رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 35 - الثلاثاء 24/6/2025
قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة عفاف شريف
الفصل الخامس والثلاثون
تم النشر الثلاثاء
24/6/2025
أكانَ الحبُّ ورديَّ اللونِ كما يُقال،
أم كأن بلا لون كالأوهام؟
وهمٌ بالحب، وآخرُ بالأمان،
والفرقُ بينهما جبال،
كصغيرةٍ بضفائرَ صفعَها مسنٌّ ليُعلّمَها الكلام.
أخبرتَني: أحبك،
وأخبرتُك أني أخافُ الخذلان.
انهلتَ عليّ بالوعود،
وهمستُ لك أني لا أريدُ سوى الأمان.
وها أنا وأنتَ نقفُ على حافّة البداية،
لا حصدتُ حبَّ البدايات، ولا حلاوةَ النهايات،
بل تجرّعتُ كؤوسَ الخذلان،
من رجلٍ ظننته وطنًا،
ونسيتُ أن بعدَ الظنِّ إثم.
فكان جزاءُ الثقة، أن قصّت الصغيرةُ ضفائرَ الأمان،
مرحِّبةً بنفسِها بأرضِ الأوهام.
❈-❈-❈
أنا عايزك... تسيبي الشغل.
قالها وصمت تمامًا، حتى إنه أطرق رأسه كأنه يخشى أن يواجه عيناها العاتبة.
أما هي، فكانت تناظره بجمود، ولم تعلم كم دام صمتها.
وبين لحظة وأخرى، لم تشعر بنفسها سوى وهي تنتفض من محلها كمن لدغه عقرب، وعيناها تناظره بذهول وصدمة في آنٍ واحد،
وفمها مطبق بقوة، كأنها غير قادرة على الحديث حتى،
كان الكلام قد حُبس تحت وطأة الصدمة.
إلا أنها في النهاية همست له بعدم فهم: إيه؟
شغل إيه اللي أسيبه يا عمر؟
إنت بتقول إيه؟
قالتها مستنكرة، وقد بدأ صوتها أعلى قليلًا،
رغم محاولاتها للتحكم به،
إلا أن لم يُبدِ أي رد فعل،
بل ظل كما هو،
قبل أن يرفع عينيه بجمود وهو يعتدل على الفراش ليعطيها ظهره مرددًا مرة أخرى: زي ما سمعتي يا فريدة، لازم تسيبي الشغل.
وتابع وهو يمسح وجهه بإرهاق وتعب:
إنتِ مش شايفة الوضع ولا إيه؟
أظن شغلك دلوقتي بقى شئ مش متاح ولا وقته أصلًا.
ممكن تقولِيلي مين هيقعد مع عمتي وسلمى؟
وإنتِ طول اليوم بره البيت؟
في الأول كنا بنكون إحنا الاتنين سوا بره،
ومحدش موجود تخلي بالك منه.
بس دلوقتي فيه،
فيه عمتي وسلمى،
مين هيقعد معاهم؟
وأكمل دون أن يعي زلة لسانه التي خرجت بفعل غضبه المنفجر:
طبعًا إنتِ اللي هتقعدي معاهم.
والتفت يناظرها باستياء شديد مرددًا: لازم تقعدي تخلي بالك من عمتي التعبانة يا فريدة وتخدميهم.
وفي ثوانٍ، كان يطبق على فمه، مغمضًا عينيه بقوة، وكأنه قد استوعب ما نطق به للتو،
ولسان حاله يسب ويلعن نفسه على كلمة كتلك نطق بها.
إلا أن كل هذا كان متأخرًا، وبعد فوات الأوان.
فأمامه، تسمرت هي في محلها كتمثال شمعي، تنظر له بتبلُّد، وعين متسعة غير مصدقة ما نطق به للتو.
وساد بينهما الصمت طويلًا...
طويلًا لدرجة موترة ومقلقة،
حتى استطاعت إيجاد صوتها، وهي تهمس له بصوت أجوف ساخر، والألم يقطر منه:
أخدمهم؟
يااا...
بجد؟
وأطلقت ضحكة ساخرة، متابعة بمرارة: معقول؟
هي دي مكانتي عندك يا عمر؟
قد إيه أنا طلعت غالية عندك...
انتفض من محله، ينظر لها بغضب، قد آن الأوان لأن يخرج، وللأسف كان من نصيبها هي،
مرددًا بعصبية: متمسكيش في الكلمة يا فريدة،
إنتِ هتقفيلي على الواحدة ولا إيه؟
كلمة واتقالت وخلاص،
طلعت بالغلط،
ما تحسسنيش إني ضربتك!
كلمة وخلصنا!
وتابع بانفعال وسخط، وقد تقصلت عضلات وجهه، مرددًا: وثم أيوه يا فريدة، أهلي!
دول أهلي ومحتاجين وجود حد فينا في البيت طول الوقت،
فهيكون مين؟
طبعًا هيكون إنتِ!
أومال أنا اللي هسيب شغلي ومسؤولياتي وأقعد معاهم؟
شغل إيه وزفت إيه اللي بتفكري فيه في وضع زي ده؟
المفروض القرار ده كان يجي منك إنتِ،
كنتي المفروض تاخديه على طول،
مش مستنياني أنا اللي أقولك اقعدي!
إنتِ بتفكري إزاي؟
شغل إيه اللي عايزة تروحيه في الوضع اللي إحنا فيه ده؟
طيب، بتفكري إزاي؟
وعمتي التعبانة دي، مين هيقعد معاها؟
قالها وصمت، ينهج من شدة انفعاله،
كان يقف يناظرها بوجه أحمر، منفعل، يكاد يحطم الغرفة بمن فيها من شدة غضبه في تلك اللحظة.
ابتسامة ساخرة كانت من نصيبه، وهي تغمغم بخفوت وألم : وأنا؟
يعني ما سمعتش اسمي من ضمن كلامك؟
ولا أنا مش في حساباتك؟
مش مهم أنا؟
مش مهم شغلي، وحياتي، وصحتي، و... و... و...
مش مهم!
أنا مين أنا؟
أنا مجرد جارية هتخدم وتطبخ وبس؟
أما حقوقي؟
أولع أنا وحقوقي!
أنا آخر شخص ممكن تفكر فيه...
ده إذا فكرت فيه أصلًا.
إنتِ بتقلبي الترابيزة عليا،
آه، عمر الشرير،
الزوج الوحش، الظالم، المفتري،
الراجل القاسي، الشرير،
صح كده؟
بقيت أنا دلوقتي ابن ستين في سبعين؟
قالها بعصبية وصوت عالٍ أفزعها والقطط،
وإن لم يكن أيقظ عمته وابنتها والجيران.
إلا أنها ردت بجمود، وهي ترفع يدها تمسح دمعة يائسة غادرت عيناها المنتفخة:
مين فينا دلوقتي اللي بيقلب الترابيزة يا عمر؟
ده كله عشان بقولك أنا فين؟
طيب، ما أنا فين فعلًا؟
إنتَ عايزني أسيب شغلي؟
الشغل اللي لاقيت أخيرًا نفسي فيه أخيرا بعد كل السنين دي كلها ،
اللي بقالي أكثر من تلات شهور بصحى وأنام هلكانة فيه عشان أثبت نفسي ،
ورغم تعبي، ما قصّرتش في حقك، وإنت عارف كده كويس،
كنت بعمل المستحيل عشان أوفق بينك وبينه،
عشان أنا عايزة كده.
ده حلمي.
دي أنا.
معقول كثير عليا؟
معقول قرارات حياتي تتاخد منك من غير رأيي حتى؟
إيه؟ لعبة أنا؟
هتحطها مكان ما تحب،
وهي تسكت عشان ما لهاش حق تتكلم؟
أنا إنسانة!
ليا كيان،
ورأي!
أنا مراتك،
ومش من حقك تاخد قرار يخص حياتي من غير ما أنا أوافق عليه،
لأن ببساطة الحياة مشاركة،
مش أوامر وتتنفذ يا عمر.
صاح بها بغضب، وهو يحرك يداه بعصبية وانفعال: وعمتي؟
وقبل أن يتابع، قاطعته بتعب، وهي تمس جنينها شاعرة بانقباض أسفل بطنها،
إلا أنها ردت بغضب:
عمتك!
عمتك!
عمتك!
مالها عمتك يا عمر؟
عمتك مش محتاجة "دادة" يا عمر!
وتابعت بسخرية قاسية:
عمتك مش محتاجة حد يخدمها !
ممكن تقوللي قبل ما البيت يقع، مين كان بيقعد معاها طول اليوم؟
هقولك أنا
ولا حد!
وإنت بنفسك اللي قلتلي ده قبل كده !
سلمي في الجامعة طول اليوم،
وبتيجي آخر النهار،
بنتها اللي من لحمها ودمها بتسيبها وتخرج تشوف حالها، بتروح جامعتها، وبعدين هيكون عندها شغلها يعني في كل الأحوال بتقضي اليوم لوحدها .
ليه محسسني إنها محتاجة لحد؟
هي ما شاء الله بتقدر تتحرك.
وأنا أكيد مش هقصّر، طالما بقدر على حاجة هعملها،
بس سلمي بنتها موجودة،
ليه عايز تيجي عليا؟
يعني إنت تخطيت إنها ليها بنت،
وجيت تطلب مني أنا؟
مراتك؟
الحامل؟
بجد؟
إنت مش واخد بالك إنك جيت عليا أوي؟
أنا فين من حساباتك يا عمر؟
فريدة فين؟
مراتك؟
وأم ابنك أو بنتك؟
وصمتت،
قبل أن تهمس بخفوت:
راجع نفسك يا عمر،
واعرف إني بعمل كل اللي أقدر عليه وأكثر عشانك،
وإنت في أول موجة عدت علينا،
قررت إني مش من ضمن أساسياتك،
قررت تيجي عليا بدون أي وجه حق.
خسارة يا عمر.
حقيقي... خسارة.
قالتها، وهي تُسرع تغادر الغرفة،
غير قادرة على إيقاف دموعها،
فهو، في خضم غضبه،
نسي أن من أمامه لم تكن خصمه، بل كانت شريكته.
غفل أنها دفعت ثمن ليلة لم تبدأ منها، وانتهت بانفجار في وجهها،
وهي ليست بمذنبة لتعاقب.
هي زوجته،
وإن نسي.
❈-❈-❈
انبهر القلبُ بحلاوةِ البدايات،
فصفعهُ واقعُ النهايات.
لم تعلم كم ظلّت جالسةً بمقعدها في الشرفة.
فبعد وصلة بكاءٍ دامت طويلًا،
نفضت عنها تلك الكآبة، وقرّرت أن تُعدّ لها أيّ شيء لتأكله، رغم معدتها المتعكّرة.
أرادت أن تملأها، لعلّها تسدّ هذا الفراغ بداخلها.
يكفيها بكاء، والآن لتلتفت لنفسها وصغيرها.
ولن تُنكر، فلم يكن هذا سببها الوحيد،
بل أيضًا، وبنفس الوقت، أرادت أن تُطيل مدّة بقائها خارج الغرفة لأطول وقتٍ ممكن،
حتى ينام عمر على الأقل، لكي تتفادى أيّ مشادّةٍ أُخرى بينهما تلك الليلة.
فليَنَم الآن، ولتترك الغد للغد.
يكفيها فضائح وصراخًا حتى الآن.
رفعت كوب الشاي بالحليب نحو فمها، ترتشف منه ببطء، تبعتها قطعة الكيك،
وعقلها يكاد ينفجر من شدّة التفكير.
هي مُشتّتة، لن تُنكر.
خائفة، متألّمة.
لكن ردّ فعل عمر كان القشّة التي قصمت ظهرها.
لم تظنّ يومًا أنها ستكون في آخر حساباته وتفكيره.
لم يُفكّر فيما قد تريده هي،
فكّر فيما يجب أن يحدث من وجهة نظره:
أن تتخلّى عن كيانها، أحلامها، وطموحها،
أن تتخلّى عن عملها إلى أجلٍ غير مسمّى.
لأجل ماذا؟
لأجل خدمتهم؟!
لم تتوقّع أن تُؤلمها كلمةٌ واحدةٌ بتلك الدرجة.
يريدها أن تظلّ معهم ليلًا ونهارًا.
لكن... كيف؟ ولماذا من الأساس؟
كيف وعمّته لا تُطيقها؟
وبالنسبة لسُلمي، فقد شنّت خناجرها السامّة بوجهها منذ أوّل دقيقة.
وفي كلّ الأحوال، ومهما فعلت، وإن أشعلت أصابعها العشر لهم،
هي تثق أنها ستظلّ الشريرة في تلك الرواية.
حسنًا، وللصدق...
هي الشريرة منذ أوّل لحظة.
وكان هذا واضحًا للأعمى،
وهي ليست بعمياء.
تأوّهت بحشرجةٍ قبل أن تضحك ساخرة،
وهي ترفع الكوب مرّةً أُخرى لفمها،
مردّدةً بسخريةٍ مريرة:
"حلاوة البدايات... يا حلاوتنا."
وعقلها يضجّ بسؤالٍ قاسٍ متكرّر:
ماذا إذا أصرّ عمر على قراره؟
ماذا ستفعل؟
وهنا أفلتت منها دمعةٌ جديدة،
فكم هو قاسٍ خذلانه لها.
❈-❈-❈
أدخلت رأسها بحرص شديد، تمشّط الغرفة بعينيها سريعًا،
لتزفر براحة وهي تراها شبه مظلمة، وقد تُرِكَ ضوء المصباح يُنير إنارة بسيطة للغاية.
انفرجت شفتاها بابتسامة متألمة، وهي تشعر بغصّة في قلبها المتألم على تجاهله لها بتلك الطريقة.
لم يحاول حتى الحديث أو اللحاق بها لرأب هذا الصدع بينهما، فقط إلقاء الأوامر بتعنّت، والنوم، كأن شيئًا لم يكن.
أطلقت تنهيدة ثقيلة، وظلّت كما هي تراقبه، وهي تراه يعطيها ظهره، ويبدو أنه قد غفا والحمد لله.
لم تتوقّع أن تشعر بكل تلك الراحة فقط لكونه نائمًا،
إلا أنها بالفعل لم تَعُد تحتمل، أو حتى تريد المزيد من الحديث والشجار في تلك اللحظة.
دلفت بهدوء، تخطو إلى الداخل بخطوات هادئة بطيئة، حريصة كل الحرص،
إلى أن توقفت في محلّها بعين متّسعة برعب، وهي تشاهد بندق يسير متبخترًا على الفراش،
راغبًا تقريبًا في اللعب واللهو.
"يا لهوي!"
همست بها برعب، وهي تُسرع بسرعة نحوه، ذاك الصغير المشاكس،
وقد رأته قد صعد على الوسادة الخاصّة بها، مستعدًا للقفز فوق رأس عمر،
لتُسرع بانتشاله سريعًا قبل أن يقفز، ويقذفه عمر من الشرفة!
زفرت براحة، مُلتقطة أنفاسها المسلوبة،
وهي ترفعه أمام وجهها، هامسة برعب، وقدماها تقودانها للابتعاد عن عمر:
إنتو اكيد عايزيني أطرد من البيت، صح؟
حرام عليك يا بندق، وقّعت قلبي!
إيه اللي طلعك على السرير؟
ينفع كده يا بندقة؟
قالتها وهي تري الصغير يحرّك نفسه بين يديها بدلال لا يفشل به أبدًا،
لتضحك له بخفوت، مُقبّلة إياه بعمق،
قبل أن تقترب من لوزة النائمة، وتضعه بجانبها،
مُربّتةً عليه بحنان،
حتى اندسّ وسط إخوته هو الآخر يناظرها بعيون لامعة صغيرة ، حتى سقط في سبات عميق.
أما هي، فلم تتحرّك،
بل ظلّت كما هي، تناظرهم بعين عطوفة محبّة،
وقلبها يسألها السؤال الأقسى
هل بالغت حينما تمسّكت بهم؟
هل كان يجب أن توافق على التخلي عنهم، لسير الأمور؟
هل كان الخطأ خطأها، في الإصرار على الحفاظ عليهم؟
لكن ، وبعد ثانية واحدة من التفكير،
أيقنت أنها لم تفعل، لم تُبالغ،
وإن رآها الآخرون كذلك هي لم تكن .
تلك الأرواح أمانة في رقبتها، ولن تتخلّى عنهم.
هل فكّر أحدهم، ولو لوهلة، بها هي؟
مثلًا: كم تحبهم؟
كم هي بحاجة لهم؟
وأنهم هم من انتشلوها من الكثير من اللحظات التعيسة؟
لقد تعلّقت بهم،
والتخلّي عنهم في تلك اللحظة،
كمن يطلب منها أن تتخلّى عن صغارها.
فهم صغارها بالفعل.
هم لها ركن دافئ مهم،
هم أحبوها كفريدة،
فقط كفريدة.
قدّروا ذلك أو لا،
فهموا هذا أم لا،
هذا حقّها،
وليس من حقّهم أن يطلبوا منها أن تتخلّى عن حقّها.
لا، لم يعد لأحد هذا الحق.
قالتها لنفسها، وعيناها تراقبان الصغار،
وقد رفعت يدها تمسّ بطنها،
حيث صغيرها القابع بين أحشائها،
يطالبها بالتحلّي بالقوة،
وعقلها يفكّر، متسائلًا عمّا ستحمله لها الأيام القادمة.
❈-❈-❈
تقلبتْ على الفراش، تشعر بظهرها يكاد يُقسَم نصفين من شدة الألم.
رفعت رأسها قليلًا شاعرةً بالدوار يلفها، وهي تشاهد تحرك عمر في الغرفة من بين رموشها، استعدادًا للذهاب للعمل.
وإن كان لم ينم سوى بضع ساعات قليلة جدًا، فهي لم تنم من الأساس،
ليس فقط بسبب انشغال عقلها الذي يكاد يحترق من كثرة التفكير،
بل لإرهاق جسدها، وآلام ظهرها وساقيها بطريقة بشعة تجعلها غير قادرة على النوم من الأساس.
كانت تودّ أن تُكمِل ادعاء النوم، وأن يذهب إلى عمله دون أن يتحدثا،
إلا أنها لم تقدر، لم تعد تريد الهرب،
لم تعد تريد صنع فجوات جديدة، وهي ما زالت تُصلِح القديم منها،
فلتواجه، مهما كانت النتيجة.
اعتدلتْ في الفراش، تتأوه بألم، مُقاوِمةً هذا الدوارَ البشع، تُمسِدُ ظهرها،
قبل أن ترفع عينيها، تواجه عينَيه المتسمّرتين عليها، وقد توقّف عن الحركة ناظرًا نحوها.
أطلقت تنهيدة متعبة، وهي ترفع يدها تمسح وجهها بتعب،
قبل أن تردد قائلة بهدوء وتعب: لازم نتكلم يا عمر...
وتابعت بإرهاق ويدها تربت على الفراش بجانبها : لو كنت أقدر أقوم، كنت قمت...
بس بما إني مش قادرة، فـ لو سمحت، اقعد...
لأننا محتاجين نتكلم... ضروري.
ورغم تأخره على عمله، ورغبته هو الآخر في عدم الحديث،
إلا أنها لم تكن سوى محقة.
هم بحاجة لذلك الحديث، بحاجة لوضع النقاط على الحروف.
وبالفعل، ترك هاتفه وسلسلة مفاتيحه، واقترب منها، يجلس بجانبها، مطرقًا رأسه بصمت وتعب،
وبجانبه هي، تنظر له بحيرةٍ حقيقية...
حيْرة في كيفية الوصول إلى ذالك الحلّ الوسط.
لذا، أطلقت تنهيدة متعبة، قبل أن تمد يدها، تمسّ ظهره، هامسةً بخفوت بعد صمت دام لحظات: خلافاتنا لازم تتحل أول بأول يا عمر...
لو كل واحد فينا أدّى ضهره للتاني، يبقى هتكون دي النهاية أكيد.
حرّك رأسه يناظرها بحدّة،
لتتابع هي بيأس: هي دي الفكرة... إنك مش بتفهم كلامي...
يعني إنت دلوقتي فكّرت إني بهددك، صح؟
وكانت عيناها كفيلتين بالإجابة.
لتتابع هي بتأكيد:
أنا بفهمك، بوضّح لك...
إننا لازم نكون مع بعض، مش ضد بعض.
الحياة مشاركة يا عمر...
عمرها ما هتمشي برأيي ولا برأيك،
هتمشي برأينا سوا،
هتمشي لما نتفق،
لكن طول ما إحنا مختلفين، كل واحد هيمشي في طريقه... لوحده.
وأنا مش عايزة ده،
ومش هسمح بيه من الأساس.
قالتها بإصرار وتأكيد.
وصمتت، ربما لتعطي لنفسها وله مهلة للتفكير.
إلا أنها قررت أن تُكمِل، فقط لغلق كل الأبواب دفعةً واحدة.
لذا شدّدت على يدها بتعب وقلق حقيقي من التالي، قبل أن تتابع:
بص يا عمر...
أهلك في بيتنا ينوروا،
وعمري ما كنت هعترض على وجودهم أبدًا،
ولا كنت هقولك لا، مش هقبل بيهم،
لأننا وببساطة بنتكلم عن ناس خسروا كل حاجة، وأهمها بيتهم،
فـ مش أنا اللي أقفل بابي في وشّ حد،
ما بالك أهل جوزي؟
وفي الأول والآخر أنا بقدّرك وبحبك وبحترمك، فبالتالي هقدر أهلك.
رغم إن الوضع هيكون مُرهِق ومُتعب ليا نفسيًا وجسديًا،
وأنا وإنت عارفين السبب...
لكن أنا وافقت، طبعًا، لأن في الأول والآخر دول أهلك،
وتاني هقولك: هما على راسي.
مستحيل أقصّر معاهم أبدًا، طول ما أنا قادرة على حاجة.
اللي هقدر عليه هعمله،
هعاملهم زي ما أحب أتعامل بالضبط.
وصمتت، وهي تراه يُخفض رأسه أكثر بتعب،
فأخفضت هي الأخرى رأسها، شاعرةً بالحيْرة،
ففي تلك اللحظة، كانت فعليًا لا تدري ماذا تفعل،
كيف لها أن تمسك العصا من المنتصف؟
كيف لها أن تقنعه بما تريده، دون أن تضغط عليه أو تثير غضبه وحنقه؟
هي حزينة على ما يمرّوا به جميعًا،
ولم تكن لتمرر ما حدث في ظروف أخرى،
لكن... هو زوجها، وفي تلك الظروف،
ماذا تفعل سوى أن تكون بجانبه، مهما كان الوضع مؤلمًا لها؟
لذا، رفعت رأسها، قبل أن تنقل يدها من على ظهره إلى وجهه، لتجعل وجهه يقابل وجهها، وعيناه تناظران عينيها.
قبل أن تغمغم بحنان، وأصابعها تمسّد وجنته:
عمر...
مش إنت بتحبني؟
قالتها، وعيناها تُطالعانِ عينيه بقوة،
ومرّ الصمتُ بينهما طويلًا،
دون أن تحصلَ على أي إجابة،
حتى وجدته أخيرًا يُؤمئ برأسه موافقًا.
انفرجت شفتاها في ابتسامة صغيرة،
قبل أن تتابع بحنان ورجاء:
طالما بتحبني، يبقى سيبني أشتغل يا عمر.
أنا عايزة ده،
ده حلمي،
دي أنا يا عمر.
أنا عمري ما كنت سعيدة زي لما اشتغلت،
رغم إني بتعب جدًا وبكون مرهَقة،
بس رغم تعبي، في جوايا حاجة بتلمع.
وصمتت،
لتتابع، وعيناها سافرتا بعيدًا:
عارف لما تحس إنك كنت تايه، وفجأة لقيت نفسك؟
لقيت مكانك؟
الشغل حقّقلي ده،
الشغل غيّر فريدة،
خلاها بس فريدة.
فريدة الإنسانة، من غير أي ألقاب
لا بنت، ولا زوجة، ولا أم...
بس فريدة الإنسانة.
خلاني أنا.
وأكملت، وشردت عيناها فيما مضى، وما زال أثره إلى الآن لم يزَل:
أنا طول عمري بعمل اللي بيطلب مني وبس،
بنَفّذ أوامر مُجبرة عليها... زي الدُمية،
ومش مهم أنا، مش مهم عايزة إيه، أو حتى رأيي إيه.
ولما اتجوزنا،
خدت قرار بيني وبين نفسي إني مش هسمح لده يحصل تاني أبدًا،
لأن اللي داق الوجع مرة وشاف نفسه بيتدمر يوم بعد يوم ، مش هيسمح لده يتكرر ثاني طالما في إيده.
وصمتت لوهلة، قبل أن تحدّق فيه، مرددةً بخفوت: إنت كمان وعدتني إنك مش هتعمل كده،
وعدتني إنك مش هتجبرني على حاجة أنا مش عايزاها،
وأنا قدّرت قد إيه إنت بتعمل عشاني...
بس موضوع الشغل بالنسبة ليا مهم قوي،
مش قادرة أتخلّى عنه، مش هقدر يا عمر،
مهما حصل.
شغلي مش هيضر البيت أبدًا يا عمر،
البيت هيمشي زي ما كان ماشي،
وجود عمتك وسلمى مش معناه إني أتخلّى عن أحلامي،
وجودهم يعني إننا لازم نلاقي حلول مؤقتة، عشان ده الوضع الحالي،
مش نغير حياتنا.
وصمتت، تُغمض عينيها، تحاول إيجاد الكلمات المناسبة، وهي تردد: لو مع كل جديد دخل حياتنا هنغيّرها،
يبقى هنعيش إزاي يا عمر؟
أخفض عيناه المُنهكتين،
وعاد ليناظرها بحيرة، قبل أن يغمغم بقلق:
"بس عمتي..."
أغمضت عينيها، تكاد تضحك يائسة،
أو حتى أن تصرخ مُوَلْوِلة في يأس، وهي تردد بداخلها:
آاااه يا دماغي...
آاااه يا دماغي...
يا الله، أنا بحفر في البحر!
إلا أنها لم تُظهِر علي وجهها أي شيئ،
في النهاية، حتى وإن تعبت، فهي تُقدّر خوفه،
وتُقدّر ذلك القلق بداخله.
لذا ابتسمت له بخفوت، مرددةً بحنان:
عمتك في أمان هنا يا عمر...
أنا على قد ما أقدر، هكون جنبها،
في بنتها،
في إنت.
إحنا تلاتة،
معقول مش هنقدر نخلي بالنا منها؟
يا عمر، دول كانوا عايشين لوحدهم،
ومكنش في حد معاهم.
إلا أنه ناظرها بعين قلقة مرتعبة،
مرددًا بقليل مما يعتمر صدره من خوف وقلق:
"أنا خايف تموت لوحدها..."
"لا إله إلا الله..."
غمغمت بها بحزن،
قبل أن تُشدد على يده، مرددةً بحنان وعطف:
خوفك من حقك يا عمر،
بس الأعمار بيد الله،
مين ضامن مين يموت قبل مين،
أو حتى يكون جنب حبايبه ولا لأ؟
لو عملنا زي ما بتقول،
محدش فينا هيروح شغله، ولا جامعته، ولا هيخرج من البيت حتى!
ادعي ربنا بس إنه يُحسن خاتمتنا جميعًا،
غير كده، صدقني، ده مش بإيد حد فينا.
محدش هيلازم حد ليل نهار،
مهما حصل، هيبعد، ولو دقيقة.
أنا عارفة قد إيه لما بيكون عندنا حد غالي،
بيكون في خوف ورعب عليه بشكل متواصل،
بس الخوف بيموّت الإنسان بالبطيء يا عمر.
بالطريقة دي، هتضغط على نفسك، وتعيش طول الوقت قلقان وفي ضغط... ليه؟
الحياة أبسط من كده.
عشان كده، لازم تسيب الأمور تمشي زي ما ربنا كاتب،
كله بأمر الله يا عمر.
وتابعت ممازحةً علها تخفف من حده الأجواء، وهي تزم شفتاها: وصدقني يا عمر...
عمتك لو قعدت معاها طول اليوم،
هي اللي هتسيب البيت وتمشي!
زفر بضيق، وصمت.
وصمتت هي الأخري مشددة على يده بقوة، مفكرة بداخلها
انه إن كان السكوت علامة الرضا، فقد اعتبرت صمته موافقة.
وإن لم يكن كذالك ،
فيؤسفها أنها لا تقدر على أن تقبل بغيره.
فتخليها عن أحلامها، سيكسر بداخلها شيئًا...
شيئًا لن يستطيع عمر علي إصلاحه أبدًا،
مهما حاول.
❈-❈-❈
تقلبتْ على فراشها غير قادرةٍ على النوم.
لم يكن الأرق رفيقَ يومها الحالي فقط، ولا حتى بالأمس، بل منذ شهورٍ طويلة وهي في ذلك الوضع المنهك.
تحاول وتحاول، ولا تحصل في النهاية سوى على بضعِ ساعاتٍ قليلةٍ متفرقة، تملؤها الكوابيس والكثير من القلق،
لتحصل فقط على ما يكاد يكفيها لتستمر في الحياة.
تقلبتْ للجهة الأخرى،
لتنام على جانبها، تنظر لحسام النائم يضم شمسها الصغيرة إلى صدره بحنانٍ وحرصٍ شديد.
كانت تراقبهم بعينٍ غائمةٍ بحزن،
عينٍ خائفة،
خوفٌ لا يتركها مهما حاولت.
أغمضتْ عينيها شاعرةً بغصةٍ في قلبها،
قبل أن تفتحهما مرةً أخرى، مقابلةً وجهه الحنون.
وجهه الذي كلما ناظرته، يزداد شعورها بالذنب والكثير من الخوف،
وازداد أكثر مع محاولاته الأخيرة للاهتمام بهم، حيث يقضي معها وشمس الكثير من الوقت،
لهم فقط.
لم يكن هذا بجديدٍ عليه،
إلا أن قلبها من كان أضعف مما كان عليه،
ولا زال يسقط يومًا بعد آخر في حزنها الطاغي،
دون أن تجد القدرة على الخروج منه.
تنهدتْ بتعب،
وهي ترفع يدها تمسح دمعةً تسللتْ من عينيها،
وهي تنقلب على ظهرها مفكرةً
كم هي بحاجةٍ للنوم،
أن تنام ولا تستيقظ، علّها تهرب من كل هذا،
لكنها كانت أمنيةً عزيزة،
لم تحصل عليها كما أرادت.
وها هي تقضي أغلب وقتها في التفكير،
التفكير والكثير منه،
حتى يكاد عقلها ينفجر من زحام أفكارها الحارقة،
كمن يحيا جسدًا دون روح.
تكاد تبكي كل ساعة،
تضم شمس وتبكي،
دون أن تجد القدرة على فعل غير ذلك.
وفي نهاية اليوم، تقابل حسام بابتسامةٍ شاحبة،
وملامحَ متعبةٍ متحججةٍ بإرهاق الصغيرة لها،
وقد ساعدها تعب الصغيرة بالفعل على ذلك،
بسبب مرحلة التسنين،
فكان كجدارٍ يحميها من المواجهة للوقت الحالي على الأقل،
لكن... إلى متى؟
اهتزاز الهاتف بجانبها جعلها تنتفض،
تكتمه بسرعة، وهي تلفتت سريعًا، تنظر حيث حسام وشمس،
زافرةً براحة، تحمد الله أنهم لم يستيقظوا.
وظل بين يديها لعدةِ ثوانٍ،
تطالع الاتصال الوارد،
ولم يكن سوى من أمها.
رنينٌ طويلٌ انتهى، ولم ترد،
ولن تفعل.
اتصالاتٌ ورسائلُ مكررةٌ على مدار الشهرين الماضيين،
وهي لا تجيب.
مخطئة؟ لا تعرف،
لكنها لم تعد قادرةً على ذالك،
أو ربما خائفةٌ من ذالك.
هي فقط تهرب منها،
وتطمئن عليهم من بعيدٍ لبعيد.
غير هذا، هي عاجزةٌ عن فعل أي شيء،
وكم تشعر بنفسها ضعيفةً في تلك اللحظة،
ضعيفةً عن قول "لا"،
ضعيفةً عن الحفاظ على حقها.
تنهدتْ، وهي ترفع يدها تمس وجهها الشاحب المتعب،
وما إن قررت إغلاق الهاتف محاولةً النوم،
حتى وصلها إشعارٌ بوصول رسالةٍ جديدة، وأيضًا كانت منها
ماشي يا بنت بطني
بقي مش بتردي عليا
ماشي يا حور
أنا عمري ما هسامحك أبدًا على اللي بتعمليه ده
حسبي الله ونعم الوكيل فيكي
حسبي الله ونعم الوكيل فيكي يا حور
يا بنت بطني،
مش هسامحك أبدًا لحد ما أموت
يا رب أموت عشان ترتاحي وتخلصي من همي
كانت عيناها تمرّ على السطور، تقرؤهم سطرًا تلو الآخر،
متعثرةً بكل لحظة، بكلمةٍ أقسى وأكثر ألمًا مما قبلها.
كانت تطالعهم بعينين حمراوين دامعتين بقهر،
شاعرةً وكأنها قد سمعت صوت تهشُّم قلبها الصغير في تلك اللحظة.
أرادت أن ترد،
أن تصرخ،
أن تخبرها أنها ابنتها، وليست تلك العدوة كما تظن.
أرادت البكاء بين أحضانها، وليس بسببها.
ارتجف جسدها، شاعرةً بالبرد يتلبّس جسدها،
قبل أن ترفع يدها، تمسّ صدرها شاعرةً بالاختناق،
شاعرةً بالهواء يُسلب منها،
ودموعها لا تتوقف عن التحرر، كما تتمنى هي في كل يوم.
أغلقت الهاتف، ووضعته مكانه،
وقد عادت لتتكوّر على جانبها، تناظر حسام وشمس بعينٍ مرتعبة ووجهٍ شاحب،
تكتم بيدها صوت بكائها وشهقاتها،
وعيناها تزرف الدموع بدون توقف،
وقلبها يتساءل بقهر
عن ماذا تملك هي سوى البكاء؟
فهي كمن سقط من علوٍّ ولم يمت،
لكن أيضًا، لم يعد قادرًا على الحراك،
فخسر كل شيء.
❈-❈-❈
كان يهبط درجات السلم بهدوءٍ ورواقٍ شديد.
فـ اليوم قرّر منح نفسه القليل من الدلال والهدوء، بالتأخّر عن العمل وتناول الفطور بالمنزل معهم.
ابتسم لوالده الجالس يتصفّح الجريدة بهدوء،
قبل أن يقترب منه يُقبِّل رأسه ويده،
ليربّت الآخر على رأسه بحنانٍ ورضا،
قبل أن يردّد تميم بتساؤل:
إنت مش هتروح الشركة النهارده ولا إيه؟
هزّ مدحت رأسه قليلًا، قائلًا بتفكير وقد أخفض الجريدة قليلًا، مُلتقطًا فنجان القهوة بجانبه: مش عارف لسه والله.
بس يعني... احتمال لا.
ولو رُحت، هروح ساعتين أبص على الأمور ماشية إزاي،
وأمضي شوية ورق وارجع.
أومأ له تميم بهدوء، وتابع، وعيناه تتفحّصان المكان حوله، ويداه في جيب بنطاله:
ـ هو محدّش صحي لسه ولا إيه؟
انفلتت من بين شفتي مدحت ضحكة صغيرة ماكرة، وقد رفع يده مشيرًا نحو المطبخ، قائلًا بضحكات مشاغبة:
في مفاجأة ليك جوه... ادخل، ادخل!
قَطَب تميم حاجبيه بعدم فهمٍ وحيرة.
ليتابع مدحت بمشاكسة:
ادخل يا واد، ادخل... وشوف بنفسك.
عقد تميم حاجبيه، وأمال رأسه للأمام قليلًا بتوتر، وقد لمعت عيناه للحظة في ارتياب وتوجُّس.
أرجع مدحت رأسه للخلف، ضاحكًا بقوة على هيئة ابنه وملامحه المضحكة،
لينظر له تميم بيأس، وهو يضرب كفًّا على الآخر،
قبل أن يَزُمّ شفتيه بضيق، يرمي أبيه بنظراتٍ مغتاظة، وقد بدأ التوجّس يتسلّل إلى قلبه بلا ارتياح من تلك العائلة المجنونة.
وخلال ثوانٍ، كانت قد بدأت قدماه تتحرّكان نحو المطبخ بالفعل،
ليرى ما يحدث.
وكلّما اقترب، كانت تظهر ويسمَع ضحكات صغيرة مكتومة وماكرة، مع بعض الأصوات الغريبة التي لم يفهم ما هي أو سببها،
حتى خطت قدماه باب المطبخ.
فتسمّر في محلّه، وجَحَظت عيناه بصدمةٍ وذهول،
وهو يُدرك السبب...
ويا ليته لم يُدرك!
❈-❈-❈
تجمّد في محلّه، وهو يشاهد المشهد أمامه
حيث آلاء تفترش الأرض ،
وأمّها وعاءٌ كبير لا يدري حتى من أين أتت به من الأساس،
ملطّخة بالدقيق،
ويداها الاثنتان عالقتين في كتلة كبيرة لزجة للغاية، غير قادرة على إخراجها منها حتى،
وهي تعافر معها علّها تنجح وتقوم بعجنها،
إلا أنها كلما حاولت، كانت الوضع يصبح أسوأ.
ولم تكن هذه هي المصيبة الوحيدة،
بل وبجانبها، كان هناك ثلاث مصائب آخرين!
ثلاث نسخ صغيرة مشاغبة آية، وإيلا، وعزّ،
ولم يكن حالهم أفضل أبدًا من أمّهم،
بوجوه وأيدٍ وأجسادٍ مغطّاة كليًّا بالدقيق،
كأنهم فعليًا قاموا بالاستحمام به.
وبضمير منقطع النظير،
حرّك تميم رأسه للأمام قليلًا،
وهو يشاهد ماذا يفعلون.
كانوا يقومون بتشكيل شيءٍ ما بأيديهم...
ما هذا؟
أذلك صلصال؟ أم ماذا؟
قالها لنفسه، وعيناه تُدقِّقان النظر فيهم.
بتعملي إيه يا منيلة؟
قالها بصدمةٍ وصوتٍ عالٍ،
أفزعهم جميعًا.
لتصيح الصغيرة آية مرددة بفزعٍ طفولي، بعد أن وضعت يدها على صدرها:
خضّيتني يا خالو!
خضّيتني يا خالو،
قالها مقلّدًا إيّاها متهكّمًا، وهو يحرّك يده يضرب صدره مثلها،
قبل أن ينقل عينيه نحو آلاء، التي انتفضت فزعةً هي الأخرى، تنظر له ببؤس،
وقد قلّبت شفتيها بطفوليّة مردّدة بيأس:
تميم... كويس إنك جيت.
بالله عليك، تعالَ ساعدني،
أنا معرفش إيه اللي حصل ده!
الدقيق بقى في كل مكان!
كانت تثرثر، تطلب منه الانضمام لها،
ولم تنتبه لذاك الذي اتّسعت عيناه بشكلٍ أكبر،
وهو يخطو خطوةً للخلف بحذرٍ شديد، رغبةً منه في الفرار والنجاة بجلده...
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!
فقد انتفضت الصغيرة آية، تركض نحوه،
تُلقي بنفسها على ساقه متشبّثة بها،
وهي تمرمرغ وجهها الملطّخ بالدقيق في بنطاله الجديد بعفويّة،
لتمسح وجهها به ، مردّدة بمشاغبة:
شيلني يا خالووو... شيلني بلييييززز!
قالتها وهي تتمسّك بساقه بشكلٍ أكبر،
تكاد تكون أصبحت ملتصقة به،
وقبل أن ينطق بحرفٍ واحد،
كانت تتبعها "إيلا"، وقد ركضت نحوه، تمسك بالساق الأخرى، تقفز بحماس، مردّدة بسعادة، وقد تولّت أمر الجهة الأخرى من البنطال:
وأنا كمان، وأنا كمان يا خالو!
لكنها لم تنتظر أن يحملها، بل بدأت بالفعل في تسلّق تميم ،
الذي ساعدها بصمتٍ وجمود، بلا أيّ ردّ فعل آخر.
فكان المشهد كالتالي
صادم ومرعب!
آلاء وقد مالت لتدقّق في الوعاء علّها تجد حلًّا لتلك المصيبة، حتى كادت أن تسقط فيه وتغرق... ويرتاح!
آية وإيلا قد أدّوا المهمّة بنجاح، وأصبح تميم "بالدقيق"
واحدة في الأسفل تضم ساقه،
والأخرى في الأعلى تُقبّله تارة،
وترسم على وجهه بالدقيق تارة أخرى،
مخبرة إيّاه بسعادة
إنت أحلى بالدقيق يا خالو!
نظر لها تميم بابتسامةٍ ساخرة، مردّدًا من بين أسنانه: أحلى بالدقيق يا خالو... آه، قلتيلي.
وليكن ختامها مسك...
خُتم المشهد بـ "عزّ"،
الذي حمل بين أحضانه كيس الدقيق المفتوح، ينظر لخاله بمكرٍ شديد،
والآخر يحدّجه بنظرةٍ محذّرة من أن يفعلها...
إلا أنّه، وفي ثوانٍ،
كان "عزّ" يضغط على الكيس بقوة،
ليندفع كل ما به في الهواء،
يتناثر فوقهم بسلامٍ تام،
كسماءٍ تمطر ثلجًا... في المطبخ!
تقافز الصغير، يُصفّق بيديه بسعادةٍ ومرح.
ونقلت آلاء عينيها، تُناظر أخاها بتوجّس،
وعقلها يفكّر في ما سيفعله تميم بها...
سيقتلها، بلا شك!
لكن السؤال الأهم
كيف؟
❈-❈-❈
كان تميم ما زال كما هو، يحمل إيلا التي تلف ذراعيها حول عنقه كقردة صغيرة ومشاكسة، تقبّله تارةً، وترسم على وجهه تارةً، وانضمَّت لها آية على الذراع الآخر، تؤرجح قدميها في الهواء بسعادة، تقهقه ضاحكة بصوتٍ عالٍ، وقد اضطر لحملها هي الأخرى في النهاية، فهو لا يحبّ التفرقة بينهم، حتى وإن كانت في المصائب.
وعزّ الصغير، وقد عقد حاجبيه في عبوسٍ طفولي، قبل أن يناظره بقرف، وهو يقترب منه، يطالب بحمله هو الآخر.
ليهتف تميم بغيظ:
إيّ، أشيلك على راسي ولا إيه؟
أومأ له الصغير بإصرار،
وحينما بادله تميم النظرات بأخرى صارمة،
قلب الآخر شفتاه، وقد كادت أن تبدأ وصلة بكاء دولية، فاضطر صاغرًا إلى أن يجثو على ركبتيه، سامحًا له بتسلقه هو الآخر.
فأصبح عزّ خلف رأسه، آية على يمينه، وإيلا على يساره،
وبدا تميم في النهاية كعمود كهربائي بشري، تتدلّى من جانبيه فوانيس صغيرة تلمع عيونها، بينما فانوس ثالث يقفز فوق عنقه، بإصرارٍ لا يُقهر، تقريبًا لكسر عنقه.
وهو يحدّج آلاء بشرٍّ، يخبرها أن القادم لن يعجبها.
تنحنحت بحرج، وهي تشير له إلى يديها المنغمستين في العجين بيأس،
قبل أن تردد بتوبيخ للصغار، وقد بدأ صوت الأم يعلو في الأرجاء:
آية! إيلا! عز! انزلوا... حاااالا!
قالتها، وفي ثوانٍ، كانت آية وإيلا أرضًا بأدب،
أما عزّ، فلا يهتم، وظلّ كما هو.
يناظرها بابتسامة مستفزّة،
والأخرى تناظره بتوعدٍ أنها ستعلّقه من ساقه بعد أن تنتهي.
أما تميم، فرغم غيظه منها ومن صغارها المجانين، إلا أنه لم يُنكر سعادته بتلك الخطوة منها،
حتى وإن كانت مصيبة، لا يهم،
المهم أنها قد بدأت تخرج من تلك القوقعة القميئة أخيرًا، ولله الحمد.
قد بدأت تستعيد نفسها،
وهذا في حد ذاته بهجةٌ لقلبه.
لذا، رفع يده يحاول مسح وجهه من الدقيق، مغمغمًا بتساؤل، وهو يمسك قدم عز يدغدغها، لبنطلق الآخر في الضحك دون توقف،
قائلًا بابتسامة، وهو يقبّل قدم الصغير:
ـ ممكن أعرف إيه سر الهيصة دي يا ست البنات؟
زمّت شفتاها، قائلةً بطفولة وحماس، وهي تفرد ساقها المتألمة من تلك الجلسة البشعة:
ـ كنت عايزة آكل فطير سخن،
قلت بقى أعمل فطير بلدي كده،
وتابعت بحماس وغيظ:
ـ ده أنا حتى سلقت بيض، وكنت هطلع جبنة قديمة، وطحينة، وعسل أبيض، وعسل أسود، وجبنة بيضا، و...
وكادت أن تكمل، إلا أنه رفع يده قائلًا باستنكار: إيه يا ماما، إيه!
في إيه؟
جاية تحققي أحلامك دلوقتي ولا إيه؟
إيه المينيو اللي عاملاه ده؟!
وتابع بغيظ، وهو يميل برأسه للأمام:
ـ سؤال بس... سؤال وعايز إجابة،
إنتِ قد خبز الفطير؟
أخفضت رأسها بيأس، قبل أن ترفعها، وهي تهزّها نافية بتأففٍ طفولي.
ضرب كفًّا على آخر، مردِّدًا بجنون وصياح:
ـ أنا مُبتلى، والله صدقيني، أنا مُبتلى!
إنتِ عملتي كام كيلو؟
قالها بتوجّس، وهو يضيق عيناه ناظرًا للكم الهائل من العجين.
أخرجت إحدى يديها بصعوبةٍ شديدة من العجين الملتصق بها،
وهي ترفعها ببطء، مشيرةً له بيدها الملطّخة على أصابعها الخمسة،
ليشهق بصدمة، وهو يضرب وجهه:
ـ إيه!
عملتي خمسة كيلو دقيق!
آآآه يا راسي، آآآه...
منك للي كلت دراع جوزها يا آلاء يا بنت أم آلاء...
وتابع بسخرية وتهكُّم:
ـ طيب يا عاقلة، يا راسية،
اعملي كيلو، اتنين... خمسة؟!
ليه؟ هتبيعي؟
في حد أول ما يشطح، ينطح كده؟
عليه العوض يا رب...
تمتمت ببؤس، وهي تهمس بخفوت، وهي تفتح عينًا وتغلق الأخرى:
ـ ستة.
ـ إيه؟
قالها بتوجّس، وهو يحاول سماع ما تهمس به.
ـ ستة.
قالتها وهي تفتح عينيها تنظر له بحنقٍ وصوتٍ أعلى،
وتابعت مردّدة بسرعة:
ـ معرفتش أخرج إيدي التانية عشان أرفع صباع كمان،
عملت ستة.
وتابعت بتبرير، وهي تشاهد نظراته الحانقة:
ـ أعمل إيه والله، كل ما أحط ميّة تسيب، أحط دقيق تمسك...
فضلت أحط أحط، والدنيا فجأة غيّمت!
كانت تطالعه، وهو يجلس على المقعد في بداية المطبخ،
وعزّ ما زال فوق رأسه، يمسّد صلعته اللامعة،
وقد لطّخها الطحين،
مردِّدًا بهدوء، وهو يضع ساقًا على أخرى، في وضع لا يناسب هيئة المذريّة أبدًا:
ـ ها، هنعمل إيه يا أم العيال؟
وقبل أن تجيبه،
كانت عيناه تجوب المطبخ في نظرة سريعة،
متسائلًا بحنان، اشتياقًا للصغير المشاكس:
هو تميم لسه نايم ولا إيه؟
انتفضت آلاء، تناظره بعينٍ متّسعة،
وعيناها هي الأخرى تمشّط المطبخ، قبل أن تردّد بفزعٍ أصبح يرافقها طول الوقت منذ حادثتها الأخيرة: تميم!
تميم فين؟
كان هنا من شوية!
أنزل تميم عزّ سريعًا، وهو يخرج يسأل والده بقلق: بابا، هو تميم خرج عندك؟
هزّ مدحت رأسه نافيًا، ووقف يناظره بقلق، وقد انتقل الخوف له هو أيضًا.
ليعود تميم لها مرة أخرى، متسائلًا بسرعة:
اهدِي اهدِي... هيكون راح فين يعني يا بنتي؟
مش هيخرج من البيت.
هتلاقيه زحف هنا ولا هنا...
وتابع بتساؤل: هو كان فين آخر مرة؟
كانت قد خلصت يدها من العجين، ووقفت ترتجف فعليًّا،
وهي تردّد بخوف، وفمٍ مرتجف ووجهٍ شاحب:
مش عارفة، مش عارفة... كان هنا بيلعب جنب إخواته، أنا معرفش حتى هو خرج إمتى.
شدّ على يدها،
وهو يسرع خارجًا من المطبخ، ينظر هنا وهناك،
وقبل أن يخرج للحديقة الصغيرة، علّه تحرّك يحبُو مبتعدًا...
كان قد تسمر مكانه على صوت خشخشةٍ غريبة أوقفته،
وجعلته يعود خطوة للخلف،
حيث طاولة الطعام الكبيرة،
قبل أن يجثو على ركبتيه،
متنهّدًا براحة، وقد وقعت عيناه على تميم الصغير، وقد كان جالسًا أسفل الطاولة،
يحمل في إحدى يديه كيسًا بلاستيكيًّا فارغًا، يلهو به،
وفي اليد الأخرى بيضة، مستغرقٌ في أكلها.
انفلتت من بين شفتي تميم ابتسامةٌ واهنة،
وهو يهمس له بخفوتٍ حنون لكي لا يفزعه:
تيمو...
انتفض الصغير، يطالعه بابتسامةٍ مشرقة،
متوجهًا نحوه بسرعة، يُلقي بنفسه بين أحضان خاله الحبيب.
تلقّاه تميم، يضمه بقوة،
وهو يرفع صوته قليلًا، مردّدًا باطمئنان:
لاقيته خلاص يا آلاء، أهو!
خرجت آلاء من المطبخ، تحاول التقاط أنفاسها، وهي تراه بين يدي أخيها،
ليقترب منها مدحت، مربّتًا على وجنتها بحنانٍ وراحةٍ هو الآخر.
شاكس تميم الصغير، مردِّدًا بمشاغبة:
كده يا تيمو؟ تخضّنا عليك؟
ابتسم له الصغير، وهو يرفع البيضة، يقربها من فم خاله، في دعوةٍ منه لمشاركته.
غامت عينا تميم بحنان، وهو يضمّ الصغير، مردّدًا برفق: حبيبي يا تيمو... كل إنت بالهنا.
والتفت لأخته، مردّدًا بهدوء:
ودلوقتي بقى يا ست آلاء، لازم نلاقي حل في كمية العجين دي كلها.
انكمشت ملامحها في ضيق، وهي تردّد بحزنٍ وتساؤل:
هنرميه؟
هزّ رأسه نافيًا، مغمغمًا بتأكيد:
لا طبعًا، حرام... هنحاول ننقذ الوضع...
نجح، هناكل منه ونوزع كمان.
لتتابع هي بقلق: ولو فشل؟
ضحك بيأس، مؤكدًا مرة أخرى:
هناكله برضه، بس لوحدنا، عشان مستحيل نطلع حاجة وحشة للناس...
خلينا الأول بس نشوف هنعمل إيه، وهيحصل إيه.
قالها، وهو يقترب منها، يضمّها إلى صدره بحنان.
قبل أن يدلفا معًا إلى المطبخ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه...
حيث كان ينوي التأخّر قليلًا فقط عن العمل،
فانتهى به الأمر غارقًا بين الدقيق والبيض،
وسط ضحكات الصغار المُبهجة،
وخبزٍ لا يعرف مصيره،
ولا عزاء للذهاب إلى العمل،
فدائمًا وأبدًا،
تأتي العائلة في المقام الأول.
❈-❈-❈
الكوابيس، والكثير من القلق،
كان هو مصير نومها المُثقل بالهواجس.
انقلبتْ على جانبها متأوهةً بألم، وهي تشعر بشيءٍ ما خاطئٍ يحدث حولها، وحركةٍ غريبة في الغرفة، كمن يحاول إيقاظها من وسط نومتها المضطربة.
إلا أنها لم تقدر حتى على رفع رأسها لترى ما يحدث،
فهي لم تنَم سوى منذ ثلاث ساعات فقط، بعد ليلةٍ مُرهِقة لم ترَ بها سوى التعب،
وقد انقلبت على الفراش لتسقط بعدها في النوم دون قدرة علي الحراك ،
شاعرةً بجسدها يئنُّ ألمًا، كمن تلقّى الضرب بالقباقيب حتى اكتفى.
وضعت الوسادة على رأسها، في رغبةٍ منها لإبعاد تلك الذبابة الغبية عن رأسها، والعودة للنوم مرةً أخرى،
إلا أنها انتفضت على يدٍ تنقر على ظهرها بعصبية ونزق،
نقرٌ جعلها تنتفض هلعًا، منقلبةً على ظهرها بفزعٍ وعدم فهم، وعينٍ متسعة،
تراقب تلك الرأس ذات الشعر المُشعَث،
وقد أشرفت عليها من فوق رأسها، تُناظرها بغيظ ونعاس،
ولم تكن سوى رأس سلمى،
سلمى التي صاحت بها بسرعةٍ وغضب:
إيه، بقالي ساعة بصحي فيكي!
قومي يلا!
ماما بتقولك قومي حضَّرلها الفطار!
بسببك صحتني من النوم، عشان بقالها شوية بتنادي عليكي وانتي مبترديش!
وقبل أن تُكمِل، جاء صوت أمها من الخارج يصيح بتساؤل: ها، صحيت؟
أيوة!
أجابتها بصوتٍ عالٍ،
قبل أن تتابع، بتهكُّم:
اتفضلي يلا، هي مستنياكي بره.
وغادرت.
ببساطة، غادرت.
تاركةً إياها تُحدِّق في السقف بعينٍ متسعةٍ ذاهلة،
لا تفهم شيئًا،
لا تفهم سوى
أن ما حدث في تلك اللحظة لَهُوَ ضربٌ من الجنون،
جنونٌ ما هو إلا بداية،
بداية لجحيمٍ لم تتوقع أن يبدأ منذ أول لحظة.
وقد بدأ.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة عفاش شريف، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية