رواية جديدة محسنين الغرام لنعمة حسن - الفصل 9 - الثلاثاء 27/5/2025
قراءة رواية محسنين الغرام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية محسنين الغرام
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة نعمة حسن
الفصل التاسع
تم النشر الثلاثاء
27/5/2025
~ ضرب من المستحيل ~
بعض الآلام لا يعتادها القلب، ولا يُهذّبها التكرار، ولا يُطفئها الزمن.
بل تتسلل إلى أعماق الروح، تغزوها بصمت، وتحفر بها ممراتٍ لا تُردم.
تستقر هناك، لا لتُنسى، بل لتقيّدك من الداخل، وتصوغ منك نسخة بصوتٍ خافت، ووجعٍ لا يفنى.
❈-❈-❈
بعد يومين من وفاة خالتها قرر أن يهاتفها، لا بد أن يلتقيا فلديه الكثير ليحدثها عنه، وبالرغم من أنه لازال يشعر بالخوف من لقائهم الأول بعد غياب ولكنه حسم أمره وأخمد ذلك البركان الثائر الذي اندلع بين ضفتيّ عقله واتصل بها.
وكأنها كانت تنتظر اتصاله ، فأجابته على الفور ولكنها أبقت على صمتها طويلا حتى سمعته يطلق زفرته المستاءة كالعادة وأعقبها بقوله:
ـ عاوز أشوفك يا نغم ، في حاجات كتير لازم نتكلم فيها ..
ـ وأنا كمان عاوزة أشوفك .
نطقتها بصوت ميت لا روح فيه، ولكن الحزن به لم يختفِ ولم يُمحَ أثره .
ـ طيب هشوفك إزاي ؟ ينفع أعدي عليكي دلوقتي بالعربية أخدك؟
استمع لصمتها الحائر ثم إلى تنهيدة مثقلة ومن بعدها أجابت:
ـ ماشي .. هستناك .
ـ تمام .. مع السلامة .
أنهى الاتصال واستدار على الفور ليتفاجأ بعمر الذي يقف خلفه مبتسمًا، مستندًا بذراعه إلى الطاولة وهو يأكل تفاحة ثم قال غير آبهًا بفمه المملوء :
ـ أيوة يا سيدي .. الناس حظوظ فعلا .
طالعهُ فريد بحنق وأردف بجدية لا مناص منها :
ـ متتكلمش وانت بتاكل يا وضيع ، وبعدين انت ناوي تطول هنا ولا إيه ؟ بقالك يومين مآنسني مش كفاية كده ولا إيه ؟
تقدم منه عمر مبتسمًا ملء فمه وهو يقول :
ـ لا مش كفاية بصراحة أنا حاسس إني محتاج أقرب منك أكتر ونتعرف على بعض من تاني . حاسس إننا كنا بعاد عن بعض أوي السنين اللي فاتت.
ـ نتعرف على بعض إيه هو احنا هنتجوز ، ثم إن أنا مش فاضي أنا ورايا شغل ومحتاج تركيز وبصراحة أنا مش عارف أركز وانت فوق دماغي كده .
هز عمر رأسه مرات متتالية وأظهر بعض الضيق وهو يحك ذقنه وقال:
ـ ممم.. بتطردني بشياكة يعني ؟!
أومأ فريد متحليًا بقليل من الجدية وقال:
ـ بصراحة أيوة .
فأفتر ثغر عمر عن ابتسامة وهو يلتصق بفريد ويتمسك بذراعيه وهو يقول :
ـ بس أنا متأكد إنه من ورا قلبك .. علشان كده أنا هعتبر إنك مقولتش أي حاجه ومش همشي .
نظر إليه فريد بإحباط ثم صاح مستنكرا :
ـ يا سيدي مش من ورا قلبي ، أنا بطردك بجد على فكرة .. انت هتتفضل ترجع على بيتك وأنا كمان همشي لأن ده مبقاش بيتي حتى. ده بيت نغم .
ـ آااااااه … قول كده بقا .
ـ مانا بقول أهو .. عمال بحاول أفهمك بس انت مش راضي تفهم.
هز عمر رأسه متفهمًا بهدوء، رافعًا حاجبه ومضيقًا عينيه ثم تساءل:
ـ وانت واثق إن نغم هترضى تيجي تعيش هنا ؟!
تنهد الآخر بحيرة وقال:
ـ أكيد مش هتوافق وأكيد هتتعبني على ما تقتنع بس مفيش حل تاني يعني ، أكيد مش هسيبها في نفس البيت مع حسن .
مط عمر شفتيه وقال :
ـ اوكي.. وبعدين ؟ ناوي انت على إيه بقا ؟ يعني فرضًا وافقت وجت قعدت هنا ! إيه اللي هيحصل بعدها ؟!
ـ اللي هيحصل إننا هنوصل لقرار إن شاء الله.. لازم يكون في خطوة جد بقا .. بس مش عارف بصراحة هو ده وقته ولا إيه ! وفي نفس الوقت أنا مش عاوز أستنى أكتر من كده ، يعني التأجيل ملوش داعي أصلا بس لازم بردو أراعي الظروف اللي هي بتمر بيها .
هز عمر رأسه مرات ثم تساءل ليستشف جديته وقال :
ـ يعني معنى كلامك إنك هتخطبها مش كده ؟
فمالت شفتيه في ابتسامة متألقة واثقة وقال:
ـ لأ مش هخطبها .. هتجوزها .
اتسعت عينا عمر متفاجئًا ، ثم قال بنبرة متحمسة:
ـ بتهزر !!
ـ ليه بهزر ؟! أنا بحب نغم من كل قلبي وأكيد المسار الصحيح لأي علاقة هو الجواز يعني ! ولا انت مش معايا ؟!
ـ ماشي معاك بس توقعت هتقول يحصل خطوبة الأول وبعدين تتجوزوا ؟!
ـ و ليه خطوبة ؟ أنا لسه مستني أعرف إيه عنها أكتر من اللي أعرفه ؟! وبعدين الخطوبة دي فترة تقييم للعلاقة .. أنا مش عاوز أقيم علاقتي بنغم ، أنا قابل بيها بكل العيوب اللي فيها قبل المميزات ، ومهما أكتشف فيها عيوب أنا موافق وراضي أعالجها بس واحنا مع بعض.
كان عمر يطالعه بابتسامة عريضة أظهرت مدى سعادته بصراحة أخيه الذي فتح له قلبه للمرة الأولى وصرح عما يجيش به ، إضافة إلى سعادته بكونه وجد الحب أخيرا وهذا كان بالنسبة لكل من يعرفون فريد جيدًا " ضربًا من المستحيل" .
وتنهد ثم قال وهو يضع يده على كتفه متقمصًا دور الأخ النصوح:
ـ فريد يا ابني .. أنا في غاية الانشراح باعترافك ده .
ضحك فريد ضحكة هادئة متزنة ثم وضع يده على كتف عمر بدوره وقال بنفس النبرة الهزلية :
ـ عمر يا ابني .. أتمنى إن كل اللي قلته ده يأثر معاك ويخليك تختار الإنسانة اللي تحبها وتحس انك بتلاقي نفسك معاها ، مش الانسانه اللي تتفرض عليك بداعي التوافق الاجتماعي والمستوى المعيشي والفرضيات السخيفة دي .. صدقني مفيش أحلى من إنك تحب وتكمل حياتك مع الشخص اللي بتحبه .
وتركه ودخل إلى غرفته لكي يستعد ، بينما عمر ظل واقفًا بمكانه وقد استدعى عقله صورة ميرال فورًا عندما استمع الى ما قالهُ أخوه وارتسمت على شفتيه ابتسامة ناعمة، ثم قضم قضمة أخرى من التفاحة بيدة وهو يتمتم :
ـ والله فريد ده بيقول كلام موزون .
❈-❈-❈
كان حسن يقف أمام خزانته ينتقي شيئا ليرتديه ، فوقعت عينيه على تلك الرسالة التي أعطتها له جارتهم بالحي القديم أم مرزوق قبل يومين عندما أتت لتأدية واجب العزاء في والدته، وبالرغم من أنه قرأ ما بها مرات ومرات وفي كل مرة كان غضبه يتفاقم ويبلغ ذروته إلا أنه شعر بالحاجة لقراءتها مجددا ، فأخرجها من بين ملابسه، وفتحها وبدأ بقراءة ما بها وهو يشعر وكأنه يسمع ما كتبته بصوتها الذي كان يرافقه حزنًا لم يعرف مصدره إلا بعد سنوات طويلة.
" ابني الحبيب حسن ، مش عارفه ربنا هيكتبلي أعيش لحد ما تخرج بالسلامة ولا لأ ، ومش عارفة هلحق أقوللك الحقيقة اللي مخبياها عنك ولا لأ ، عشان كده كتبتلك الرسالة دي، هحكيلك فيها كل حاجة لازم تعرفها قبل ما أموت، علشان لما أموت تعرف تاخد حقك إزاي ومن مين ، وأرجوك يبني متدعيش عليا وسامحني، مقدرتش أواجهك بالحقيقة ولا مرة. بس خلاص أنا مش ضامنة عمري ، وطالما الرسالة دي وصلتك يبقا أنا خلاص مت لأن ده اتفاقي مع أم مرزوق ، الحقيقة يا حسن إني كدبت عليك وقولتلك محمود جادالله أبوك .. لأ ، ابوك اسمه سالم عبدالعظيم مرسال ، اتجوزني فترة لما كنت شغالة عندهم في السرايا زمان ، وحملت منه في توأم .. ويوم الولادة خدتك انت وسيبتلهم البنت، كان عندي أمل إنه لما يعرف اني خلفت بنت يسيبهالي زي ما جدك عمل زمان ورفض يعترف ببنته .. أصل العرق دساس واللي عمله جدك هو نفس اللي عمله أبوك معايا .. لكن وقتها خاب ظني لما أخدوا البنت ومشوني من البلد وغصبوا على محمود جادالله يتجوزني .. وقتها كنت ضعيفة ومكسورة ومقدرتش أقف قدامهم ، عارفة انك هتنصدم وممكن متسامحنيش ، بس صدقني أنا كنت مغلوبة على أمري. لما أموت وتعرف الحقيقة عاوزاك تدور على اخواتك يا حسن.. ارجع لعيلتك ولأصلك ، انت مش أقل منهم ، انت تستاهل تعيش في العز زي ما هما عايشين ومتنعمين ، انت كمان ابن سالم مرسال وليك الحق في كل اللي بيملكوه .. بس اوعى تكرههم لأنهم ملهمش ذنب في شيء ، الذنب كله ذنب سالم .. دي وصيتي ليك يا حبيبي ، دور على عيلتك واخواتك وعيش وسطهم .. وادعيلي كل ما تفتكرني ربنا يسامحني على ظلمي لنفسي وليك .. "
بللت دمعاته تلك الرسالة ككل مرة ، و طواها وأعادها حيث كانت ثم مسح دموعه فإذ به يتلقى اتصال من رقم غير مسجل بهاتفه، فأجاب ليصله صوت سالم الذي قال :
ـ إزيك يا حسن ؟!
تنحنح ثم قال بإيجاز بصوت مضطرب :
ـ كويس .
ـ عاوزك تجيلي الڤيلا النهارده ، انت أكيد عارف العنوان ..
ـ ليه ؟! خير ؟!
ـ موضوع مهم يخص عيشة الله يرحمها .
تساءل حسن متعجبا وقال :
ـ موضوع إيه ده ؟!
أجابه سالم متعمدًا إشعال فضوله الذي سيسوقه إليه بدون مجهود وقال :
ـ لما تيجي هنتكلم يا حسن ، مستنيك .
شعر بالغضب يتفاقم بداخله ونيران الحقد تأكل قلبه ، يعلم أنه يتلاعب بفضوله واهتمامه بوالدته ، لذا لم يذكر أي تفاصيل حول ما يريده بخصوصه ، وبالفعل قد نجح في جعل فضوله في أوج قوته وهذا ما دفعه للخروج من غرفته حانقًا متعجلًا ينوي المغادرة فإذ به يرى نغم وقد خرجت وأغلقت الباب خلفها .
هم بالخروج وفتح الباب فوقعت عينيه على زينب التي تقف على مقربة من باب غرفة والدته وتنظر إليه مبتسمة بحنان ثم قالت:
ـ محتاج حاجه أعملها لك يا حسن ؟
أخذ ينظر إليها دون أن يبدي أي رد فعل، وبداخله كان يتساءل متعجبًا، ما سر هذه المرأة واهتمامها الغير مبرر ؟! هل تتعامل بذلك اللطف مع الجميع ؟! هل لأنها مربية أشقائه ؟! أم لأنها كانت تجمعها علاقة طيبة بوالدته ؟! أم لأنها تلقت الأوامر من والده برعايته والاهتمام به ؟!!
لم يُجب سؤالها، وتساءل بحدة :
ـ هي رايحة فين ؟!
ـ تقصد نغم ؟
أومأ وقال متهكما :
ـ يعني في غيرها معانا في البيت ؟!
ضحكت بود وقالت:
ـ الحقيقة مش عارفه أنا مسألتهاش ولا هي قالت لي، بس أكيد هتتمشى شوية لأن نفسيتها تعبانة.
لم يجبها مجددا ، وغادر الشقة مسرعًا في حين وقفت هي تنظر في أثره وهي تتمتم بيأس:
ـ ربنا يهديكم يا ولاد سالم .
نزل حسن السلم مسرعًا فإذ به يجد نغم وهي تستقل سيارة فريد ، فأسرع الخطى نحوهما وانحنى بجزعه لينظر من النافذة المجاورة لها وهو يقول :
ـ خير ؟! رايحة على فين يا نغم ؟!
نظرت إليه نغم بهدوء وأجابت وهي تحاول تفادي أي جدال معه :
ـ أنا وفريد هنتكلم شوية .
في حين صاح فريد مستنكرا وهو يقول :
ـ وسيادتك بتسأل ليه ؟! و بصفتك إيه ؟!
نظر إليه حسن بعينان تضيقان حول حدتهما وجحودهما وقال :
ـ بصفتي ابن خالتها والراجل المسؤول عنها .
اتسعت عينا فريد بغضب وعلى الفور فتح باب السيارة وترجل منها منفعلا ، ثم استدار ليقف أمام حسن وهو يتساءل باستهجان شديد:
ـ الراجل المسؤول عنها ؟!! إنت أكيد اتجننت ومحتاج تفوق .. إذا كان في راجل واحد في الكون كله المفروض يكون مسؤول عن نغم فهو أنا .. وانت عارف كده كويس .
طالعهُ حسن بسخرية بحتة وابتسم باستهزاء أشعل غضب الآخر، وتساءل :
ـ يعني لما أنا اللي هي بنت خالتي وأنا اللي مربيها مليش حق أكون مسؤول عنها . انت بقا بتدي لنفسك الحق ده بصفتك إيه ؟!
كان فريد سيجيبه ويخبره بنيته في الزواج منها و بالفعل اندفعت الكلمات عبر لسانه ولكن ما منعه هو اندفاع الباب المجاور لنغم بكل قوة، ثم وقوفها بينهما وهي تهتف بصوت خافت كان جليًا فيه التعب والارهاق :
ـ أنا لا مسؤولة منك ولا منه ، أنا حرة نفسي .
ونظرت إلى حسن وتابعت:
ـ ومحدش له الحق مهما كان هو مين يتحكم فيا ويسألني رايحة فين وليه وازاي ؟! أنا مش صغيرة وعارفة أنا بعمل إيه كويس .
ثم نظرت إلى فريد الذي يطالعها بصمت لا يخلو من الفخر وقالت بحدة مماثلة :
ـ وانت .. يا ريت متتكلمش بلساني تاني !
وانتزعت نفسها من بينهما وابتعدت، وتركتهما يقفان في مواجهة بعضهما البعض كوحشين يمهدان الطريق لكي يسحق كلا منهما الآخر وينتصر عليه .
رفع فريد سبابته في وجه حسن وأردف قائلا بتحذير :
ـ اسمع يا حسن ، نغم خط أحمر .. شيل من دماغك وهم إنها هتكون ليك لأن ده مش هيحصل أبدا، ومتحاولش تضايقها وإلا صدقني مش هعمل اعتبار لأي شيء حتى الدم اللي بيربطنا !!
ثم تركه واستدار حول مقدمة السيارة في حين كان الآخر يهتف بصوت أشبه بالرعد :
ـ اللي بيربطني بنغم أقوى مليون مرة من الدم الفاسد اللي بيربطنا انا وانت ياا فريد بيه .. وهتشوف .
انطلق فريد بسيارته مسرعًا لكي يتمكن من اللحاق بنغم بينما ظل حسن راسخًا في مكانه يسدد إليه نظرات كالجمر لو طالته لأحرقته.
❈-❈-❈
كانت تحاول حث الخطى قدر المستطاع لكي تختفي عن أنظارهما ولئلا يتمكن فريد من اللحاق بها .
لم تتوقف دمعاتها. كانت مغتاظة ومجروحة كذلك ، نزاعهما حولها أشعرها بأنها ضئيلة ومثيرة للشفقة ، ضعيفة وغير مؤهلة للدفاع عن نفسها وحمل مسؤوليتها ، فأصبح كلا منهما يمنح نفسه الحق في التحدث نيابةً عنها ونسبها لنفسه دون الاهتمام بما تريده هي .
انحرفت سيارة فريد لليسار قليلا في اتجاهها فتوقفت ومسحت دموعها سريعا ، ونظرت إليه لتجده وقد نزل من السيارة ونظر إليها وقال:
ـ اركبي يا نغم من فضلك .
لم يكن بمقدورها في ذلك الوقت أن تجادل وتسهب في نقاشات عديمة الفائدة ، لذا ركبت بجواره بصمت وأغلقت بابها ، ثم قالت وهي تنظر أمامها متلاشيةً النظر في وجهه الذي تشتاقه لئلا يتزعزع ثباتها الواهي :
ـ قولتلي إنك عاوز تشوفني ونتكلم .. خير ؟!
نظر إليها وتنهد بأسى، مسح على وجهه وجانب عنقه بتخبط وغضب، كانت تبدو في حال أفضل عندما رآها للوهلة الأولى ولكن بعد ما حدث بينه وبين حسن ساء حالها مجددا.
زفر زفرةً محبطة ، كان يريد أن يخبرها أنه اشتاقها، وكان ينوي كذلك الاعتراف لها اعترافا صريحا بمشاعره التي تعلمها هي بالفعل، وبالتبعية كان سيأتي حديثه عن رغبته في الزواج منها . ولكن وهو يراها بذلك التجهم لم يسعه الحديث في أي شيء من ذلك . فقال :
ـ أيوة، في موضوع مش هينفع يتأجل أكتر من كدة ، انتي عارفة أكيد إن زينب مش هتفضل قاعدة معاكي دايما ، لو قعدت يوم مش هتقعد التاني، وأكيد بردو مش هتفضلي معاه في البيت لوحدك ، فالمفروض إنك دلوقتي هتكوني عاقلة وتسمعي كلامي من غير محايلات ومجادلات كتير وهتيجي تقعدي في البيت عندي ، اللي هو أساسا بيتك ومكتوب باسمك من شهر فات .
نظرت إليه بصمت طويل لم يستسغه، بينما حافظ هو على صمته وأخذ يتفرس ملامحها بشوقٍ قاتل ، وعانقها بعينيه اللتين أفصحت عما بقلبه بكل سلاسة، وقالت مقالا لم يسعهُ قوله نظرًا لذلك العبوس الكامل الذي يرتسم على وجهها. ولما طال صمتها المربك فضّل افتراض موافقتها فقال:
ـ اعتبر إن السكوت ده علامة الرضا ولا إيه ؟!
احتدت نظراتها أكثر وازدادت برودة ، فأصابه شعور أن ما ستقوله تاليًا لن يروق له ، وقد كان حين نطقت بضيقٍ سافر :
ـ السكوت عمره ما كان علامة الرضا ، السكوت بالنسبة لي علامة العجز وقلة الحيلة .. عجزي وقلة حيلتي اللي انت بتستغلهم دلوقتي علشان تجبرني أوافق بحاجة انت عارف إني مش قابلاها .. عجزي وقلة حيلتي اللي خلوني جيت أعيش عندكم في الڤيلا ومثلت إني فاقدة الذاكرة علشان بس ألاقي مكان أعيش فيه ، عجزي وقلة حيلتي اللي خلوني مشيت لما چيلان قالتلي فريد استحالة يبص لك وبعد ما مشيت اتهمتوني إني سرقت أبوك .. عجزي وقلة حيلتي بردو هما اللي خلوني رجعت معاك وعشت في بيتك مع إنه مينفعش لكن مكانش قدامي حل وقتها غير كده يا إما هقعد في الشارع .. عجزي وقلة حيلتي هما اللي خلوني رجعت أعيش مع حسن في نفس البيت وأنام وأنا زي الديب مفتحة عين ومغمضة التانية بس وقتها مكانش عندي حل تاني ..
وابتلعت دمعاتها التي اختنقت بحلقها كما الصخرة. وسكتت ثم تكلمت عيناها طويلا .. بكت وأشاحت بوجهها لئلا يراها للمرة الألف وهي تبكي ، أصبحت تشعر بالعار كلما بكت أمامه، إحساس الشفقة الذي تراه في عينيه يخزيها ويملأها بالغضب. لا يفترض بها أن تكون مسكينة إلى هذا الحد !! يكفي !!
شعر بالضيق يعتريه عندما وجد دموعها تنساب بنفس القهر الذي يتشبث بها بقوة. ووجد نفسه للأسف مقيدًا. هناك أساليب كثيرة كان من الممكن أن يواسيها بها ولكنه عاجزًا الآن حتى عن قول الكلمة !
ـ أنا كرهت الاحساس ده ، كرهت إني أبقا قليلة الحيلة ، كرهت إني أعتمد على غيري ، كرهت إني أبقا عالة على غيري ..
اشتد حزنه وغص حلقه بمرارة وهو يقول مندفعًا، رافضًا ما تقوله:
ـ نغم انتي عمرك ما كنتي ولا هتكوني عالة عليا .. أنا بعتبرك مني ..
قاطعته بحدة :
ـ مش حقيقي..
ـ لأ حقيقي. انتي بالنسبة لي أغلى من روحي .. صدقيني .
رآها تتفكر في كلماته ، تفكر فيما قاله للتو ، أو ما قاله بشغف .. فتابع :
ـ تمام أنا فاهم إني لحد دلوقتي مأكدتش إحساسي وعارف إني غلطان إني لحد دلوقتي متردد ومش صريح معاكي كما يجب.. بس أنا كمان واثق إنك عارفة قد إيه أنا بحبك !
أُخذت بقوله ! بدت شاحبة أو مدهوشة !! وترنح شيء داخل ضلوعها كانت تضع يدها على صدرها لتمنعه !
كان يفهم حالتها جيدّا، لذا تنهد وابتسم ابتسامة لم تبارح عيناه ثم قال مؤكدًا بما يرسخ اعترافه ويجعله حقيقة لا مجال للطعن فيها :
ـ أنا بحبك يا نغم .. والله بحبك .
سمحت لنفسها أن تستمتع باعترافه الرسمي الأول ، فأسبلت جفنيها لثانية أو ثانيتين ، بينما استغل هو هدوءها المريب وقال:
ـ و عاوز أتجوزك ..
فتحت عينيها فجأة وتجمدت بهما الدموع، فأومأ مؤكدًا لها صدق ما قاله وتابع :
ـ في أقرب وقت ممكن.
فتحت فمها وأغلقته مجددا كسمكة في الماء، كانت تود في قول شيءٍ ما ولكنه قاطعها إذ قال :
ـ مش عاوزك تبعدي عني تاني ولا تغيبي عن عيني لحظة .. يا ريت لو ينفع نتجوز دلوقتي حالا أقسم بالله مش هتردد .. أنا خلاص مبقاش عندي استعداد أبعد عنك مرة تانية .
رمشت بأهدابها مرات متتالية غير مصدقة سيل الاعترافات الذي يتدفق أمامها بمنتهى الجرأة والوضوح ، بينما هو حك جانب عنقه وهو يتساءل بشك :
ـ زودتها أنا أوي مش كده ؟
ضحكت وأومأت ودموعها تتساقط بتأثر فابتسم مغلوبًا على أمره ثم قال :
ـ مش عارف ليه حاسس إني قلت حاجات كتير أوي بالرغم إني مقولتش ولا حاجه من اللي جوايا ..
كانت يداها ترتجف وهي تزيل بها آثار الدموع التي خضبت عيناها، ثم نظرت إليه بهدوء يناقض ذاك الضجيج بصدرها وقالت :
ـ لسه قدامك فرصة تقول ….
تنهد تنهيدة مطولة وهو يحرك عينيه من عليها إلى الأمام وبدت الحيرة جلية في عينيه، فرأته وكأنه ينظم أنفاسه، ثم عاد ناظرًا إليها وعينيه يشع منهما دفئًا رهيبًا لم تلتمسه من أي شخص آخر ، وقال :
ـ عاوز أقولك إني شايفك أحسن وأنضف وأجمل بنت في الدنيا.
بدأ جمودها يتفكك..
ـ بغض النظر عن كل حاجة مرينا بيها أنا وانتي وبغض النظر عن اللي لسه هنمر بيه لأن الجاي مش هيكون سهل لكن عمري ما نظرتي ليكي خابت أو هتخيب .. عندي ثقة فيكي تفوق كل توقعاتك، ومهما حصل هتلاقيني أول واحد في صفك وواقف جنبك، وتأكدي إن لو كل الناس كدبوكي أنا مصدقك .
هدأ قلبها واستكان قليلا، تعلم أن ما يقوله هو تأكيد لدعمه إياها بخصوص ما شاع عنها حول سرقة والده، بالتأكيد شقيقه أخبره بما حدث . وطاف بريق حزين في عينيها وقالت بنبرة يملؤها اللوم :
ـ لكن يومها مصدقتنيش .
أدرك ما تقصده بخصوص يوم الحفل، فهو يعلم حركاتها وسكناتها، ويعلم ما ستقوله وما تفكر به وما تشير إليه حتى وإن لم تتكلم ، فتنهد وهو يفرك جبهته باستياء ثم قال :
ـ من جوايا كنت مصدقك ، لكن كنت في صراع ما بين إني مصدقك وإني مش قابل الحقيقة ومش قادر أقتنع بيها .. هي دي حياتي باختصار يا نغم، صراع مبينتهيش !
رأى الأسف بعينيها غير قابل للتكذيب وارتسمت علامات الذنب على وجهها، وفتحت فمها لتتكلم ولكن الكلمات ماتت على لسانها حين برز صوته تزامنًا مع ابتسامة مشبعة بالتسامح وقال:
ـ متقوليش أي حاجه ، مش بقوللك كده عشان تحسي بالذنب أو تعتقدي إنك غلطانة لأنك خدتي موقف مني يومها ، بالعكس.. ده الطبيعي والمتوقع من واحدة زيك !
تبخرت كل معالمها وهتفت بحنق :
ـ نعم!! واحدة زيي إزاي بقا إن شاء الله!!
أفسح فريد مجالا لضحكة عميقة خرجت من قلبه وهو يطالع عبوسها اللذيذ الذي أوشك على تقبيله ثم قال وتوابع الضحك لازالت تستقر على صفحة وجهه :
ـ واحدة زيك مجنونة ومندفعة و…..
صمت صمتًا لحظيًا فهزت رأسها تستفهم عما ينوي إضافته ، وكم كان يهوى أن يضيف كلمة ' حمقاء ' ولكنه استعاض عنها بكلمة كان لها تأثير السحر على قلبها .
ـ و براءة الدنيا كلها فيكِ .
استطاع أن يمحي ذلك العبوس ويستعيد ابتسامتها الدافئة ثم قال:
ـ من أول يوم شفتك فيه وأنا حسيت إن في واحدة تانية مستخبية جوة الشخصية اللي قدامي !! واحدة بريئة ونقية ومغلوبة على أمرها.
ارتفع حاجبيها وسقطا بارتباك. وأشاحت بعينيها عن عينيه اللتين انخفضتا لا إراديًا نحو شفتيها متذكرًا ما حدث يومها .. ثم تنهد تنهيدة مثقلة وتابع بصوت عميق :
ـ من أول ما شفت النظرة اللي في عينيكي وكأنك بتقوليلي أنا آسفة إني هعمل كده ..
تلبد وجهها وشحب بحرج أكبر وتنحنحت وهي تمرر يدها بشعرها بعشوائية وكأنها تخفي عيناها عن مرمى نظراته الفصيحة وهي تسمعه يقول:
ـ من اللحظة دي وكأن في حاجة ربطتنا ببعض ! الرابط ده كان أقوى من أي شيء مادي أو ملموس !! كان بيقربني ليكي كل يوم أكتر بالرغم من إني كنت بحاول أتجاهله .. وكل ما كنت بقول لنفسي أكيد أنا موهوم بلاقيكي قدامي ، سواء حقيقة أو حلم ، ووقتها كنت بشوف في عينيكي نظرة تخليني أتمسك بالاحساس اللي جوايا ليكي أكتر ، ويوم بعد يوم بقيت حاسس إنك تخصيني ، إنك مسؤولة مني انا وبس.. حمايتك مسؤوليتي، وراحتك مسؤوليتي، وحتى فرحتك مسؤوليتي !!
امتلئت عينيها بالدموع وزمت شفتيها كالعادة بتأثر شديد.. بينما هو تابع قائلا بثقة :
ـ أنا محتاجك في حياتي يا نغم .
وتابع بثقة أعلى :
ـ كل اللخبطة والفوضى اللي جوايا انتي وبس اللي هترتبيها ..
وأضاف بتأكيد :
ـ أنا جوايا حب كبير ليكي ، بس للأسف مش حب بس ، جوايا خوف والخوف ده ملازمني من سنين غصب عني . وعاوزك تهزمي الخوف ده . أنا واثق إنك طول مانتي معايا أنا هقدر أتغلب عليه .. ممكن تفضلي معايا وتساعديني ؟!
أشاحت وتنهدت مطولا بتخبط .. وأشعرها قوله بالمسؤولية بقدر ما أشعرها بالسعادة ، ثم نظرت إليه مجددا بعينيها اللتين قد فُتن بهما وأومأت موافقة فاتسعت ابتسامته وقال :
ـ ممكن مش كده ؟!
أومأت بابتسامة مجددًا فاكتسحت الابتسامة وجهه ووصلت إلى عينيه اللتين لمعتا بكل مظاهر الحياة ثم أومأ بدوره وقال:
ـ كنت واثق انه ممكن على فكرة .
ضحكت ضحكة هادئة فنظر إليها بتركيز ثم قال بانهزام :
ـ على فكرة وحشتيني .
صمتت ولكن تلك الابتسامة الممتنة التي طوقت شفتيها كانت هي الإجابة . فقال بهدوء مبتسما :
ـ الوقت سرقنا.. خلينا نشوف مكان نتغدا فيه ونكمل كلامنا .
❈-❈-❈
كان حسن قد وصل لتوّه أمام الڤيلا ، ترجل من فوق دراجته البخارية وتقدم بخطى مهزوزة غير واثقة وهو ينظر حوله ، كل شيء هنا يحتاج لسنوات من التأمل والتفكير.
حمحم وهو يقترب من أفراد الأمن وهم بالحديث فإذ بالشاب يسأله :
ـ حضرتك حسن بيه ؟!
استوقفه اللقب قليلا !! وحمحم وأومأ موافقًا وقد راقهُ الأمر ، ففتح الشاب البوابة مسرعًا وهو يقول بنبرة ترحيبية :
ـ الباشا مستنيك ، اتفضل .
دلف حسن ووقف للحظة ! وكأنه قد عبر بوابة للانتقال عبر الزمن !!
وقف مشدوهًا من فخامة المكان ، مأخوذًا به وبعصريته ورقيه !!
لم يفلح في حجم الصدمة عن وجهه، ولم يفلح في التقدم خطوة للأمام دون أن يقف مصعوقًا عندما وقعت عيناه على أربع سيارات يقفن بجوار بعضهن البعض في شموخ، والواحدة منهن قد تكلفه بيع أعضاءه وفي النهاية لن يجمع ثمنها !!
حث قدميه على المسير رغمًا عنها ، وتقدم لكي يكتشف تلك المغارة كيف تكون من الداخل إذا كان مجرد الفناء كارثة !!
دخل وهو ينفض ثيابه بشك، ويعدل لياقة قميصه بتوتر ، فوجد الباب منفرجًا وإحداهن تقف في استقباله وتقول بابتسامة:
ـ أهلا وسهلا يا حسن بيه !
طالعها سريعا ، شابة في عمر الثلاثين ترتدي زي الخادمات ، وتشير إليه بترحاب ، و تلقبه ببيه !!! وكم راقهُ هذا اللقب وجعله ينفخ صدره في زهو وهو يوميء بتمهل فقالت :
ـ الباشا مستنيك في مكتبه ، اتفضل .
جال نظرهُ سريعًا في المكان قبل أن يدخل المكتب ، ليجد أنه فاته الكثير والكثيـــــــــــر !! وهو الذي ظن أن تلك الشقة التي يسكن فيها هي أرقى شيء قد يراه في حياته !! الآن فقط اتضح له أنها لا تختلف كثيرا عن بيتهم بالحي القديم!!
أما هنا !! فالوضع مختلف، المكان هنا ينبض بالثراء الفاحش، هنا النقود تتحدث وتعلن عن نفسها بجرأة ، هنا كل إنش يفتخر بما أُنفق عليه دون خجل !! هنا المال، والجاه، والقوة .
إن لم يسنده بشر فهنا جدران شيدت من مال لا حصر له بإمكانها إسناده !
هنا تتحقق الآمال وتُنال الغايات دون مجهود .. هنا فقط يمكن للحياة أن تصبح حياة .
وبينما هو يتأمل تلك الجدران الشامخة المنحوتة كجدران المتاحف العالمية ، ويتفحص تلك التماثيل الرخامية الموضوعة بكل جانب لفت نظره تمثالا منحوتًا بطريقة تُسري اللعاب !!
ولكن لا.. هذا التمثال ينبض بالحياة ، فيه روح !! وليست أي روح، روح أَنِفة وذات غرور لعين !! تمثال أبيض كالشمع وبعينين زرقاوتين كالمحيط !! يقف على الدرج ويتأمله بازدراء واضح !
تبًا .. التمثال يتحرك !! ويتقدم نحوه ! يطرق الأرض بنعليّ حذائه ذو الكعب العالي الذي أضاف إليه جودة لعينة لا يمكن غض الطرف عنها.
حمحم وهو ينظر إليها وإلى زرقاوتيها خصيصًا ثم قال :
ـ مساء الخير !
رفعت حاجبيها وأنفها بشموخ، وطالعته بصمت يتخلله ضيقٍ ما ، ثم رمشت بأهدابها مرات متتالية باستنكار وتجاوزته وغادرت الڤيلا.
بينما بقي هو ينظر في أثرها متعجبا وهو يتمتم :
ـ عليكي رفعة مناخير تخلي الواحد يتقفل من الصنف كله .
وتقدم من باب المكتب ثم طرقهُ وهو يكاد يشعر بطرقات قلبه تتزامن مع طرقاته على الباب .
❈-❈-❈
كان سالم لايزال واقفًا خلف نافذة مكتبه المطلة على الخارج حيث أنه كان يراقب ردة فعل حسن بدايةً من دخوله الڤيلا ، ولكم شعر بالارتياح يغزو قلبه وهو يراه منبهرًا بكل شبر حوله، منا أوضح مدى تأثره بالمكان والمستوى الذي يدعوه إليه والده بإصرار ..
يقف عاقدًا يديه خلف ظهره بإباء وهو يمنطق ما سيقوله ويرتبه، فإذ به يستمع إلى طرقات حسن على الباب فقال بنبرة منفتحة :
ـ ادخل .
كان يولي ناظريه نحو الباب وهو لازال واقفا في مكانه بثبات، فإذ بالباب ينفرج ويظهر من خلفه حسن، رسم سالم ابتسامة مرحبة على محياه وأومأ وهو يقول :
ـ تعالى يا حسن، ادخل .
سار حسن نحوه، فيما بقي هو يحدق فيه بزهو، رجل كامل الرجولة، يشبهه كثيرا في قامته الطويلة ومنكبيه العريضين ، له نفس العينين الحادتين الضيقتين الغاضبتين دائمًا وأبدا ..
وقف حسن أمامه يحاول ألا يخضع لرغبته في تأمل وجه والده عن كثب ، وقال بهدوء:
ـ مساء الخير .
مد سالم يمناه نحو حسن وقال :
ـ ازيك يا حسن ؟!
صافحهُ حسن بهدوء وقال :
ـ الحمد لله.
ـ البيت نور بقدومك .
أومأ حسن بإيجاز وقال :
ـ شكرا .. منور بناسه .
أكد سالم على حديثه وقال وهو يربت على كف حسن وقال :
ـ ماهو انت ناسه ، انت صاحب البيت ده وليك فيه زي ما فريد وعمر ونسيم ليهم .
تنهد حسن تنهيدة مثقلة ثم قال :
ـ خير ؟! قولتلي إنك عاوزني في موضوع بخصوص أمي الله يرحمها !
أومأ سالم مؤكدًا وتحرك نحو الأريكة ودعا حسن للجلوس ثم جلس وقال:
ـ أيوة .. الحقيقة خدت خطوة كده لصالح عيشة الله يرحمها وكنت حابب أفرحك بيها .
ـ خطوة إيه دي ؟!
فتح سالم الحاسوب الخاص به، وأدارهُ نحو حسن الذي لم يستوعب في البداية ما يراه ، فقال سالم :
ـ دي مستشفى تحت الإنشاء ، متخصصة في علاج مرضى سرطان الثدي، اقترحت عليهم اقتراح ووافقوا ..
رفع حسن عينيه من على الصور ثم نظر إلى والده وقال متسائلا :
ـ إقتراح إيه ده ؟!
فأجابه سالم بابتسامة متزنة :
ـ نمولهم تمويل كامل لحد ما المستشفى تتشطب وتبقا جاهزة للخدمة كصدقة جارية على روح عيشة الله يرحمها ..
التمعت عينا حسن بذهول ولاقى الأمر استحسانه كثيرا ، بينما تابع سالم مضيفًا :
ـ وهيكون اسمها مستشفى ' عيشة كارم ' لعلاج مرضى سرطان الثدي.. إيه رأيك ؟!
احتقنت عينا حسن بالدموع واختنق حلقه بمرارة ولم يحسن الرد فقال سالم :
ـ بصراحة أنا من وقت ما ماتت وأنا حاسس بالذنب ومش عارف أكفر عنه إزاي ، زائد إني ندمان لأنها اتظلمت كتير بسببي وحسيت إن الخطوة دي مناسبة جدا وهتسعد روحها .
ثم حرك عينيه من على حسن ونظر أمامه متصنعًا الشرود والتأثر وقال :
ـ ماهو الإنسان مهما يعيش ومهما يعمل مش هينفعه في آخرته غير صدقة جارية تخلي الناس تفتكره وتدعيله بالرحمة .. وأنا حبيت البداية تكون من عندي، وبكرة إن شاء الله لما تاخد حقك ويبقا معاك فلوس اعمل لها بدل الصدقة عشرة .. أنا عن نفسي لما أمي ماتت ندمت إني مكنتش بار بيها كفاية وبعوض ده دلوقتي ، ببرها بعد موتها بالدعاء وبالعمل اللي ثوابه يوصلها .. مش عيب ان الواحد يكتشف متأخر إنه مقصر ، العيب إنه ميحاولش يعوض التقصير ده بأي شكل .
أومأ حسن مؤكدا كلامه ونظر إليه وقال بأسلوب ذو مغزى وقال :
ـ معاك حق، بس في حاجات مبينفعش فيها تعويض ، لأنه خلاص بيبقا فات الأوان .
هز سالم رأسه معترضًا وقال :
ـ لأ مش متفق معاك ، طول ما الواحد عايش على وش الدنيا يبقى ما زال قدامه فرصة جديدة يعوض اللي فاته ، الفرص مبتنتهيش إلا بموت صاحبها .
أومأ حسن موافقا بغير اقتناع ثم نظر إليه مجددا وقال :
ـ على ذكر سيرة الموت.. وبما انك بتقول إنك هتديني حقي ! مش المفروض الحقوق دي بتتوزع بعد موت الأب ؟! ولا انت مستعجل لأنك عارف إن ولادك مستحيل يقبلوا وقتها يعترفوا إني أخوهم وليا حق زيهم .
تغضن جبين سالم بضيق صادق، وأكثر ما ضايقه هو أسلوبه الفج الذي لم يختبره في أي شخص آخر ممن يحيط بهم .. فقال :
ـ لأ انت فهمت غلط .. لما بقولك هتاخد حقك أقصد بيه إني هديك اللي اتحرمت منه ٣٣ سنه.. مش قصدي الميراث !! يعني عربية زي اخواتك ، وحساب في البنك فيه مبلغ قد اللي اتصرف على كل واحد منهم من يوم ما اتولد لحد دلوقتي ، وبيت خاص كمان !! أما بالنسبة للشغل والمشاريع فده حسب إنت حابب تشتغل في إيه !
نظر إليه حسن وقال بتهكم مبطن :
ـ شغل ومشاريع إيه بقا ما أنا خدت خبر باللي عمله جوز بنتك ..
ابتسم سالم وقال :
ـ تقصد التلت شركات ؟!! لااا.. التلت شركات دول ولا حاجه بالنسبة لي ، أنا قادر أأسس غيرهم من بكرة لكن لمين ؟! فريد أهو يوم هنا ويوم هناك وبعدين بيأسس شغل جديد في اليونان ، وعمر دماغه مش في البيزنس ولا الشغل بتاعنا من أصله ، فخلاص أنا شيلت إيدي من الموضوع ده كل واحد ينام على الجنب اللي يريحه.. لكن الخير كتير والحمد لله .. أهم حاجه إنت تريح قلبي وتقول موافق وحابب أشيل إسم العيلة ، ساعتها هتشوف الفرق بنفسك.
زم حسن شفتيه بتفكير وهو يحاول حصر المزايا التي سيوفرها له لقب العائلة ، والحصيلة كانت مزايا لا حصر لها .. وكل واحدة منهن تتفوق على الأخرى .
ثم تنهد وهو ينظر إلى والده وقال :
ـ وبعد ما أوافق وأشيل إسم العيلة إيه اللي هيحصل ؟!
بسط سالم كفيه أمامه ببساطة وهو يشرح له :
ـ هتيجي تعيش في مكانك، في المستوى اللي يليق بيك ، وتبدأ تبرمج حياتك من الأول، تشوف إيه نوع البيزنس اللي هتبدأ فيه، وتشتري البيت الخاص بيك وبعدها تشوف العروسة اللي تناسبك، انت عندك ٣٣ سنه يعني مش صغير ، اللي من سنك متجوزين ومخلفين.
ما هذا !! لقد خطط ورسم حياة كاملة في جملتين ونصف ؟! هل الأثرياء يعيشون حياتهم بتلك البساطة أم أنهم يحسنون التخطيط لحياتهم بسرعة تفوق استيعاب من هم أقل منهم ؟!
ابتسم حسن ابتسامة متعجبة ، بها لمحة ساخرة وقال :
ـ هاجي أعيش هنا في الڤيلا معاكم ؟! أعيش مع ناس مش طايقة تبص في وشي حتى !!
قطب جبينه متعجبا وتساءل باستياء:
ـ تقصد مين ؟! أنا وبتحايل عليك من زمان إنك توافق وتيجي هنا ، وعمر والحمدلله علاقتك بيه كويسة جدا.. نسيم وأهي اتجوزت، أما لو قصدك فريد فهو أصلا مش عايش هنا ، عايش في بيت لوحده وحاليا مستقر في اليونان ..
نطق حسن متذمرًا بحنق :
ـ مستقر في اليونان أه .. ده أنا سايبُه قدام باب العمارة عندي.
أومأ سالم متفهمًا وقال:
ـ زيارة مؤقتة وراجع تاني ، هو حاليا مشغول بتحضيرات الشغل الجديد وغالبا هيستقر هناك فترة طويلة ، وحتى لو رجع فأكيد مع الوقت علاقتكم هتتحسن وهتفهموا بعض، انتوا بس عشان من سن بعض واخداكم حمية الشباب مش أكتر ، لكن المثل بيقول ما محبة إلا بعد عداوة وعمر الدم ما يبقى مية !!
فكر فيما قاله قليلا ثم تساءل :
ـ والقطة المخربشة اللي قابلتني برة من شوية وحتى السلام مردتهوش !! هتصبح وأتمسى بوشها إزاي واحنا مش طايقين بعض ؟!
ـ آه تقصد چيلان ؟!! لاا من الناحية دي متشيلش هم ، والله من حكم في ماله وبيته فما ظلم ، لو هي مش عاجبها وجود أصحاب البيت فيه تتفضل هي تشوف بيت تاني يناسبها ، محدش هيجبرها تفضل .. ولو على أمها فهي خلاص من ساعة موت بنتها اتكسرت وحتى باب الاوضة مبقتش بتخرج منه .
تنهد مجددا .. تنهيدة طويلة حارقة معبئة بهموم وجروح لا تشفى، وأخذ يفرك جبهته بتفكير عميق ثم قال :
ـ طيب . أنا موافق .
اتسعت ابتسامة سالم وابتهجت أساريره، وأمسك بهاتفه على الفور وهو يقول :
ـ عفارم عليك هو ده التفكير المظبوط ، حالا نادر هيجيلك بالعربية ياخدك وتروح معاه تعملوا الإجراءات اللازمة.
ـ بالسرعة دي ؟؟
أضاف سالم وهو يطلب رقم نادر :
ـ سرعة إيه يا حسن ؟! بالعكس دي خطوة متأخرة جداا.. متأخرة بقالها ٣٣ سنة .
❈-❈-❈
بينهما هما يجلسان مقابل بعضهما البعض كانت هي شاردة، بينما هو لم يَحِد بنظره عنها ، رآها تنظر حولها بتشتت وكأنها تبحث عن شيٍ ما، ثم أطلقت الهواء المحبوس برئتيها ومقلتيها تتحركان في كل مكان عدا الحيز الذي يشغله هو، وكأنها تتفادى النظر إليه .. !!
ـ نغم ..
ناداها بصوتٍ كان بمثابة جرس انذار أخبرها بأن شرودها ـ أو هروبها ـ قد طال ؛ فنظرت إليه باستسلام لترى ابتسامة من الابتسامات التي تضعفها وتجعل شيئا ما يطير بداخلها ثم قال:
ـ عاوزة تقولي إيه ومترددة ؟!
هذا الرجل لا يتوقف عن إبهارها وكشف الغطاء عن خصاله الجميلة في كل مرة ، ففي ابتسامته تلك إخلاصًا ودفئًا لم تتخيله أو تلقاه من قبل . وتنهدت تنهيدة متعبة ثم قالت بصوتٍ خافت :
ـ بفكر في اللي جاي ..
اتخذت ملامحه تعبيرًا أكثر جدية ، فاقترب من الطاولة وكان سيسند ذراعيه فوقها ولكنه في لحظة تراجع .. وعاد لجلسته الأولى ثم أولاها انتباهه مرة أخرى وقال :
ـ متشيليش هم اللي جاي ..
ـ مش هينفع يا فريد ، الموضوع مش سهل ..
ترددت وتلعثمت وهي تحاول إيجاد الكلمات التي تجنبها الحرج :
ـ أقصد..
ـ تقصدي موضوع جوازنا .. تقصدي إن في معارضين كتير وعقبات أكتر .. أنا فاهم انتي بتفكري في إيه ، وبأكد لك.. متشيليش هم حاجه ، أنا مفيش قوة في الكون هتقدر تخليني أبعد عنك طول ما انتي معايا وعايزاني زي ما أنا عايزك .. أنا علشانك مستعد أعمل أي حاجه وأواجه أي حد مهما كان .
زمت شفتيها بتفكير يدعوها للخوف والقلق ثم قالت بصوتٍ خفيض :
ـ طيب وحسن ؟!
تبدلت ملامحه تماما وكأنما أصابه وابل من الرصاص جعله يحدق فيها بدون تعبير مما أفزعها وجعلها تتجنب التحديق فيه وهي تجاهد لإيجاد شيئا ما لتقوله ، ولكنه قطع الطريق أمامها حين قال :
ـ مالُه حسن ؟! حسن ده آخر شخص المفروض تفكري فيه أصلا أو تعملي له حساب ..
ـ أنا مش قصدي…
كالعادة قاطعها مضيفًا بحدة :
ـ أنا فاهم قصدك إيه كويس .. مش حسن اللي يتخاف منه ولا تحطيه في حساباتك أصلا .. حسن مش أخوكي يا نغم عشان تستني موافقته أو تهتمي برأيه من الأساس ، حسن مجرد ابن خالتك !! يعني لا وصي عليكي ولا له أي حق يتدخل في حياتك .
وتابع وقد تشبعت ملامحه بغيرة عمياء فخرجت كلماته مشبعة بالضيق والازدراء:
ـ وأصلا خالتك ماتت الله يرحمها ، يعني خلاص اللي كانت بتجمعك بيه مبقتش موجودة ، مش فاهم أنا هو بيتكلم عنك بالجرأة دي إزاي وكأنه ولي أمرك !!
تنهدت ، في النهاية هو محق .. ولكن هذا لا ينفي أنها لازالت خائفة من شيءٍ ما ، فنظرت إليه مجددا وقالت :
ـ وسالم بيه ؟!
ضحك بمرارة ثم سألها :
ـ أنا قولتلك . مفيش قوة في الدنيا هتخليني أبعد عنك ، وبعدين من المفترض إنه عاوز كده أصلا .. هو مش اتفق معاكي قبل كده تحاولي توقعيني ؟!
أومأت وأرفقت إيماءتها بتنهيدة فقال باسمًا :
ـ و اهو انتي وقعتيني .
أشاحت عنه وهي تبتسم قادرو على جعله يقع في حبها كل ثانية من جديد ، فقال مازحًا :
ـ ها .. لسه شايلة هم مين تاني ؟! عمر ؟! چيلان ؟! صالح فرد الأمن اللي عالبوابة ؟!!
نجح في اضحاكها فقال متحمسًا :
ـ أيوة بقا اضحكي وكفاية كآبة وعياط أبوس ايديكي .. مش عايزك تشيلي هم اللي جاي طول ما احنا مع بعض اتفقنا ؟
أومأت بقليل من الراحة ، وقطعا حديثهما حين أحضر النادل طعام الغداء وانصرف، فرأتهُ بكل سلاسة يخرج من جيب سترته الداخلي شوكة وسكينة مغلفين وفض غلافهما تحت نظراتها المتعجبة، فنظر إليها قائلا ببساطة وهو يضحك ساخرا من حاله :
ـ بلاش تركزي معايا لأنك هتشوفي العجب .
ضحكت ضحكة قصيرة رغمًا عنها وحاولت تجاهل الأمر بالرغم من أنه كان يشغلها فعلا ، وبدأا بتناول غداءهما بصمت إلى أن قطعه هو وقال :
ـ أظن كده خلاص متفقين على كل حاجة ، النهارده هتسيبي الشقة وهتيجي..
قاطعته بصرامة :
ـ لأ يا فريد .. أنا هسيب الشقة بس مش هاجي بيتك ..
ـ نغم ده بيتِك..
ضغطت أحرف كلماتها بقوة مؤكدة :
ـ لأ يا فريد . ده مش بيتي ، عشان خاطري افهمني ومتضغطش عليا .. أنا محتاجة أعتمد على نفسي ولو لمرة .. هو ده مش حقي ؟
تساءلت بنبرة منكسرة جعلته يؤكد سؤالها دون تفكير:
ـ طبعا حقك بس..
سكت قليلا، ثم قال باستسلام:
ـ طيب مش هضغط عليكي طالما مش حابة ، بس على الأقل خليني أساعدك ..
ـ لأ مش محتاجة مساعدتك.. أنا فعلا كنت بدور على شقة أنقل فيها بس ملحقتش .. موت خالتي عطل كل حاجه.
أومأ بضيق، هو لديه معلومة بالفعل لأن من كلفه بمراقبتها أخبره بذلك. فزفر وقال :
ـ الموضوع مش سهل يا نغم، حتى لو شقة إيجار لازمها مقدم و…
قاطعته بكل ثقة :
ـ الفلوس موجودة .
صمت لقليل، وتردد كثيرا قبل أن يسألها ولكنه حسم أمره في النهاية:
ـ جبتي الفلوس منين ؟!
استوقفها سؤاله لبرهة !! وأشعل بداخلها نارًا لم تعلم مصدرها ، هل سؤاله هذا نابع عن شك ؟! أم أنه سؤالا مجردًا من تلك الأوهام التي تعتقدها !!
هز رأسه مجددا متسائلا فقالت بنبرة حادة يشوبها الغضب :
ـ اتصرفت فيها يا فريد !
أومأ ببساطة وتسائل مجددًا بإصرار :
ـ منين ؟!
ارتفع حاجبها بغيظ وقالت :
ـ انت مالك ؟!
ارتفع حاجبيه بتعجب وتسائل :
ـ أنا مالي ؟! لا مالي طبعا ، لازم أعرف الفلوس دي مصدرها إيه !
ثم ضيق عينيه متسائلا بنذير غضب :
ـ أكيد مش من حسن مش كده ؟!
ـ لأ مش من حسن ، بس قبل ما أجاوبك يهمني أعرف حاجة .. إنت عارف ومتأكد إني مش أنا اللي سرقت خزنة ابوك مش كده ؟!
فاجئه سؤالها ، وأذهله إلى أين أخذها تفكيرها الأحمق ، فهتف باستنكار :
ـ هو انتي مفكرة إني سؤالي ده ليه علاقة بموضوع الخزنة أصلا ؟!
انتظر أن تنفي ولكنها صمتت، فتنهد بيأس وهو ينظر إليها ثم قال :
ـ بالله عليكي انتي بتفكري إزاي ؟! هو أنا ممكن أصدق إنك تسرقي ؟!!
ابتلعت ريقها بتوتر بالغ ، واهتزت حدقتيها بارتباك فقال :
ـ أنا لو شفتك حتى وانتي بتعملي كده هكدب عينيا وأصدقك انتي ، أنا قولتلك ثقتي فيكي ملهاش حدود .. وقولتلك حتى لو كل الناس مكدبينك أنا مصدقك ، مش فاهم أقولك إيه تاني عشان تتأكدي إنك لا يمكن أصدق حاجة زي دي ؟!!
صفعها حديثه صفعة ذنب غادرة أعادتها إلى حضيض الماضي البشع وجعل وجهها يبهت وتكسوه الغيوم، ولأول مرة يخطيء تقدير حالتها فقد ظن أن ذلك الحزن لأنها تعتقد أنه لا يثق بها، فمد يديه إليها وأمسك بيديها بقوة وهو يقول :
ـ نغم .. أنا قادر أحتوي الخوف اللي جواكي ده بس انتي ساعديني، كبري عقلك شوية عن كده ، ثقي فيا أكتر من كده ، ثقي في نفسك ، ثقي في حبي ليكي وفي قيمتك وغلاوتك عندي .
أومأت وهي تشعر بالفوضى تملأ قلبها، وأمام محفز هذه الفوضى لم تملك سوى الصمت ، ولكنه كان كان يملك الكثير ليقوله بعد..
ـ بردو مجاوبتيش.. منين الفلوس ؟
تنهدت بهدوء ثم قالت وهي تعلم أن هناك إعصارًا من غضبٍ وشيك في طريقه إليها :
ـ خدتهم سلف من صاحبة الصالون اللي بشتغل فيه .
لم يعقب ، لم ينفعل ، لم يَثُر .. كان هادئًا ـ تعتقد ذلك ـ ومتماسكًا ومُبقيًا على صبره لآخر لحظة .
ولكنه كذلك كان يهز قدميه بعصبية صامتة، ويطبق شفتيه لئلا ينفلت من لسانه ما يزيد الطين بلة وللحق تكبد شقاءا رهيبا في ذلك .. بينما نظراته القاتمة كانت تجوب المكان كله ذهابًا وعودة وكأنه يبحث عن طريقة للتنفيس بها عن غضبه الذي يحرقه الآن بصمتٍ مضنٍ.
فيما كانت هي تحدق فيه بريبة وتنتظر الانفجار الذي لا محالة من وقوعه، ولكنه كالعادة يفاجئها بردة فعل غير متوقعة تماما إذ قال بصوت هادئ رخيم :
ـ خدتيهم سلف من صاحبة الصالون !! .. ممم.. طيب بغض النظر عن موضوع شغلك في الصالون ده هنرجعله تاني بس الأول خليني أفهم .. صاحبة الصالون دي ست خيّرة للدرجة دي يعني ؟!
هزت رأسها مستفهمة وقالت:
ـ مش فاهمه تقصد إيه ؟!
حك ذقنه وقد أوشك مخزونه الاحتياطي من الصبر على النفاذ وقال :
ـ أقصد إن مفيش حد بيساعد حد لوجه الله إلا لو يعرفه كويس أو بينهم صلة قرابة أو صداقة مثلا .. وعلى حد علمي يعني انتي مكملتيش أسبوعين شغل هناك .. فإيه اللي يخليها توافق تسلفك بدون ما تاخد إجراء يضمن حقها وهي لسه عرفاكي من فترة بسيطة ؟!! إلا لو كانت عاوزة منك خدمة مقابل قصاد الفلوس دي؟!
ـ لأ هي مطلبتش أي حاجة لأنها واخدة ضمان فعلا ..
أومأ على مهل يستدرجها لتشرح له حيثيات الحماقة التي ارتكبتها فقالت بارتباك :
ـ أنا مضيت لها شيكات بالمبلغ .
ـ الله عليكي !!
قالها وهو يمط شفتيه في سخرية لاذعة وتهكم سافر أثار غيظها ولكنها لم تعقب وابتلعت ريقها وضيقها بصمت، في حين تساءل هو متهكمًا وقد بدأ الغضب يجتاح ملامحه من جديد:
ـ الست دي اسمها إيه ؟!
ابتلعت ريقها وهي تجيبه بتحفظ:
ـ مدام عليا القاضي !
ضحك ضحكة مبتورة ساخرة وأومأ عدة مرات متتالية ثم قال :
ـ برافو يا نغم .. بجد برافو ، انتي كل مرة بتبهريني وبتثبتيلي إن الغباء عندك ملوش سقف !
احتقنت عيناها بالدموع واشتعلت وجنتاها غضبًا رافضةً إهانته ، وقالت بانفعال :
ـ أنا مش غبية على فكرة ومش هسمح لك تغلط فيا ..
بينما هو أجابها بانفعال أكبر بغضب مماثل وهتف بحنق فائض:
ـ لأ غبية للأسف ! لما تروحي تحطي روحك بين ايدين واحدة سوابق تبقي غبية وساذجة ومش فاهمة حاجة !
أخرستها الصدمة وجعلتها تنطق بغير تصديق:
ـ سوابق !!
سألها ساخرًا :
ـ تخيلي !!
ـ لا مش ممكن !
ـ اوكي أنا كداب وزي الزفت !! اتفضلي سيرش سريع على جوجل بإسم الهانم وهتعرفي كل قرفها !! جايز بتثقي في جوجل أكتر مني .
نظرت إليه بتخبط وتوتر ثم قالت بقلق :
ـ مش فاهمه سوابق إزاي يعني ؟! عملت إيه ؟!
رمقها بغضب قد بلغ أعلى مستوياته، و كم ود في تلك اللحظة لو أنه اقتلع رأسها الغبي ذلك من عنقها ، ثم هتف بحدة :
ـ انتي لسه جاية تسألي ؟! الأسئلة اللي زي دي بنسألها قبل مش بعد ؟! جاية تسألي عنها بعد ما سلمتيها رقبتك ومضيتي على نفسك شيكات ليها ؟! مدام عليا بتاعتك دي عليها أكتر من أربع قضايا اتجار بالبشر !!
هزت رأسها في توتر وزفرت زفرة مسموعة وهي تقول بنفاذ صبر :
ـ مش فاهمة بردو يعني إيه ؟!
فأجابها بعصبية ونفاذ صبر مماثل تشوبه السخرية :
ـ يعني بتجيب البنات الحلوة اللي زيك كده وتشغلهم عندها ومن الباطن بتشغلهم في أماكن مشبوهة وبتهادي بيهم الرجالة وتقبض هي .. سيادتك فهمتي ولا محتاجة توضيح أكتر من كده ؟!
فغرت فاها بصدمة حتى التصق الهواء بحلقها فوضعت يدها على فمها بذهول ، بينما هو لازال ينظر إليها بغضب وانفعال سيطرا عليه كليًا ، فهز رأسه بخفة وهو يطلق زفرة محمومة بغِل ومرر كلتا يداه على وجهه، ثم شعره، ثم هتف بصوت كالقصف مدويًا:
ـ يعني رفضتي تيجي تقعدي في البيت ورجعتي قعدتي مع حسن وزي ما قولتي كنتي بتنامي مغمضة عين ومفتحة التانية لأنك عارفة إنك مش في أمان وقولت ماشي ، لكن ترفضي تاخدي الفلوس اللي سيبتهالك مع نسيم وتروحي تستلفي فلوس من واحدة شمال وتمضي على نفسك شيكات .. كل ده علشان إيه ؟!
ألقى كلمته الأخيرة بحدة عالية مما جعل العملاء بالمطعم يلتفتون نحوهم ولكنه لم يهتم فقال :
ـ كل ده علشان إيه ردي عليا ؟! يعني بتثقي في الغريب وأنا لأ ؟!
ارتجف صوتها رأفةً بحالها وهي تتلقى تعنيفه على مرأى ومسمع من الجميع وقالت :
ـ مش حكاية ثقة .
جاء سؤاله هادرًا ؟!
ـ اومال إيه ؟!
نظرت حولها نظرات جانبية بطيئة ولكنها كانت كفيلة بأن تظهر كم المتطفلين الذين يتابعونهم ويتفاعلون معهم ويتبادلون الهمسات الجانبية بشأنهم ، فابتلعت دمعاتها وهي تجاهد لكي تُبقي على ثباتها المزعوم ثم قالت بحدة :
ـ أنا عايزة أمشي ..
نهضت دون أن تنتظر منه رد، والتقطت حقيبتها وهي تشعر بالدماء وقد اندفعت إلى وجهها و صدغيها ، وغادرت المكان مسرعةً حتى لا يلحق بها ، بينما هو نهض وطلب الحساب من النادل وأعطاه إياه ثم خرج راكضًا ليلحق بها ، وبينما هي تستعد لعبور الطريق كان قد جذب ذراعها مستوقفًا إياها وهو يقول :
ـ استني رايحة فين ؟!
ـ لو سمحت سيبني وملكش دعوة بيا .
نطقتها بحدة غاضبة فهتف باستهجان :
ـ ده اللي انتي شاطرة فيه بجد .. تعملي الكارثة وتقوليلي ملكش دعوة.
ـ أيوة ملكش دعوة ، زي ما ورطت نفسي الورطة دي هخرج منها .. هروح دلوقتي وأجيب الفلوس اديها لها و آخد الشيكات أقطعها وخلاص .
ـ تفتكري واحدة استغلالية وحقيرة زيها هتسيب فرصة زي دي تضيع من ايديها ؟! انتي بتحلمي ؟!
تنهدت وأغمضت عينيها بأسى، ثم أسندت جبينها بين كفيها بتعب وقالت :
ـ هتعمل إيه يعني ؟! هتربطني من رجليا وتجرني على شقق الرجالة دول بالعافية ؟!
أسند يدًا بخصره والأخرى كان يمسح بها جانب عنقه بانزعاج لا تتوقف هي عن إشعاله ، ثم فتح باب السيارة وأشار إليها قائلا :
ـ اركبي ..
نظرت إليه بغيظ فهتف بهدوء قاسٍ:
ـ اركبي يا نغم أنا مش طايق نفسي دلوقتي ، لمي الدور وخلينا نشوف هنتصرف ازاي .
احتدت نظرتها أكثر وقالت :
ـ على فكرة أنا مش..
ـ انتي لسة هتقوليلي على فكرة ؟!! … نطقها بصوتٍ جهور وهو يجذب ذراعها ويحركها عنوة نحو السيارة، ثم وضع يده فوق رأسها وضغطها للأسفل لكي يقحمها للداخل رغمًا عنها قائلا :
ـ كله كلام كلام كلام مفيش تفكير أبدا .. انتي لو فكرتي يبقا في حاجه غلط أصلا ، لو معملتيش بلوة كل يوم على غيار ريق حياتك تقف .
طالعته بغضب فصفق الباب واستدار ليستقل مقعده وهو يتمتم يائسًا ويرفع ناظريه للسماء :
ـ يا رب.. الصبر عليها مش كفاية ، دي محتاجة معجزة من عندك .
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة نعمة حسن، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية
#يتبع …