-->

رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 27 - الإثنين 14/4/2025

  قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة عفاف شريف


الفصل السابع والعشرون

تم النشر الإثنين 

14/4/2025



هدوء ما قبل العاصفة

جملة ثقيلة، يحفظها الجميع لكن لا يدركها إلا من عاشها.

أن تسبق العاصفة شيء، لكن أن تجتاحك وأنت في أضعف حالاتك شئ اخر 

، أن تدهسك بلا رحمة، أن تكسر ما بداخلك إلى شظايا لن تستطيع جمعها، حتى لو مرّ الدهر كله...

هذا شيء آخر.


عاصفة لم تقتلعنا فجأة، بل تسلّلت إلينا ببطء، خادعة كالوهم، رقيقة كنسمة، حتى حسبنا أننا بخير. ثم، وبلا إنذار، أسقطتنا دفعة واحدة. لم تمنحنا حتى رفاهية الاستعداد، لم تمنحنا خيار الهروب.


سقطنا. تهشّمنا.

ثم وقفنا نلملم ما تبقى، لنكتشف أن لا شيء تبقى، سوى الغبار.

❈-❈-❈

عُيونٌ ذائغة، ورُؤيةٌ مُشوَّشة، تتلاشى شيئًا فشيئًا،

وألمٌ يتعاظم ويزداد، شيءٌ في شيء،

 كجبلٍ انهار فوقها.

خَفَقات قلبها تزداد بُطئًا،

كأنها تُودّع تلك الحياة القاسية.

وارتعاش جسدها الساكن بوَهَنٍ يقلّ تدريجيًا.

يُحاول،

يُقاوم،

يُحارب،

حربًا خاسرة.

بَهَتَت الألوان،

تلاشت حتى اختفت،

فلم تَعُد ترى سوى الأسود منها.

اختفت ألوانها المُبهجة،

وحلّ محلها ظلامٌ لم تَحلُم سوى بشُروق الشمس فوقه.

تَعاظَم خُذلانها،

وسكنت روحها المُنهَكة،

سقطت دموعها،

دموعٌ أقسَمَت ألّا تخونها،

لكن تلك المرّة،

خانَتها وغادرت من شدة أَلَمها.

تأوُّه،

لا يتوقّف،

وجفونٌ قررت أخيرًا أن تُريحها من تلك الحياة،

فأغلقت ببُطءٍ شديد،

وحياتها تمر أمام عينيها كشريطٍ سينمائي،

فكان آخر ما رأته صورةً لِمَن ضحّت بكل هذا لأجلهم.

وها هي خسِرت نفسها،

وقد ضحّت بنفسها في النهاية،

فكان جزاء الأمان،

طعنةَ يدٍ خَسيسة،

لا تعرف معنى الوفاء.

❈-❈-❈

                عودةٌ لليوم السابق.


سرت بداخلها رعشةٌ باردة، مزيجٌ من الألم، الخذلان، القهر، والاشمئزاز... الكثير من الاشمئزاز.

وللْحقيقة، الكثير من المشاعر القاتلة لها،

لروحها، وكأنها حطامٌ يتناثر في صمت،

ولقلبها،

لأنوثتها،

وأخيرًا، وربما ليس آخرًا،

لعقلها الغبي وقراراتها التي وضعتها هنا.

هي من فعلت هذا،

هي من أوصلت نفسها لتلك اللحظة،

هي من تغافلت حين كان التغافل أكبر خطيئة، مررت وسامحت، ظنًّا منها أنها تسير في الطريق الصحيح،

وأنها تُحاوِط منزلها لكي لا يسقط في لحظة غضب.

دهست على نفسها وروحها،

واضعةً المبررات،

والتحليلات،

وضعت ووضعت، حتى بنت سدًّا، مُلقيةً بمخاوفها، وحزنها، وألمها، وقهرها خلفه،

ولم تدرِ بنفسها سوى وهو ينهار،

مُغرِقًا إياها في أنهار الخذلان.

هي من حمت هذا المنزل،

واتّضح لها بعد ذلك أنه لم يكن هناك منزل من الأساس،

بل كان حطامًا أوهمتْ هي نفسها أنه أكثر من هذا،

وظلت تسير على شظايا زجاجٍ تمزقها شرَّ تمزيق.

ضحّت،

نعم،

تألّمت،

كثيرًا،

لكن لأجل ماذا؟

لأجل من؟

حرّكت رأسها ببُطءٍ شديد، وعيناها تلمعان بدمعةٍ

متحجّرة، مُحتبَسة، تأبى أن تتركها تغادر.

نقلت عينيها لصغارها النائمين،

صغارها التي ضحّت لأجلهم،

أو هكذا ظنّت وأوهمت نفسها المُنهكة

آية،

إيلا،

عز،

وأخيرًا صغيرها تميم، وقد غفى على صدرها بعد أن أنهكه البكاء وأرهقه إرهاقٌ شديد.

كان نائمًا، ودموعه متعلّقة برموشه، دليلًا على نوبة بكائه العنيفة.

كانت تشدّ بيدها حوله أكثر، تزيد من ضمّه، وهي تشعر بنفسها في مشهدٍ سينمائيٍّ حزين

هي،

ببلدٍ غريبة،

وحدها،

تحتضن أطفالها،

مُكتشفةً قذارة زوجها،

وخيانته لها،

وهدمه لها.

بعد كل هذا،

بعد كل ما قدّمته،

وبعد كل ما نالته،

وبعد كل ما تنازلت عنه،

كانت تلك النتيجة

النتيجة

حُطام،

احتراق،

وكل شيء يتحوّل أمامها إلى رماد.

رفعت يدها ببُطء تمسح دمعة قررت التحرّر،

لتقتلها هي بسرعةٍ في مهدها.

فلا سبيل للخروج،

لا سبيل أبدًا.

رفعت رأسها، تضم صغيرها أكثر، بقوة، حتى تململ بضيقٍ في نومه.


وبداخلها، هي كانت قد اتّخذت قرارها،

قرار تأخّر كثيرًا،

تأخّر أكثر مما يجب،

والآن هي وحدها من ستضع النهاية،

نهاية يستحقها هو،

نهايةٌ لمن كانت تظنّه رجلًا،

ونسيت أن بعد الظنّ إثم.


ويا ليتها ما فعلت.


❈-❈-❈

تحرك ببطء ليجلس مقابلًا لأبيه، يطالعه بهدوء،

ليبادله الآخر النظر بحدة ويأس،

قبل أن يصيح بقلة حيلة: أنا تعبت منك،

بجد فاض بيا،

الدكتور قال لازم راحة،

وانت من الصبح من هنا لهنا، يا قلبي لاتحزن!

وفي الآخر جي تاكل معايا!

ما كنا كلنا فوق أوضتك عادي!

ليه يا تميم الإهمال ده؟

بجد انت بتقلقني عليك...

قالها بقلق حقيقي.

ابتسم له الآخر ابتسامة هادئة قبل أن يمد يده، يربت على يد أبيه مشددًا عليها،

قائلًا برفق: أنا بخير يا بابا،

الحمد لله في أحسن حال،

بس قعدة السرير مش هتخليني أُخف وأبقى كويس، بالعكس،

هتخليني أحس بالمرض.

أنا طول ما بتحرك بكون كويس، وحاسس إني بخير،

وأنا بالفعل بخير.

الحمد لله إحنا كنا فين وبقينا فين،

عشان كده لو سمحت، سبني على راحتي.

وتابع بتملق:عشان خاطري،

وكمان أنا حابب أشغل نفسي وادخل في الدوامة بتاعتي،

مش حابب الرقدة،

فاهمني؟

قالها متسائلا.

تنهد مدحت بيأس،

قبل أن يهديه ابتسامة متفهمة،

ففي النهاية هو نفسه يعلم أن التفكير قاتل،

وهو يريد له الحياة،

لذا فليتركه كما يريد،

يكفيه أنه بخير،

فقط... ليكن بخير.

قالها لنفسه وهو يطالعه بهدوء.


❈-❈-❈


بدأوا بتناول الطعام بهدوء،

هدوء أصبح خانقًا ومزعجًا في تلك اللحظة.

لا يريده،

يريد صخب،

صخب أبنائه وأحفاده،

مشاكسة الكبار وصراخ الصغار .

هو لم يعد يريد تلك اللحظات الصامتة بمفرده،

ما حاجته لتلك الوحدة القاتلة؟

وقد يرحل من تلك الحياة في أي لحظة.

كان يأكل بشرود، وعقله في مكان آخر،

حيث صغاره، وإن كانوا في السبعين،

وأحفاده... قطعة من روحه.

حتى إنه رفع المعلقة إلى فمه ولم يلاحظ أنها فارغة،

لكن تميم لاحظ،

وكان يعلم شعوره،

كان يفهم شروده، حتى وإن لم ينطق.

فقد عاد المنزل كما كان،

صامتًا،

وفارغًا سوى من سواهم،

رحل الجميع،

وتركوا خلفهم فراغًا لن يسده أحد سواهم.

لذا نطق اسم والده، يخرجه من شروده،

قائلًا بتساؤل: إيه رأيك أول ما أقدر وأكون مستعد إن شاء الله،

نسافر نغيّر جو؟

نروح عند كل حد من إخواتي شوية،

نشوفهم ونكون معاهم؟

اتسعت ابتسامة مدحت، مؤيدًا تلك الفكرة.

هو بحاجة لهم،

بحاجة لهم أكثر مما كان يظن يومًا،

وإن كان مجيئهم بتلك الصعوبة،

فليذهب هو.

فقضاء وقت مع كل منهم فكرة جيدة،

ستعيد السعادة إلى قلبه،

يجب أن ينفذها في أقرب وقت.

فقط ليصبح تميم بخير،

وسيسافر سريعًا.

ابتسم متخيلًا تلك اللحظات القادمة،

وعاد يأكل بشهية مفتوحة،

وتميم يراقبه بسعادة،

حتى وإن كانت مزيفة،

فلا زالت جراح قلبه تنزف دمًا،

ولا زال يحاول أن يكون بخير،

فلعل أيامه القادمة تحمل لقلبه عوضًا عمّا خسر.


❈-❈-❈

وأخيرًا، عادت إلى المنزل،

رغم حبها لمنزل والد حسام، إلا وأنه تظل تلك المساحة الصغيرة تعني لها الكثير.

دلفت للمنزل، تحمل شمس تضمها إلى صدرها،

وقد استيقظت لتوها بعد ساعات طويلة قضتها بين نوم واستيقاظ مجهد لها ولهم.

وخلفها، حسام يدخل الحقائب واحدة تلو الأخرى بصمت.

كانت تشعر بحمم ساخنة تحيط وجهها،

عقلها لا يكف عن التفكير منذ حديث أمها،

وكان هذا لا يكفيها،

فيزيد بهدوء حسام طوال اليوم والأمس.

كان هادئًا، هادئًا أكثر مما يجب ومما هي معتادة عليه.

لم يكن زوجها وصديقها وحبيبها حسام،

كان فقط صامتًا،

أو متحفظًا،

وهذا في حد ذاته مزعج ومريب.

فهي لا تفهم ماذا يحدث.

وبداخلها الكثير من المبررات،

من ضمنهم عودتهم والابتعاد عن أهله،

ربما ضيقًا من أجل تميم.

الحقيقة هي لا تعلم،

حتى أنها لا تسأل.

لماذا لا تسأل؟

قالتها لنفسها.

هي تشعر أن الأمر مختلف وبعيد عن أهله.

هل يمكن أن يكون هناك أمر خاص بعمله وهو لا يريد أن يخبرها مثلًا؟

تنهدت بثقل، وعادت لها التساؤلات مرة أخرى.

وهي تراه يقترب منها، يحمل عنها شمس المبتسمة برقة وسعادة له.

قابلها هو بأخرى تخصها،

لكن كانت بسمة صامتة،

هادئة،

ليست تلك المرحة خاصته.

ماذا يحدث؟

انعقد حاجبها بتوجس،

مراقبة إياه وهو يتحرك ليجلس على الأريكة دون حتى أن يبدل ملابسه،

يفتح التلفاز، ويجلس الصغيرة على ساقه، يهزها برتابة، متابعًا ما يعرض،

بلا مبالاة وبساطة،

بل وبكل بساطة.

ولم تكن تعلم أنه لا يرى شيئًا من الأساس.

فقد ينظر أمامه بعيون غائمة،

عيون أجهدها التفكير.

❈-❈-❈

نقل عيناه بلا مبالاة، يراقب المارة بصمت.

يجلس هنا منذ عدة ساعات،

كم مر؟

لا يعلم أبدًا.

فقد قادته قدماه إلى هنا،

حيث اجتمعا،

حيث اعترف لها بحبه،

حيث شاركها سعادته وأخفى أحزانه،

مدثرًا إياها بداخل قلبه.

حيث ضحى بوقته وأمواله وبالكثير لأجلها.

لكن للصدق، هي لم تضربه على يده.

هو فعل بنفس راضية، حتى ولو بضغط منها.

لكن في النهاية،

وضعت هي نهاية كان يراها وإن أنكرها طويلًا.

ندم؟

لا والله أبدًا.

بل مجروح،

حزين،

متألم،

وخاسر ورابح في نفس ذات الوقت.

ربح نفسه مع خسارته للكثير.

يظل يحمد الله على كل شيء.

زفر بقوة وهو يرفع فنجان القهوة لفمه بصمت،

قبل أن يعيده مرة أخرى،

مكتشفًا أنه قد برد.

هز رأسه بيأس،

وهو يستقيم دافعًا ثمن القهوة،

مغادرًا وبسرعة،

غير قادر على الجلوس أكثر.

فهو قد أخطأ من البداية بمجيئه هنا تحديدًا.

كان يسير عازمًا على مغادرة المجمع التجاري،

قبل أن تتوقف قدماه، مجبرة إياه على التوقف في التو والحال.

مُتسمرًا في مكانه،

بوجه جامد،

وعين متسعة تشاهد هناك.

جلوس داليا.

بجانبها رجل،

رجل عرفه جيدًا،

بل وأكثر،

فقد كان أحد أقاربها الأثرياء،

الأكثر ثراء.

كان يراقبها لوهلة،

لكن مشاعره في تلك اللحظة

كانت غريبة.

لم يشعر بالغيرة،

أو الغضب،

أو...

لم يشعر بتلك المشاعر السابقة.

كان هناك مشاعر أخرى.

كان يشعر بالازدراء،

والقرف.

تشكلت على وجهه ابتسامة ساخرة لم يقدر حتى على منعها.

بداخله يقين

أنه لم يكن الخاسر،

بل خرج رابحًا بكل تأكيد.

لذا أزاح عينه عنها بسرعة،

وجر قدماه مسرعًا في المغادرة.

حيث يحتاج أن يتحدث، أن يشارك ما بداخله، عله يجد بعض الإجابات.

وفي تلك اللحظة، شخص واحد فقط هو القادر على مشاركته تلك اللحظة.

صديق الخيبة والمصائب.

سيذهب إليه،

إلى...

تميم.

❈-❈-❈

تحرك ببطء شديد، متحاملًا على نفسه وألمه. في الحقيقة، هو ينكر تَألمه وإرهاقه البادي للجميع، حتى وإن رفض الاعتراف به. لكنه متعب للغاية.


زفر بضيق وهو يمسح وجهه المتعرق، متوجهًا نحو غرفته بعد أن قضى بعض الوقت مع والده. يعلم ما يشعر به، وتلك الوحدة القاتلة التي ستكون رفيقته في أيامهم القادمة بعد رحيل إخوته والصغار.


صعب مؤلم... لن ينكر ذلك. لكن تلك سنة الحياة.


وسيظل بجانبه دائمًا.


وفي النهاية، حتى والده مل منه وقرر الدلوف للنوم بعد قضاء يوم مرهق.


ليتبعه هو، مقررًا العمل قليلاً قبل الخلود للنوم.


وبالفعل، جلس على فراشه بصمت، حوله حاسوبه وأوراقه المرتبة، مفتقدًا بعثرتها التي غادرت بمغادرة الصغير تميم.


تنهد بصبر، محاولًا متابعة الأعمال الكثيرة والمتراكمة فوق رأسه. رغم وجود الكثير من العاملين والمهندسين، إلا أنه يصر على أن يدير أكبر قدر ممكن من الأعمال بنفسه.


ففي النهاية، هذا نتاج شقائه واجتهاده، ولن يتساهل فيها أبدًا مهما كان يريد أن يبتعد وينفرد بنفسه.


هناك بعض المسؤوليات التي تجبرنا على الالتفات نحو أنفسنا وصفعها لنخبرها بقوة وحزم: "افق، لا وقت للتخاذل أبدًا".


وبالفعل، بدأ ببطء، سرعان ما تحول لشغف وحماس ينتابه دائمًا في العمل.


إلا أن صدع رنين هاتفه، مخرجًا إياه من تلك الدوامة.


وكان أحمد الذي همس له بكآبته: أنا قدام البيت. إنت جوة؟


تحرك تميم ببطء، متوجهًا نحو نافذته، قبل أن يقف يراقب أحمد الصامت، محدقًا في الأرض، واضعًا الهاتف على أذنه.


تنهد تميم بحزن، قبل أن يخبره ببساطة: بص فوق.


رفع أحمد عيناه، لتقابله عين تميم، التي تناظره بصمت، قبل أن يشير له أن يدخل.


فواضح أنه بحاجة للحديث، وقد كان.


❈-❈-❈


لصعوبة نزوله مرة أخرى، طلب من منير أن يستقبله ويخبره بالصعود.


وبالفعل حدث. استقبله منير، وأخبره بالصعود، وهو سيلحقهم بالعشاء.


ووقف تميم في استقباله في أعلى السلم، وما إن تقابلت عيونهما حتى فتح تميم ذراعيه، جاذبًا إياه، معانقًا إياه بقوة، مربتًا عليه بدعم.


يعلم ما يمر به، وكيف لا يعلم؟ وهو يحيا في ذلك الألم ولا يجد طريقًا لينجو.


لا طريق.


لذلك، أقل القليل أن يكون بجانبه، يدعمه، ويخبره أنه هنا.


مهما حدث، هو هنا لمساندته وشد أزره.


سيظل بجانبه حتى يتخطى تلك المرحلة، وحينها سيعلم أنها لم تكن تستحقه يومًا، أبدًا.


❈-❈-❈


دلف أحمد للغرفة ليلقي بنفسه على فراش تميم.


لم تكن المرة الأولى له. فبيت تميم هو بيته، وبيته أيضًا بيت تميم.


هكذا هما، هكذا كانا طوال الوقت إخوة وليسوا مجرد أصدقاء.


ابتسم تميم بهدوء، وهو يجلس بهدوء على مقعده الخاص، ويرفع جسده ببطء ليجلس براحة أكبر.


ولم يمر الكثير حتى دلف منير، حاملاً لهم كل ما لذ وطاب الكثير من الشطائر.


وأشار نحو عبوات العصير قائلاً بحنان: الوقت اتأخر، العصير أحسن.


وتابع بتساؤل: عايز مني حاجة تانية؟


هز تميم رأسه نفيًا مبتسمًا له بهدوء، قائلاً: تسلم إيدك. روح أنت بقى، تعبناك معانا.


ابتسم له منير بهدوء، وغادر سريعًا.


والتفت تميم ينظر نحو أحمد الذي غمس رأسه في طبق الشطائر، يتناول بنهم.


ليس لجوعه، بل محاولًا أن يبعد تفكيره عن أشياء لا يود التفكير فيها.


❈-❈-❈

إن كان يريد أن يشغل نفسه،

فقد تركه،

تركه حتى انتهى من ست شطائر أخبره أنهم دجاج،

وثلاث من الشاورما.

ولا يدري تميم من أين أتى منير بالشاورما في تلك الساعة،

لكن كالعادة، منير ملك الأزمات.

فهو دائمًا يحتفظ بالكثير من الأطعمة الجاهزة في المبرد

للسهرات الليلية ولكل جائع يطرق باب المطبخ.

زم شفتاه وهو يراقب تحرك أحمد،

منقلبًا على ظهره متأوهًا من ألم،

ممسدًا على بطنه التي انتفخت كحامل في الشهر الخامس،

قبل أن يحرك عيناه يرمق نظرات أحمد لعلبة العصير الخاص به،

قبل أن يفتح فمه هامسًا بتفكير وهو يرفع عيناه تجاهه: هتشربها؟

تماسك تميم وهو ينظر للأطباق الفارغة وعلبتي العصير وطبق المقرمشات وقد قضي عليهم،

يكاد يأكل ذراعه إن سمحت له الفرصة.

ظل ينظر كل منهما إلى الآخر بصمت،

قبل أن يرجع تميم رأسه للخلف ضاحكًا بشدة.

تبعه أحمد وانفجر هو الآخر ضاحكًا مشاركًا إياه،

كل منهما يخرج الضحكات بصوت عالٍ،

لم تكن سعيدة،

بل كانت فقط تخرج لكي لا ينفجرا من شدة الضغط،

فقلوبهم

تعرضت للطعن.

❈-❈-❈

نوبة ضحك هستيرية انتهت بلهاث حاد وقلوب أوشكت على التوقف من شدة المجهود.

أرجع تميم رأسه للخلف محاولًا التحكم في أنفاسه. 

"آه من قلبه"،

يشعر أنه متعب،

منهك،

وشديد التآلم.

إلى متى سيظل يتظاهر أنه بخير؟

إلى متى سيظل يبتسم وعيناه تروي ألف حكاية ورواية؟

هو بحاجة أن يدخل في دوامة ليشتت تفكير نفسه.

رفع رأسه ينظر إلى أحمد الذي استلقى على الفراش ينظر للسقف بشرود،

مفكرًا.

هو وأحمد بحاجة لنفس الشيء

الانشغال.

بحاجة إلى دس أنفسهم وسط دوامات العمل.

لذا لما يجد نفسه سوى وهو ينطق بخفوت:

"تعالي اشتغل معايا."

❈-❈-❈

أفاق أحمد من شروده على عبارة تميم الجادة.

عقد حاجبه ورفع رأسه ملتفًا ينظر نحو صديقه.

وقد كان يظنه يمزح،

إلا أن ملامح تميم لم تكن توحي سوى بجدية ما نطق به للتو.

وظل يطالعه منتظرًا أن ينطق.

ولم يتنازل تميم بالمتابعة،

بل ظل يناظره وينتظر رده بترقب.

وما إن فتح أحمد فمه ليرد بالرفض المتوقع،

قاطعه تميم متمتمًا بحدة وهو يتحرك من محله مقتربًا منه: متبقاش غبي بقى،

بقالى قد إيه بقولك تعالي اشتغل معايا،

اقف معايا وخليك في ضهري،

وانت بكل غباء دايمًا بترفض،

وكل مرة حجج أغبى ومش منطقية أكثر من اللي قبلها.

انت فاكرني مش عارف السبب؟

قالها هادرًا فيه بقوة وغضب من إصراره وغبائه المتكرر.

تنهد أحمد بضيق قبل أن ينفجر هو الآخر قائلاً بتأكيد: آه، وفي الرايحة والجاية الكل يتكلم،

شغل صاحبه،

 واسطه،

بيفضله علينا،

مميز،

ووووو،

وقرف وناس مورهاش غير اللت والعجن.

انتهى وأطرق رأسه بضيق.

تنهد تميم بتعب قبل أن يجلس بجانبه،

قائلًا برفق حازم: مينفعش انت اللي تفكر كده يا أحمد.

في كل مجال الناس دي موجودة،

معايا أو من غيري.

انت اللي تقدر تخرس أي لسان عن إنه ينطق حرف في حقك،

والي ينطق سيبه.

بكرة الأيام وشغلك يخرسه.

وتابع بتأكيد: انت عارف أنا في الشغل معرفش حد،

شغلي مهم عندي،

ولو كنت مين عندي،

ولو انت متستحقش وجودك عمري ما هفكر فيك.

مش عشان أنا شخص وحش،

بس هظلمك وهظلم نفسي بالخطوة دي بس.

لكن أنت شاطر جدًا في مجالك،

أنا هستفاد بوجودك،

والمصلحة متبادلة.

أنا مش هطلع من جيبي وأديلك شغل ومجهود قصاده مرتبك،

لا أكثر ولا أقل.

يا أحمد، أنا بقالي سنين بقولك،

تعالى،

وانت رافض،

ومحبتش أضغط عليك.

لكن خلاص،

خلاص بجد.

قالها بإصرار،

وهو يقف يناظره بتأكيد:

"انت هتيجي تشتغل معايا؟

انت محتاج ده.

محتاج تبعد عن شغلك القديم،

واخد وقتك وطاقتك ومجهودك

بدون ما تتقدم خطوة واحدة تحسسك إنك ماشي صح.

انت نفسك نفسيتك كانت تعبت من كثر الضغط اللي مبيجبش أي نتيجة.

انت محتاج تكون في مكان بيقدرك،

بيقدر شغلك مجهودك وتعبك،

مش مجرد شركة مستغلة،

مبتتقيش الله في أبسط حقوق موظفينها.

قالها وصمت بضيق،

ضيق كان بداخل كل منهما.

إلا أن تابع بتأكيد: أنا كمان محتاج وجودك معايا يا أحمد.

ها،

قلت إيه؟

قالها بتساؤل وترقب وهو يراقب ملامح أحمد المضطربة.

ضغطه،

نعم.

حاصره،

نعم أيضًا.

لكن أحمد بحاجة لذلك،

بحاجة أن يدلف لتلك الدوامة.

معًا سيتخطيا الأمر.

لكن مع كل هذا الحزم والإصرار،

ما يزال يخشى من رفضه،

فأحمد مثله عنيد،

ولا يقتنع بسهولة.

وعند تلك النقطة،

فتح فمه مقررا توبيخه بشدة،

إلا أن أحمد قد سبقه،

وهو يرفع رأسه قائلاً ببساطة رغم تشوشه:

"موافق."

تراجع تميم للخلف خطوة وهو يزفر براحة حقيقية،

قبل أن تنفرج شفتاه في ابتسامة راحت تتسع شيئًا فشيئًا حتى شملت كل وجهه.

شاعرًا وللصدق أنه ومن هنا سيقدر على شفاء جراح صديقه.

وفي تلك اللحظة،

نسي أحمد داليا،

أو تناسى ما حدث.

وعقله بات يفكر فقط في شيء واحد

ماذا يخبئ له القادم؟

تحديدًا عمله مع تميم.

فتلك خطوة لطالما كان يخشاها،

بل يرتعب منها.

هو يثق في مهارته نعم، لكن عليه أن يثبت لتميم قبل الجميع

أنه يستحق ما سيحصل عليه.

ويثق أيضًا أنه ومهما حدث،

سيجد تميم بجانبه،

مهما حدث.

❈-❈-❈

كانت تقف أمام المرآة تضع لمساتها الأخيرة بدقة شديدة.

أخيرًا، عادت لمنزلها، لحياتها وروتينها اليومي.

أخيرًا.

كادت أن ترحل بأول طائرة إن اضطرت، تحديدًا في وضعهم هناك.

أمير لم يفهم.

هي أسست حياتها بتلك الطريقة.

ضحّت بالكثير لتصل إلى ما وصلت إليه.

ولن تضحي به أبدًا أبدًا مهما حدث.

قالتها لنفسها وهي تنظر لنفسها بثقة، بمظهر أنيق يليق بحدث اليوم.

فبعد القليل، لديها وأمير عشاء عمل مهم للغاية.

مهم لمسيرتها.

وكم هي متحمسة للقادم.

هو ذهب وتركها، وهي ستذهب وحدها ولن تهتم.

طرقات صغيرة على الباب جذبت انتباهها لتسمح بدخول الطارق وعيناها منتبهتان لما تفعله.

تبعه دخول الصغار وركضهم نحوها بحماس، جعلها تتأفف بضيق، ففكرها منشغل بكل شيء في تلك اللحظة.

صاح مراد بسعادة وهو يرفع رسمته ليُريها إياها قائلاً بفرح: خلصت الرسمة يا مامي، بصي كده. حلوة صح؟

التفتت له نصف التفاتة تنظر نحوها قبل أن تعود سريعًا قائلة بهدوء: جميلة يا حبيبي، يلا روحوا دلوقتي عند إيميليا، مامي وراها شغل مهم. لما أجي هشوف كل الرسومات.

إلا أن الصغير، ولأول مرة، يصيح بعتراض:

بس إنتي مش هتشوفي حاجة. أنا زعلان منك، ومش هكلمك تاني!

قالها وخرج سريعًا من الغرفة، وصوت بكائه يصدح بقوة.

زفرت يارا بضيق شديد وهي تهز ساقها بعصبية، قبل أن تلتفت لتنظر لابنتها مريم الصامتة.

وقبل أن تنطق بشيء، بادرت الصغيرة قائلة بكآبة:مامي، إنتي مش بترسمي معانا خالص زي مامي روان، ومراد زعلان أوي، وأنا كمان.

قالتها وقد بدأت الدموع تتجمع في عينيها، وغادرت سريعًا خلف أخيها.

نظرت يارا في أثرها بصمت، وكادت أن تتحرك سريعًا خلفهم، وقلبها يولمها على حديثهم الطفولي.

إلا أن أوقفها رنين هاتفها، وكان أحد المنظمين لعشاء العمل، وقد أكد عليها أن تسرع.

أغلقت الهاتف بضيق، وهي تنظر في أثر أطفالها، مشتتة، في صراع بين جهتين، كل منهما مهمة بالقدر الكافي عندها.

لكن، وفي تلك اللحظة، لم تجد نفسها سوى وهي تحمل حقيبتها وتغادر المنزل بسرعة لأجل عشائها المهم،

بعد أن شيعت غرفة الصغار بنظرات مختلسة بندم.

ندم ربما لن تشعر بقيمته إلا بعد فوات الأوان.


❈-❈-❈

                عودة لصباح اليوم

                 منذ عدة ساعات


تحركت بهدوء تمسك بين يديها فنجان القهوة الخاص بها بشرود.

كم تشعر بالاختناق.

هي محاصرة، أو هي من حاصرت نفسها.

أحبت من لا يجب أن تحب.

وقعت في فخ التعلق،

والآن ها هي تحيا بين نيران عقلها وقلبها.

أن تفكر بجدية وتتخطى الوهم،

وأن تظل كما هي مؤمنةً أن ربما هناك فرصة.

لكن أباها لن يقبل بهذا،

ولن يجبرها بنفس الوقت.

هو فقط يضعها في وسط المعركة،

تاركا إياها تحارب وحدها.

ويقف هو بعيدا يراقب بصمت.

وهكذا هو فعل.

وأتى لها بعريس جديد،

ويا ليته لم يفعل.

تنهدت بضيق وهي تجلس على مقعدها،

ترفع فنجان القهوة، تفكر بصمت بما حدث منذ عدة أيام.


                      منذ عدة أيام


بداية من تجهيز وإعداد حسناء للكثير من الطعام

ليصبح المنزل بعدها على أكمل وجه.

لتتفاجأ بقدوم أبيها ليخبرها بعبارة عابرة أن تتجهز،

فهي ستقف معه في استقبال الضيوف.

ورغم رفضها البادي على وجهها المصدوم،

إلا أنه تخطاها مدعيا الامبالاة.

وبالفعل هدأتها حسناء،

وجهزت لها فستانا رقيقا وحجابا يماثله رقة.

وأخيرا تجهزت وخرجت على مضض،

بدفع من يد حسناء.

خرجت ببطء،

قبل أن ترفع عيناها،

وتتسمر قدماها ،

وهي تتجمد.

مشهد أمامها.

جميلة،

صديقة أمها التي قابلتها في المجمع التجاري منذ عدة أيام،

وبجانبها ابنها .

ينظر إليها بابتسامة كبيرة.

نقلت عينيها نحو والدها تنظر له بصدمة،

وهو يبادلها بابتسامة هادئة للغاية.

كانت ما زالت في مكانها لا تتحرك

حتى تنحنح والدها بحرج،

قائلا بحزم خفيف: اقعدي يا سارة.

مدام جميلة مش غريبة،

كانت صديقة لماما الله يرحمها،

وابنها الدكتور يوسف.

جاهدت لرسم ابتسامة ظهرت أخيرا،

وهي تجلس بجانب والدها أمامهم.

جمعهم حديث هادئ ودي بسيط.

حاول مرارا هذا يوسف أن يتحاور معها،

إلا أن إجاباتها الهادئة والمختصرة جعلته يصمت ويوجه الدفة نحو والدها.

والتزمت هي الصمت في أغلب الجلسة.

تبعها غداء هادئ،

وأخيرا جلسة الشاي.

كانت تجلس، تنام فعليا فهي لا تنام سوى القليل من شدة تفكيرها.

ويبدو أنهم قرروا إفاقتها من شرودها بأكثر الطرق قسوة.

والسيدة جميلة تنظر إليها بابتسامة سعيدة قبل أن تقول بهدوء: طبعا أنا كنت صديقة لزينب الله يرحمها ويغفر لها.

تمتم الجميع بالدعاء لها،

لتتابع هي بهدوء: والحقيقة أنا من وقت ما شوفت سارة،

وأنا مش مبطلة أفكر فيها،

وقد إيه هي نسخة من المرحومة،

ومش هلاقي أكيد أبدا أحسن منها.

ونظرت لابنها الذي تولى دفة الحديث من هنا،

وهو ينظر إلى والدها متحدثا بثقة: أنا الحمد لله يا عمي زي ما حضرتك عرفت دكتور،

والحمد لله مستقل ماديا،

ليا بيتي وشغلي،

يعني جاهز والحمد لله.

ويشرفني أطلب الآنسة سارة على سنة الله ورسوله.

اهتز فنجان الشاي بيد سارة حتى كاد أن يسقط من بين يديها.

ونهضت ببطء،

قائلة بهدوء: عن إذنكم.

وغادرت سريعا قبل أن يحاول أحدهم حتي منعها.

ابتسم جمال بحرج،

قبل أن تقول جميلة بهدوء: عروسة،

حقها تتكسف.

نظر يوسف إليها بصمت،

وتابع قائلا: أنا طبعا موجود لأي أسئلة سواء من حضرتك أو من الآنسة سارة.

وأكملوا الجلسة بهدوء.

وبعد عشر دقائق بالتمام،

استأذن يوسف مغادرا مع والدته سريعا.

وجمال ينظر في أثرهم بحيرة.

عريس جديد لا يشوبه شائبة،

لكن ابنته كالعادة تهرب.

ويخشى أن تظل تهرب حتى يهرب العمر من بين يديها،

وتكون الخسارة خسارتين.

❈-❈-❈

ظلت تدور في الغرفة ذهابا وإيابا،

وحسناء تراقبها بقلق.

تحمد الله أنهم قد غادروا،

فسارة قد تتهور وتخرج ولا تضمن ردود أفعالها.

دقائق، واستمعوا إلى صوت طرقات على الباب،

تبعه دخول جمال الصامت.

كادت حسناء أن تنسحب لتترك لهم المساحة للنقاش،

إلا أنه أوقفها قائلا بهدوء:

خليكي يا حسناء.

في الأول والآخر أنتِ في مكان زينب الله يرحمها.

تنهدت حسناء وهي تكاد تقف بينهم،

تعلم تفكير جمال، هو أب يريد لابنته الأفضل.

لن يجبرها، لكن هل يتركها لنفسها وتفكيرها؟

إلى متى؟

حتى هي تخشى عليها.

لكن تخشى أكثر من الصدام بينها وبين والدها.

تنهد جمال وهو ينظر لعيني ابنته الحازمة،

يعرف الرد،

لكن سيسأل.

لذا أخذ نفسا عميقا وسألها بهدوء:أي ردك على طلب يوسف يا سارة؟

إجابتها بسرعة، وكان الإجابة على طرف لسانها: لا طبعا، أنا مش موافقة.

بعد إذنك يا بابا،

بلغهم رفضي،

وقولهم كل شيء قسمة ونصيب.

ظل ينظر إليها،

لا يجد حقا ماذا يقول.

يوبخها،

يضربها،

ينهرها،

ماذا هو فاعل؟

كيف له أن يقنع عقلها الحجري بأخذ فرصة؟

حسنا، لا داعي لفرصة.

فلتفكر حتى أنها تنطق الرفض قبل أن تسمع التفاصيل.

رفضها،

رفضها نابع عن شيء هو نفسه لا يعلمه.

هل هي؟

توقف السؤال قبل أن يفكر به.

ماذا سيحدث إن كانت...؟


إلا أنه نفض الفكرة تماما عن عقله،

وهو يفكر إن كان هناك أحد حقا.

كانت لتصارحه.

هو فقط اعتاد معها على الصراحة.

لذا أزاح تلك الأفكار من أمامه،

وتحدث لها قائلا بهدوء: يا سارة،

يا سارة الشاب مفهوش أي عيب.

والدته صديقة جميلة الله يرحمها،

وشاب محترم، وأظن لو خدتي فرصة مش هيكون في أي مشكلة.

ليه محسسني إني قمت كتبت كتابك؟

بقولك فرصة.

خدي مجرد فرصة،

جربي، هتخسري إيه؟"

إلا أنها سارعت بالرد: بابا أنا...

إلا أنه صرخ بها قائلا بتعب:بس كفاية.

وتابع بيأس وعيناه لا تترك عينها: تمام،

إنتِ رافضة،

زي ما إنتِ عايزة.

بس افتكري أن لو الوقت راح،

مستحيل يرجع.

مهما حصل.

وغادر.

لتقضي هي ليلتها والكلمات لا تغادر ذهنها.

هل هي خاطئة،

أم أنها على صواب؟

والإجابة،

للأسف، لا يوجد إجابة.

لا يوجد أبدا.

❈-❈-❈

وقفت أمام المرآة تنظر لنفسها بابتسامة خافتة.

عيناها تشعّ نورًا وبريق سعادة.

كانت تراقب نفسها،

تراقب كل تفصيلة.

كانت قد أصبحت مستعدة وعلى أكمل وجه.

ارتدت بذلة نسائية محتشمة أضافت لها رقّة وعملية، وصفّفت خصلاتها التي استطالت عما قبل، فكانت رقيقة مثلها.

كانت جميلة كما لم ترَ نفسها من قبل.

أيُمكن أن جمالها فقط بفضل سعادتها؟

أفاقت من تأمّلها لنفسها على يد عمر التي حاوطت خصرها، ورأسه يرتاح على كتفها.

كان عابسًا بطفوليّة محبّبة لقلبها.

لم تُعجبه البذلة ورفضها رفضًا تامًا حتي علم أنها قد ابتاعتها بالفعل من أحد الصفحات التجارية.

وانتهى الأمر،

ولا يوجد وقت، والمقابلة اليوم.

فوافق ورضخ، وللصدق كانت بذلة محتشمة ولا تشوبها شائبة.

طالعت عبوسه بابتسامة مشاكسة قبل أن تقول بدلال: هتفضل مكشّر كتير كده؟

خلاص بقى يا عمر،

عشان خاطري،

مش حابة أروح وانت مضايق مني كده.

رفع عيناه يطالع عيناها المبتسمة له قبل شفتيها.

هي سعيدة.

وعند تلك الخاطرة،

شاركها هو الآخر الابتسامة،

وهو يضمّها أكثر شاعرًا بالراحة.

نقلت عيناها للساعة،

لتشهق بقوة وهي تبتعد عنه سريعًا قائلة بذعر: هنتأخر يا عمر! يلا بسرعة!

هزّ رأسه بيأس وهو يلحق بها،

إلا أنه، وقبل أن ترتدي حذاءها،

وجدها تتحرك بعيدًا عنه.

تردّد بقلق: هي فين لوزة؟

كانت هنا من شوية...

قطّب جبينه هو الآخر،

وهو يراها تتحرك هنا وهناك بحثًا عنها،

مرددة باستغراب: طبق الأكل بتاعها زي ما هو!

وبعد بحث دام خمس دقائق من التوتر،

تسمّر عمر مكانه وهو يلمح جلوسها في أرضيّة خزانتهم.

يبدو أن فريدة نسيت أن تغلقها، فدخلت لوزة وجلست.

التفت ينادي على فريدة،

التي أتت مسرعة،

تقترب منها، تتحسسها، وتُقبّلها بحنان،

شاعرة بالقلق.

لوزة أصبحت غريبة،

ذات شهية أقل بكثير،

تلهث وتتنفّس بسرعة،

وأعراض أخرى لم تفهمها هي،

ونسيت تمامًا أن تذهب بها للطبيب تحديدًا في خضمّ انشغالها بما حدث.

كانت تربّت عليها بذهن قلق ومنشغل،

لتفيق على يد عمر على ظهرها، قائلًا بهدوء:

فريدة، هنتأخر.

التفتت تنظر له بضيق؛ لقد حصل على إذن من عمله خصيصًا لأجلها، ولا تريد أن يحصل خلاف بينهم بسبب لوزة.

إلا أنها لم تقدر على منع نفسها القلقة من إخباره بتأكيد: لوزة شكلها تعبانة.

إن شاء الله لما أجي، هاخدها للدكتور أطمن عليها، هي والبيبي.

أنا قلقة أوي يا عمر...

قطّب حاجبيه بضيق؛ هو لا يقتنع بتلك الأمور.

طبيب للقطة واهتمام...

لا يقتنع، ولا يحب.

إلا أن نظراتها الخائفة والحزينة،

جعلته يصمت صاغرًا،

ويُومئ لها بصمت،

وبادلته هي إياه،

قبل أن تتحرّك وتحملها بحرص وبُطء شديد لتضعها في مكان آخر لتكون أكثر راحة.

وقد كانت قد خصّصته لها منذ يومين،

بوسادة صغيرة، وشرشف مريح وناعم،

قرّبت منها الطعام والمياه،

وضعت كل ما قد تحتاجه،

وغادرت مع عمر سريعًا لتأخرهم،

وعقلها منشغل في وضع لوزة،

لوزة وصغارها.


❈-❈-❈


وقفت أمام الشركة تنظر نحوها بتوتر وارتجاف.

هي ابنة صاحب شركة تكاد توازي هذه أو أكبر،

إلا أن خوفها لم يكن لضعفها،

بل لأنها، وبالفعل، تأخذ الخطوة الأهم بالنسبة لها.

لذلك، هي تخاف.

ورغم خوفها، تثق أن القادم يحمل لها الكثير من الخير.

وفي خضمّ كل تلك المشاعر المبعثرة،

يد دافئة حاوطت قلبها قبل يدها،

حاوطت خوفها.

يده، وهو يمسك يدها، يشدّ عليها بقوة ودعم.

نقلت عيناها نحوه تنظر،

ليبادلها النظر بحنان،

قبل أن يقول بتساؤل: متأكدة مش عايزاني أفضّل موجود؟

أنا عادي، هتصل أمدّ الإذن بتاعي.

هزّت رأسها نافية، قائلة بخفوت: متخفش يا حبيبي، أنا بخير.

بس ضروري تروح لشغلك، يلا.

توكل على الله.

أنا هخلّص وأروح أجيب طلبات للبيت وليا زي ما اتفقنا،

ونتقابل هناك إن شاء الله.

أنا هكون بخير،

متقلقش.

مقابلة وهتعدي، أنا واثقة.

تنهد بضيق وهو يراها تحثّه على الذهاب.

شدّ على يدها مرة أخرى، قبل أن يقول بتأكيد:

ابقي طمنيني.

وغادر،

ملوّحًا لها.

وما إن غادر،

حتى التفتت تزفر برعب أخفته عنه بصعوبة.

هي خائفة، لن تنكر أبدًا.

لكن، ورغم خوفها، أخذت نفسًا عميقًا،

وخطت خطواتها ببطء وثقة،

داخل مبنى الشركة،

شركة ياسر الفاروقي.


❈-❈-❈


دلفت وجلست حيث أشاروا إليها.

كان العدد قليلًا،

لكن هي علمت أنه سيكون كذلك،

المقابلة لا تتم إلا مع من توافرت بهم الشروط،

وهي واحدة منهم.

فكانت هادئة إلى حدٍّ ما،

وقد أتاح لها الوقت أن تأخذ أنفاسها،

وما ساعدها أكثر هو قراءة بعض الأذكار،

والاستغفار،

كانا ذا أثر كبير على نفسها المتوترة.

وبعد القليل،

كان قد حان دورها.

سارت مع أحدهم،

حتى دخلت مكتبًا ملحقًا بمكتب آخر،

جلست حيث أشارت لها المساعدة، وقلبها يدق بشدة،

وهي تميّز أين هي.

إنها أمام مكتب مدير الشركة،

وهذا في حد ذاته،

جعل التوتر لديها يصل لأعلى مستوى.

فهي لم تتوقع هذا أبدًا،

مكتب المدير،

أي مدير!

فُتح الباب،

وسمحت لها السكرتيرة بالدخول،

لتقف تأخذ أنفاسها،

قبل أن تفرد ظهرها،

وتدخل بثقة وهدوء،

وبداخلها تردّد

مهما كانت النتيجة،

هي بخير،

وستظل تحارب مهما حدث.


❈-❈-❈


في الداخل،

كان يجلس يطالع الملفات أمامه بتركيز.

فاليوم يوم مهم.

يجب عليه اختيار فريق من المهندسين على أعلى كفاءة للمشروع القادم.

هذا المشروع بحاجة لأشخاص معيّنين،

مهندسين لهم نظرة وتخطيط وتفكير مختلف ومميز.

ورغم أنه لم يكن يومًا متفرّغًا لتلك المقابلات،

لكن اليوم تحديدًا،

كان يجب عليه هو أن يقوم بها لشدة أهميتها.

لذلك، لا بأس في بعض الوقت لاختيار جيّد، سيضمن له نتيجة جيدة فيما بعد.

أفاق من تفكيره

على طرقات خفيفة تبعها دخول أحدهم.

رفع رأسه ينظر أمامه ليجد المرشّحة التالية والأخيرة،

فريدة شوكت،

مهندسة حديثة التخرّج،

الكثير من المهارات، والتدريبات، واللغات،

من أوائل الدفعة على مدار جميع سنواتها الدراسية.

لقد أثارت اهتمامه قبل حتى أن تأتي،

لقد درس جميع الملفات أمس،

وكانت هي ممن جذبوا انتباهه.

أشار لها بالجلوس،

ومن هنا بدأت المقابلة.


❈-❈-❈

بعد نصف ساعة،

كانت تخرج من المكتب بهدوء،

وتغادر الشركة بأكملها.

كانت مقابلة هادئة،

كان شخصًا هادئًا، حازمًا، وواضحًا،

له متطلبات معيّنة في المهندس المطلوب.

وفي النهاية لم يخبرها سوى أنه سيتم التواصل معها.

خرجت من الشركة،

تستنشق الهواء، وتفكّر أنها أحسنت التفكير حينما لم تكتب اسم العائلة،

أو تعرّف عن نفسها، أو عن من هي.

هي تريد أن تحصل على وظيفة،

لكونها هي، فريدة،

وليست فريدة ابنة شوكت.

هي تريد أن تكون هي،

سواء قبلوا بها أو لا،

هي سعيدة أنها تخوض بعض التجارب الجديدة،

وستظل تسعى لتحصل على ما تريد،

مهما كلفها الأمر.

والآن، فلتذهب لتحضر نواقص البيت،

وتذهب بعدها للمنزل،

فهي حقًا بحاجة أن تطمئن على لوزة.

❈-❈-❈

وبعد ثلاث ساعاتٍ انتهت،

واستقلت سيارة أجرة عائدةً للمنزل،

بعد أن حادثت عمر وأخبرها أنه هو أيضًا

قد استأذن وسيأتي مبكرًا،

معها أو بعدها بقليل.

وبالفعل، بعد خمسٍ وأربعين دقيقة كانت قد وصلت.

جلبت أيضًا للوزة أشيائها المفضلة.

تنهدت مفكرة لوزة ليست بخير،

وهي قلقة،

قلبها مرتعبٌ عليها وعلى صغارها.

إن شاء الله، بعد الغداء ستأخذها للطبيب،

ليرى ماذا بها،

ويطمئن قلبها.

قالتها لنفسها وهي تقف أمام باب البناية،

صاعدةً لشقتها.


دلفت للشقة، وضعت ما بيدها على طاولة الطعام،

وبحثت بعينها عن لوزة.

نقلت عيناها سريعًا نحو الأريكة حيث مكانها المفضل كعادتها،

لكن لم ترَها.

ازداد قلقها وهي تفكر

هذا مكانها المفضل،

لوزة تعشق الأريكة،

وتجلس عليها معظم اليوم،

ماذا يحدث؟

أمالت رأسها تنظر أسفل الطاولة، لكن لا، أيضًا

ليست هناك.

قطبت حاجبها، والقلق يزداد داخلها، متسائلة

أيمكن أن تكون حيث تركتها؟

نظرت للساعة مفكرةً بتوجس

كل هذا الوقت نائمة؟

لا يمكن!

يا الله...

قالتها بخوف،

وهي تتحرك، تنظر هنا وهناك بلهفة وخوف،

تبحث عنها بكل مكان قبل أن تصل للغرفة،

علها في مكانٍ آخر،

لكن صوت غريب يصدر من أحد الغرف

جعلها تتسمر محلها،

قبل أن تترك لقدميها العنان،

مسرعةً في خطواتها نحو الصوت،

حتى وصلت أخيرًا...

لكنها تجمدت محلها تمامًا،

وهي تنظر أمامها بعيونٍ متسعة،

فقد كانت بالفعل حيث تركتها،

لكنها تئن بصوت خافتٍ متألم.

كانت تقترب منها تتفحصها بتوجس وخوف وعدم فهم مشاعر كثير مضطربة

لكن شي ما أوقفها 

وسمرها محلها 

وهي تقرب راسها وتضيّق عينيها تنظر لها مدققةً بها،

قبل أن تشاهد أنه قد بدأ يخرج منها شيء.

اتسعت عيناها بشكل أكبر، وهي تستوعب ما يحدث.

إنه قط صغير،

قط،

لقد بدأ مخاضها،

إنها تلد،

لوزة تلد.

❈-❈-❈


       عودة للوقت الحالي - في المطار


تحرّكت ببطء تخرج من المطار، تدفع عربة الصغار وتضمّ الصغير تميم. كانت شاردة بعقلٍ مشحون، مُشوَّش، الكثير من الأفكار، الكثير من كل شيء.

عقلها يحترق، تشعر بنفسها تسير على جمر. لكن ورغم كل هذا،

يظلّ التفكير الأهم ليس بها، ولا بأي شيء،

بل بصغارها.

هم الأهم والمهم،

ولا أهمّ منهم.

أين تذهب بهم في مثل هذا الوقت؟

هي لن تقدر أن تذهب بهم إلى منزلها،

فما سيحدث هناك،

ومواجهة كتلك لا يجب أن تحدث في وجود صغارها أبدًا.

هي لن تسمح أن يُمسّ قلب صغارها.

تنازلت هي،

دُعس على قلبها هي،

فعل كل ما يريد لها هي،

لكن صغارها، لا وألف لا.

صغارها خطّ أحمر،

ولن تسمح باختراقه،

مهما كلفها الأمر.


وفي الدقائق التالية، كانت قد قرّرت إلى أين ستذهب رغم تردّدها الشديد.

يصعب عليها أن تضعهم في فندق،

لذا أوقفت أول سيارة أجرة،

متوجّهة نحو منزل صديقتها، والدة صديقتَي إيلا وآية في المدرسة،

وأصبحت صديقتها منذ مدّة.

لا مكان غيره،

فلا ملجأ لها سوى هي الآن،

لتضع صغارها أمانة لديها.


❈-❈-❈

بعد بعض الوقت،

جلست على المقعد في شرفة بيت صديقتها سلوى، التي استقبلتها بصدرٍ رحب،

وأخذت منها الصغار واحدًا تلو الآخر، كأنها فهمت دون حديث،

دون سؤال،

دون أي شيء.

فقط أشارت لها على الشرفة، تخبرها بالراحة والتقاط أنفاسها المسلوبة.


راقبتها تهتم بالصغار،

وما إن اطمأنّت عليهم جميعًا،

حتى عزلت نفسها.

استندت بيدها على الحاجز بشُرود،

وعينٌ يغرقها الدمع،

لكن والله، لن تسمح له بالنزول،

لن تسمح مجددًا لأجله.

لا، لأجل مَن؟

لأجل خسيس لا يستحق،

ذَكر لم يحاول حتى أن يكون رجلًا،

ذَكر خائن، منحطّ، حقير.

أغمضت عينيها، تضغط عليهما بشدّة، تكتم بكاءً متألّمًا،

تكتم دموعًا غاضبة،

دموع أنثى أُهِينت أنوثتها،

دموع امرأة ظنّت أنها أحبّت رجلًا.

دسّت رأسها بين يديها، تشعر بنفسها منهَكة،

تشعر بألف خنجر يُدَسّ في قلبها المسكين بقسوة، بل بكلّ قسوة.

ماذا فعلت هي حتى تستحق ما حصل لها؟


أغمضت عينيها، تستغفر ربّها.

ما حدث ويحدث مقدّر لها،

هو ابتلاء،

وهي راضية، والله راضية.

لكن نفسها المحطّمة تُشعرها بانكسارٍ وألم،

انكسار وحطام.


انتفضت وهي تشعر بيدٍ تربّت على ظهرها.

التفتت تنظر لصديقتها بصمت.

كانت الأخرى تعرف هذا الشعور،

هي أيضًا تعرّضت للخيانة،

ونجَت بنفسها وابنتها،

لذا جلست أمامها قائلة بحنان: انتي كويسة؟


أغمضت آلاء عينيها، تهزّ رأسها، شاعرة بجسدها ينتفض من شدّة كبت شعورها.

هي تتألّم،

تتألّم...

ما السبيل للخلاص؟

صرخ قلبها بأعلى صوت، دون أن تخرج هي صرخة واحدة،

وقلبها يفكّر بوَهن،

كأنها ثلاث طعنات في وقتٍ واحد

الخيانة تمزّق،

الانكسار يُسقِط،

والاختناق يُبقيك حيًّا فقط لتشعر بكل هذا. 

❈-❈-❈


تحرّكت تحمل هاتفها وحقيبتها، وسلوى خلفها تكاد تتوسّلها بخوف: عشان خاطري يا آلاء، استني للصبح. هتروحي بليل كده؟

عشان خاطري، استني بس، وبلّغي أهلك.


التفتت آلاء تنظر لها بوجهٍ شاحب قبل أن تقول: لازم أروح يا سلوى. لازم أواجهه الأول. لازم آخد حقي وحق قلبي وعيالي قبل ما أخلّي حد يدخل.

وتابعت محاولة أن تطمئنها: ثم متخافيش، انتي فاكرة إني هتأخّر؟

أنا ساعة بالكثير وهكون هنا.

وأكملت ممازحة بألمٍ وتهكّم: لو اتأخّرت، اطْلبي البوليس.


كادت أن تخرج،

إلا أنها عادت تنظر لها بتردّد قبل أن تقول:

أنا سبت موبايل البنات معاهم جوا، على الكومود، عشان لو صِحيوا وقلقوا، خلّيهم يكلّموني.

هو في خط، وعليه كل أرقامي وأرقام العيلة.

أومأت لها سلوى بقلق،

قبل أن تشدّ على يدها قائلة بتأكيد:عشان خاطري يا آلاء، بلاش.

إلا أن آلاء شدّت على يدها هي الأخرى: لازم يا سلوى، لازم. دي خطوة اتأخّرت كتير أوي،

بس لازم أعملها.

لازم."


وخرجت،

وخلفها سلوى تقف مرتعبة،

فهي عاشت كل هذا من قبل،

عاشته بكل تفاصيله.


❈-❈-❈


وضعت المفتاح بباب شقتها،

لتفتح الباب الذي وقفت أمامه ما يقارب الخمس دقائق،

كأنها لا تقوى حتى على الدخول.

وبعد صراعٍ طويل،

خطت خطواتها ببطء بعد أن أغلقت الباب خلفها،

وهي تتوقّف في منتصف الشقة تنظر حولها بضياع وسخرية.


أخرجت هاتفها من الحقيبة،

ترفعه على أذنها،

تهاتفه:

مرة، اثنين، ثلاثة، أربعة... عشر مكالمات.


حتى ردّ أخيرًا قائلًا بتأفّف: إي؟

في إيه؟

وقبل أن يزيد،

قاطعته هي بصوتٍ حازم، قوي، غاضب حدّ الانفجار: قدّامك عشر دقايق وتكون قدّامي،

أنا في البيت،

لو مجتش، هطلع على الشرطة أتهمك بالسرقة.

وتابعت بسخرية: هما بقى يجيبوك بطريقتهم.


وأغلقت الخط في وجهه.

أخذت نفسًا عميقًا وهي تتحرك نحو غرفة صغيرها تميم،

تفتح خزانته، تقلب فيها،

قبل أن تبتسم بانتصار،

وهي ترى ضالّتها أخيرًا

صندوق مجوهراتها.


سبحان الله،

كأنها كانت تشعر بغدره، فخبّأته.

ليس لحاجتها للذهب،

هي لديها ما يزنها ذهب،

لكن لأنه لا يستحق.


فتحته، تنظر لذهبها من والدها وأخواتها،

ذهب الصغار،

الهدايا،

كلها من أهلها،

لا شيء منه أبدًا.

حتى الشبْكة، ضحّت بها لأجله في كثير من المرّات.


غبيّة حمقاء، وقفت بجانبه، ظنًّا منها أنه يستحق،

وهو لا يستحق سوى التراب.


تحرّكت، تُحضِر حقيبة متوسّطة الحجم،

وضعت الصندوق،

وبعض الأشياء المهمة فقط.

هي لن تجلس هنا،

ولن تسمح له بالجلوس،

لكن هي لا تعرف ردّ فعله،

على الأقل، لن تسمح له بأخذ شيء،

ستُخرجه كما أتى،

بلا شيء،

ولا شيء.


❈-❈-❈


وأخيرًا انتهت،

وقفت في منتصف منزلها،

عيناها تجول بكلّ مكان،

ونفسها تصرخ بأعلى صوت


"ما بك يا قلبي؟ أراك تضيع بين دروب الحيرة،

تحمل ذكريات أثقل من أن تُنسى،

وتُحارب شعورًا يرفض أن يخبو.

اللحظات الحزينة قد تُعانقنا أحيانًا،

لكن لا تجعلها وطنًا.

فما الحياة إلا توازن بين انكسارٍ يُعلّمنا القوّة،

وحبٍّ ربما لم يكن لنا،

لكنه يُحيي شيئًا في أرواحنا.

ارفق بنفسك،

فما زالت في الطريق مساحاتٌ للفرح تنتظر أن تطرق أبوابها."


جالت بعينيها، تتأمّل كل ركن وكل زاوية،

لم تترك شيئًا إلا وأمعنت النظر فيه.

أيجب عليها أن تحتفظ بكل هذا في قلبها منذ تلك اللحظة؟

أكان خطأها أم خطأه؟

في هذه اللحظة،

لم يعد يهم من المخطئ،

المهم: أين هم الآن؟


كسر صوت المفتاح في الباب أفكارها المبعثرة.

خطواته تقترب منها بثبات،

لكنها ثقيلة، كأنها تدقّ في قلبها.

وقف أمامها، ينظر إلى عينيها بكل وقاحة،

وكأن شيئًا لم يكن.


عيناها لم تهرب منه،

ولم تمنح نفسها فرصة للتردد.

التقطت نفسًا عميقًا،

وكأنها تحسم معركة داخلية امتدت طويلًا.

ثم نطقت الكلمة التي وضعت حدًّا لكل شيء،

بصوتٍ قوي رغم الألم:

"طلقني."


❈-❈-❈


كلمةٌ واحدة،

كانت تحمل الكثير،

كثيرًا من الخذلان، القهر، الضعف، والقوة،

الكثير من المشاعر المتناقضة،

لكنها تظل تحت بندٍ واحد بند الألم.

لكنها لن تنسى أبدًا، أبدًا ما حييت،

تغيّر نظراته الباردة، لأخرى متعجبة، غاضبة،

ووجهه الذي بدأ في الاحمرار نتيجةً لحديثها.


هو يعلم، وبداخله، أنها لن تطلب الطلاق لأجل هذا البيت والصغار،

وطلبُها زلزل ثقته المزعومة بنفسه، وهي تعلم،

إلا أنه كالعادّة، كاد أن يتخطّاها كأنها لم تقل شيئًا،

ظنًّا منه أنها لحظات غضب معتادة،

إلا أنها كانت تعلم،

فرفعت يدها بمتحكم التلفاز تشغله ،

ليعرض أمامه فيديو يعرض فيه سلسلةً طويلة من خيانته ووَسَخه.


تسمّر مكانه، يراقب الشاشة بجسدٍ متيبّس،

وهي خلفه، تراقب كل رد فعل،

كل حركة،

وكل همسة،

وتُشاهد معه،

فهي تألمت، وانتهى الأمر،

ولن تبكي على اللبن المسكوب.


انتهى الفيديو،

ووقفت هي خلفه تنظر له بعيون محترقة،

وقبل أن يتحرك أو ينطق حتى،

قالت هي بحزم: النهارده أنا هتكلم، وإنت هتسمع.


وتابعت بتعجب: إنت متخيل إنت وصلت بنفسك لفين يا رامي؟

للقاع.


التفتَ ينظر لها بعيونٍ غاضبة،

غاضبة وبشدة،

إلا أنها لم تكن تهتم به قدر ذرة، وتابعت بتذكر:

 كنت فاكرة إني بِسكوُتي، وإني أمشّي الدنيا، إني بحمي بيتي وولادي،

بس اكتشفت إني كنت أكبر غبية، وإني بتغاضى عن حاجات كان لازم يكون فيها وقفة.


التفتَ ينظر لها،

وتابعت بسخريةٍ مرّة كالعَلْقَم: إنت عملت كل حاجة تخليني أكرهك،

كل حاجة ممكنة،

بُخل عليّا وعلى أولادك، مش بس ماديًا،

لأ، حتى كنت بخيل في مشاعرك وحُبك،

كنت بتستخسر كلمة "بحبك" و"شكرًا" و"تسلم إيدك"،

وفي الرايحة والجاية، بتسمم حياتي بكلامك اللي زي السُّم،

في حاجات مش من حقك أصلًا،

وحقوق، إنت نفسك ما بتعملش ربعها،

كنت فاكر إن الزوجة جارية، ورحم يخلّفلك،

ما كنتش تعرف إنها مودة ورحمة وإحسان وحب واحتواء،

إنت ما تعرفش غير القشور،

وفاكر نفسك فاهم.


وصمتت قبل أن تُكمل، اختناقٌ وخذلان: إنت كسرت كل حاجة حلوة جوايا ليك،

وسِبتلي كل كره وغضب،

ما كنتش متخيّلة إني ممكن أكره حد قد ما كرهتك يا رامي،

أنا بس كان نفسي حتى تكون راجل،

يا ريتك تحقق الأمنية دي حتى،

إنت كنت كل حاجة وحشة في حياتي وحياة ولادي،

ولادي،

اللي إنت ما تستحقش ضُفرهم،

ولادي، اللي هاخدهم منك، لأنك مش أهل ليهم،

سُم في حياتي وحياتهم،

وجع وقهر،

اكتشفت إني كنت بحافظ على ولا شيء،

ومن الأساس، مفيش بيت أُحافظ عليه.


كان يراقبها بعيون تنطلق شررًا، وكل شيء يوحي بغضبه القادم،

إلا أنها لم تهتم،

وقالت، وقالت دون توقف أو تردد،

حتى انتهت أخيرًا، ووقفت أمامه تلهث وتتنفّس بسرعة،

ويراقبها هو بجُمود، قبل أن يُردد بتأكيد رغم نيرانه المشتعلة: طلاق؟ مش هطلّق.

 اخبطي راسك في الحيط.


ظلّت تنظر إليه،

قبل أن ترتسم على وجهها ابتسامة، كانت تتسع شيئًا فشيئًا،

حتى صارت ابتسامة ساخرة شرسة، رغم أنها تقطر ألمًا وخذلانًا،

ونطقت بهدوء: هتطلق،

وإنت عارف إنك هتطلق،

أنا ورايا أهل،

هيمحوك يا رامي.

مش بس هتطلق،

لأ، كمان الولاد هيكونوا معايا،

والشقة بالعفش، بكله، كده كده بتاعي، اللي بابا جابهالي،

والعربية تميم اللي جابها،

كل حاجة بتاعتي،

كل الخير اللي إنت كنت عايش فيه،

خير أهلي.

مش بس كده، حتى الشغل اللي إنت فيه وفرحان بيه وبفلوسه اللي بترميها على الرقصات،

زي ما كنت السبب إنك تشتغل،

هكون السبب في رفدك إن شاء الله.


وتابعت بتأكيد، وهي ترى وجهه الأحمر وعيناه تطقان شررًا: إنت اللي كنت عايش على حسّي،

ووعد مني لأحسّرك، وأرجّعك زي ما جتني،

أنا قبلت بيك، وإنت شاب عادي،

لأني مش مادية، وبنت أصول،

وكنت بعمل كده، عشان لازم أقف جنب جوزي،

بس الحقيقة إن الواحد ما بيتعلمش ببلاش،

لازم يتكوِي ويتحرّق من الشوربة عشان ينفخ ألف مرة في الزبادي.


وصمتت، وصمتت، وطالت حرب النظرات بينهما،

قبل أن تقول أخيرًا بمرارة: أنا ما ظلمتكش،

إنت اللي ظلمت نفسك بإيدك،

أنا بس باخد حقي منك،

يا أستاذ رامي.


قالتها باستهزاءٍ حقيقي، وفم يكاد يبصق الحروف بصقًا،

حملت حقيبتها، وكادت أن تغادر،

وبداخلها شعورٌ غريب،

أن من قالت كل هذا الكلام، ليست هي،

كأن شخصًا آخر تلبّسها.


ابتسمت ساخرة وهي تغادر،

إلا أن يده التي أمسكت معصمها أوقفتها،

وهو يعيدها محلّها بقوة وغضب، صارخًا بعصبية وقد فقد كل قدراته على التحكم في نفسه: ده أنا أقتلك، وأشرب من دمك،

طلاق؟ مش هطلّق يا آلاء،

وورّيني هتعملي إيه،

لا إنتِ، ولا أهلك، ولا أي حد هيقدر ياخد مني حاجة،

ده أنا أذبحك، إنتِ فاهمة؟!


قالها بصراخ، وقد مدّ يده وأمسك بحجابها يشدّ عليه بقسوةٍ وغلّ،

جعلها تصرخ بألم،

تحاول الإفلات،

وهو يزداد قسوة، جعلها تصرخ: إيدك يا حيوان!

أقسم بالله لأسجنك،

وأخليك على البلاطة،

وأرجعك حافي زي ما قبلت بيك،

أقسم بالله لآخد منك كل حاجة،

أنا اللي عملتك،

إنت من غيري ولا حاجة،

إنت كنت ولا حاجة، وبقيت حاجة بسببي،

إنت مش راجل!


قالتها دفعةً واحدة، وهي تصرخ من شدة الألم بفضل يده التي تقبض على خصلاتها،

لكن ما حدث بعدها، حدث دفعةً واحدة،

وهو يرفع يده الأخرى ويهبط بها على وجهها في صفعةٍ مدوّية، كادت تُسقطها أرضا،

لولا إمساكه بخصلاتها التي تقطّعت بالفعل بسببه، بعد أن سقط حجابها أرضًا.


لكن، والذي لم تكن مستعدة له،

أنه لم يكتفِ بصفعة واحدة ،

بل رفع يده يصفعها اخري واحدةً تلو الأخرى،

تلو الأخرى،

عشرات الصفعات،

عشرات الصفعات ، وهي بين يديه تصرخ وتحارب للإفلات من بين يديه،

بوجهٍ تغطيه الدماء والكدمات،

تصرخ وتحاول الفرار،

لكمة،

ضربة بأي شيء،

فقط لتنجو بنفسها.


إلا أنه كان يُحكم الحصار حولها جيدًا،

وأخيرًا حرّرها، ليدفعها فتسقط أرضًا تحت قدميه بوهن،

غير قادرة حتى على التحرك،

وكان هو يُشرف عليها من مكانه، يلهث بقوة، متنفسًا بغضبٍ وحقد،

قبل أن يقول بتأكيد: طلاقك مني بموتك، يا آلاء.


وتحرّك من مكانه ليغادر، تاركًا إياها،

إلا أن لسانها، وفي تلك اللحظة تحديدًا،

قرّر أن يردد بضعفٍ وألم: إنت مش راجل.


توقفت خطواته،

والتفت ينظر لها ببطءٍ شديد،

ارتجف جسدها لوهلة من منظره المرعب،

كأنها أيقظت شيطانًا،

ولم تشعر بعدها سوى بطعم الدماء في فمها،

وساقه تركلها وتضرب جسدها كله بكل قوة،

كانت تُطيحها عن الأرض، تُحرّكها من شدة قوة الركل،

وهي تحاول أن تتقوّقع على نفسها لتحمي نفسها بأي طريقة،

لكنه كان أقوى،

وهو يركل، ويركل،

حتى شعرت بالخدر يُحيط جسدها،

والألم لم يكن مجرد كلمة،

بل كان وصفًا لشعورٍ لا يُقارن بأي شعور،

فقط ألم،

ألم في كل مكان،

وطعم الدماء في فمها وأنفها،

وأخيرًا، شعورٌ غريب وألمٌ أغرب يُحيط بجزئها السفلي،

ولزوجة دماء لا تعرف من أين تأتي،

من أي مكان تلك الدماء؟

وقدمان تبتعدان عنها،

حتى اختفت تمامًا بمغادرته، وانغلاق الباب خلفه،

تاركًا إياها كأنها لم تكن.

ولم يكن يعلم أن الخسارة له كانت باثنين.


❈-❈-❈

هل ماتت ورحلت من تلك الحياة؟


حاولت تحريك وجهها بعيونٍ ذائغة، ورؤيةٍ مشوشة تتلاشى شيئًا فشيئًا،

وألم يتعاظم ويزداد، شيء في شيء، كجبلٍ انهار فوقها،

خفقات قلبها تزداد بُطئًا،

كأنها تودّع تلك الحياة القاسية،

وارتعاش جسدها الساكن بوهنٍ يقل تدريجيًا،

يُقاوم،

يُحارب،

حربٌ خاسرة.


بهتت الألوان،

تلاشت،

فلم تعد ترى سوى الأسود منها،

اختفت ألوانها المبهجة،

وحلّ محلها ظلام لم تحلم سوى بشروق الشمس فوقه،

تعاظم خذلانها،

وسكنت روحها المنهكة،

سقطت دموعها،

دموعٌ أقسمت ألا تخونها،

لكن تلك المرّة،

خانتها، وغادرت من شدّة ألمها،

تأوّهٌ،

لا يتوقف،

وجفون قرّرت أخيرًا أن تُريحها من تلك الحياة،

فأغلقت ببطءٍ شديد،

وحياتها تمر أمام عينيها كشريطٍ سينمائي،

فكان آخر ما رأته صورةً لمن ضحّت بكل هذا لأجلهم.

ها هي خسرت نفسها،

وقد ضحّت بنفسها في النهاية،

فكان جزاء الأمان،

طعنة يدٍ خسيسة،

لا تعرف معنى الوفاء.


يتبع...

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة عفاف شريف، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة