-->

رواية جديدة محسنين الغرام لنعمة حسن - الفصل 6 - الأحد 25/5/2025

  

  قراءة رواية محسنين الغرام كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر



رواية محسنين الغرام

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة نعمة حسن


الفصل السادس

تم النشر الأحد 

25/5/2025




ـ لازم نتكلم يا عيشة !

نظرت إليه عائشة بصدمة ، لم تتوقع أنها ستراه أمامها الآن يقف كالجبل الراسخ دون أن يأبه لأي شيء، فبادرته دون تفكير:
ـ جاي ليه يا سالم ؟! وهنتكلم في إيه ؟! ما احنا قلنا كل اللي ممكن يتقال يوم الحفلة .

كان لازال واقفا عند الباب، فتقدم نحوها فأفسحت له المجال عنوة، فتقدم للداخل وهو يعقد ذراعيه خلف ظهره وعيناه تشمل المكان بنظرات متفحصة وهو يقول :
ـ متهيألك .. طول ما في بيننا حلقة وصل يبقا الكلام عمره يا يخلص.

حاولت تهدئة نبضاتها التي تضرب صدرها بقوة وأخذت نفسًا عميقًا ثم قالت:
ـ حلقة الوصل دي تقصد بيها مين بالظبط ؟! حسن ولا نسيم ؟!

ـ الاتنين .

قالها وهو يجلس فوق الأريكة بكل أريحية ، ثم نظر إليها وقال :
ـ ارتاحي يا عيشة ، أنا عرفت ان صحتك مش ولا بد .

جلست على المقعد المواجه له وهي تحاول إخفاء توترها وارتباكها، ونظرت إليه فوجدته ينظر إليها ويقول :
ـ عاوزة إيه يا عيشة ؟! اتكلمي بوضوح أنا سامعك .

ابتلعت ريقها بتوجس وسألته :
ـ مين اللي قاللك اني عاوزة حاجه ؟! انت اللي جاي لحد عندي، يبقا انت اللي عاوز !

ـ عاوزة إيه يا عيشة وتبطلي تبخي سم في ودن حسن وتكرهيه فيا ، عاوزة فلوس ؟! لو عاوزة فلوس أنا رقبتي سدادة من جنيه لألف .

ارتجف فكيها باستياء ونبض الاستياء في وجهها، وقالت باندفاع:
ـ فلوس ؟! كل حاجة بالنسبة لك فلوس وبس ؟! 

مط شفتيه في خطٍ مستقيم وقال ببساطة أثارت حنقها:
ـ قوليلي ناقصك إيه غيرها ؟! 

ـ ناقصني تسيبني في حالي أنا وابني يا سالم .. وكفاية أوي اللي أخدته مني .. كفاية بنتي اللي مش قابله تسمعني ولا تفهمني .

ـ أنا موقفتش بينك وبين بنتك ، متدخلتش في علاقتك بنسيم والموقف اللي هي وخداه منك ده بناءً على رغبتها هي .. إنما انتي .. انتي واقفة بيني وبين ابني ومتأكد إنك بتحاولي تكرهيه فيا .. أنا عارفك كويس .

التمعت الدموع بحدقتيها وقالت بضعف:
ـ أنا بحاول أحميه منك ، انت ألعن من المرض الخبيث يا سالم ، لو قربت من حد مش بتسيبه غير لما تدمره ، وبعدين انت عاوز إيه من حسن ؟! هو انت مش عندك اتنين غيره ؟! طمعان في الواد اللي حيلتي ؟! ده هو اللي ليا من الدنيا يا سالم .. محيلتيش غيره ، إنما انت عندك ولادك وعيلتك كلها حواليك .

رأته يستريح بظهره إلى ظهر المقعد ثم يضع ساقًا فوق الأخرى بعجرفة وقال :
ـ سالم مرسال مبينقيش يا عيشة ، دول عيالي .. وكلهم لازم يكونوا معايا وتحت جناحي ، بمزاجهم أو غصب عنهم .

مالت بجزعها للأمام قليلا باندفاع وهي تقول بغضب سيطر على ملامحها:
ـ عمرك ما هتتغير يا سالم.. هتفضل طول عمرك أناني وبتتعامل مع الكل كأنهم من ضمن ممتلكاتك الخاصة ، فاكر إن ولادك اللي معاك تحت جناحك صحيح لكن انت موهوم … ولادك أول ما هتجيلهم الفرصة هيخرجوا عن طوعك و هيبيعوك ، و الدليل أهو ابنك الكبير ساب البلد كلها وسافر لأنه مبقاش قادر يستحمل حقيقتك .. و نسيم اتجوزت أخو اللي كان حبيبها اللي انت قتلته عشان بس تهرب من سجنك .. و عمر هيهرب منك ومش هتعرف ترده تاني ، عاوزني بقا أسلمك ابني عشان تزرع فيه الغل والأنانية وتكرهه في نفسه زي ما عيالك كرهوا نفسهم بسببك ؟؟

علقت أنفاسه بحلقه ، وتراجع العزم الذي كان يفوح من عينيه مخبرًا إياها بأنها قد أصابت القول ، فقال:
ـ كل اللي بتقوليه ده مش مهم ، اللي يسافر يسافر واللي يتجوز يتجوز.. لكن هم في الأول وفي الآخر ولاد مين ؟! ولاد سالم مرسال.. مش شايلين اسم راجل تاني لا يعرفهم ولا يعرفوه .

ـ ومين اللي قالك إن حسن شايل اسم راجل ميعرفوش ؟! محمود الله يرحمه كان أحن عليه مني أنا شخصيا.. كان معتبره ابنه اللي من صلبه وعمره ما قصر معاه ، ولو كان محمود عايش لحد يومنا ده مكانش حسن بقا ده حاله . 

نظر إليها بحدة تفاعل معها جسده بالكامل، واضطربت نظراته الواثقة وهو يقول :
ـ قُصر الكلام يا عيشة ، حسن مصلحته معايا أنا .. وأنا هعمل كل اللي أقدر عليه عشان يعقل ويرجع عن الغباء اللي بيفكر بيه ، ومسيره يعرف إن القوة معايا أنا . أنا اللي هحميه وهساعده يبني مستقبله ، لكن طول ما هو معاكي هيفضل دافن راسه في الرمل.

ـ أنا أنا أنا.. كل حاجه أنا.. انت وبس ومفيش حد تاني بعدك .. مش شايف غير نفسك دايما ومفكر إنك هتقدر تشتري الكل بفلوسك.. لو على الفلوس أحب أطمنك ، حسن ايده مش قصيرة وبيعرف يجيب القرش من بؤ العفريت .. 

ابتسم وهو ينظر إليها بنظرات تشبعت بالثقة وقال :
ـ الفلوس لوحدها مش كفاية ، الفلوس محتاجة نفوذ تتسند عليه، وأنا معايا الفلوس والنفوذ ومعايا كل حاجه حسن محتاجها عشان يكبر ويلاقي نفسه في المكان اللي يستحقه .

ونهض معلنًا ختام القول ثم أضاف:
ـ الخلاصة يا عيشة، لو بتحبي ابنك ساعديه ياخد حقه اللي اتحرم منه ٣٣ سنه ، ساعديه يلاقي عيلة وأهل يتسند عليهم.. انتي مش هتعيشي له طول العمر ، ولا أنا كمان .. لكن موجود اخواته ربنا يخليهم .. هما اللي هيسندوه لو وقع في يوم من الايام.. وقبل كل ده موجود اسم العيلة اللي لوحده ضمان إنه يعيش طول عمره مرفوع الراس. لو بتحبي حسن بطلي تكرهيه فيا وسيبيه هو يختار طريقه بنفسه .

اتجه نحو الباب وأدار المقبض ينوي الخروج، ثم توقف وأخرج من جيب سترته الداخلي ورقة وقلم ودون به شيئا ما ثم قال :
ـ ده عنوان بيت نسيم ، روحي لها وحاولي تصلحي علاقتك بيها جايز تفلحي.  أنا أهو عملت اللي عليا كأب ، اعملي اللي عليكي كأم انتي كمان .. وافتكري ان مصلحة عيالنا خارج أي حسابات بيني وبينك .

تركها وغادر ، فتهاوت هي على المقعد وهي تشعر بالألم يغزو قلبها ويفتك به ويزيده فوق هشاشته أضعافًا . 

أيعقل أن تنتهي معركتها من أجل ابنها بعد كل تلك السنوات لصالح سالم ؟! أيعقل أن تصبح بعد كل تلك التضحية هي الطرف الخاسر !!

❈-❈-❈  


توقفت السيارة أمام مدخل الڤيلا ، فترجلت نغم بتردد.. لم تكن واثقة بخطواتها ولا بقدميها اللتين تدعمانها، ووقفت تنظر إلى الڤيلا وهي تتذكر اليوم الأول الذي دخلتها فيه .. 

اندفعت الدماء عبر جسدها بغضب عندما رأت سيارة چيلان ، وتذكرت على الفور ما قالته في حقها ، فدخلت وهي تنوي حرق الأخضر واليابس ، ستهدم المنزل بأكمله فوق رأسه تلك الكاذبة ، ستقتلع رأسها الشقراء وتعلقها على باب المنزل حتى تجعلها عبرة لمن يعتبر أو لا يعتبر ـ هكذا منّت نفسها ـ .

دخلت والغيظ يجري منها مجرى دمها ، واقتحمت الڤيلا فجأة وصرخت بغضب هز الأرجاء فجأة :
ـ چيلاااان !!!!! 

أرسل صدى صوتها موجات ساخطة جذبت انتباه الموجودين كلهم وأولهم زينب التي تعرفت على صوتها فورا فخرجت من المطبخ راكضةً نحو الخارج وهي تقول:
ـ نغم ؟! في إيه يا بنتي خير ؟

ـ چيلاااان !!!! 

صرخت بها مجددا وهي تزأر بقوة تكتشفها الآن للتو ، متجاهلةً سؤال زينب التي كررته بخوف وقالت:
ـ حصل إيه يا نغم طمنيني ! عاوزة إيه من چيلان هانم ؟

كانت تتنفس سريعا وهي تشعر بأن الدماء ستنفجر من عينيها من فرط الغضب، وما إن لمحت چيلان التي غادرت غرفتها للتو حتى تأهبت وثارت أكثر .. 

ـ في إيه ؟! بتنادي كده ليه يا بني آدمة انتي ؟! هو انتي مفكرة نفسك فين ؟! 

غادر عمر غرفته بعد سماعه صوتها، ولحق بچيلان التي نزلت درجات السلم وهي تتجه نحو نغم باندفاع إلى أن توقفت أمامها .

اقتربت منها نغم ووقفت في مواجهتها مباشرةً وقالت بصوت مهتز :
ـ انتي قلتي لحسن إني سرقت خزنة سالم بيه ؟! 

اهتز حدقتيها الزرقاوتين بتوتر ، وأجفلت عندما اقتربت منها نغم أكثر وهدر صوتها الغاضب متسائلا :
ـ ردي !! انتي قلتي لحسن إني سرقت خزنة سالم بيه ؟!! 

نظرت إليها چيلان وهي تستدعي ثقة وهمية غير موجودة:
ـ أيوة .. الكل هنا عارفين إنك سرقتي الخزنة وهربتي ؛ بما فيهم فريد طبعا .

أضافت الأخيرة بتشفي، بينما نغم كانت تقسم أنها استمعت إلى صوت حطام قلبها وقد انشطر صمت المكان بسببه .. فريد صدق أنها سرقت خزنة والده ، لذا فلم يكن من السهل أن يصدق ما قالته يوم الحفل ومن ثم اتهمها بأنها تحيك المؤمرات ضده بكل سهولة .

استقام ظهرها ، وارتفعت نظرتها الواثقة وبها كثير من الغضب لتقابل نظرات چيلان المشوشة وفجأة .. صفعتها بكل قوة ، وغضب، وحسرة ! 

ـ انتي كدابة !

ألقتها وهي تبتعد ، بينما چيلان قد ألجمتها الصدمة ووقفت تتطلع نحوها بذهول ، أما عمر .. فاندفع نحو نغم قائلا بعصبية:
ـ انتي عبيطة ولا إيه ؟! ايه اللي عملتيه ده ؟

كانت نغم تنظر إليه ثم إلى جيلان شزرًا وهي تقول:
ـ وعندي استعداد أعمل أكتر من كده ، أنا مليش علاقة بسرقة خزن ، ومش مستبعدة انك تكوني انتي اللي سرقتيها وقاصده تلبسيني أنا التهمة دي.. 

وقفت چيلان في موقف لا تحسد عليه ، فكانت تبدو كالمسكينة وهي تحاول التحلي بالشجاعة الوهمية أمام نغم التي تتحدث بكل ثقة ، وبينما هما تنظران لبعضهما البعض بتحفز نطقت زينب قائلة :
ـ احنا عارفين يا نغم إنك مسرقتيش .

التفتت نغم نحوها سريعا بلهفة ، بينما ظلت چيلان ترمقها بخوف وترقب وتلاقت نظراتهما ، فقالت :
ـ الباشا كمان عارف مين اللي سرق !

رأت زينب التوجس ممزوجًا بالتحذير يلوح في عينيها بإباء، واحتدت نظراتها ولمعت زرقاوتيها أكثر فقالت زينب:
ـ الباشا قال من فترة إنه لقى شنطة المسروقات في اوضة الكاميرات وانه عارف مين بالتحديد اللي سرقها ، وقال إنه غالبا حد تبع الأمن .

شعرت نغم بروحها وقد ردت إليها ونظرت إلى زينب قائلة وهي ترتجف :
ـ فين سالم باشا ؟ لازم هو بنفسه يبرئني قدام الكل ويقولهم اني مسرقتش حاجه .

نظرت إليها زينب بشفقة وقالت :.
ـ الباشا خرج من شوية .

أومأت نغم وهي تجاهد لكي لا تنفجر باكية من فرط قهرها، ونظرت إلى چيلان وقالت مشهرةً سبابتها بتحذير :
ـ أقسم بالله لو فكرتي تجيبي سيرتي تاني في أي كلام لهتشوفي رد فعل يصدمك .

وأدارت وجهها وغادرت بينما كان عمر ينقل عيناه بينهما بتردد وحيرة ثم سأل چيلان التي بقت تتطلع في أثر نغم بحقد وقال:
ـ انتي قلتي لحسن الكلام ده إمتا ؟! هو انتوا من امتا بينكم كلام ؟

نظرت إليه بطرف عينيها بحدة وقالت ساخطة:
ـ مش ناقصة غباءك انت كمان يا عمر ، كلام إيه اللي هيكون بيني وبين واحد بلطجي زي ده ! 

أصابته كلماتها بالغضب فهتف صائحًا بضيق:
ـ ما هو عشان أنا عارف إن مفيش بينك وبين واحد بلطجي زي ده كلام فبسألك قولتيله كده إمتا ؟! 

زفرت بانفعال وقالت متهكمة :
ـ لما كان سيادته مستضيفني عندهم في البيت عشان البرنسيس بتاعته ترجع له. وقتها اضطريت أعرفه انها مش موجودة في الڤيلا أصلا وكل اللي بيعمله ده عالفاضي ، كده واضح ولا لا .

انسحبت زينب وهي تشعر بالقهر والضيق يعتريانها لأنها لم تستطع قول الحقيقة التي ستبرأ نغم واضطرت لاخفائها قسرًا ، وعادت إلى المطبخ وهي تلعن عجزها الذي قيد لسانها بقيدٍ من نار.

صعدت چيلان إلى غرفتها وهي ترغي وتزبد والشرر يتطاير من عينيها ويكاد يلتهم كل شيء أمامها .

أما عمر فوجد نفسه يغادر الڤيلا مسرعًا وهو يحاول اللحاق بنغم .

خرج من البوابة وأخذ يمسح المكان بعينيه بإحباط لأنه قد ظنها غادرت، ولكنه تفاجأ بها تجلس بعيدا ، على الرصيف المجاور للڤيلا، وتبكي بانهيار ..

أسرع نحوها وتوقف أمامها ينظر إليها بأسى وهو يقول :
ـ قاعدة كده ليه يا نغم ؟! 

انتبهت لوجوده فرفعت عينيها نحوه ونظرت إليه بحدة وهي تقول:
ـ مستنية سالم بيه يرجع علشان أأكد له إني مسرقتش حاجه ولازم يثبت قدام الكل إني مش أنا اللي سرقت .

تنهد بضيق، ثم جلس بجوارها على الرصيف في صمت ، وبعد تفكير أطرق رأسه بإلحاح قال :
ـ أنا آسف .

قطبت جبينها ونظرت إليه من زاوية عينيها بتعجب وهي تقول:
ـ آسف على ايه ؟

زفر باستياء وقال :
ـ آسف لأن أنا أول واحد ظنيت فيكي وقلت انك سرقتي .

استدارت نحوه بكامل جسدها ونظرت إليه باستغراب بينما هو تابع:
ـ لما الباشا قال إن الخزنة بتاعته اتسرقت تاني يوم ما انتي اختفيتي أنا أول واحد قلت أكيد نغم اللي سرقتها وهربت .. چيلان ملهاش ذنب ، أنا اللي اتهمتك .

شعرت بالقهر ، بالغضب ، بالضياع .

إن سألها أحدهم عن أمنيتها الآن فستكون الإجابة أن تختفي من هذا العالم بأسره.

أن تصبح عدم ، تتلاشى وكأنها لم تكن .

أشفقت على حالها كثيرا ، أصبحت موضع اتهام في جرم لم تقترفه.. ولكن هذا ما قادها نحو سؤال كانت تهرب منه دومًا ..

ماذا عن ما اقترفتِه سابقّا نغم ؟! .. تشعر بالندم حياله . تشعر بالقرف من حالها، بالخزي، العار يكسوها من رأسها لقدميها ، حتى أنه يحول بينها وبين الشعور بالظلم !

التزمت الصمت ولم تعقب، لكن برأسها كان هناك عشرات الأصوات الصاخبة تنهشها بقوة ..

كيف تجرؤين على تقمص دور المظلومة وأنتِ لستِ نظيفة اليدين من الأساس ؟!
نعم .. لم ترتكبِ تلك التهمة بالتحديد ، ولكنك فعلتِ مثلها كثيرا .
أنتِ لستِ بريئة نغم، حتى وإن ثبتت براءتك من تهمة سرقة سالم، فلن تستطيعي إثبات براءتك من تهمة سرقة الكثيرون .
أنتِ ـ أمام نفسك على الأقل ـ تعلمين جيدا أنكِ تستحقين الشك المثار حولك ، تستحقين نظرات خالتك وعدم تصديقها لكِ، ونظرات حسن وثقته في أنكِ فعلتِ .

ولكن .. هل تستحقين نظرات فريد الذي صدق بمنتهى السهولة أنكِ سرقتي والده لذلك لم يصدق ما قلتِه له بخصوص أيمن ؟! 

الإجابة نعم . تستحقين أن يصدق أنكِ سرقتِ والده، وأنكِ كاذبة بشأن أيمن ، لأنكِ دخلتِ حياته بكذبة ! أنتِ أكبر كذبة في حياة فريد يا نغم.. أنتِ كنتِ كذبة وانتهت صلاحيتها، نقطة. انتهى.

لم تنجح في إيقاف دموعها، وكذلك لم تنجح في منع سؤالها:
ـ فريد صدق إني أنا اللي سرقت مش كده ؟! 

ـ لأ.. فريد أول واحد قال إنك مستحيل تعملي كده .

نظرت إليه بتفاجؤ فأومأ مؤكدا وقال :
ـ على فكرة فريد مش سهل يصدق أي حاجه تتقال قدامه ، بيفكر في كل شيء بعقل وبيوزن الأمور ، مش متسرع زيي .

وأكمل :
ـ غالبا كده أنا وحسن نفس الصفات .. اخوات بقا .

نظرت إليه بعينين ممتلئتين بالضيق ونهضت فنهض بدوره وقال:
ـ ممكن بقا تقوليلي إنك قبلتي اعتذاري ؟ ولو عاوزاني أكلم حسن حالا و أقوله على الحقيقة هعمل كده .

رشقته بنظرات حادة وقالت بضيق :
ـ آخر همي هو حسن ، يعرف الحقيقه أو ميعرفهاش مش فارق معايا .. اللي فارق معايا إن سالم بيه بنفسه يقول قدام كل اللي في الڤيلا وأولهم اختك اني مسرقتش .

أومأ مؤكدا وقال :
ـ حقك طبعا . على العموم أنا بنفسي هكلمه أول ما يرجع وهقولله اللي انتي عاوزة تقوليه.. أوعدك.

أومأت بموافقة وتركته وابتعدت، سارت وهي تحاول كفكفة دموعها، آخر مكان ترغب في العودة إليه الآن هو بيت خالتها وحسن، ولكن .. أين ستذهب ؟! 

شعرت بالوحدة تشتد وتستفحل بقلبها …
هي حقًا وحيدة !  لا تملك أمًا ولا أبًا ولا إخوة ، لطالما أخبرتها خالتها أنها وحسن يتشاركان نفس المأساة ، ولكنها خاطئة ، على الأقل حسن لديه أم ، يملك بيت خاص به ، على الأقل هو رجل يمكنه البقاء بالشارع إن ضاقت به السبل دون أن تناله الأيدي والأعين الغادرة .. 

لا أحد يشبهها في مأساتها ، لا أحد يعاني نفس معاناتها .. ولكن أما آن لتلك المعاناة أن تنتهي ؟! 

على الفور أخرجت هاتفها وقامت بالاتصال برقم مديرة الصالون الذي عملت به حديثا ، فأجابتها قائلة : 
ـ ألو..

ـ ألو .. مساء الخير يا مدام عليا .. أنا نغم .

ـ خير يا نغم ؟

ـ بصراحة كنت عاوزة أطلب منك طلب .

فتسائلت عليا بضجر أبرز العجرفة بصوتها:
ـ خير يا نغم ؟! 

ـ كنت عاوزة اخد منك مبلغ لأني عاوزة أأجر شقة أعيش فيها، والمبلغ يعني هسده على أجزاء، تخصمي كل شهر جزء من المرتب.

استمعت إلى صمت مطول، وبعدها أجابت عليا بإيجاز:
ـ اوكي مفيش مشاكل ، شوفي محتاجة كام ونقسم المبلغ على أجزاء وتمضي شيك بكل جزء ولما تدفعي تبقي تاخدي الشيك .

ترددت نغم قبل أن تجيب بقلة حيلة:
ـ تمام .. شكرا جدا .

وأنهت الاتصال وهي تتنهد وشعر ببعض من همها يتبدد على عكس خوفها الذي احتشد بقلبها مرة أخرى وبشكل أشد .

❈-❈-❈  


انتهت نسيم من أخذ حمام دافيء بعد عودتهم إلى المنزل، ثم خرجت وجلست أمام مرآتها وأخذت تنظر إلى انعكاس صورتها بالمرآة .. 

لم ترَ سوى انعكاس إمرأة باهتة تسربت الحياة من وجهها . إمرأة تُواصل البحث عن أشلاء قلبها الممزقة بلا كلل أو ملل، تواصل البحث بصورة جنونية عن روح حوّلها الفراغ إلى صحراء قاحلة. ولكن كل ما توصلت إليه في النهاية هو ندبة بمنتصف قلبها تلازمها كالظل ، هناك جرح أزلي لا يفارق مخيلتها ولا وجدانها. هناك ذكريات سوداء حولت حياتها إلى جحيم لا يطاق تلتصق ببالها وتأبى مفارقته .. ولكن ، بعد هذا اليوم تحديدا ، هل يحق لها أن تأمل في استبدال تلك الذكريات بأخرى ؟! أليس من حقها أن تحتفظ في مخيلتها بذكريات أخف قسوة وأقل بؤسًا ؟! 

أسندت مرفقيها إلى طاولة الزينة وأحاطت عقلها المهتريء بيديها وهي تسترجع نصيحة عاصم لها، تسترجع كل شيء وليست نصيحته فقط ، تسترجع حتى تلك النظرة التي ربت على قلبها بها.

تراخى كتفيها أكثر فيما يشبه الانهزام ، وشعرت بالسخط يملؤها لكونها تنجذب إليه بسرعة البرق ، كمن يسقط من أعلى قمة جبل إلى الأسفل سقوطا حرا .. تنجذب إليه كما تنجذب الفراشة إلى الضوء وهذا أكثر ما يؤلمها ويخيفها ..

رفعت رأسها وأخفضت كفيها إلى فخذيها، ثم نظرت إلى نفسها مرة أخرى وهي تهمس :
ـ مش ده اللي المفروض يحصل يا نسيم ، مش بعد ما حازم ضيع عمره عشاني يكون جزاؤه إني أستبدله بحد تاني ، أنا لازم أعمل كنترول على مشاعري ، كل اللي انا حاساه ده أكيد انبهار لحظي ، مش معقول أنا معجبة بيه و…

هزت رأسها بنفي وأغمضت عينيها، أمسكت بجانبي عقلها من جديد وراحت تردد وهي تحاول إقحام ما تقوله إلى عقلها المعطل قسرًا :
ـ مينفعش أقول كده أصلا ، أنا مش معجبة بيه، أنا مشدودة ليه لأنه من ريحة حازم مش أكتر .

اهتدى عقلها إلى ذلك الخاطر وشعرت بضجيج رأسها يتلاشى ـ أو هكذا أوهمت نفسها ـ ونظرت إلى نفسها من جديد وقالت آمرة :
ـ بالظبط ، هو ده الصح فعلا. أنا حابة كونه أخو حازم مش أكتر ، وهو كمان بيتعامل معايا على نفس الأساس، أساسا احنا اتفقنا خلاص اننا اتجمعنا على حبه .. عشان كده لازم أمحي كل التخاريف اللي بفكر فيها دي من راسي وأوزن الأمور بميزان العقل فقط . أنا وعاصم متجوزين لكن مش معنى كده اننا زوجين حقيقيين ، احنا اخوات ماشي، صحاب اوكي.. 

وأشارت بيديها إلى انعكاسها في المرآة وهي تقول بانفعال:
ـ أصلا هو بيتعامل معايا على اننا اخوات وصحاب مش أكتر،  أنا واثقة .

وأخذت نفسًا طويلا ملأت به رئتيها ثم تابعت:
ـ عشان كده لازم أنا كمان أوصل له نفس الاحساس ، اني بتعامل معاه كأخ وصاحب.. علاقتنا عمرها ما هتتطور لأبعد من كده ، ولازم هو يكون فاهم ده كويس .

تنهدت وهي تحاول إقحام ما قالته إلى رأسها عنوة، وتوجهت نحو السرير وألقت بجسدها فوقه بتعب .. وفيما هي تحدق بالسقف بشرود استمعت إلى رنين هاتفها فنظرت به لتتفاجأ باسم فريد !

اضطرب قلبها وثارت نبضاته فرحًا، ثم أجابت مسرعةً :
ـ ألو .. فريد ازيك ؟

لحظات حتى وصلها صوته القلِق كالعادة، المهموم دومًا. يقول:
ـ الحمد لله يا نسيم ، انتي أخبارك إيه ؟

امتلأت عيناها بالدموع وفاضت ، وارتفعت أناملها إلى جبهتها تتحسسه بتوتر وهي تجيب:
ـ أنا كويسه ، متقلقش عليا ، أهم حاجه انت عامل إيه ؟

سمعته يتنهد، كانت واحدة من تلك الزفرات التي صفعت قلبها بقسوة لأنها علمت بمدى حزنه وحيرته، ولكنه كالعادة لم يفصح عن شيء وأبقى ما يؤذيه كامنًا في أعماقه وقال:
ـ أنا الحمد لله ، كل حاجه تمام والدنيا أهي ماشية ..

وأكمل حين لم تعلق :
ـ اشتريت بيت جديد .

لم تضف شيئا أيضا فتابع :
ـ وفي شغل جديد بحضر له .. والحياة أهي ماشية .

استمت إلى تنهيدتها فتعمق شعوره بالذنب، هو أيضا يعلم ترجمة تلك التنهيدة جيدًا، يعلم أنها دلالة على تخبط وحيرة وتشتت، فشعر بالسوء، والغباء أيضا .. وأخذ يلوم نفسه ويؤنبها.. هو إنسان سيء ، تسبب بلا شك في هذا القلق الذي يسمعه في صوتها وصمتها ..

ـ أنا.. أنا عارف إنك زعلانة مني لأني سافرت من غير ما أودعك ..

صمت، ثم تنحنح وهو يحاول أن يتجاهل ثقل ما يشبه العار الذي قبض على دواخله ثم تابع :
ـ أنا آسف .

هنا انهارت . وأجهشت بالدموع التي حبستها وذرفتها في صمت، وبرز صوت بكاءها جليًا حتى وصل إلى مسامع عاصم الذي يقف خلف الباب ويستمع إلى مكالمتها بفريد بحنق فائض.

ـ أنا اللي آسفة إني زعلتك مني بس.. 

صمتت وهي تحاول صياغة كلامها بطريقة تبث في صدره الدفء قليلا، ثم تابعت :
ـ مكانش قدامي حل تاني. 

تنهدت مجددا بطريقة جعلته يشعر بالضيق من نفسه، كما لو استطاع رؤية عينيها تضج بشعور الهزيمة وكثير من الأسى .

ـ أنا تعبت يا فريد ، تعبت وعاوزة أعيش .. جايز تشوف قرار جوازي من عاصم أكبر قرار غلط ومتهور في الحياة كلها، بس صدقني أنا مرتاحة .

ـ مرتاحة مع عاصم ؟!! …. سألها بشك .

فأومأت بتأكيد وكأنه يراها وقالت :
ـ الحقيقة أيوة .

شردت قليلا ، ثم تابعت :
ـ يمكن مش هتصدقني لو قلت لك إني حسيت معاه براحة عمري ما عِشتها قبل كده ، بس دي الحقيقة ، اطمن يا فريد أنا واثقة إن عاصم مش خطر عليا أبدا .

استمعت إلى زفرتهُ المطولة ، فامتلأ قلبها بالضيق لأجله وقالت:
ـ أنا.. هحاول أتكلم معاه تاني يرجعلك الشركة بتاعتك عالأقل .

ـ اوعي تعملي كدة . 

نهاها بحدة ، فتساءلت بتعجب:
ـ ليه ؟

ـ أنا آخر همي الشركة يا نسيم وانتي عارفة، الشركة مش فارقة معايا صدقيني وقادر أأسس غيرها ، وعشان أكون منصف .. أنا مش بلوم على عاصم في اللي عمله، يعني.. لما حطيت نفسي مكانه وتخيلت ان عمر أو انتي.. لا قدر الله حد أذاكم .!! حالي هيكون ازاي وقتها ؟ أكيد مش هفكر بعقل، وهحاول أنتقم بأبشع الطرق .. اللي عملُه عاصم ميجيش نقطة في بحر اللي هفكر فيه ، ده واحد أخوه اتقتل .. أكيد مش هيسامح في حقه .. و ده اللي مخوفني !

عربت آهه من فمه. لا.. من قلبه ، من عمق قلبه بالتحديد. وتابع :
ـ أنا شايف إن شخصية زي عاصم مش هيكتفي باللي عمله، ومتأكد إنه بيخطط لشيء قاسي جدا ، وخايف عليكي جدا جدا يا نسيم .

أفرغ حقيقة الأمر وحقيقة ما يشعر به ، وصارحها بما يشغله، ثم تابع :
ـ مكانش لازم توافقي ، انتي شايفة نفسك في أمان معاه بس الحقيقة غير كده .

ـ فريد صدقني أنا مرتاحة معاه ومطمنة ، عاصم… " تنهدت بقوة وتابعت باستسلام " .. عاصم مش قاسي زي ما يبان عليه .. صدقني .

ـ نسيم .. من فضلك خلي بالك من نفسك وخليكي حذرة في تعاملك معاه، أرجوكي !

ـ متخافش عليا .

ـ لأ خايف .. طول الوقت خايف عليكي وعلى عمر ، خايف عاصم يحاول يأذيه أو يأذيكي .. شخص زي ده ممكن يتلاعب بيكي بسهولة ويوهمك بحقيقة عكس حقيقته .. عشان خاطري .. لو سمحتي .. متثقيش فيه الثقة الكاملة.

حركت كلماته شيئا داخلها، شيئا ضغطها ومنع راحتها ؛ فتنهدت بعدها وقالت :
ـ حاضر . أوعدك هخلي بالي من نفسي .. متقلقش عليا لو سمحت.

حاول أن يطمئن نفسه ولكنه لم ينجح، فأخذ نفسًا عميقًا ثم قال:
ـ ربنا معاكي ويحميكي .

اهتز قلبها مجددًا بتأثر فقالت :
ـ إن شاء الله.. 

ـ هكلمك تاني ، ولو احتاجتي أي حاجه أو حسيتي انك عاوزة تحكيلي أي حاجه اوعي تترددي. تمام ؟

ـ أنا مكنتش محتاجة غير اني أسمع صوتك وأعرف انك مش زعلان مني .

ـ أنا عمري ما أزعل منك يا نسيم ..

وأضاف بمرح :
ـ واحدة من قدراتي كأخ أكبر إنكم لو رميتوني بالرصاص حتى مش هبطل أحبكم ولا أخاف عليكم .. انتي وعمر أغلى اتنين عندي وطول ما انتوا بخير أنا بخير صدقيني .

ابتسمت وهي تشعر الآن بالرغبة في عناقه والبكاء بشدة حتى تجف عيناها ، ولكنها أظهرت تماسكًا وهميًا وهي تتساءل بنبرة ماكرة :
ـ أنا وعمر اغلى اتنين .. طيب ونغم ؟!

استمعت لصمت كانت تعلم بقدومه، وهذا ما أعطاها الفرصة لكي تضغط أيقونة تسجيل المكالمة استعدادا لما سيقوله .. فاستمعت إلى صوت تنهيدة منهكة، متألمة، محبطة، ثم تابع وقال :
ـ نغم أجنّ وألذّ حب في الدنيا .. استثنائية في كل حاجه ، جنانها، براءتها، حزنها، ضحكتها، عينيها.. حتى في غبائها استثنائية !

زفر ساخرا، يائسا من حاله، وتابع:
ـ بالرغم من انها عنيدة ومتعبة بس فيها حتة انكسار بتخليني مش قادر أتخلى عن احساسي بالمسؤولية تجاهها  .

وتنهد مغلوبًا على أمره ثم قال:
ـ أنا عمري ما ندمت ولا هندم على حبي ليها، نغم هي الوحيدة اللي دخلت قلبي ومش ممكن تخرج منه أبدا .

ابتسمت نسيم وهي تشعر بالسعادة تغمرها لأنها تحمل دليلا قاطعا بين يديها سيساعدها في تحقيق الكثير لصالحه وصالح نغم ، وقالت بنبرة يملؤها الرضا :
ـ إن شاء الله ربنا يهديها .

تنهد بانفتاح أكثر وأضاف بمرح خافت:
ـ إن شاء الله ربنا يلهمني الصبر اللي يؤهلني أكمل حياتي معاها من غير ما أتجنن أو يجيلي أزمة قلبية كل تلت شهور مرة على الأقل .

انبثقت ضحكتها بقوة فضحك بدوره ثم قال مختتمًا حديثهما :
ـ خلي بالك من نفسك يا نسيم ، مش هوصيكي.

ـ حاضر .. وانت كمان .

ـ إن شاء الله ، تصبحي على خير.

أنهت المكالمة ثم تنهدت براحة عارمة ، واستلقت وابتسامتها تزين ثغرها ، ثم قامت بقص التسجيل الصوتي بداية من حديثهما عن نغم وقامت بإرسال المقطع الصوتي عبر تطبيق المحادثات إلى نغم .. وأغلقت الهاتف وهي تشعر بالرضا ثم استسلمت لتلك الرغبة المُلحة في النوم .

❈-❈-❈  


عاد عاصم إلى غرفته وهو يشعر بالضيق ، التقط هاتفه وحاسوبه وخرج متجهًا نحو حديقة المنزل ، ثم تمدد فوق الأريكة وفتح الحاسوب وبدأ بمراجعة بعض رسائل البريد بانشغال .

زفر وهو يشعر باعتلال راحته فأغلق الحاسوب مجددا وأسقط رأسه للخلف وهو يفكر تفكيرا صنت الضجيج برأسه ..

يشعر بالسوء بعدما سمع ضحكاتها وهي تهاتف أخيها .. لم يكن عليها أن تفعل، فهو لا يرغب في أن تكون بينهم صِلة ، لا يرغب في بقاء الود بينهم.. يريدها أن تكرههم وتحمل لهم الضغائن كما يفعل هو… 

تلك العائلة ـ باستثناءها ـ هي عدوه الأول .

تلك العائلة ـ باستثناءها ـ مسؤولة عن حرمانه من أخوه ، تقبلوا قتل والدهم لشخص بريء مظلوم وساعدوه في إخفاء جثته والتكتم على ما فعله وكأن من مات لم يكن سوى حيوان لا قيمة له ، وبعدها تعايشوا وتناسوا الأمر وكأنه لم يكن ، لم يشعر أحدا فيهم بوخزات الضمير ، لم يشعر أحدهم بمقدار ذرة مما شعر هو من ألم حارق دهس كل مشاعر الرحمة بقلبه على مدار ثمان سنوات .

ضحكاتها تلك لم تكن سوى خنجرًا طعن قلبه بقوة .
يعلم أنه شقيقها الذي كان بالنسبة لها بمثابة أب، ويعلم أنه حنون ومراعِ ويحبها.. 

ولكن .. هو أيضا يمكنه منحها كل ذلك شريطة أن تكون له وحده .

أن تتخلى عن تلك العائلة القاتلة ، أن تكرههم وتشاركه انتقامه منهم، أو أضعف الإيمان أن تقطع صِلتها بهم .

أليس هذا عدلا ؟! 

هل ما يتمناه صعبًا ؟ مستحيلا ؟ غير منطقيا ؟!!!

انزلق في مكانه أكثر ومدد جسده ناشدًا راحة مؤقتة ، وأخذ يحدق في الفضاء الواسع من حوله وهو يرتب أفكاره وقراراته وخططه المستقبلية إلى أن خمد رأسه المشتعل قليلا، وبدأ جفنيه بالتراخي . 

❈-❈-❈  


" كل أنواع السعادة تتشابه، ولكن كل ألم يؤلم بطريقته الخاصة. "
ـ ليو تولستوي.

ـ نغم .. كنتي فين كل ده رعبتيني .
قالتها عائشة وهي تندفع نحو الباب حين رأت نغم تدلف إلى الشقة، ووقفت أمام نغم تنظر إليها ثم عانقتها فجأة وهي تقول:
ـ متزعليش مني يا حبيبتي ، مكنتش أقصد أقسى عليكي .

احتقنت عيني نغم بالدموع وجاهدت لئلا تنفجر باكية مرة أخرى وقالت بصوت متحشرج:
ـ حصل خير يا خالتي .

ـ حقك عليا يا نغم، المفروض بدل ما ألومك أشكرك انك طول السنين دي شايلة همي ، وبعدين اللوم مش عليكي ، اللوم عليا أنا يا حبيبتي متزعليش مني .

تجمهر الدمع على حافة عينيها وابتعدت عن حضن خالتها بهدوء، ثم نظرت إليها بابتسامة منهزمة وقالت:
ـ مش زعلانه منك، متضايقيش نفسك خلاص اللي حصل حصل.

زفرت عائشة وأومأت ثم قالت:
ـ كنتي فين ؟! لما اتأخرتي خفت تكوني مشيتي ومش راجعة تاني.

كادت لتنطق وتخبرها أنها قد اتخذت خطوة تجاه هذا الأمر بالفعل ولكنها أرجأت اخبارها لوقتٍ لاحق، ثم قالت :
ـ اتمشيت شوية ورجعت .

مسدت ذراعها بهدوء ثم قالت:
ـ مجتش فرصة أسألك، عملتي إيه في الشغل النهارده ؟

ـ الحمد لله ، كان يوم طويل بس أهو عَدى .

ـ طيب يا حبيبتي ادخلي غيري وأنا هعملك لقمة تاكليها ..

أمسكت نغم بيدها تستوقفها ثم قالت:
ـ لأ يا خالتي مليش نفس ، أنا هدخل أنام .. تصبحي على خير.

ألقتها باقتضاب وتسللت إلى الغرفة بقدمين متعبتين، أخذت حماما سريعا ثم دخلت إلى سريرها وهي تمسك بالهاتف لتجد رسالة صوتية من نسيم .

قامت بفتحها على الفور فإذ بها تستمع إلى صوت تنهيدة فريد الذي أعقبها بقوله " نغم أجنّ وألذّ حب في الدنيا " .

كانت شبه واعية. ولكن الآن .. بعد أن استمعت إلى صوته وما قاله عنها ، غُيبت تمامًا .

نظرت بالهاتف مجددا لتتأكد أن الرسالة قد وصلتها من نسيم وليس منه هو، واختنقت العبرات بصدرها فأحاطت وجهها بكفيها وكتمت صوت بكاءها بصعوبة ..

تحتاجه الآن .. يلملم بكفيه الحنونتين شتاتها ، يحيط فوضاها بين ذراعين ذا بأسٍ وقوة .. يمنحها ابتسامة تتجاوز بها مر الأيام .

ظلت تستمع إلى صوته مرة تلو الأخرى ، وابتسامتها تُشكل مع دموعها لوحة بلهاء ، هي الآن أكثر من سعيدة، أكثر من راضية، أكثر من عاشقة. 

❈-❈-❈  


في صباح اليوم التالي ..

خرجت نسيم من غرفتها وبداخلها كانت تشعر بالتعجب لأنه لم يوقظها كعادة كل يوم، فازداد تعجبها عندما رأت مائدة الإفطار وقد أعدّ عليها فطورا كاملا ، اقتربت نسيم من المائدة فوجدته قد ترك لها ورقة كتب فيها : 
" صباح الخير.. اضطريت أخرج بدري عشان عندي شغل مهم . افطري كويس . "

قطبت جبينها بتعجب، هذا الرجل لا يتوقف عن إثارة اهتمامها وفضولها نحوها ، يختفي فجأة كما يظهر فجأة، يحضر لها الفطور ويترك لها رسالة، يخالف توقعاتها في كل مرة تجاهه.

وقعت عيناها على شيءٍ آخر .. فالتقطته وقد تجهمت ملامحها تماما، ذلك الشيء لم يكن سوى منديله الذي احتفظ بداخله بحفنة التراب التي اتخذتها تذكارا من قبر حازم .

أمسكت بالمنديل وأخذت تنظر إليه وهي تشعر بالحزن، ثم جلست على المقعد وهي تمسك بالمنديل في يديها وقد اعتراها الضيق والسوء .

رن هاتفها برقمه ، فتنهدت وأجابت:
ـ ألو ..

ـ صباح الخير.

ـ صباح النور.

ـ إيه الأخبار؟ فطرتي ؟

أجابت بإيجاز :
ـ أيوة .

ـ عظيم .. طيب يا ستي أنا بكلمك عشان أعرفك ان الدكتورة توليب هتكون عندك النهارده الساعة ٤ .. تمام ؟

ـ تمام .. أنا بستنى زينب .. المفروض إنها على وصول مش عارفه إذا كانت هتيجي ولا لأ .

ـ متقلقيش هتيجي.

استمع إلى تنهيدتها المحبطة فقال بصوت لا يسعه سوى أن يكون حنونًا :
ـ في حاجة بسعى لها هتفرق معاكي جدا يا نسيم .

تساءلت بفضول :
ـ حاجة إيه ؟

ـ لما تتم هتعرفيها .. ادعي بس تتم على خير .

ـ إن شاء الله.

استمعت إلى رنين جرس الباب فقالت:
ـ زينب أهي وصلت .

ـ تمام ، أشوفك بالليل .

ـ إن شاء الله.

كانت ستنهي المكالمة، ولكنه استوقفها قائلا:
ـ نسيم .. 

ـ نعم ؟

ـ افطري لو سمحتي .. فرصة زينب جت تفتح نِفسك.. سلام .

أخذت تنظر بالهاتف بصدمة ارتفع لها حاجبيها، من أين عرف أنها لم تتناول فطورها ؟! هل يراقبها ؟! 

أوقفت رأسها عن التفكير وأسرعت لتفتح الباب بحماس وشوق لرؤية زينب .. 

ولكنها لم تكن زينب !! 

❈-❈-❈  


وضع عاصم الهاتف فوق مكتبه بإحباط، وضم قبضتيه وأسند ذقنه فوقهما وشرد للحظات ..

صوتها الناعس أخبره أنها قد استيقظت منذ قليل، وإجابتها الموجزة السريعة حين سألها عن الفطور أخبرته أنها كاذبة، وحفنة التراب التي تركها لها على المائدة لكي تذكرها بحازم وبشاعة ما فعلته عائلتها به كفيلة لسد شهيتها لأيام .

لقد تركها لها عن قصد ، لا بد أن يبقى قتل حازم وقاتله أمام عينيها طوال الوقت ، لا ينبغي أن تنساه لئلا تبرد نارها ورغبتها في الثأر له. 

وبالرغم من ذلك يشعر بالندم لأنه تسبب في ضيقها وحزنها منذ الصباح ، ولكنه يظنه قادرا على إصلاح ذلك الخطأ .

استدعى رشيد الذي استجاب لطلبه فورا ، ونظر إليه متجهم الوجه وهو يقول :
ـ اسمع ، الدار اللي كان حازم الله يرحمه شغال فيها لسه فاكر عنوانها طبعا.

أومأ رشيد مؤكدا فتابع :
ـ عظيم ، مدير الدار بقا .. هل الحالي هو نفسه اللي كان من عشر سنين ؟!! أعتقد كان اسمه موسى .. مش فاكر الاسم بالظبط .

فأجابه رشيد بثقة :
ـ موسى المالكي .

ـ أيوة .. برافو عليك ، هو الحيوان ده ، تعرف عنوانه ؟ 

أومأ رشيد مؤكدا وقال :
ـ العنوان سهل نجيبه ، بس ليه ؟

تصنع عاصم عدم الاكتراث وقال :
ـ متشغلش بالك موضوع تافه ، المهم عاوز عنوانه.. ويا ريت لو أي معلومات عنه ، متجوز، مطلق، مخلف، غار في ستين داهيه ..

ـ اللي أعرفه انه مخلفش ومتجوز من فترة قريبة بنت من بنات الدار بتاعته .. كنت قرأت الخبر يعني .

زم الآخر شفتيه باستياء وهو يقول :
ـ واضح انه مرض متأصل فيه . على العموم هاتلي العنوان النهارده لو ينفع.

ـ ينفع طبعا، تحت أمرك .

ـ وحاجة كمان، كنت من كم يوم كلمت مسؤول دعاية وإعلان عشان يعمل خطة دعائية جديدة للشركات اللي كانت مِلك عيلة مرسال بحيث نعلن امتلاكنا ليها بشكل جديد ، أنا غيرت رأيي. الشركات دي هتتحول لدور أيتام باسم حازم الله يرحمه .. عاوزك تتابع انت الموضوع وتتواصل معاهم وتبدأ التجهيزات ، أنا الفترة الجاية هكون مشغول في كذا حاجة ومسافر بالليل فمش رايق خالص . هعتمد عليك انت في الموضوع ده .

ـ متقلقش، سيبلي كل حاجه واطمن.

ـ شكرا يا رشيد ، اتفضل انت .

خرج رشيد من المكتب وظل عاصم بمكانه يفكر في الخطوات القادمة وما سيليها وهو يطالع صورة حازم المُسندة فوق المكتب ويمنحه وعدًا صامتًا صادقًا بالانتقام .

❈-❈-❈  


ـ انتِ !!! 

قالتها نسيم بصدمة وهي تنظر إلى عائشة التي تقف أمامها ومن الجليّ على ملامحها الانكسار والضعف ، وتابعت باستهجان :
ـ جاية ليه وعاوزة مني إيه ؟! هو أنا مش قلت لك اني مش عاوزة أعرفك ؟!

اقتربت عائشة فأشارت إليها نسيم بالتوقف وقالت:
ـ من فضلك متدخليش، امشي من هنا .

برز صوت عائشة التي تحدثت بنبرة تفوح منها رائحة الحزن واليأس وقالت:
ـ عشان خاطر ربنا اسمعيني يا نسيم، أنا جاية أقوللك كلمتين بس وماشية مش هضايقك .

تشنج كتفاها ودق قلبها دقات مختلفة مؤشرًا على قرب انهيارها وقالت:
ـ وانا مش عاوزة أسمع منك كلام، انتي بالنسبة لي ولا أي حاجه ، أنا معرفكيش .

ـ أنا أمك .

قالتها عائشة وهي تشير بانهزام إلى نفسها وسالت دموعها وقالت:
ـ أنا عارفة انك اتظلمتي بس. 

ـ انتي مش عارفة أي حاجه.. قالتها نسيم صارخة بحرقة وتابعت: انتي متعرفيش أنا مريت بايه، ولا شفت إيه، ولا حصل فيا إيه، انتي رميتيني واخترتي ابنك، اوكي خلاص خلصنا ، رميتيني لأب جاحد .. عذبني، و أهانني، ورماني في مدرسة في بلد تانية، وبعدها في ملجأ، وقتل حبيبي .. عارفة كل ده ليه ؟! لأني جيت غلطة.. نزوة وانا كنت نتيجة النزوة دي.. انتي السبب في كل السواد اللي أنا فيه، أنا مكرهتش حد في حياتي قد ما كرهتك يا ست انتي !! 

بُهتت عائشة، تسارعت دقات قلبها وهي تنظر نحوها، وشعرت بشيء سيء وقاسي طغى على ملامحها، وترددت الكلمات برأسها قبل أن تقول وهي تبكي بندم:
ـ حقك عليا والله .. أنا آسفة، سامحيني .

أشارت نسيم نحو الباب المفتوح وقالت بقسوة :
ـ امشي من هنا ، أنا لو بعاملك بذوق فعشان انتي خالة نغم وبس.. أما أنا فمش معترفة بيكي أبدا ولا عمري هعترف، أمي ناهد مرسال الله يرحمها، هي اللي ربتني، هي اللي حمتني وحافظت عليا، طول التمن سنين اللي عشتهم معاها كانت أحن أم في الدنيا ، طبطبت عليا وحضنتني وعاملتني كأنها أمي فعلاا وعمرها ما فرقت بيني وبين فريد ، إنما انتي مجرد واحدة أنانية أنا متشرفش انها تكون أمي أصلا .

نكست عائشة رأسها بضعف وقد فشلت في استجداء عطفها أو استرضاءها، وكذلك فشلت فشل ذريع في كفكفة دموعها .. 

ـ لو سمحتي امشي ومتفكريش تيجي تاني ، أصلاا عرفتي عنوان البيت منين ؟

أجابتها عائشة بوهن، وبصوت متقطع:
ـ ابوكي هو اللي عطاني العنوان .

ابتسمت نسيم بسخرية وقالت باستهجان:
ـ ما صدق خلص مني وباعتك ورايا تكملي عليا، عاوز يلهيكي بيا عشان يخطط يسترد ابنه ليه ، ألا تكوني مفكرة سالم مرسال عاوز يساعدك لله أو شفقة عليكي أو عليا.. 

وأضافت بنبرة حقد خالصة دفينة:
ـ انتي و هو السبب في كل السواد اللي في حياتي ، شايفه الاسود اللي عليا ده ؟!

وأشارت لما ترتديه وتابعت:
ـ أنا بقالي عشر سنين حياتي كلها اسود في اسود .. لكن وعد مني يوم ما تختفوا انتوا الاتنين من حياتي وقتها بس السواد ده هينتهي وهحس وقتها اني اتولدت من جديد.

لم تتوقع عائشة كل تلك القسوة، ولم تتحملها، ولم تستوعبها لكي تتعامل معها. 

لم تجد ما تقوله، ولا ما تفعله، لم تجد سوى الرجاء حلا ..

اقتربت منها أكثر وتشبثت بيدها ونظرت داخل عينيها علها تنجح في إيجاد ولو ذرة تعاطف أو شفقة ، لم تجد سوى الجمود والكُره، فنطقت بشفتين ترتجفان بخوف :

ـ نسيم ، سامحيني يا بنتي عشان خاطري ، أنا اللي باقي في عمري مش كتير ، مش عاوزة أموت وانتي زعلانه مني .

أبقت نسيم على نظراتها عليها ، بينما الأخرى تنتظر بصبر ، تصرخ في صمت، تذكّر نفسها أنها استحقت ذلك منذ البداية لأنها تخلت عنها .

تحركت عينا نسيم تنظر إلى عينيها بهدوء يناقض نفسه ، ثم غمغمت محركةً كتفيها بلامبالاة وقالت :
ـ الكلام ده مش هيفرق معايا ، ممكن يفرق مع ابنك اللي اتربى في حضنك، أو مع نغم.. منتي كنتي عاملاها بنتك فعلا ، أكيد هي هتتأثر وهتزعل عشانك .. انما أنا لأ . أنا زعلت وبكيت بما فيه الكفاية ، وصدقيني لو لسه بملك دمعة واحدة مش هنزلها عشانك . 

وأشارت مجددا نحو الباب وقالت:
ـ اتفضلي مع السلامه.

أومأت عائشة بانكسار، ومسحت وجهها الباكي بهدوء ثم ابتعدت، واستدارت ثم توجهت نحو الباب وغادرت بنفس التاكسي الذي حضرت به. 

بينما بقت نسيم تحدق في أثرها وهي تحاول أن تظل متماسكة، ولكنها فشلت، فتهاوت على أقرب مقعد بجوارها وأفسحت المجال لدموعها بالانهمار .. 

تلك المواجهة أرهقتها كثيرا، وكونها صرحت عما يحمله قلبها بكل تلك القسوة أرهقها أكثر، ورؤية المرأة التي من المفترض أنها أمها ذكرتها بأبشع ما مرت به وعانته وهذا أرهقها أكثر وأكثر، وكلفها عناء البحث عن طريقة تداوي بها ألمها من جديد.

انتبهت إلى صوت طرقات على الباب فذكرتها أنه لازال منفرجا، ونظرت صوب الباب لتجدها زينب، تنظر إليها بحماس وفرحة ، فحثت الخطى نحوها بصعوبة، وعانقتها بقوة وانخرطت في نوبة بكاء عاتية من جديد.

❈-❈-❈  


وقفت تطالع تلك الملابس التي انتقتها لترتديها اليوم، وبينما هي بصدد خلع منامتها انفرج الباب لتنصدم بوجود حسن الذي أشاح بوجهه بعيدا وهو يتمتم :
ـ لا مؤاخذة .

وقفت تنظر إليه وعلى ملامحها ارتسمت علامة قهر وقالت بانفعال صارخ :
ـ لا مؤاخذه إيه ، هو انت مبتعرفش تخبط على الباب ولا بتستعبط مثلا ولا إيه ؟! هو انت مش عارف إن في بني ادمه ملهاش أي تلاتين لزمة في الاوضة وممكن تكون نايمة أو بتغير هدومها .. !!! بردو مفيش فايدة فيك ؟! 

نظر إليها بغضب وهتف حانقا وقال:
ـ ما تبقي تتزفتي وتقفلي الباب عليكي بالمفتاح من جوة بدل ما تسمعيني القصيدة دي كلها .

اختنقت عبراتها بحلقها وصاحت وهي تشعر بالاستبداد:
ـ مقفلتش الباب لأني فكرت انك مش موجود .. لما ملقيتش خالتي فكرتك خرجت معاها للمستشفى ، فهمت ؟! 

أحزنها احساسها بكونها مطالب منها أن تبقى في حالة دفاع وتبرير دائم ، وشعرت بانعدام القيمة والضياع.

ـ أنا كمان لما رجعت ملقيتهاش فكرت انك خرجتي معاها فقلت أتأكد .. 

قطبت جبينها بتعجب وسألته :
ـ هتكون راحت فين ؟ هي مش متعودة تنزل أصلا من غير ما تقول .

تنهد بحيرة واستياء ثم قال:
ـ مش عارف . على العموم خلينا نستنى خمسة ان مرجعتش هروح المستشفى أشوفها .. جايز حبت تعاقبني ولا حاجه راحت لوحدها، أمي وأنا عارفها .

وقفت تنظر إليه بصمت يتخلله الحسرة، فتنهد باستياء وهو يسحب المقبض ويقفل الباب ، فأسرعت وأغلقت الباب بالمفتاح من الداخل وهي تتمتم :
ـ هانت يا نغم .. ان شاء الله ألاقي شقة مناسبة وأرتاح من كل القرف ده .

أسرعت بتبديل ملابسها، ثم غادرت الغرفة لتجده يقف بالشرفة في انتظار عودة أمه، وما إن لمحها حتى قال:
ـ. انتي خارجة ؟! مش هتستني خالتك ؟

ـ مش هينفع أتأخر على الشغل ، لما ترجع خليها تكلمني .

رمقها بحنق، فاستدارت لتغادر فإذ به يستوقفها قائلا :
ـ نغم .. انتي محتاجة الشغل ده بجد ولا حجة عشان تخرجي ؟

نظرت إليه بانفعال وقالت:
ـ لا محتاجاه بجد يا حسن، عشان لا أنشل تاني ولا أتحوج لحد يصرف عليا.. عشان أنا مسرقتش خزنة سالم زي ما بتقول، محتاجة الشغل عشان أقف على رجليا من غير ما أتذل لحد تاني، كفاياني بقا بهدلة وقلة قيمة .

انسحبت في هدوء ، ووقف هو يتطلع في أثرها باستياء وهو يتمتم :
ـ قال يعني الشغل اللي انتي شغاله فيه مفيهوش بهدلة وقلة قيمة ، غبية !!

أشعل سيجارة ، وتمدد فوق الأريكة وهو يفكر ، ما المفترض أن يفعل بعد أن أعلنت فيفي انقلابها عليه وطلقت نفسها منه ! هل من المفترض أن يبحث عن عمل ويبدأ من جديد ؟؟ أم يبحث عن حقه الذي سيمنحه فرصة على طبق من ذهب للبدء بكل أريحية !

وبينما هو يفكر وينفث دخان سيجارته ومعها أفكاره الهوجاء وجد الباب ينفرج، ودخلت والدته التي كان من الواضح عليها الانهيار جليًا .

أسرع نحوها، فما إن رأته حتى عانقته بقوة وأجهشت بالبكاء وهي تقول:
ـ حسن حبيبي ..

لم يستوعب حالتها، فعانقها بالمثل وهو يقول:
ـ كنتي فين يما ؟! و ايه الحالة اللي انتي فيها دي ؟

أحاطت وجنته بيدها وهي تتلمس آثار صفعتها له بالأمس وقالت بندم:
ـ سامحني يا حبيبي ، كانت تتقطع ايدي قبل ما تتمد عليك يابني.

زم شفتيه باستياء وضيق، وأمسك بيدها وهو يساعدها لكي تتقدم نحو الأريكة وهو يقول:
ـ بعد الشر على ايدك يا أم حسن، تعيشي وتضربيني.. بس قوليلي كنتي فين ؟

جلست وارتخى جسدها ، فجلس هو على الطاولة الموجودة أمامها وهو ينظر إليها ويقول باستنكار:
ـ عينيكي مالها ؟ انتي معيطة ؟! إتكلمي يما فيكي ايه ؟!

ابتلعت ريقها بتوتر وقالت بنبرة مهزوزة:
ـ أنا رحت لنسيم .

قطب جبينه بتعجب وقال :
ـ اشمعنا ؟! وعرفتي عنوانها منين ؟! 

ـ اتصرفت و جبته ، رحت لها أطلب منها تسامحني لكن مقبلتش، قالتلي كلام قاسي أوي يا حسن، مفيش أمل خلاص انها تسامحني.

زفر بضيق، وتصلب كتفيه بانزعاج وقال :
ـ معذورة .. أكيد مش هتسامحك من كلمتين ، سيبيها لربنا بقا .. جايز تحن وتسامحك .

لمحت اللوم في عينيه، أساسا هو لم يحاول إخفاءه ولم يهتم بذلك، ونهض وقال :
ـ قومي بينا عشان منتأخرش على الجلسة اكتر من كده ..

هزت رأسها برفض وقالت:
ـ لأ.. أنا خلاص تعبت ، مش رايحة المستشفى تاني، ايه أخرتها يعني ؟! هموت ؟! ما انا كده كده هموت .. 

زفر نفسًا عميقًا بانهمام وقال:
ـ كلنا هنموت، بس نعمل اللي علينا للآخر .. قومي يما واستهدي بالله خلينا نلحق .

نهضت بالفعل ، ولكنها توجهت نحو الغرفة وهي تقول:
ـ أنا تعبانة و عاوزة أرتاح .. 

حاول اقناعها مجددا ولكنها قاطعته، ودخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب، ثم تقدمت نحو السرير واستلقت فوقه وهي تنتحب بصمت، وكلما تذكرت ما قالته نسيم انغرس السكين بصدرها مجددا وشعرت بالألم يعتصر فؤادها دون رحمة .

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة نعمة حسن، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة