رواية جديدة قلوب على الهامش ليارا علاء الدين - الفصل 4 - الأربعاء 25/6/2025
قراءة رواية قلوب على الهامش كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية قلوب على الهامش
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة يارا علاء الدين
الفصل الرابع
تم النشر يوم الأربعاء
25/6/2025
كان المساء ثقيلاً، والبيت غارقًا في سكونٍ يشبه الفراغ. داخل غرفة المعيشة، جلست هدى على أحد المقاعد، تحتضن وسادة صغيرة، وعيناها شاردة نحو التلفاز، الذي كان يبث برنامجًا وثائقيًا عن حياة الطيور المهاجرة!
دخل يوسف بهدوء، دون أن يلتفت إليها في البداية. وضع مفاتيحه على الطاولة الجانبية، ثم قال بصوت هادئ:
-مشوفتكيش بقالي كتير.
أجابت دون أن تحوّل بصرها:
-عندى محاضرات كتير اليومين دول.
صمت. جلس على المقعد المقابل، وراح يتفحّص ملامحها، باحثًا عن شيءٍ لم يقله أحد بعد.
-إنتِ كويسة؟
ابتسمت ابتسامة باهتة، وقالت:
-اه.خ
هزّ رأسه، وأشاح بوجهه نحو النافذة، حيث كانت الأضواء الخافتة تنعكس على الزجاج.
-ماما وبابا برده مشوفتهمش بقالي كتير.
أجابته دون تردّد، لكن بنبرة جامدة:
-هتلاقيهم مشغولين ده العادي يعني.
نظر إليها مطولاً، ثم قال بنبرة أخف:
-بس أنا معاكي،لو احتاجتي أي حاجة عرفيني.
ابتسمت هذه المرة بسخرية خفيفة:
-مش هحتاج، متقلقش.
أراد أن يسأل. أراد أن يقول لها: لماذا وجهكِ شاحب؟ ولماذا عيناكِ لا تلتقيان بعينيّ؟ ولماذا أشعر وكأنكِ تخفين شيئًا؟
لكنه لم يفعل.
اكتفى بإيماءة رأسه.
نهضت هي بهدوء، حملت الوسادة بين يديها، وقالت قبل أن تغادر الغرفة:
-هطلع أنام، عن إذنك.
ثم مضت، وبقي هو وحده، يتأمل الفراغ الذي خلّفته كلماتها.
❈-❈-❈
توجه يوسف للشرفة، يحتسي قهوته السوداء دون سكر، كعادته حين يضيق صدره.
فتح هاتفه، وتردّد لثوانٍ أمام اسم "صفية جابر" في قائمة المحادثات.
ثم كتب:
مساء الخير أستاذة صفية، آسف على الإزعاج، بس كنت عايز أراجع خطة التطوير وفكرت نضيف جزء خاص بالتدريب العملي على الوسائل التعليمية الحديثة. ايه رأيك؟
مرّت دقيقة... ثم اثنتان.
كان يرى "يكتب الآن..." ثم تختفي.
وأخيرًا جاء الرد:
مساء النور، ممكن ننقاشها في المدرسة بكرة مع أستاذ محسن أفضل.
كان ردًّا مهذبًا... لكنه شديد البرودة.
فكّر في كتابة شيءٍ آخر... شيئًا شخصيًا، كأن يسألها: هل أنتِ بخير؟ تبدين مرهقة في الأيام الأخيرة.
لكنه تراجع.
كتب:
كنت حابب أخد رأيك إنتِ الأول قبل ما نعرضها عليه, لأن رأيك مهم بالنسبالي.
جاء الرد سريعًا هذه المرة:
أشكرك، بس المهم فعلًا هو رأي الإدارة، مش رأيي الشخصي.
تنهّد يوسف، وأغلق الهاتف للحظة.
في ذهنه، قفز وجه رنا.
جميلة، أنيقة، قوية الملامح… لكنها صاخبة دائمًا، ومليئة بالشكاوى، لا تترك للسكينة مكانًا.
صفية، على النقيض، كانت كهدوء الفجر… جادة، بسيطة، وربما صعبة المنال. لكن هناك شيءٌ فيها لا يُنسى.
قال في سره:
مبتهزرش ولا بتتكلم معايا خارج إطار العمل, مهما حاولت, وبرده مش بتروح عن بالي.
أعاد فتح الهاتف.
أسف لو أزعجتك حقيقي, مقصدتش.
تأخر الرد هذه المرة كثيرًا.
ثم جاء مختصرًا:
معلش يا أستاذ يوسف, ميصحش يكون فيه بينا رسايل في الوقت المتأخر ده حتى لو ليها علاقة بالشغل.
ابتسم، رغم البرود.
حتى في صدّها… تحفظ كرامتك دون أن تجرحك.
أغلق المحادثة، ووضع الهاتف جانبًا.
لكنه ظلّ يتأمل اسمهما على الشاشة… يوسف – صفية.
مجرد اسمين، بينهما مسافة، لكنه يشعر أنها أقرب مما يتخيّل… وأبعد مما يستطيع.
❈-❈-❈
2-
أغلقت صفية الهاتف بهدوء، وتركته على طرف المكتب دون أن تنظر إليه ثانية.
جلست في سريرها، احتضنت طرف الشال الصوفي فوق كتفيها، وراحت تُحدّق في اللاشيء… فقط السكون.
كان لازم أكون واضحة.
همست لنفسها كمن يُقنع قلبه، لا يُبرّر لفعل.
أنا مبحبش المسافات الرمادية, كل شيء عندي يا أبيض يا أسود...
لكن شيئًا ما في صدرها كان يتململ… يوسف، بحضوره المربك، بنظرته التي تخترق طبقات الجمود، بصمته حين تُصدّه… لا يبتعد.
وهي؟ لماذا تفكر فيه أصلًا؟
ابتسمت بسخرية خفيفة، ونظرت إلى السقف:
يا بنت جابر، أنتِ عندك بيت، وعندك مسئولية، مش وقت الكلام ده خالص.
ثم تنهدت…
بس ليه قلبي بيرتبك لما اسمه بيظهر أدامي!
أشاحت بوجهها بعيدًا، كما لو كانت تُخفي عن نفسها اعترافًا.
ثم نظرت إلى صورة على الجدار — صورة قديمة تجمعها بأختها سناء، وزوج أختها الراحل، وياسين وهو رضيع.
اقتربت منها، مررت أصابعها على الزجاج.
عادت للخلف لسنوات مضت...
عندما رحل زوج سناء، وترك لها ياسين قطعة لحم حمراء, جاءتها سناء تبكيه وتقول كمن تشبث بآخر أمل له في الحياة:
صفية, خليكي جنبي متسيبينيش, أنا وياسين محتاجينك.
كانت هذه الجملة، بداية تحوّل صفية من بنت لأم، من أخت صغرى لحامية البيت.
منذ تلك اللحظة،قررت أن تجعل ما تبقى من عمرها، لعائلتها، أن تكون الأم والأب والأخت وكل شيء لهم، منعت سناء من أي محاولات للعمل، وأمرتها أن تكرّس وقتها كله لياسين، بينما هي ستتحمل عبء المسؤولية والعمل من أجلهما.
صوت قطار بعيد يتسلل من الشارع، يُعيدها من أفكارها، مسحت دمعة خفيفة سالت بلا قصد، وهمست:
أمي وأبويا راحوا بدري، مالحقتش أشبع منهم… بس كنت دايمًا حاسة إنك مكانهم يا سناء، عمرك ماقصرتي معايا لحظة.
دلوقتي جه دوري أردّلك الجميل… وماليش حق أفكر في يوسف، ولا غيره.
صمتت لحظة…
لكن شيئًا في قلبها يهمس بهدوء:
بس هو... مختلف.
❈-❈-❈
3-
في هدوء الصباح، جلست رنا أمام شاشة اللاب توب، تتصفح التصميمات التي أرسلها نور في وقت سابق.
رنا الجارحي… خريجة هندسة معمارية من أعرق الجامعات، بتقدير امتياز.
لكنها منذ التخرج، لم تمارس المهنة يومًا، كانت دائمًا ابنة سليم الجارحي قبل أن تكون المهندسة رنا.
حتى عندما حاولت التقدّم للعمل في إحدى الشركات، قال لها الجارحى:
هتشتغلي ليه؟ ناقصك فلوس؟ بنت سليم الجارحى تقعد في بيتها معززة مكرمة وكل اللي هي عايزاه يجيلها لحد عندها!
لم تعلم لماذا وافقت؟ هل كان لها أصلًا حق الاختيار؟
ولذلك، حين قرر يوسف أن يسلّمها تصاميم الفيلا لتكون مسئوليتها، أحست بشيء من التقدير… حتى وإن لم يقصده.
أمسكت هاتفها، فهناك شيئًا ما بداخلها كان يُلحّ عليها..
ترددت لثوانٍ… ثم ضغطت على الرقم.
رنّ الهاتف ثلاث مرات، قبل أن يردّ صوته الهادئ المعتاد:
ألو.
قالت بنبرة متماسكة… ولكن خلفها كان صوتُ ارتباكٍ خافت:
-صباح الخير يا بشمهندس نور، أسفة على الإزعاج.
-صباح النور يا آنسة رنا، مفيش إزعاج أبدًا، تحت أمرك.
-كنت بس عايزة أتناقش مع حضرتك في شوية حاجات في التنفيذ بإذن الله, ممكن نتقابل انهارده؟
سكت للحظة، ثم قال بصوت منخفض:
-أظن أن المهندس حازم هو المسؤول عن المشروع دلوقتي… ممكن حضرتك تنسقي معاه.
تجمدت ملامحها. حاولت أن تُخفي انزعاجها، لكنها لم تستطع:
-مش فاهمه قصد حضرتك, مين حازم؟
-أنا طلبت من الإدارة حد غيري يمسك مشروع حضرتك، محدش بلغك؟
قالت بتوترٍ لم يَخفَ عليه:
-لا محدش قالي حاجة، مين قال إني عايزة حد غيرك يكمل؟
صمت من جديد، كأن صدى كلماتها باغته… ثم أجاب بهدوء:
-صدقيني، بشمهندس حازم كفء جدًا، وهو أفضل مني بكتير.
رفعت حاجبيها، وقد تكسّر صوتها قليلاً:
-مش عايزة الأفضل، أنا عايزاك إنت!
غصّ حلقها بالكلمات، لكنها أطلقتها….. للمرة الأولى.
نور لم يردّ على الفور. شعرت أن أنفاسه تغيّرت على الطرف الآخر. ثم قال بصوت خافت:
-معلش يا أستاذة رنا، أنا آسف فعلًا، بس أنا حقيقي اعتذرت عن المشروع.
رفعت يدها إلى جبينها، وقالت بنبرة خافتة:
-ليه طيب؟ فيه حاجة ضايقتك؟
تنهد نور، ثم قال:
أبدًا, بس أنا حاليًا مش هقدر أكمل المشروع ده، بعتذرتاني مرة.
وساد الصمت على الخطين.
لحظة لا صوت فيها، لكنها كانت أصدق من ألف حوار.
أغلق الهاتف بعدها دون وداع.
أما هي، فظلت تُحدّق في الفراغ… قلبها يضجّ بشيءٍ يشبه الخوف، ويشبه البداية.
أغلقت الهاتف ببطء، كأنها تخشى أن ينكسر في يدها.
ظلت تحدّق في الشاشة المظلمة، للحظة شعرت أن العالم كله صامت… كأن كل الأصوات توقفت، إلا الصوت الذي في صدرها.
ايه اللي أنا قولته ده؟
سؤالٌ خرج منها همسًا، لكنه ارتطم بجدران قلبها كصدى هائل.
لم تكن تلك الكلمات التي قالتها على الهاتف عادية… لم تكن محسوبة، ولم تمرّ عبر منطقها المعتاد.
مش عايزة الأفضل, أنا عايزاك إنت.
ردّدتها في عقلها، بصوتها المرتبك، فشعرت برجفة في أطرافها.
منذ متى أصبحت ضعيفة؟ ومنذ متى تسمح لقلبها أن يتكلم قبلها؟
سارت بخطى بطيئة إلى الشباك، فتحت الزجاج، ودخل الهواء البارد إلى الغرفة…
أغمضت عينيها.
كانت تظن أنها تعرف نفسها… فهي رنا الجارحي، الواثقة، المتماسكة،
التي لاتحتاج لأحد.
وضعت يدها على صدرها، كأنها تُهدّئ من اضطراب قلبها, تكاثرت الأسئلة بداخلها:
لماذا ليس يوسف؟ لماذا لم تشعر معه أبدًا بهذا الارتباك؟ ولا بالقلق؟
كل شيء بينها وبينه كان منظمًا… مرتبًا… باردًا.
فتحت عينيها، ونظرت إلى انعكاسها في زجاج النافذة, وتمتمت:
نور…
مكنتش في حساباتي ولا في خططي, معرفش إيه اللي حصل!
ثم جلست على طرف السرير، وضمت ساقيها بذراعيها، كأنها تحاول أن تلملم شتات نفسها.
ياربي، إيه اللي بيحصلي ؟ هو أنا...؟
وصمتت.
لكن عيناها، كانتا تجيبان بنعمٍ لا تُقال.
❈-❈-❈
4-
بعد ساعات ظلت جالسة مكانها على الأريكة في الصالة، كوب من القهوة الباردة في يدها، وعيناها شاردتان في نقطة غير واضحة على الجدار المقابل.
لم تسمع خطواته، لكنه دخل فجأة، بصوته الهادئ كعادته:
-مساء الخير.
رفعت رأسها ببطء، نظرت إليه لحظة ثم قالت:
-أهلاً يا آدم…
جلس على المقعد المقابل، بصمتٍ ثقيل، كأن بينهما مسافة لا تُقاس بالأمتار، بل بالعتاب.
قال بعد لحظة:
عاملة إيه دلوقتي؟ ورجلك؟
ابتسمت ابتسامة باهتة:
-أحسن
صمت.
راح يُقلّب نظره في المكان، ثم سأل بنبرة عابرة ظاهريًا:
-يوسف أخباره إيه؟ وهدى؟
رفعت حاجبها، كأنها لم تفهم:
-معرفش مكلمتوش بقالي فترة, وهدى مكلمتهاش برده.
-أصلها مبتجيش الجامعة بقالها كام يوم, قولت أسألك يمكن تعرفي حاجة؟
هزّت كتفيها بخفة:
-لا، معرفش.
أومأ برأسه، لكن ملامحه لم تُخفِ الخيبة.
صمت مجددًا، أراد أن يسأل أكثر، لكنه لم يقل شيئًا.
قالت هي، بعد لحظة:
ماتتصل تسألها طيب, إنت بتسألني أنا ليه؟
نظر إليها، نظرة طويلة، فيها كلام لم يُنطَق، ثم قال بهدوء:
قولت إنك أكتر واحدة قريبة منهم يعني هتعرفي!
كانت كلماته ثقيلة، لكنها لم تردّ.
وقف، وأعاد ترتيب ياقة سترته، ثم قال قبل أن يغادر:
خلي بالك بقى, القهوة بردت وإنتي لسه مشربتيهاش!
وخرج.
أما هي، فبقيت في مكانها، تتساءل أيهم أبرد، القهوة في يدها أم علاقاتها بمن حولها؟
❈-❈-❈
5-
كان الليل ثقيلاً، والهواء البارد يتسلل إلى قلبها،رغم دفء المكان من حولها، لكنه لم يكن أبرد من ما شعرت به وهي تقرأ الرسالة على هاتفها.
رسالة واحدة، لكن كفّها بدأ يرتجف، وعيناها اتسعتا برعب.
مش عايز أكون بني آدم قليل الأصل… بس لو ما جيتيش الفيلا بكرة الساعة 10، الصور دي هتكون على كل حسابات السوشيال ميديا, القرار ليكي ياقطة!
أسفل الرسالة، أربع صور. واحدة منهم كانت كافية لتدمّرها.
وضعت يدها على فمها، كأنها تحاول أن تخنق شهقة خرجت رغمًا عنها.
إيه ده؟ إزاى جاب الصوردي؟
أغلقت الهاتف بسرعة، قامت من مكانها، راحت تدور في الغرفة كأنها محبوسة داخلها، تلتقط أنفاسًا متقطعة.
أنا… مش ممكن أروح… مش ممكن.
لكنها كانت تعرف أن "الممكن" و"المستحيل" كلمات لا قيمة لها حين تكون صورتك وسمعتك في كفّ مجرم.
جلست على طرف السرير، مدت يدها نحو هاتفها مرة أخرى… فتحت جهات الاتصال، توقفت عند اسمه: آدم.
أصابعها تحركت ببطء نحو زر الاتصال… ثم توقفت.
هكلمه أقوله إيه؟ هفضح نفسي أكتر؟ مش كفاية اللي حصل؟
أغلقت الهاتف ببطء، ثم سحبت نفسًا عميقًا، نهضت، وقفت أمام المرآة، نظرت إلى انعكاس وجهها المتوتر، وقالت بصوتٍ خافت:
هروح..
رفعت ذقنها بثبات زائف:
هروح, بس المرة دي مش هبقى ضعيفة, مش هكون الضحية، هجبره إنه يوقف كل اللي بيعمله ده.
صمتت لحظة… ثم أضافت، كأنها تتوسّل لنفسها أن تصدّق:
أنا قوية وهقدر المرة دي.
لكن في أعماقها، كانت تدرك أن هذه الليلة… قد تغيّر كل شيء.
❈-❈-❈
6-
كان المكتب الواسع في الطابق العلوي من شركة المنشاوي غارقًا في صمت ثقيل، لا يقطعه سوى صوت تقليب الأوراق وخرير خافت لجهاز التكييف.
جلس رؤوف المنشاوي خلف مكتبه المصنوع من الخشب الفاخر، تتدلّى من فوقه ثريا بلجيكية عتيقة. عينيه مثبتتان على الشاشة أمامه،طرق يوسف الباب طرقة واحدة ودخل دون انتظار إذن.
-صباح الخير.
رفع رؤوف عينيه للحظة، ثم قال دون أن يبتسم:
متأخر عشر دقايق! اقعد.
أومأ يوسف برأسه، ثم وقف قبالة المكتب دون أن يجلس. يداه خلف ظهره، ونظرته مشدودة إلى نقطةٍ في الفراغ.
أردف المنشاوي، وهو يقلب إحدى الملفات:
المشروع بتاع المدرسة متأخر ليه؟
تلجلج قليلًا كعادته في حديثه معه:
المشروع وصل لنقطة كويسة.
ألقى رؤوف بالأوراق على الطاولة، ثم نظر إلى يوسف بعينين تحملان خليطًا من الضيق والبرود:
نقطة كويسة؟ إنت عارف المشروع ده أنا حاطط فيه ميزانية كام؟ وعارف كل يوم بيتأخر أنا بخسر كام؟ إنت فاكرني بعمل تبرعات بجد ولا إيه؟
صمت يوسف لحظة، ثم قال بصوت منخفض:
أنا بتابع كل حاجة بنفسي، مفيش تقصير خالص.
ضاقت عينا المنشاوي قليلًا، وقال محاولًا كبح انفعاله:
إنت خريج إدارة أعمال من لندن، ومسكتك أكبر المشاريع عشان يكون ليك اسم في السوق, مش عشان تقولي مفيش تقصير؟! وتبررلي فشلك!
أنا بشرح لحضرتك بس مش تبرير خالص.
ضحك رؤوف ضحكة قصيرة، ثم قال بفتور:
متشرحليش أنا مش بطلب منك معجزة، متخلنيش أندم إني مسكتك المشروع ده!
ثم التقط قلماً وكتب شيئًا على ورقة أمامه، دون أن ينظر إلى يوسف، وأضاف بنبرة الأمر:
خلال 48 ساعة عايز تقريرمفصل عن المشروع كله، وإلا هشوف حد غيرك يمسكه!
أومأ يوسف برأسه:
حاضر, تحت أمرك.
واستدار مغادرًا، وعندما اقترب من الباب شدّ على قبضته، ثم فتحه وخرج بصمت.
كان الهواء في الممر أكثر برودة... لكنه على الأقل، لا يخنق.
❈-❈-❈
7-
كان هاني، مدير قسم التصميم، يجلس في مكتبه المرتّب بإفراط، يتفحص مجموعة من الرسومات الهندسية على شاشة حاسوبه حين فُتح الباب فجأة.
دخلت رنا الجارحي بخطى ثابتة، مرتدية معطفًا أنيقًا بلون كريمي، وشعرها مربوط بإحكام خلف رأسها، وعيناها تتقدان بتصميم واضح.
رفع رأسه بدهشة، ثم قال مبتسمًا:
– آنسة رنا؟ أهلًا بحضرتك.
قالت بلهجة لا تقبل الجدل:
– جيت عشان أبلغك أن مشروع تنفيذ الفيلا مش هيمسكه حد غير المهندس نور سليمان.
ارتسمت على وجهه ابتسامة حاول أن يُخفي بها امتعاضه:
– الحقيقة هو نور اعتذر، وأنا هخلي مهندس تاني متميز عندي يكمله.
قاطعت كلامه بثبات:
– ده مش طلب، ده قرار. نور هو اللي بدأ المشروع، وهو الوحيد اللي فهم اللي عايزاه من غير شرح كتير, وأنا مش هتعامل مع حد غيره.
تأمل ملامحها للحظة، ثم زفر بهدوء وقال:
– تمام، بما أنك مصمّمة... لحظة واحدة.
ضغط على زر الاتصال الداخلي، وقال:
– لو سمحتِ، ناديلي المهندس نور.
بعد دقائق، دُفع الباب بلطف، ودخل نور مرتديًا قميصًا كحليًا وبنطالًا رماديًا، وعلى وجهه علامات الاستفهام.
– أيوه يا مدير، خير؟
أشار إليه هاني بنظرة ذات مغزى، ثم قال:
– آنسة رنا جات عشان تبلغنا أن المشروع محدش هيكمله غيرك.
نظر نور إلى رنا، فبادلته نظرة حازمة لكنها خالية من الغرور، فقط رغبة صادقة في الاستمرار.
قال نور بنبرة هادئة:
لو حضرتك شايف كده, يبقى تمام.
همّ هاني أن يرد، ثم صمت، ونظر بين الاثنين، ثم قال بتنهيدة قصيرة:
– طيب يا نور... المشروع ليك من تاني، بس أنا مش عايز أي تأخير.
أومأ نور برأسه دون أن يعلّق.
استدارت رنا لتغادر، وبعد أن خرجت من الغرفة، قال نور بابتسامة خفيفة:
– حمدلله على السلامة... واضح إنك فكيتي الجبس أخيرًا.
توقفت لحظة، ثم التفتت وقالت بابتسامة صغيرة:
– الله يسلمك.
وغادرت.
ظل نور واقفًا في مكانه، ينظر إلى الباب المغلق، ثم عاد ببطء إلى مكتبه وجلس، أسند مرفقيه على الطاولة، ومرر كفّيه على وجهه.
ثم نظر إلى الشاشة، دون أن يراها فعليًا.
كان وجهها لا يزال عالقًا في ذهنه، وكأن شيئًا ما فيها يأبى أن يتركه.
همس بينه وبين نفسه:
– أنا وافقت ليه؟ الموضوع ده... لازم يتحسم.
لكن قلبه لم يكن واثقًا من أي حسم.
❈-❈-❈
8-
كان المساء قد أسدل ستاره على المدينة، والمطر يتساقط بخفة، عاد نور إلى بيته متعبًا، يحمل في يده ملفًا ثقيلاً، وفي عينيه بقايا تفكير لم يُكمل بعد.
فتح الباب بالمفتاح، دخل بهدوء، ولم يُنادِ. كان معتادًا أن يجدها في المطبخ أو جالسة تقرأ القرآن في صالة صغيرة، تلف شالها حول كتفيها وتهمس بكلماتها كما لو كانت تناجي ربها.
لكنه لم يسمع شيئًا.
خلع معطفه، ووضع الملف على الطاولة، ثم نادى:
– ماما… أنا جيت.
لم يأته رد.
دخل غرفتها… فوجدها كما تركها صباحًا. المصباح الصغير ما زال مضاءً، والمصحف مفتوح على الصفحة ذاتها. كانت ممددة على السرير، بنفس الثوب المنزلي البسيط، وملامح وجهها هادئة... أكثر من اللازم.
اقترب منها بخطوات متسارعة:
– ماما؟... ماما قومي، أنا جعان جدًا, ونفسي مفتوحة انهارده أوي.
وضع يده على يدها… كانت باردة.
تجمّدت أنفاسه.
– لا لا… لأ… مستحيل.
انحنى عليها، بدأ يربّت على وجهها، يهز كتفها، يهمس برجاء:
– اصحي… بالله عليكي اصحي… إنتِ أكيد نايمة مش كده؟
ثم صرخ بكل ما تبقى فيه:
– حد يلحقني! إسعاف… بسرعة!
لم ينتظر أحدًا. حملها بين ذراعيه كما يحمل طفلًا، وخرج إلى الشارع يركض بها تحت المطر، وجهه مبلل لا يُعرف فيه الدمع من المطر، وصوته يرتجف:
– قومي يا ماما بالله عليكي, أنا محتاجك أوى.
وصل المستشفى، صرخ في وجه موظف الاستقبال، الأطباء أسرعوا، أخذوها منه... لكنه لم يُرِد أن يترك يدها.
دقائق... ثم خرج الطبيب، بصوت خافت، ووجهٍ يشبه خبرًا مكتوبًا بالحزن:
– البقاء لله...
نظر إليه نور، لم يفهم الكلمة أول مرة، أو ربما لم يُرد أن يفهم.
قال بصوت مكسور:
– لأ… لأ حضرتك غلطان… هي كانت نايمة بس… أكيد تعبانة شويه بس, اتأكد تاني.
لكن الطبيب لم يرد.
نظر نور من بعيد إلى السرير الذي كانت عليه، ثم جلس على المقعد... وانهار.
لم يستطع أن يصدّق أن يدها التي كانت قبضة أمان في يده صارت بلا حياة، وأن الصوت الذي كان يسمعه قد صار صمتًا أبديًا. تجمد الزمن حوله، وأحس وكأن جزءًا من روحه قد انتزع من جسده، وتركه غارقًا في فراغ قاتل لا يُحتمل. كأن العالم كله انطفأ في لحظة، ولم يعد هناك إلا الصدى الخافت لذكرى كانت تملأ كل زاوية من حياته.
❈-❈-❈
في الصباح..
كانت الجنازة بسيطة، كما كانت تحب.
وقف نور يتلقى العزاء، لكنه لم يسمع كلمات الناس، لم يرَ إلا صورتها وهي تودّعه دون كلام.
حين أُهيل التراب على جسدها، شعر كأن شيئًا منه يُدفن معها.
وكأنّ قلبه لم يعد في صدره، بل هناك... في الظل، تحت التراب.
وبعد انتهاء العزاء..
عاد إلى البيت وحيدًا، فتح الباب، فاستقبله الصمت.
الصالة كما تركتها، المصحف ما زال على الصفحة ذاتها.
رائحة طعامها لا تزال في الأواني.
دخل غرفتها، جلس على سريرها، ثم مدّ يده يتحسس الوسادة التي طالما وضعت عليها رأسها.
همس بصوت مخنوق:
– وحشتيني أوي يا مرمر.
مرّر يده على الشال المعلّق، ثم ضمّه إلى صدره، كأنّه يطلب دفئها الذي لم يعد.
تجوّل في البيت كمن يبحث عن ظلّ، عن صوت.
كل شيء فيها كان حيًّا... إلا هي.
جلس على الأريكة التي كانت تجلس عليها، ودفن وجهه في كفّيه.
ولأول مرة منذ سنوات طويلة… بكى نور كما لم يبكِ من قبل.
بكى بكاء طفل فقد حضن العالم كله.
وبين دموعه، لم يكن يتمنى شيئًا، سوى أن تعود لدقيقة واحدة، فقط ليقول لها:
بحبك… ومقدرش أعيش من غيرك.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاءالدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية