رواية جديدة محسنين الغرام لنعمة حسن - الفصل 8 - الأحد 25/5/2025
قراءة رواية محسنين الغرام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية محسنين الغرام
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة نعمة حسن
الفصل الثامن
تم النشر الأحد
25/5/2025
بعد الفراق، يستوقفك الماضي جاعلًا من رأسك ساحة حرب. ينهال عليك بالذكريات التي اندثرت وزال أثرها منذ قرون، يضع أمام عينيك كل كلمة، كل عناق، كل تربيتة يد، كل ابتسامة، كل ذكرى حارقة ومؤلمة. وكأنه يهزأ بك، يتحداك، يستفز صمودك لكي يجعلك تعض على أناملك ندمًا وحسرة .
بعد الفراق ستشعر وكأنك مغيب، غارق في كابوس مظلم تنتظر أن ينتشلك أحدهم وينجو بك من ظلماته، تكون فيه رافضًا لكل شيء، ضاربًا بكل إثبات ودليل عرض الحائط.
بعد الفراق سيتوقف بك الزمن لقليل، ستراجع حساباتك، ستجد نفسك داخل نفق مظلم من كل جوانبه ، ستبدو لك الحياة حينها كإعصار يُلقي بك إلى كل جانب، وحينها ستتراءى لك الكثير من الأسئلة القاسية التي لن تجد لها جوابًا يلائم حجم الوجع الساكن في صدرك.
❈-❈-❈
كانت شاردة، صامتة، هادئة ومستسلمة.
ظاهريًا كان التسليم والقبول والرضا هو ما يرتسم على صفحة وجهها الشاحب، أما في جوفها.. في عمق قلبها.. كانت لاتزال مصدومة، تحاول استيعاب الأمر وتقبله ولكن دون فائدة..
قلبها يبكي، وروحها تئن، وعقلها يشتعل بالفكر والتساؤلات التي لا ترحم.
هل ذهبت حقًا ؟!
من قاموا بدفنها وأهالوا فوقها التراب هي خالتها ؟! أمها التي لم تعرف أمًا سواها !! ملجأها وملاذها والصدر الحنون الآمن الوحيد !! هل ماتت فعلا ؟!
في الحقيقة كل شيء حولها يقول نعم .
صوت القرآن الذي انبعث من المذياع، وعبق البخور الذي فاح في الأرجاء، وتلك المقاعد التي صُفت بجوار بعضها البعض ليجلس فوقها المُعزيين والذين اتشحوا جميعًا بالأسود وعَلت المواساة والشفقة وجوههم.. كل تلك كانت إجابات لسؤالها الذي لا تريد أن تجد له إجابة.
نعم، لقد ماتت.
نظرت إليها زينب التي كانت تجلس بجوارها وربتت على يدها وهي تقول بصوتٍ خفيض:
ـ نغم يا حبيبتي ، قومي ارتاحي شوية انتي تعبانة !
لم تُجب، وظلت تحدق في الجميع بتيه، تبحث بينهم وفي وجوههم علها تجدها، علها تعي من ذلك الكابوس قبل أن تفقد وعيها.
تنهدت زينب بشفقة وهي تشاهد حالة الضياع التي غمرتها، وأحاطتها بذراعها وأخذت تمسد ذراعها بحنان وهي تحاول تخفيف ألمها قائلةً:
ـ أنا عارفة إن الفراق صعب والله، وعارفة انتي متعلقة بيها ازاي، بس هي دلوقتي في مكان أحسن يا حبيبتي، ربنا يشفع فيها مرضها ان شاء الله.
تلك كلمات كان ليستوعبها المرء إن كان عقله حاضرًا، ولكن إن كان مغيبًا هل ستمر على عقله أساسًا ؟! هل سيقتنع بها ؟! هل ستواسيه ؟! بالطبع لا . ستكون مجرد عبارات لا طائل تحتها، كلام لا يسمن ولا يغني من جوع.
زفرت زينب وهي تشعر بالأسى حيالها، ونهضت ثم دخلت المطبخ لكي تُحضر القهوة لتلك النسوة اللاتي حضرن من الحارة ليقدمن واجب العزاء في عائشة.
وبمجرد أن دلفت المطبخ أخرجت هاتفها وقامت بالاتصال بنسيم التي أجابتها بمنتهى الهدوء:
ـ نعم يا زينب ؟!
فأجابتها زينب بتوتر وقالت:
ـ نسيم.. مش عارفه أقوللك إيه بس انتي لازم تيجي العزا .. لو مش عيشة الله يرحمها يبقى عشان نغم.
ـ متقلقيش يا زينب ، جاية .
أنهت زينب الاتصال وهي تتمتم باستياء :
ـ عديها على خير يا رب .
❈-❈-❈
في السرادق المقام به العزاء بجوار المنزل .
لم يختلف حال حسن كثيرًا، حيث كان جالسًا والانهزام واضحًا عليه، كتفاه مرتخيان وكأنما كُسرت همته ، مطأطئ الرأس بعجز ، وباهت الوجه.
يلتزم الصمت منذ تشييع الجنازة، غائصًا ومستغرقًا في همومه وأحزانه ووجعه الذي يحرق روحه.
كان عمر يجاوره بصمت، لم يفارقه منذ علم بخبر الوفاة، وقف معه بدايةً من صلاة الجنازة وتشييعها حتى الفروغ من دفنها .. وها هو الآن يجاوره لتلقي العزاء .. ومن حينٍ لآخر لا يبخل عليه بتربيتة داعمة مواسية على كتفه .
وبجوار عمر جلس سالم الذي لم يظهر على وجهه أي تفاعل ، كان جامد الملامح وكأنما سُرقت تعابيره .. ينظر من فينةٍ لأخرى نحو حسن الذي كان يتقبل العزاء بشرود وانكسار أوضح مدى تعلقه وحبه لوالدته.
وهذا ما جعل سالم يفكر في قرارة نفسه متسائلا !! ماذا قدمت له عائشة أكثر مما كان سيقدمه له هو لو تربى برفقته ؟! هل كل ذلك الحزن لأنه كان يحبها ؟! أم أنه أمرًا طبيعيًا يشعر به كل الأبناء حال مفارقة آباءهم !! هل إن هو مات سيحزن حسن من أجله هكذا ؟! هل أولاده.. فريد وعمر ونسيم .. سيحزنون لأجله هكذا ؟! لا يظن .
مال سالم قليلا نحو عمر متسائلا:
ـ بلغت أخوك عشان ينزل ياخد بخاطر أخوه ؟!
نظر إليه عمر بتعجب ثم قال:
ـ والله هو اللي أنا متأكد منه انه جاي ، لكن جاي يعزي مين بالتحديد دي اللي أنا مش عارفها .
رمقهُ سالم بسخط كالعادة وصمت، ثم نظر إلى نادر الذي يجاوره وقال:
ـ عاوزك تمشي في اجراءات تغيير الاسم من بكرة يا نادر ، خلاص مبقاش له داعي نستنى أكتر .
أومأ نادر موافقّا بصمت، وقال:
ـ اللي تشوفه يا باشا.
❈-❈-❈
لقد أعطت نفسها ميثاقًا أن تتخلى عن هذا السواد حين تخسر أحد أسبابه أو كلاها ، ووعدت نفسها كذلك أن تحتفظ بما تبقى من دموعها وأنها لن تهدرها مجددا على من لا يستحق.
واليوم يوم الوفاء بالوعد ..
لذا تخلت عن كل الملابس باللون الأسود وقررت أن تستعين بالملابس التي اشترتها رفقة عاصم ؛ فاختارت بدلة نسائية باللون الوردي الفاتح ، وزينت وجهها بلمسات جمالية ملفتة، حيث اهتمت بتحديد عينيها بمخطط عين أسود، ولونت شفتيها باللون الوردي .
خرجت من الغرفة ومرت بغرفة المعيشة حيث كان عاصم جالسًا يتابع شيئا ما بواسطة حاسوبه ، فنظر إليها وظل يتفرسها بصمت للحظات ثم قال:
ـ انتي هتروحي العزا كده ؟!
لمحت في عينيه وصوته الاستنكار ولكنها تجاهلته بإيماءة مؤكدة فارتفع حاجبه باستهجان شديد وتساءل مجددا :
ـ ده بجد؟!
ـ أيوة بجد يا عاصم في إيه ؟!
تنهد عاصم بصبر وأخذ يحك ذقنه بهدوء ثم قال:
ـ انتي عارفه في إيه يا نسيم. وعارفة ان اللي انتي لبساه ده ميصحش أبدا .. من فضلك البسي حاجة مناسبة يا إما متروحيش .
نظرت إليه بضيق أوضح مدى تخبطها وانزعاجها من نفسها، وتحدثت وهي تحاول التحلي بثقة وهمية لا وجود لها على الإطلاق وقالت:
ـ لا هروح يا عاصم. وهروح باللي أنا لبساه. مالُه لبسي مش فاهمة !
ـ مفيش حد أبدا بيروح عزا وهو لابس اللون ده يا نسيم ! ومبالغتك في انك عاوزة تظهري قد إيه موتها مش فارق معاكي بالتصرفات دي فهو أكبر دليل على إن العكس صحيح على فكرة .
احتدت نظراتها والتمعت عينيها بقهر ، لم تتخيل أن نواياها شفافة لتلك الدرجة بالنسبة له، ولا أنه قادرًا على قراءتها بهذه السهولة، ونظرت إليه بانفعال وقالت مغيرةً مجرى الحديث تماما :
ـ على أساس إنك بتحاول تدعمني وتقويني وتخليني أخد قراراتي بنفسي بدون ما حد يفرض رأيه عليا ؟؟
أخذ نفسًا يائسًا ثم قال :
ـ بس مش معنى كده اني أشوفك بتتصرفي تصرفات غلط وأسيبك مكملة فيها..
ـ وإيه الغلط في اللي أنا لبساه ؟! اللون ؟! هو مش الحزن في القلب زي ما بيقولوا ؟! طيب أديني أهو رايحة عشان أواسي نغم وأعزيها وأبين لها قد إيه أنا حزينة عشانها .. مطلوب مني إيه أكتر من كده ؟!
ظهر الضيق على ملامحه وقال بإيجاز :
ـ اللي انتي شيفاه صح اعمليه يا نسيم . براحتك .
وأكمل ما كان بصدد فعله وهو يقول :
ـ السواق هيوصلك ويستناكي .
أومأت بهدوء وغادرت تحت نظراته المهمومة ، يعلم أن ما تفعله يعكس جُرحًا عميقًا بقلبها، يعكس ألمًا نازفًا يقبض على دواخلها بقوة، يعكس شعورًا مُرًا بالذنب تحاول تجاهله ونفيه واثبات عكسه .. ويعلم كذلك كيف ستكون ردة الفعل تجاه تلك الحماقة التي ارتكبتها للتو ، وكيف ستتعرض على إثرها للنقد والهجوم ، وكيف سينعكس ذلك عليها .
ولكنه حاول منعها وهي من أصرت ، إذًا فلتواجه .
تنهد مطولا باستياء، ثم قام بإجراء اتصال وقال :
ـ مساء الخير يا أيمن .. إيه الأخبار عندك ؟!
ـ كله تمام يا بوص ، هي تحت عينيا طول الوقت متقلقش .
ـ تمام ، خليها تحت عينيك واوعى تفلت منك ، انت عارف انها مش سهلة .
ـ متقلقش من حاجة ، كل حاجه معمول حسابها .. بس قوللي ، ناوي على إيه بالظبط ؟!
ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتي عاصم وقال بصوت متزن:
ـ ناوي أضرب بيها سالم مرسال الضربة القاضية بس في الوقت المناسب .
ـ يا عيني عليك ، والله كنت عارف من الأول إنك مش بتعمل كل ده من غير سبب .
تنهد عاصم تنهيدة مبتورة ثم تمتم متوعدًا بثقة :
ـ اِتقل عشان اللي جاي أَتقل ..
همهم أيمن قائلا بسخرية :
ـ ممم.. كالعادة الرجل السيجما عاصم الدالي لا يفصح عن مخططاته أو نواياه، على كل حال منتظرين على أحر من الجمر لحظة وقوع الطاغية سالم مرسال وتحطم أسطورة الرجل الذي لا يقهر.
وضحك فضحك عاصم بدوره وقال:
ـ متقلقش، هانت .. يلا خليك في شغلك ولو في أي جديد بلغني.
وأنهى الاتصال وأخذ يحدق في الفراغ من حوله وهو يتخيل كيف سيكون رد فعل سالم عندما يواجهه بتلك المفاجأة التي يعدها إليه منذ أشهر سابقة ، وكيف سيكون تأثيرها عليه وعلى العائلة !! مجرد التخيل وحده كان كافيًا ليشعر بالانتشاء يغمره ويخدر كل آلامه .
❈-❈-❈
عادت زينب لتجلس بجوار نغم من جديد وناولتها كوبًا من العصير وهي تقول :
ـ امسكي يا نغم اشربي ده يا حبيبتي.
ـ مش عاوزة يا خالتي زينب.
ـ طيب عشان خاطر خالتك زينب تشربيه ، انتي من امبارح مدخلش جوفك بؤ مية حتى .. امسكي حبيبتي الله يهديكي .
تحاملت نغم على ضيقها، وأخذت منها الكأس وتجرعت منه جرعتين ثم أعطته لها مجددا، فتنهدت زينب وهي تلتقط منها الكأس ثم أسندته إلى جوارها وهي تقول:
ـ شفتي حبايب المرحومة كتير ازاي ؟! كلهم جايين يحضروا عزاها وبيدعوا لها بالرحمة ، الله يرحمها كانت محبوبة وكلهم بيقولوا في سيرتها كلام حلو أوي ، دي حاجه تفرحك يا حبيبتي وتطمنك انها في الجنة إن شاء الله .
أومأت نغم بموافقة وأسندت رأسها التي تعج بالفوضى على كتف زينب الذي كان أبرح من الكون كله بالنسبة لها في تلك اللحظة.
وفجأة .. اقتحم البيت فتاة حسناء، ترتدي رداءًا باللون الوردي جعل الأنظار كلها تلتفت نحوها .
نظرت إليها نغم بصدمة لم تتلقى مثلها من قبل ، وأخذت تحدق فيها إلى أن اقتربت ووقفت أمامها وهي تقول بصوت مهتز :
ـ البقاء لله يا نغم .. شدي حيلك.
طالعتها ببطء وتفرست حُلتها الوردية بهدوء وبطريقة أشعرت نسيم بالسوء، ثم توقفت عند وجهها الملطخ بالقسوة، بالشماتة والحقد .
لم تستطع التحمل أكثر، لم تستطع النظر إلى وجهها وعينيها المليئتين بالجحود أكثر ، وهرولت إلى غرفة خالتها وأغلقت الباب خلفها وارتمت فوق فراشها بانهيار .
وقفت نسيم تحاول تدارك الأمر وعدم اظهار حرجها وتوترها، ونظرت حولها وهي تحاول تفادي هاتين العينين اللتين تتفحصانها بطريقة أثارت خجلها من نفسها .
حينها نطقت زينب بصوت مشبع بالخزي والخذلان وقالت:
ـ جاية ليه ؟! جاية تشمتي ؟! جاية تقولي لنا انه مش فارق معاكي وانك فرحانة إنها ماتت ؟! أول ما تلبسي ملون يكون يوم موت أمك يا نسيم ؟!
ـ مش أمي .
نطقتها نسيم بقوة وأصرت عليها، فتابعت زينب وهي تنظر إليها بضيق وامتعاض يعلو ملامحها :
ـ للأسف محدش بيهرب من حقيقته مهما عمل ودي حقيقتك .. عيشة الله يرحمها أمك سواء رفضتي أو قبلتي .
وتابعت وهي تتفحصها مجددًا بنفور وتوقفت عند عينيها اللتين تضجان بالحقد وقالت :
ـ تعرفي إن النهارده بس بصمت بالعشرة إنك بنت أبوكي ؟!
قطبت نسيم جبينها بتعجب، وظهر في عينيها استياء شديد من قول زينب التي اقتربت منها أكثر وهمست إليها بكل ما تحمل من قسوة :
ـ لأن الجحود اللي أنا شيفاه دلوقتي في عينيكي عمري ما شُفته غير في سالم مرسال !
وابتعدت لقليل تطالعها مرة أخرى بتقزز وقالت:
ـ يا ريتك ما جيتي.. على الأقل وقتها كنت هنلاقي لك ألف مبرر، لكن مجيتك بالمنظر ده ملهاش ولا مبرر .
تركتها واتجهت نحو غرفة نغم، طرقت الباب ودخلت وصفقت الباب بوجه نسيم التي أجفلت من حدتها.
ووقفت تحاول لملمة كرامتها التي أهدرتها زينب للتو على مرأي ومسمع من الجميع ، ثم استدارت لتغادر وهي تشعر بنظرات الحضور وهمساتهم وكأنها سهام مسمومة تخترق جسدها وقلبها بدون هوادة .
خرجت مسرعة ونزلت السلم وهي تشعر بساقيها غير داعمتين لها بالمرة، ولا حتى تلك العصا التي ترتجف إثر رجفة جسدها وأحست وكأنها ستتعثر وتسقط فتهاوت جالسة فوق أحد رجات السلم وهي تحاول السيطرة على تلك الحالة التي انتابتها .
...
كان العزاء الخاص بالرجال قد انتهى وتلقى حسن وبجواره عمر ووالدهما واجب العزاء قبل انصراف الحضور ..
وقف حسن مطرِق الوجه يائسًا، وجهه يضج بالكآبة، وينضح الإرهاق من عينيه.
اقترب منه سالم، ووقف أمامه مباشرةً وأسند كفهُ فوق كتف حسن فاضطر حسن للنظر إليه .. نظراتهما كانت تحمل حديثًا ثقيلا ، وعرًا كطريق غير ممهدة.
ـ شد حيلك يا حسن ..
أومأ حسن ناطقًا بهدوء:
ـ الشدة على الله .
ضغط سالم بقبضته فوق كتف حسن وقال بنبرة راسهة:
ـ انت من النهارده مش لوحدك، أنا موجود في أي وقت تحتاجني كلمني وأنا أحل لك أي مشكلة بالتليفون ، وعمر أخوك أهو جنبك ومش هيسيبك .. كلنا في ضهرك .
إن كان الموقف يسمح لانفجر ضاحكًا، ولكنه اكتفى بالتحديق فيه بصمت والإيماء لكي يتخلص من ذلك الحديث عديم الجدوى .
وبينما كان سالم يستعد للصعود إلى سيارته استوقفه خروج نسيم من المنزل بحالة حقها الاندهاش والتأمل.
كذلك حسن وعمر اللذان كانا يطالعانها باستنكار يشوبه الازدراء .
وكان أول من علق هو سالم الذي استوقفها بنبرته الجهورية قائلا بغلظة مألوفة لأذنيها:
ــ نسيم ! انتي إيه اللي عملاه في روحك ده ؟! مكانش عندك حاجة تتلبس غير الملون ده !! انتي جاية عزا ولا فرح ؟!
كانت توقن تمام اليقين أنه لن يتوانى عن انتقادها، فهذه هوايته المفضلة أساسًا ..
نظرت إليه وحاولت استجماع شجاعتها والسماح للروح المتمردة بداخلها أن تظهر وتأخذ فرصتها، ولكنها كالعادة بمجرد أن نظرت إلى عينيه الطاغيتين خارت قواها وذابت ثقتها وتبخرت، وظهر الخوف في عينيها وفي نبرة صوتها حين قالت :
ـ أنا جيت عملت الواجب وعزيت نغم بغض النظر عن اللي أنا لبساه.
رأت عدم الرضا جليًا في عينيه وهتف بحدة :
ـ هتفضلي طول عمرك غبية مبتفكريش.
ظهر الغضب على ملامحها ووجهها المتجهم البائس، وقبل أن تضيف حرف رأت حسن ـ شقيقها التوأم المفترض ـ يتحرك من جوار والدها ويقف أمامه .. في مواجهتها تماما .. وينظر إليها بطريقة أثارت في نفسها ضيقًا لم تعلم سببه .
اهتز قلبها للحظات، ووجدت نفسها تنظر إليه وكأنه كائن خارق للمنطق، للحقيقة، للواقع.
هذا الطويل .. حاد القسمات، قاسي العينين .. ليس بابن والدها فحسب، ولا ابن أمها فحسب .. هذا الرجل .. الذي ينظر إليها
نظرات بعثت الريبة في نفسها .. توأمها ! نصفها الآخر !!
اضطرب داخلها، وشعرت بغصة لعينة تتشكل في حلقها فتدميه ، وجعلتها تنقم على كل شيء أكثر ، وتحقد على والدتهما أكثر وأكثر ..
وبصوت عميق تحدث مباشرةً ليمس فؤادها، ويخترق الفوضى في رأسها :
ـ بغض النظر عن منظرك ده ألف شكر الرسالة وصلت. لكن في سؤال ولازم أعرف إجابته منك .
ابتلعت ريقها بوجل وهزت رأسها متسائلة فقال :
ـ أمي .. أقصد أمنا إن مكانش يضايقك .. الله يرحمها يعني !! جاتلك امبارح الصبح ورجعت من عندك بتموت لكن للأسف معرفتش كده .. قلتي لها إيه ؟!
نظرت إليه بهدوء للحظات سرعان ما تبدد وهي تحاول فهم ما يقصده وقالت باندفاع:
ـ قصدك ايه بسؤالك ده يعني؟ إني السبب في موتها مثلا ؟!
ـ والله على حسب الحوار اللي دار بينكم كان عامل إزاي؟ كان حوار عادي ولا كلام زي السم خلاها تموت بالبطيء من ساعة ما رجعت من عندك.
حاول سالم التدخل خاصةً وأنه يرى نظراتهم المشتعلة المتحفزة وقال:
ـ امشي انتي يا نسيم يلا ..
ـ لأ.. مش قبل ما تقوللي قالت لها إيه ؟!
قالها حسن بإصرار فنظرت إليه نسيم بقوة وهتفت مندفعةً بضيق :
ـ قلت لها الحقيقة من غير تزييف، إنها لا يمكن تكون أمي وإني عمري ما هسامحها ولا هسامح أي حد كان السبب في اللي أنا وصلت له.
أكملت جملتها وهي تنظر إلى سالم وكأنما تقصده بتلك الكلمات وتابعت:
ـ قلت لها إني مش عاوزة أشوفها تاني وإنها بالنسبة لي خالة نغم وبس.
كانت عينيه تضيق بحدة، والغضب يقطر من ملامحه، ثم أغمض عينيه لأنه لم يستطع ابتلاع الغصة في حلقه، وفتحهما فإذ بهما محتقنتين بشدة، وقال :
ـ اطمني ، انتي فعلا مش هتشوفيها تاني خلاص .. البركة فيكي .. بدل ما تحاولي تلاقي لها عذر وتسامحيها سمعتيها كلامك اللي كان السبب في موتها بحسرتها .
هنا نظرت إليه بغضب ونفضت عنها كل غبار الانهزام واليأس وقالت بحدة:
ـ ألاقي لها عذر ؟! هو أنا مكتوب عليا دايما أنا اللي ألاقي أعذار ومحدش يلاقيلي ولا عذر ؟! دايما أنا الغلطانة وأنا المذنبة وأنا السبب في كل حاجه بتحصل، نسيم دايما اللي لازم تتعاقب، وتتحاسب، وتدفع تمن غلطات هي معملتهاش !! ليه المطلوب مني دايما أكون زي ما انتوا عايزين ؟! ليه بتدوا لنفسكوا الحق دايما تظلموا وتقسوا وتخدعوا وأنا اللي لازم أسامح وأضحي وأتنازل ؟!
ونظرت الى والدها الذي كان يراقب ذلك المشهد السوداوي بارتباك وأشارت إليه باصبع الاتهام وقالت:
ـ بدل ما تسألني قلت لها إيه اسأله هي جابت عنواني منين ؟! أنا كنت في حالي لا طلبت منها تجيلي ولا تتكلم معايا .. هي اللي جتلي وكانت بتضغط عليا بطريقتها دي والنتيجة اني قلت لها اللي في قلبي .. لو في حد لازم يتحاسب فالحد ده مش أنا .
وانصرفت من أمامه مسرعة واستقلت السيارة التي انطلق سائقها بها على الفور .
نظر حسن إلى والده نظرات فاح الاتهام منها، فتحدث سالم بهدوء مدافعًا عن نفسه فقال:
ـ أنا كنت عاوز علاقتهم ببعض تتحسن مش أكتر ، قلت يتواجهوا ويحلوا الموضوع بهدوء بدون وسيط .. كانت أمنيتي إن نسيم تسامحها وتسامحني .. وان عيشة تقدر ترجع بنتها لحضنها من تاني .. صدقني يا حسن أنا حاولت أساعدهم وأصلح غلطتي في حقهم هما الاتنين مش أكتر .
لم يجد حسن ما يقوله، وأطلق تنهيدة مستاءة ملغمة بالهم والحيرة ثم سار مبتعدًا لا يعلم إلى أين .
فأشار سالم إلى عمر قائلا:
ـ خليك معاه ومتسيبوش النهارده.
وسار صوب سيارته، استقلها بهدوء وهو ينظر من المرآة الجانبية إلى انعكاس صورة حسن يجاوره عمر باطمئنان ويقول:
ـ هانت يا سالم .. مسيرُه يقبل بيك زي ما قبل بأخوه ، خلاص دلوقتي مبقاش قدامه غيرك .
وتنهد مطولا براحة، ثم أدار محرك السيارة وانطلق عائدًا إلى الڤيلا .
❈-❈-❈
عادت نسيم إلى بيتها. دخلت وهي تحاول إظهار عكس ما تشعر به من ضجر وسخط وغضب ، وشكرت القدر الذي جعل عاصم يغادر المنزل لكي لا يراها بتلك الحالة المثيرة للشفقة .
وبينما هي تتجه نحو الرواق المؤدي لغرفتها فإذ بها تفاجيء به وهو يخرج من المطبخ وبيده قدح قهوة .
تفاجئت بوجوده وتفاجيء هو بعودتها سريعًا بذلك القدر ، ولكن ملامحها والضيق السافر عليها فسرت له كل شيء.
دخلت غرفتها دون أن تنبس بحرف، وصفقت الباب بقوة ثم ألقت عصاها أرضًا بغضب، ونزعت سُترتها الوردية وألقتها بجوارها بغضب أشد وأعتى.
وجلست على حافة سريرها وتشبثت يداها بطرفيه وهي تنظر أرضًا بغضب ، وبدأت كلماتهم ونظراتهم القاسية المتسلطة تتدافع نحوها كما تتدافع الدموع قبل أن تتعجل بالهرب من عينيها الآن .
أخفضت رأسها وأسندت جبينها على كفها فتهاوى شعرها الأملس إلى الأمام .. مما أخفى وراءه دموع لعينة حُررت من معقلها للتو .
استمعت إلى طرقات عاصم على بابها، فأخذت نفسًا بضيق وهي تقول:
ـ لو سمحت يا عاصم مش عاوزة أتكلم مع حد دلوقتي.
لم يعقب، وظنته قد غادر ولكنه أدار مقبض الباب غير آبهًا برفضها ، وتقدم نحوها بتمهل و رويّة ، بينما هي تخبيء دموعها واحتقان وجهها خلف خصلات شعرها التي تخفي معظمه.
تنهد وهو يجلس بجوارها على حافة فراشها كما تفعل ، ثم جمع شعرها الذي يخفي وجهها ـ أو دموعها ـ وأعاده ليستقر على ظهرها وهو يقول:
ـ بس أنا متأكد إنك عاوزة تتكلمي .
رفعت رأسها قليلا وهي لازالت تخفي نظراتها المنهزمة عنه، فوجدته يقترب منها أكثر حتى بات ملتصقًا بها، ومد يده نحو ذراعها وبخفة دفعها لتستقر رأسها على صدره.
ـ أوقات يا نسيم بيتهيأ لنا إن السكوت حل ، خصوصا لو خايفين نواجه نفسنا باللي جوانا .. خايفين اللي قدامنا يعرف إحنا بنفكر في إيه وإيه اللي شاغلنا ، فبنسكت ونخبي اللي جوانا ويفضل جوانا .. لكن بعد يوم ، أو اسبوع ، أو حتى شهر .. لا بد اللي خبيناه وكتمناه ده يبان ، وللأسف بيبان في وقت غلط، وبطريقة غلط ..
شعرت بالكلمات هادرة تصلها من جانبها ، حينها أدركت كيف تستريح وجنتاها على شيء ساخن وصلب ، على صدره .. بالقرب من قلبه .
انزوت بين ذراعيه أكثر، واقتربت لا إراديًا ، وكأنها ترجوه بصمت لكي يحتوي فوضاها بالكامل ، وهو كان سعيدًا جدًا بذلك القرب ، وبذلك الهدوء الذي يحيطهما ويسمح له أن يستشعر نعمة وجودها بين يديه .
استمع إلى تنهيدتها التي استقرت على صدره بينما هو كان يحيط وجهها بيده ، واليد الأخرى كانت ترتكز فوق ذراعها لكي لا يسمح لها بالابتعاد .
لا تعرف كيف غاصت بوجهها داخل كفه للحظة خاطفة، وهذا كل ما سمحت لنفسها به فشعرت وكأنما شاع شيء في الهواء حولهما ، شيء حار بدل جو الغرفة الصغيرة .. وجعل كل أجراس الإنذار تدق فوق رأسها. فحاولت الابتعاد ولكنه كان يسند رأسه فوق رأسها بإحكام منعها من الانفلات من بين قبضته، وهمس إليها بنبرة بدت غريبة وقال:
ـ خليكي متبعديش.
توقفت عن الحركة، عن التململ، عن التفكير، وأغمضت عينيها مجددًا واستسلمت لمشاعر كادت تخرجهما عن رشدهما.
شعرت بلمساته ترتفع وتهبط فوق ذراعها وهو يتسائل بنفس النبرة الغريبة وقال:
ـ احكيلي أي حاجه حاسة بيها حتى لو مش عارفة ترتبي كلامك .
ـ أنا.. أنا حاسة إني ندمانة ، مكانش لازم أعمل كده ..
تنهد وقال :
ـ لازم تندمي لأنك اتصرفتي عكس طبيعتك، كنتي مُصرة تثبتي حاجة ملهاش وجود أصلا علشان كده بالغتي وعملتي الي عملتيه. لكن عالعموم اللي حصل حصل خلاص ومبقاش ينفع نتراجع عنه ..
لم يتوقف عن تمسيد ذراعها ولم تعد تفكر في شيء سوى بأنها ترغب في البقاء ها هنا ..
ـ أنا حاسة بالذنب ، ومش قادرة أتقبل فكرة إنها ممكن تكون فعلا ماتت بسببي .. كلهم قالوا كده .. ونظراتهم قالت أكتر من كده .
ابتعدت فأفلتها، ونظرت إليه بعينين محتقنتين وهي تتساءل عله يُجِبها:
ـ هو أنا فعلا السبب في موتها ؟!
وبدأت بالبكاء والارتجاف بين يديه وهي تقول :
ـ أنا مش هقدر أتحمل ذنب زي ده ابدا.
مد يده ومسح دموعها وهو يتفرس ملامحها عن قرب وقال ممسكًا بيديها ويشدد من ضمته عليهم بإحكام :
ـ لاا .. انتي مش السبب ، متشيليش نفسك فوق طاقتها ، متسمحيش ليهم مرة تانية يحملوكي ذنب مش ذنبك ولا يعاقبوكي على نتايج أفعال غير أفعالك .. هي ماتت لأن ده قدرها.. تعددت الأسباب والموت واحد .. سواء حصلت المواجهة دي بينكم أو لأ كانت بردو هتموت ، فانتي مش السبب ولا حاجه .. متحسسيش نفسك بالذنب .
نظرت إليه وأومأت بارتياح بعد أن استمعت إلى ما هدأ من روعها قليلا وجعل تلك النيران المشتعلة بقلبها تخمد تدريجيًا ، فطالعته قائلة بنبرة أقرب للانهزام :
ـ ممكن تخليك معايا النهارده ومتسافرش ؟!
مرر إبهامه على بشرتها قائلا بنبرة يفيض منها الحنان:
ـ من غير ما تقولي أنا أجلت كل حاجه لبعدين علشان أفضل جنبك.
أعربت عينيها عن كل الامتنان الموجود في الكون ، وهمست وهي تنظر داخل عينيه قائلة:
ـ شكرا .
ربت على يدها بهدوء وقال بابتسامة صافية:
ـ أنا هسيبك ترتاحي دلوقتي وهخلص شوية شغل على اللابتوب .. هكون موجود في الليڤينج لو حسيتي انك مش عاوزة تنامي أو عاوزة تتكلمي .
تنهدت وهي توميء ببطء، فنهض مضطرا ومال نحوها من جديد، ولثم جبينها بقبلة بث فيها كل معاني الدفء والاحتواء ، وغادر الغرفة وتركها تحاول جمع شتاتها من جديد .
❈-❈-❈
في المساء ..
كانت نغم ترقد فوق سرير خالتها ، تضم ركبتيها للأعلى نحو صدرها كوضع الجنين ببطن أمه ، تلك الوضعية التي اتخذتها لا إذراديًا عندما شعرت برغبتها في الحماية، في الدفء ، في الأمان .
وللأسف الشديد.. لا تملك أحدًا يمكنه أن يبثها أيًا من هذه المفقودات .
تحتضن رداء كانت ترتديه عائشة قبل وفاتها، وتقربه من أنفها بقوة ، تحاول إيهام نفسها أنها لا زالت موجودة ، لا زالت بقربها . علها تستطيع الفرار من تلك الوحدة والوحشة التي هلكت فؤادها .
الآن تتذكر كل موقف جمعهما ببعضهما ، كل كلمة كانت تقولها خالتها ، كل ضحكة، كل بسمة، كل لحظة أثارت فيها ضيقها وانزعاجها، وكل مرة كانت سبب في سعادتها.
تتذكر تلك التهويدة التي كانت تغنيها لها قبل النوم ، وبعدها تطبع على جبينها قبلة حانية ثم تدثرها بالغطاء فتغفو وهي آمنة مطمئنة بوجودها.
طرقت زينب الباب ثم دخلت وهي تحمل صينية وضع فوقها طعامًا ، ووضعتها على طاولة صغيرة بالقرب منها ثم جلست بجوار نغم على السرير وهي تربت على ظهرها وتقول :
ـ يلا يا نغم عشان تاكلي .
اكتفت بهزة رأس رافضة جعلت زينب تتنهد بيأس وهي تقول:
ـ يا بنتي يعني هي قلة الأكل هتجيب اللي راحوا ؟! عشان تعرفي تصلبي طولك حتى . يلا عشان خاطري .
ـ مش عاوزة حاجه متغصبيش عليا .
طالعتها زينب بقلق ، فهي إلى الآن لم تذرف دمعة واحدة وكأن دموعها قد تحجرت تماما ، تبدو متماسكة وثابتة بدرجة مخيفة ومقلقة .. قد جمدتها الصدمة ومنعتها من البكاء وهي تعلم أنه ليس صحيًا أبدا .. فوضعت يدها على رأسها وبدأت بقراءة بعض من آيات القرآن علها تبث السكينة في نفسها فتنساب دموعها المقيدة .
أغمضت نغم عينيها وأولت كل تركيزها للآيات التي ترددها زينب وشعرت ببعض من السلام يحيط بها وقالت:
ـ ينفع تخليكي معايا النهارده عشان خاطري ؟!
ربتت زينب على رأسها بحنو وهي تجاهد دموعها وقالت:
ـ متقلقيش يا حبيبتي أنا مش هسيبك لوحدك .
إطمئن قلبها بدرجة كانت كافية لجعلها تستسلم للنوم دون أن تحمل هم وجودها مع حسن بمفردها .
رن جرس الباب ، فنهضت زينب وأغلقت الباب خلفها، ثم ذهبت لتفتح الباب لتتفاجيء بفريد .
اتسعت عينيها من فرط الصدمة ، وباغتته بعناقٍ حار فاجئه ولكنه يقدر مشاعرها الأمومية تجاهه فربت على ظهرها بتقدير وقال:
ـ والله وحشتيني يا زينب .
ابتعدت زينب ونظرت إليه بعينين ترقرق بهما الدمع وقالت وهي تجذب يده للداخل وتقول:
ـ حمدالله على سلامتك يابني .. وصلت إمتا ؟
ـ حالا .. من المطار على هنا فورا.
كان يبحث عنها بعينيه فقالت زينب :
ـ هي في اوضتها بتحاول تنام .. اتفضل ادخل وأنا هناديها .
أسرعت زينب إلى غرفة نغم، فيما بقي هو يحدق في المكان بضيق وانزعاج لمجرد أنه تخيل أنها تعيش في هذا البيت برفقة حسن .
دخلت زينب الغرفة، واقتربت من نغم وهزتها برفق وهي تقول:
ـ نغم .. في حد جاي يعزيكي يا حبيبتي.
أجابت نغم دون أن تفتح عينيها :
ـ مش عاوزة أشوف حد خلاص.. قابليهم انتي .
ـ مينفعش يا حبيبتي ده جاي عشانك انتي مش عشاني .. ميصحش .
نهضت بتباطؤ كميتٍ لألف عام ، وسارت نحو الباب بخطوات آلية ، ثم غادرت الغرفة وخرجت إلى غرفة الاستقبال.
وجدته أمامها، حاضرًا ، واقعًا ، حقيقة ..
يقف بنفس الثبات اللعين الذي امتاز به دومًا عن كل الرجال اللذين رأتهم، ينظر إليها بنفس اللهفة ، بنفس الحنان ، بنفس التوق .
رآها تتقدم منه شاحبة الوجة، غائرة العينين، نحيلة الجسد بطريقة مثيرة للحزن وليست الشفقة .
فقطع الطريق إليها ، لم ينتظر أن تصله ، سعى إليها بدوره لأنه يعرف أن خطواتها الميتة لن تسعف شوقه المتأجج .. يريدها بين يديه حالا .
توقفا في نقطة التقاء وبدون أن يتكبد أيًا منهما عناء البدء في الحديث كانا قد تعانقا بقوة جعلت كل شيء ذو قيمة يتلاشى أمامهما الآن .
ضمها بقوة، وأحكم ذراعيه حول خصرها المفقود ، ود كثيرا في تلك اللحظة لو أن الزمان توقف بهما وسمح لهما بمداواة كل ألم بعناق كهذا .. وقتها ستبرأ كل الآلام . يثق بذلك .
أعادها حضنه للحياة ، للواقع ، وجعلها تطفو من قاع الصدمة فوق سطح القبول والمواجهة .. فذابت دموعها المتجمدة وأبحر ثباتها وتماسكها ، وغاصت نغم بجوف آلامها حتى وصلت إلى أعمق نقطة .
لم يكن بكاءًا عاديًا ، كان صراخًا مكتومًا .. أنين ممزوج بالحسرة .. انهيار بصورة أكثر بشاعة .. بكاء غادر قلبها واختلط بآهاتٍ مكسورة ..
لم يحسن إفلاتها ، لم يرغب أساسا في ذلك .. فمن الصعب أن يتخلى عنها أو يحرمها من راحة لحظية مؤقتة بين ذراعيه .
هذَت في وسط بكاءها بكلمات لم يتفهمها كاملا ولكنه استطاع تمييز بعضها :
ـ خالتي ماتت يا فريد .. ماتت وسابتني لوحدي ، خلاص مبقاش ليا حد بعدها .
فرق عناقهما لكي ينظر إليها و قال بثقة :
ـ أنا جنبك ومعاكي يا نغم ومش هسيبك .. انتي مش لوحدك .
كان فقدانها للوعي يبدو وشيكًا للغاية ، فسحب يدها وأجلسها فوق مقعدٍ وجلس على آخر بجوارها وهو يميل نحوها ممسكًا بيديها الباردتين بين يده ويدلكهما وهو يقول :
ـ ممكن تهدي عشان انتي شكلك تعبانة جدا .
هنا تدخلت زينب التي تنتحب بصمت تأثرًا بحالتها وقالت:
ـ هي من امبارح مأكلتش خالص .
نظر إليها بلوم وهو يقول :
ـ معقولة يا زينب ! و سيباها كده ؟!
ـ حاولت معاها والله مش راضية .
تنهد وهو يقول آمرًا :
ـ هاتي لها عصير الأول وجهزي لها تاكل حالا ..
وعاد بعينيه الى نغم وقال:
ـ ممكن متعنديش على نفسك تاني ؟! أنا مقدر انتي حاسة بإيه بس برغم الحزن لازم الحياة تستمر ..
نظر إلى عينيها الجميلتين .. الحزينتين .. وهز رأسه متسائلا منتظرا موافقتها فأومأت فربت على يدها باستحسان وقال :
ـ يلا اشربي العصير ده الأول وبعدها تاكلي وتسمعي كلام زينب .
نظرت إليه بهدوء ، ونما على طرف لسانها سؤال ولكنها امتنعت عن قوله، ليجيبها هو مدركًا ما يجيش في نفسها وقال بهدوء :
ـ الوقت حاليا متأخر ومش هينفع أفضل هنا أكتر من كده .. لكن هشوفك تاني .. اتفقنا ؟
أومأت بصمت فتابع :
ـ خلي بالك من نفسك كويس، وزينب هتفضل معاكي الليلة ..
هزت رأسها مجددا فربت على يدها مجددا بمواساة وهو يقول بنبرة حنونة :
ـ شدي حيلك يا نغم .
سالت دمعاتها وهي تهز رأسها وتقول :
ـ إن شاء الله.
تنهد ثم نهض وهو يشعر بالسوء لأنه سيتركها في تلك الحالة، ولكنه مجبر أن يغادر قبل أن يصل حسن ويجده ..
لا داعي لكي يثير ضيقه وسخطه في مثل تلك الظروف !
وسار نحو الباب فلحقت به زينب فقال:
ـ خلي بالك منها يا زينب ومتسيبيهاش ، خليكي معاها في نفس الاوضة اوكي ؟!
ـ متقلقش مش هسيبها ..
زفر مستاءا بقلق وهو ينظر إلى نغم التي تعلقت عيناها به وقال :
ـ لو احتاجت أي حاجه بلغيني فورا .. وأنا هصبر يوم ولا اتنين وبعدها نشوف هتقعد فين بعيد عن هنا .
ـ ربنا يسهل إن شاء الله.
ـ يا رب ، بكرة عاوز أشوف نسيم .. مش عارف بصراحة أعزيها ولا أقولها إيه .. الموضوع معقد ..
احتدت نظراتها ونظرت إليه بغضب وقالت:
ـ لا متشيلش هم نسيم هي مش مستنية تعزية من حد ..
ـ قصدك إيه ؟!
همست بضيق لكي لا تسمعها نغم وقالت:
ـ نسيم جت العزا وهي لابسة وردي ومتشيكة وكأنها رايحة فرح، دي يوم كتب كتابها معملتهاش، وكأنها جاية تشمت في موت عيشة الله يرحمها ، بصراحة أنا لو من نغم كنت طردتها .
حك جبهته بضيق وهو يزفر زفيرا مستاءا وقال :
ـ أنا دلوقتي بس تأكدت إن صلة القرابة بينها وبين نغم حقيقية .. الاتنين بيتصرفوا تصرفات خارقة للمنطق .
هز رأسه بخفه ثم أومأ بتمهل وقال :
ـ على العموم هتكلم معاها .. المهم دلوقتي خلي بالك من نغم هي محتاجالك أكتر من أي حد .
ـ متقلقش نغم في عينيا .
أومأ مبتسما بتقدير و ود وقال:
ـ شكرا يا زينب .. يلا تصبحي على خير.
استدار ونزل درجات السلم ، وبينما هو بصدد الخروج من المبنى تفاجأ بعمر وحسن اللذان يقفان أمام بعضهما البعض ويتحاوران .
تفاجأ عمر برؤيته ، فأسرع نحوه واحتضنه قائلا :
ـ إيه ده انت وصلت إمتا ، أنا كنت لسة هرنلك .
ربت فريد على ظهره باشتياق وهو يقول :
ـ من شوية .
كان حسن يطالعهما وهما يتعانقان كإخوة مثاليين .. وهذا ما أثار ضيقه لسبب يجهله .. وأشاح بوجهه وهو يدس يديه في جيب سترته متصنعا اللا اكتراث.
ولكن فريد نظر إليه ، ولسبب لا يعرفه أيضا شعر بوجوب مواساته وتعزيته ، فسار نحوه خطوات قليلة ، ثم وقف أمامه بهدوء و مد يده نحوه ليصافحه وهو يقول :
ـ البقاء لله .
وقف حسن يطالعه بصمت ، ثم نظر إلى يده الممدودة بصبر ونزع يده من جيبه أخيرا مصافحًا أخاه ، قائلا :
ـ الدوام لله وحده .
أخذ عمر يطالعهما وهما يتصافحان وتشعب الأمل بداخله ورسم أمامه طريق يبعث على التفاؤل وقال باندفاع كعادته:
ـ إيه رأيكم لو نقعد مع بعض احنا التلاتة قعدة اخوات ظريفة كده في أي مكان ؟
ليجيبه حسن قائلا :
ـ لا معلش مش هينفع ، أنا واقف على رجليا من الصبح ومحتاج أرتاح ، اتفضلوا اقعدوا مع بعض قعدة الاخوات الظريفة انتوا ، انما أنا مش هعرف .. عن اذنكم .
وتركهما ودخل المبني بينما وقف فريد يرمق عمر بغضب وضيق وهو يقول :
ـ قعدة اخوات ظريفة إيه انت كمان ؟! هو أي كلام وخلاص ؟!
ـ مانا حاولت ألطف الجو يعني .. في الأول وفي الآخر هو أخونا بردو ..
زفر فريد بضيق شديد وقال :
ـ قدامي يا عمر مش ناقصني غباءك انت كمان ..
واستقل سيارة عمر ثم قال آمرًا :
ـ خلينا نروح البيت عندي بلاش الڤيلا ..
أومأ عمر موافقا وقال :
ـ أنا راشق عندك الليلة .. عاوزين نقعد مع بعض قعدة اخوات ظريفة كده..
ـ تاني ؟
ضحك عمر عاليا فضحك فريد بخفة وقال ساخرا :
ـ الجفاف الأُسري يعمل أكتر من كده أنا عاذرك .
ونظر من نافذته المجاورة وهو يسحب نفسًا ثم يزفره بهدوء ، سامحًا لهواء بلاده أن يتغلغل إلى ثنايا روحه من جديد .
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة نعمة حسن، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية