأ: "الله أكبر"

ومع كل سجدة، الكثير من الدعاء،

الكثير من الأماني التي لن تتحقق سوى برحمة الله،

بكرمه وعطائه،

هو مُجيب الدعاء.

سجد تميم، يكبت دمعة مُتعبة مُنهكة،

هو مُنهك، يشعر نفسه بين نيران كثيرة،

أهمها أنه يجب أن ينساها،

يتخطاها كأنها لم تكن،

كيف له أن ينسى قطعة السكر؟

ويظل الدعاء المُردد دائمًا:

"اللهم ارح قلبي، اللهم ارح قلبي"

لا يكفّ عن الدعاء بها.

انتهوا،

ليظلوا كما هما،

وقت خاص بالأذكار وقراءة القرآن،

وهل هناك أجمل من تلك اللحظات؟

وبعد نصف ساعة،

وقف مدحت ينظر لابنه، والآخر يُناظره بهدوء،

قبل أن يقول بمرح: "بينا على المطبخ،

هحضّرلك فطار ملوكي يا واد يا تميم."

وغادر، وتركه يضرب كفًا على الآخر،

وهو يُفكّر، 

ويبدو أن النوم غير متاح له اليوم.


❈-❈-❈

بعد قليل،

وقف بجانب أبيه، ينظر له، يحاول كتم ضحكاته،

وهو يُناظر مدحت الذي يبكي وهو يحاول تقطيع البصل.

رفع مدحت رأسه، ينظر له بغيظ،

قبل أن يقذفه بالملعقة قائلًا بتوبيخ:بدل ما أنت واقف تضحك،

اتفضل تعالَ قطّع مكاني.

قالها وهو يضع السكين بيده.

عبس تميم وهو يُناظره برفض،

قابله والده بأمر،

وكان الدور على مدحت في الضحك،

وتميم يكاد يبكي،

وأخيرًا، وبعد صعوبات كثيرة،

تم تقطيع البصل بنجاح.

ليدفع مدحت تميم قائلًا بقرف: أوعي بقي كده،

خليني أكمل الفطار.

رفع تميم حاجبه، ينظر له بغيظ، قائلًا بهدوء:

أنا اللي قطعت البصل، يبقى أنا اللي أعملها.

إلا أن الآخر لم يُعره اهتمامًا، وهو يتابع ما يفعل، مُغمغمًا بقرف: اتنيل... كُتك خيبة،

هو أنت بتعرف تعمل حاجة عدلة؟

كله عك في عك!

بذمتك، دُقت شكشوكة حلوة زي اللي أنا بعملها؟

قالها بغرور.

هزّ تميم رأسه يأسًا.

وبعد قليل، كان يقف بجانبه، يقلي كرات الفلافل،

ويضع الجبن، والفول المُبهر بالزيت الحار.

وأخيرًا، جرس الباب يُعلن عن وصول الصنف الأهم.

فتح الباب، يستقبل بائع الخبز.

نعم، المخبز يُرسل لهم الخبز طازجًا وساخنًا،

واليوم، وبعد أن قرر مدحت عدم النوم وتحضير الفطور،

أرسل في طلبه.

أخذه منه تميم، وراضاه كالمعتاد،

ودخل ليجد والده قد بدأ في ترتيب صينية الفطور، قائلًا بحماس: هناكل في الجنينه!

وحملها وغادر المطبخ،

وتميم خلفه،

يشعر بالدِفء،

الكثير منه.

❈-❈-❈

كانت تجلس بجانبها في سيارة الإسعاف، بعد أن رفضت كل الرفض أن تتركها وحدها،

تتمسك بيدها بارتجاف،

وأعصابها على وشك الانهيار،

وهي ترى المُسعفين يحاولون إبقاءها على قيد الحياة،

فقط لتبقى حيّة إلى حين وصولهم،

فالوضع لا يطمئن أبدًا.

أخيرًا،

وصلت سيارة الإسعاف إلى المستشفى،

أنزلوا الفراش المتحرك بسرعة،

ليركضوا بها إلى الداخل تحت أنظار سلوى التابعة لهم،

تشعر بقلبها يرتعش برعب،

وكأن الدقائق تتحوّل إلى ساعات من شدة الخوف.

دخلوا بها سريعًا إلى المستشفى،

ومنها مباشرةً إلى غرفة العمليات،

فالوضع قد تأخّر بما فيه الكفاية.

أما هي، فوقفت في الممر،

تنظر حيث أخذوها بوجهٍ شاحب،

وقد تغطّت ملابسها هي الأخرى بالدماء،

تحرّكت بارتعاش، تجلس أرضًا،

وقدماها غير قادرتين على التحمل،

قبل أن تنفجر باكية بقوة وضعف،

وهي تهمس بخفوت: يا رب سترك، يا رب احفظها، يا رب،

يا رب، يا حفيظ... يا رب، يا حفيظ.

وبعد قليل 

انتفضت على إثر يد تربت على يدها،

رفعت وجهها لتجد أحد موظفي المستشفى،

يُناظرها بشفقة،

انتفضت من مكانها تقول بلهاث مرتعب:

حصل إيه؟

هي كويسة؟

قولي بالله عليكي، هي كويسة؟

أومأ لها محاولًا تهدئتها، قائلًا بطمأنينة: لو سمحتي، اهدي.

للأسف، مفيش أي جديد بخصوص المدام،

بس إحنا محتاجين حد يِمضي شوية أوراق،

حضرتك قريبتها؟

هزّت رأسها نافية، قائلة بارتعاش: لا، لا... صاحبتي.

مفيش حد من أهلها هنا للأسف.

أومأ لها متفهمًا،

قبل أن يتابع: تمام، حضرتك ممكن تِمضي،

بس ضروري حد من أهلها يتواجد في أسرع وقت،

لأن للأسف المدام حالتها خطيرة،

ودي قضية، والشرطة هتيجي تحقق فيها.

أومأت له بصمت وعجز،

ودموعها لا تتوقف عن الهبوط،

قبل أن تتحرّك نحو حقيبتها،

تُخرج منها الهاتف بيدٍ مرتعشة،

لا تعرف بمن تتصل،

هي لا تعلم ماذا يجب أن تفعل من الأساس،

كيف لها أن تُخبر أهلها أنها ملقاة في الداخل، بين الحياة والموت؟

كيف لها؟

كيف؟

إلا أن القرار لم يكن اختياريًا أبدًا،

ففتحت الهاتف،

وهي تُقرر الاتصال بأكثر شخص تحدّثت آلاء عنه،

وصادف أيضًا أنه آخر شخص حادثته:

أخاها...

تميم.

❈-❈-❈

أصوات، همسات وصراخات، تتداخل، بعضها بعيد، وبعضها يخترق رأسها كالصراخ. حرارة... برودة... لا تدري. صوتٌ تعرفه جيدًا. يدٌ تُمسك يدَها، تشدّ عليها، تُخبرها أن تفيق، أن تتمسك بحياتها لأجلها وأجل أبنائها. ألمٌ شديد في بطنها، ألمٌ أشدّ مما هي قادرة على الاحتمال، كأن شيئًا يُنتزع من داخلها بكل قسوة. ضيقٌ في صدرها، وانقطاعٌ في أنفاسها. تحاول فتح عينيها، إلا أنها لا تقدر. كان كلُّ عظامِها قد كُسِر، ولم يَبقَ ما هو سليم. أما داخلها، فكان هناك اختراق. وبداخلها شعورٌ بالتحطُّم، تشعر أن شيئًا فُقد منها، كأنها لم تَعُد كما كانت... ولن تعود أبدًا.


❈-❈-❈


جلسوا على الطاولة بعد أن أعدها مدحت بعناية، وسط الزهور والهواء العليل.

ملأ تميم أكواب الشاي، ووضع بها أعواد النعناع الطازجة. فطور ولا أروع!" قالها وهو يدس لقمة فول في فمه.

رفع مدحت يده أمام تميم بغرور قائلاً: "بوس".

ليضحك الآخر وهو يقبلها بالفعل بكل رضا.

ابتسم له مدحت وهو يرفع كوب الشاي يرتشف منه متسائلاً: كلمت إخواتك؟"

حسام كلمني قبل ما أنام، وملك كمان.

البت آلاء الوحيدة اللي بعتتلي رسالة.

بس قالتلي إن الولاد مبهدلينها، هتكلميني النهاردة.

ابقي بعد صلاة الظهر اتصلي بيها نكلمها سوا عشان أكيد دلوقتي نائمة.

أومأ له تميم.

ولم يمر الكثير وكان هاتفه يرن معلنًا عن اتصال.

عقد تميم حاجبه متسائلًا باستغراب: غريب، مين هيتصل في وقت زي ده؟"

تمتم مدحت بهدوء: خير يا رب، قوم هات الموبايل ورد.

وبالفعل تحرك تميم يحمل كوب الشاي بين يديه، حيث هاتفه.

وما إن أمسكه ورأى اسم المتصل، حتى نقل عينيه سريعًا نحو أبيه مرددًا بقلق: ده رقم آلاء الثاني بتاع البنات.

وقف مدحت في محله وكان القلق قد انتابه القلق دفعه واحدًا، وهو يرى تميم يرفع الهاتف على أذنه سريعًا يرد على الاتصال بقلق.

زاد حينما رد.


❈-❈-❈


"أستاذ تميم..."

تساؤل قصير هز بدنه لوهلة، وهو يبعد الهاتف عن أذنه كأنه يتأكد مع من يتحدث.

وما تأكد بالفعل، حتى أعاده متسائلًا بتساؤل: مين معايا؟ فين آلاء؟

شهقة بكاء وصلته جيدًا.

كانها لم تعد تتحمل أن تحمل كل هذا العبء وحدها.

شهقة جعلته يعيد تساؤله مرة أخرى لكن بحدة، وقد بدأ شعور غريب بالتسلل إليه:

إنتي مين وفين آلاء؟

وإن كان يتوقع إجابة مريحة، فقد أتته الأشد قسوة وألمًا.

وصوتها الباكي المرتعش يأتيه مؤكدة وهي تقول: أستاذ تميم، آلاء في العمليات. الوضع هنا صعب قوي.

وتابعت بتلعثم: أنا معرفش إيه اللي حصل، أنا بس لاقيتها في شقتها غرقانة في دمها.

أرجوكم تعالوا، هم هنا محتاجين حد من أهلها.

وتابعت بسرعة: إحنا في مستشفى... طريق... جنب بيتها.

يا ريت تيجوا بسرعة.

وهنا هتعرفوا كل اللي حصل، بس حاليًا هي محتاجة وجودكم.

بس تعالوا.


تابع ما تقوله بعينين تزداد اتساعًا مع كل حرف تنطق به، ودموع قد بدأت بالتجمع في عينيه، مهددة بالهبوط.

وعقله يدور حول نفسه حتى كاد أن يتوقف.

آلاء.

دماء.

مستشفى.

وخطر.

كلمات كثيرة لا يجب أن تقترن باسم شقيقته الغالية.

كلمات مؤلمة، قاتلة.

أي مستشفى وأي دماء؟

قد غادرتهم صباح الأمس بخير بالف خير.

ماذا حدث لها؟

كيف حدث ما حدث؟

ألف سؤال وسؤال، ألف قصة أتت في عقله، ولا يوجد ولا إجابة.

لا يوجد أي إجابة.

فقط مجرد أسئلة مؤلمة وحارقة كالنيران الكاوية.

لكن لا وقت لها أبدًا.

لا وقت.

ليس الآن.

يجب أن يذهب.

فآلاء بحاجة إليه.


وقبل أن ينطق بحرف، حضرت صورة صغارها أمام عينيه.

ليندفع متسائلًا: الولاد؟

وأتت إجابتها بسرعة: كويسين وبخير.

بس مع مامتي.

ماتخفش في أمان، بس تعالوا أرجوك.


صمت تام كانه غير قادر على النطق بأي حرف،

إلا أنه في النهاية فتح فمه ينطق بجملة واحدة: "إحنا جايين."

وأغلق.

❈-❈-❈

كان والده يقف بجانبه لا يفهم شيئًا مما يحدث، إلا أن ملامح تميم الشاحبة أنبأته أن القادم لن يسره أبدًا. ومع ذلك، تساءل بقلق وهو يمسك بذراعه، يفيقه من صمته:

في إيه يا تميم؟

حصل إيه؟

اختك كويسة؟

سأله بترقب.

ابتلع تميم ريقه وهو ينقل عينيه نحو والده.

كيف يخبره؟

كيف يقولها؟

قد يسقط منه أرضًا في أي لحظة.

نعم، هو لم يعتد الضعف،

لكن هذا يختلف.

لذا، وضع الكوب على الطاولة،

وأمسك بيد والده يقوده نحو المقعد، مجلسًا إياه.

قبل أن يجلس أرضًا أمامه، مشددًا على يده،

قائلًا بتأكيد وعيناه لا تتركان عيني مدحت:

أنت راضي بكل اللي يجيبه ربنا يا بابا، صح؟

شحبت ملامح مدحت وهو يرجع رأسه للخلف،

يهز رأسه ليس رافضًا، بل متعبًا،

وقلبه يصرخ: "ليس مجددًا."

هو لم يتعافَ بعد مما حدث مع تميم.

شدد تميم أكثر على يده:بابا،

راضي؟

صح؟

أغمض مدحت عينيه بضعف،

قبل أن يومئ برأسه،

قائلًا بضعف قبل أن يعرف:

"اللهم أجرني في مصيبتي،

اللهم أجرني في مصيبتي."

حصل إيه؟

صمت تميم،

قبل أن يقول بترقب: الاء في المستشفى،

ما عنديش تفاصيل، حصل إيه؟

بس لازم نسافر،

بابا!

صرخ بها،

وهو يشعر بترنح والده وقد كاد أن يسقط أرضًا.

أمسكه يدعمه لكي لا يقع،

وهو يقول بحزن:عشان خاطرها،

خليك قوي،

هي محتاجانا جنبها.

الاء كويسة وبخير،

هي بس محتاجة نكون جنبها.

وتابع وهو يعده: "أوعدك، هخليك تشوفها."

تعلقت عينا مدحت الدامعتين بعينيه،

قبل أن يهمس بضعف يرجوه: "خدني ليها يا تميم عايز اشوفها واطمن عليها ،

يلا قوم.

قالها بسرعة،

وهو يتابع: قوم، خليني أساعدك،

لازم نسافر على أول طيارة.

قالها وهو يقف يسانده.

دالفين للمنزل بقلبٍ

غير الذي غادرا به،

قلبٍ حمل من الهموم جبال.

❈-❈-❈

ساعتين،

وكانوا على متن الطائرة متوجهين حيث آلاء.

وقد كان فضلُ الله عظيمًا أن وجدوا أماكن في تلك الطائرة،

وتيسَّر الأمر رغم صعوبته في الأوقات الأخرى،

رغم قلق مدحت في البداية على وضع تميم،

وإمكانية سفره في وضع كهذا،

إلا أن الآخر لم يُتِح أصلًا مجالًا للنقاش.

أي تعبٍ يوازي ما يشعر به في تلك اللحظة؟

النيران تحرق صدره،

وشقيقته هناك مُلقاة في مشفى،

دون أن يكون أحد بجانبها!

فليذهب تعبُه للجحيم،

وكل شيء،

مقابل فقط أن يطمئن عليها، ويضمّها وصغارها إلى صدره.


جلس بجانب مدحت ينظر له بقلق،

كان صامتًا،

لم ينطق سوى ببضع كلمات،

ولسانه لا ينفكّ عن الدعاء،

يدعو ويدعو،

خائف وقلق، نعم، لكن ثقته كبيرة أن الله لن يخذل قلبه.

ولذلك حاول التماسك رغم كل تلك المخاوف.


مدَّ تميم يده يربت على يد أبيه،

لينظر مدحت له قائلًا بحزن:


إيه اللي هيكون حصل؟

حرامي دخل؟

ولا إيه يا تميم؟

أنا مش فاهم...

قالها وهو يضمّ يده المرتجفة،

وتابع بألم وتشتّت: في ألف قصة في دماغي،

وكلهم أسوأ من بعض،

يعني إزاي رامي ميكلمناش؟

وموبايله مقفول!

إيه اللي بيحصل بس؟

أنا مبقتش فاهم حاجة خالص...



تنهد تميم بضيق،

وبداخله... هو لا يريد أن يُشارك أبيه أفكاره،

لا يريد أن يُقلقه قبل أن يتأكد،

فقط... ليتأكد.

لذاك كتم الكثير بداخله، وردّد: هنفهم يا بابا،

هنفهم،

هانت خلاص...



وصمت،

ليتابع بعدها بتأكيد: ووقتها، صدقني،

مين ما كان يكون اللي ليه يد في الموضوع،

هيكون الندم كلمة قليلة على اللي هيحس بيه.

بس نطمن على آلاء،

والباقي مش مهم أبدًا في اللحظة دي.



هزّ مدحت رأسه مؤيدًا،

قبل أن يقول بحزم: أنا مش عايز حد من إخواتك يعرف،

مش هينفع،

وضع ملك مش هيستحمل،

دي ممكن تقع مننا،

وأمير وحسام...

مش دلوقتي،

نعرف ونتطمن الأول، وبعدين نقرر هنعمل إيه.



هزّ تميم رأسه مؤيدًا،

وأرجع رأسه للخلف، يغمض عينيه ألمًا،

وعقله يكاد ينفجر من التفكير.

فمن مُلقاة هناك... شقيقته،

والمساس بها...

يعني الهلاك.


❈-❈-❈

كم مرّ 

الكثير؟

لم تعد تعلم، أو لم تعد قادرة على العد.

لكنها هنا منذ الكثير، كما هي، متكوّمة على أحد المقاعد، بعد أن تشنجت قدماها من الذهاب والإياب.

وفي نفس الوقت، كانت تتابع وضع صغار آلاء مع أمها.


للأسف، الوضع غير مبشّر أبدًا.

فتميم الصغير استيقظ صارخًا، مطالبًا بأمه، ولا ينفك عن البكاء، وتبعه آية، وإيلا، وعز، وابنتها.

وأمها وحدها، لا تقدر على التصرّف، وهي لا تعلم ماذا تفعل.


وتأخّرهم بالداخل لا يزيد سوى قلقها.

لا أحد يرد، لا أحد يخبرها ما يحدث.

ماذا يحدث لها بالداخل؟


تحرّكت من محلّها، تتجه نحو غرفة العاملات، تطلب منهم أن تصلي.

هي لم تعد قادرة على التحمّل، تحتاج للصلاة.


وبالفعل، توضأت، ووقفت بين يدي الله، تصلي وتدعو وتبكي.

وما إن انتهت، حتى ظلّت كما هي، تدعو وتستغفر.


وما إن انتهت، حتى شكرت العاملة، وتحركت عائدة إلى محلها.

لكن تسمرت قدماها، وهي تشاهد خروج الطبيب من الغرفة.

اخيرا 

قالتها وهي تهرول نحوه بسرعة، وقلبها ينبض بالأمل.

❈-❈-❈

أخيرًا وصلوا.

ما إن وصلوا أمام المشفى، حتى شعر بترنّح أبيه.

أمسكه بسرعة يسانده، قائلًا بخوف: بابا؟ بابا، إنت كويس؟


أومأ له الآخر بضعف، وهو يردد: خدني ليها... خدني لأختك يا تميم...

يا رب ما أشوفش فيها حاجة وحشة، يا رب...


همس بها بخفوت، ناظرًا إلى تميم بقلق شديد.

خائفًا... بل مرتعبًا من تلك اللحظة.


وبالفعل، سانده تميم وهو يدخل به،

يتساءل بسرعة عن مكان شقيقته.


وبالفعل، أبلغته الموظفة عن مكانها،

فأسرع هو وأبيه حيث أشارت، بلهفة ورعب كان يزداد مع اقتراب كل خطوة.

❈-❈-❈

اندفعت نحو الطبيب،

مع اندفاع رجلين آخرين أمامها.

اتسعت عيناها وهي تتعرف عليهم؛

إنهم أخاها وأباها.

لقد وصلوا.

ناظرها تميم بملامح شاحبة، فهزّت له رأسها،

فتعرّف عليها.

نظر لهم الطبيب بصمت،

صمتٌ دام لحظات،

لكن تظل لحظات الانتظار مرعبة؛

الدقيقة بألف،

تمرّ ببطء السلاحف،

والرعب يتسلل بين الأنفاس،

يخنق الصدور،

ويزرع القلق في كل نبضة.

برودة غريبة تحيط أرواحنا،

تتسلّل كأنها يد خفيّة

تجذبنا نحو المجهول.

وغمامة دموع

تحجب الرؤية عن ناظرينا،

وتحمل معها ألف احتمال

وألف كابوس.


نظر إليهم قبل أن يتساءل: حضراتكم أهل المريضة؟

أسرع مدحت مرددًا بسرعة: أيوة، أنا أبوها.

بنتي...

بنتي حصلها إيه؟

صمت الطبيب لثوانٍ قبل أن يرد: المريضة وصلت في حالة فقدان وعي،

تنفّس غير منتظم، علامات صدمة جسدية واضحة.

واضح إنها اتعرّضت لضرب عنيف،

وللأسف، بسببه حصل نزيف حاد.

وخسرت الحمل.


شهقة عالية خرجت من فم سلوى،

وهي تضع يدها على فمها،

تكتم شهقاتها المصدومة،

ودموعها قد بدأت بالهبوط دون توقف.

ارتد تميم للخلف وقد شحبت ملامح بشدّة،

أما مدحت فقد زاغت عيناه قبل أن يردد بارتباك، ودمعة هبطت قبل حتى أن يقدر على منعها:إيه؟

حمل؟

حمل إيه؟

أخفض الطبيب عيناه، ينظر إليهم،

قبل أن يردد:المدام كانت حامل في توأم،

وفقدتهم للأسف.


وبالفعل، كانت الخسارة باثنتين.

كانت مضاعفة...

وتكسر القلب.


يتبع...

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة عفاف شريف، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة