رواية جديدة قلوب على الهامش ليارا علاء الدين - الفصل 1 - الخميس 12/6/2025
قراءة رواية قلوب على الهامش كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية قلوب على الهامش
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة يارا علاء الدين
الفصل الأول
تم النشر يوم الخميس
12/6/2025
هل يختار القلبُ حقًّا… أم أننا نُجبره على ما نراه مناسبًا؟
❈-❈-❈
كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً حين امتلأت فيلا آل "المنشاوي" الواقعة على أطراف المعادي بهمسات المدعوين، وضجيج الكريستال، وصوت العازفين وهم يجتهدون في عزف مقطوعات كلاسيكية، تُخفي ما خلفها من توتر يُثقل الجو.
الفيلا ذات الطابع الأوروبي العتيق، كانت تتلألأ بأضواء ناعمة تتدلى من ثرياتٍ تشبه السحب، وأزهار الأوركيد تملأ الزوايا بعطر خافت ومترف.
على رأس السلم الحلزوني، وقف يوسف المنشاوي، بثبات رجل يعرف تمامًا مايريد. كان يرتدي بذلة رمادية داكنة، خيطت له خصيصًا في إيطاليا، وربطة عنق تُضفي على ملامحه الوسيمة مسحة من الجدية.
عيناه الرماديتان كانتا تنظران إلى الأسفل، حيث يحتشد الحضور، كأنه يبحث عن شيء لا يعرفه، أو يهرب من شيء يعرفه جيدًا.
وراءه، وقفت أمه لبنى هانم، بكامل أناقتها المعتادة، ترتدي فستانًا كحليًا مطرّزًا بخيوط فضيّة، وعقد لؤلؤ يحيط بعنقها النحيل. ملامحها الجامدة لم تخفِ ضيقًا مكتومًا, إلى جوارها وقف الأب، رؤوف بك المنشاوي، رجل الأعمال المعروف، بهيبة رجل لم يتعود أن يُسأل، ولا أن يُعارَض.
أما هدى، أخت يوسف الصغرى، فبدت كأنها الوحيدة التي تبتسم بصدق، ترتدي فستانًا ناعمًا بلون الزمرد، وتلتقط الصور دون أن تكلّف نفسها عناء إخفاء حماسها الطفولي.
بدأ يوسف ينزل الدرج بخطوات محسوبة، كل نَقرة من حذائه الجلدي تُحدِث صدى في القاعة، وكأنها تدقّ طبول معركة غير مرئية.
وفجأة، انفتح باب الفيلا الرئيسي, ودخلت رنا الجارحي.
كأن الهواء تغير. حتى الموسيقى خفّ صوتها،
كانت ترتدي فستانًا أبيض عاجيًّا، بخيوط ذهبية دقيقة تنسدل على جانبيه كأشعة شمس خجولة. شعرها مربوط إلى الخلف في تصفيفة بسيطة، يزينها طوق من الياسمين.
وراءها سارت عائلتها، يتقدّمهم والدها سليم الجارحي، رجل الأعمال العصامي الذي صعد من الصفر، يرتدي بذلة سوداء تقليدية ونظرة لا تخلو من التحدي.
أما الأم، ميسون هانم، فكانت تمشي ببطء، أنيقة كعادتها، تحيط بها هالة من الكبرياء الأرستقراطي.
وراءهما، وقف شقيق رنا، آدم، شاب في منتصف العشرينات، ينظر بعينيه بثبات لا يصطنعه.
حين اقتربت رنا من يوسف، لم يبتسم أحدهما. فقط نظرات جامدة، قصيرة، صامتة، ثم التفّت حولهما الأعين، والتُقطت الصور، وبدأت الطقوس.
جلسا إلى الطاولة الطويلة، المصنوعة من الخشب العتيق، والمزيّنة بأطقم الصين الفاخر، وورود بيضاء ناعمة تملأ المنتصف.
وفي المنتصف تمامًا... جلسا هما، يوسف ورنا، كأنما تم وضعهما هناك كديكور، لا كعروسين.
بدأت مراسم حفل الخطوبة بصوت عمّ رنا المستشار منصور، وهو ينهض من مقعده, حيث ابتسم ابتسامة رسمية، ونظر للحضور قائلاً:
أهلًا وسهلًا بحضراتكم جميعًا... اليوم مش بنحتفل بخطوبة يوسف ورنا بس, لكن بنحتفل باتحاد عائلتين، وامتداد اسمين كبيرين في المجتمع.
ارتفعت أصوات التصفيق، وانحنت رؤوس المجاملة، لكن يوسف لم يصفّق، فقط نظر إلى الطاولة أمامه، ثم إلى رنا التي جلست بجواره... جامدة كالصخر.
لبنى هانم, أخرجت علبة مخملية صغيرة من حقيبتها، ناولتها لابنها، وهمست:
لبسها الخاتم، وابتسم يا يوسف... الناس بتبص عليك.
تناول العلبة بيد ثابتة، فتحها، وأخرج خاتمًا من الذهب الأبيض مرصعًا بحجر ألماسي صغير.
التفت إلى رنا وقال بصوت خافت لم يسمعه سواها:
مبروك ياعروسة!
لم تنظر إليه، فقط مدّت يدها بخفة، كأنها تقدّمها لغريب في مراسم دبلوماسية، لا لعريس.
أدخل الخاتم في إصبعها، والتقطت الكاميرات اللحظة...
ثم نهض رؤوف بك المنشاوي، صافح والد رنا، وعلت الزغاريد من ركن النساء كعادتهم في تلك المواقف.
رنا بدورها تناولت خاتم يوسف من علبة ثانية، زينتها أمها بشريط مخملي، وألبسته له بحركة باردة، دقيقة...
ثم قالت بصوت منخفض وهي تضحك ضحكة قصيرة:
بقيت خطيبي رسميًا.
يوسف لم يجب, فقط ابتسم بهدوء وهو يهمس لها:
لحد دلوقتي!
حين انتهت الكلمات الرسمية، والتُقطت الصور، ووضِعت الخواتم، عاد الجميع إلى أماكنهم كأنهم خرجوا من مسرحٍ مكتمل، يخلعون أدوارهم في خفية.
التقط يوسف كأس العصير من على الطاولة، لا يشرب، بل يحدّق فيه برتابة.
رنا إلى جانبه، تعدّل طرف الفستان وقد أخذ منها الإرهاق مأخذه، لكن عينيها كانتا يقظتين... تُراقبان الحضور، وتحفظان تعليقاتهم, دون أن تلقي بالًا له!
قال يوسف، دون أن ينظر إليها:
متوقعتش إنك توافقي بسهولة.
قالت، وهي تنظر إليه بتحدي:
مش لوحدي, مانت كمان وافقت!
في الجهة المقابلة من القاعة، كانت هدى، تقف قرب طاولة الحلويات، تراقب المشهد بعينٍ ناقدة.
اقترب منها آدم وهو يبتسم بهدوء:
مبروك ليوسف, عقبالك ياهدى.
ضحكت برقة كعادتها:
بعد عمرٍ طويل.
نظر لها في صمت، وهو يراقب حركاتها, ولم يرد.
في الزاوية الأخرى, اقترب أحد رجال الأعمال من رؤوف بك، وربت على كتفه:
زواج مبارك... وشراكة رابحة، إن شاء الله.
ضحك رؤوف وقال بثقة:
أكيد, محدش بيخسر في صفقة محسوبة زي دي.
لكن في تلك اللحظة، كان يوسف يحدّق إليه من بعيد، وقد فهم مايحدث دون أن يسمع!
لم يكن في وجهه غضب، بل خيبة... تشبه الغبار الذي لا يُرى، لكنه يملأ كل مكان.
تسلّلت رنا من بين الحضور، دون أن يشعر بها أحد. مشت نحو الحديقة الخلفية، حيث الشموع لا تزالا تزال تضيء الطريق الطويل بين الأشجار.
توقفت عند بركة الماء الصغيرة، نظرت إلى وجهها المنعكس، وقالت بصوت خافت:
قمر يارنا, خسارة في يوسف الكئيب ده والله.
لم تنتبه إلى أن والدتها، قد لحقت بها.
سألتها بغضب واضح على ملامحها:
إيه اللي جابك هنا؟ فيه عروسة تسيب عريسها في يوم خطوبتهم وتقف لوحدها؟
استدارت رنا وقالت، بوجهٍ ساكن:
أنا!
همت أن تنطق بكلام, حين قاطعتها رنا بصرامة:
عدي اليوم زي ما إنتوا عايزين وإلا هبوظ كل حاجة!
❈-❈-❈
كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل،
حين خرجت مريم من الورشة الصغيرة التي تعمل بها نهارًا، وتسكن أعلاها ليلًا.
الشارع الضيق، الممتد خلف سوق العتبة، بدا أكثر ظلمة من المعتاد.
البرد ينهش أطرافها، فتضم المعطف على جسدها النحيل، وتسرع الخطى نحو سلّم البناية.
لكن قبل أن تفتح الباب الحديدي الصدئ، سمعت الصوت.
بكاء؟ رفيع. متقطّع. خائف.
تجمّدت.
استدارت ببطء... تلتقط الصوت بأذنيها, كان يأتي من ناحية الحاوية، تحت عمود الإنارة المكسور.
اقتربت… ترددت… ثم لمعت عيناها.
صندوق؟
وطفل؟
طفل… وحيد
أوشكت أن تتراجع، أن تركض وتطرق باب الجيران، أو تتظاهر أنها لم تسمع شيئًا…
لكن قدميها لم تطاوعاها, انحنت, رفعت البطانية الرخيصة. وجه صغير، شاحب، يصرخ بلاذنب.
همست:
ياحبيبي, مين عمل فيك كده؟
لمحت الإسورة التي تحيط بيديه الصغيرتين، فقرأتها…
ثم ضمته إلى صدرها…
وقفت، تحمل الطفل وتحدق في الظلام.
ثم قالت، بصوت أقرب إلى النذر:
ما أعرفش إنت مين… بس من النهاردة، بقيت النور اللي هينور حياتي.
❈-❈-❈
في صباح شتوي هادئ, حيث تنغمس المدينة في ثوب من الضباب البارد، والناس تبدأ يومها بخطى متثاقلة، والأزقة تملأها أصوات خطوات مترددة وأحاديث متقطعة، وكأن البرد يضغط على الجميع ليظلوا في فراشهم قليلاً أطول.
كانت صفية جابر تسير في شارع جانبي، حقيبتها اليدوية تتدلّى من كتفها،
وحذاؤها الأسود الملمّع يسير على إسفلت لم يلمع منذ زمن.
صفية فتاة رقيقة في منتصف العشرينات.
نحيلة، متوسطة الطول، بشرتها قمحية، ملامحها عادية لدرجة أنك قد لا تتذكرها لو مرّت بجوارك…
لكن في عينيها شيءٌ ثابت، حاد، لا يلين.
تُدرّس اللغة العربية في مدرسة ابتدائية، خلف سوق المطرية.
لم تكن صارمة، لكنها كانت تُحب النظام.
ولم تكن محبوبة من الجميع، لكنها كانت محترَمة.
وحين تقف أمام السبورة، لا يعود شيء في العالم أهمّ من "الفاعل والمفعول"،
وكأن النحو هو الشيء الوحيد الذي لم يخنها.
في بيتها، تعيش مع أختها الأرملة سناء، وابن أختها ياسين.
هي التي تُجهّز الفطور، وتُراجع الواجبات، وتدفع الفواتير في صمت.
صفية لم تتزوج.
ليس لأنها لم تُخطَب… بل لأنها لم تُحب.
كانت دائمًا تقول:
مش هدخل القفص إلا مع واحد يستاهل.
في المساء، تجلس في غرفتها، تقرأ من كتاب اللغة العربية،
تشرب شايها الثقيل، وتفكّر كثيرًا… ثم تُطفئ النور قبل أن تنتهي أفكارها.
وفي كل ليلة، تسأل نفسها:
هل نسيتني الحياة؟ أم تركتني لحكمةٍ لا أعرفها بعد؟
كان جرس الحصة الثالثة قد رنّ للتو،
وصوت الأطفال في الفصل, يشبه سوقًا صغيرًا من الضوضاء والضحك والمناكفات.
دخلت صفية الفصل بثوبها الكحلي البسيط، حقيبتها في يد، ودفتر التحضير في الأخرى.
لم تصرخ.
لم تطرق على الطاولة.
فقط وقفت لحظة، وانتظرت.
ثوانٍ معدودة، وبدأ الصغار يهدؤون، واحدًا تلو الآخر، كأن حضورها في ذاته هو القانون.
قالت بصوت هادئ:
"افتحوا كراسات العربي يا حبايبي عندنا انهارده درس عن توماس إديسون.
رفع طفلٌ يده، هو أدهم، دائم المقاطعة، وسأل بعفوية:
مين ده ياميس؟
ابتسمت صفية، لأول مرة ذلك الصباح، وقالت:
ده اللي اخترع المصباح الكهربائي ياأدهم.
قالت سلمى، التي تجلس في الصف الأول، وهمست كأنها تخشى الخطأ:
اللي بينور البيت ياميس؟
سكتت صفية لحظة، ثم قالت برقة:
اه, وبينور كل مكان, زي ضحكتك الجميلة دي.
ضحك بعض التلاميذ، وجلست سلمى في خجل.
تحرّكت بين الصفوف، تُصحّح جلوس الأطفال، تعدّل من طريقة الإمساك بالقلم،
وكلما نظرت في وجه صغير، فكّرت:
من منهم يستطيع يومًا أن يخترع شيئًا ليضيء القلب بعد ظلمته؟
❈-❈-❈
كان صوت ماكينة الخياطة يتردد في الغرفة، كأنها تغزل الزمن، أو تحاول ترقيع فجوة..
خمس وعشرون عامًا, مرت على هذا المشهد دون أن تشعر .
توقفت مريم عن الخياطة فجأة. نظرت إلى يدها، ثم إلى الماكينة التي بدت وكأنها تسألها: لسّه فاكرة؟
أغمضت عينيها، سالت دمعة سريعة على وجنتيها, حاولت أن تداريها, عندما سمعت صوته يقترب.
دخل نورإلى الغرفة وهو يرتب ياقة قميصه الأبيض, قال بابتسامة ناعسة:
صباح الخير يا أمي… إنتي صاحية من بدري؟
ابتسمت ابتسامتها الصافية:
صباحك نور يا قلب أمك… أيوة ياحبيبي, أقوم أعملك الفطار؟
- برده يا مرمر يعني عايش معاكي بقالي كتير ولسه بتسألي نفس الأسئلة, مانتي عارفة إني مبفطرش قبل ما أنزل.
- يا حبيبي غلط تنزل من غير فطار كده.
- مفيش فايدة في الأمهات, المهم ادعيلي المدير طلب مني أشتغل النهارده على مشروع كبير هيبقى نقلة تانية للشركة.
قالت وهي تحاول أن تخفي قلقها:
ربنا يوفقك يا حبيبي ويكتبلك في كل خطوة سلامة.
اقترب منها، وقبّل رأسها:
متحرمش منك ولا من خوفك عليا ده.
خرج نور، ووقفت مريم مكانها، تنظر نحو الباب, بداخلها قلقها المعتاد كلما بدأ مشروعًا جديدًا, رغم نجاحه المتوقع, لكنها تخاف, وكيف لاتخاف؟ وهو نور حياتها!
❈-❈-❈
في الطابق الثالث من شركة التصميم الهندسي "أركان"، كان المكتب الواسع ينبض بنشاط صباحي هادئ. الموظفون يتنقلون بين المكاتب، والهواء ممتلئ برائحة القهوة.
جلس نور أمام شاشته، يراجع بعض التصاميم، حين سمع صوت السكرتيرة يناديه:
الأستاذ هاني طالبك في مكتبه، حالًا يا بشمهندس.
نهض بخفة, وسار بخطى هادئة نحو المكتب, طرق الباب، ودخل بهدوء.
هاني، مدير التصميم في الشركة، كان رجلًا في الأربعينات، ممتلئ الحضور، دائم الابتسامة المحترفة, ثابتَا, متزنًا.
قال وهو يشير لنور بالجلوس:
صباح الخير يا نور, ايه أخبار التصاميم الأخيرة؟
رد بابتسامة خفيفة:
تمام الحمد لله سلمتها… كله ماشي كويس.
ابتسم وهو يفتح ملفًا أمامه:
تمام جدًا, نتكلم بقى عن المشروع اللى بلغتك بيه امبارح, المشروع ده مهم… مش بس لأنه كبير، بس كمان لأنه حساس.
صمت لحظة ثم أردف:
فيلا كبيرة في المعادي، بتاعة واحدة اسمها رنا الجارحي… بنت رجل الأعمال سليم الجارحي… وخطيبها يوسف المنشاوي، أكيد سمعت عن العيلتين؟
نور ابتسم وهو يهز رأسه:
أكيد يا بشمهندس, الموضوع بقى تريند!
اتسعت ابتسامته:
عايزين تصميم ديكورات داخلية كاملة للفيلا، وعايزين الشغل يتم على أعلى مستوى… واللي هيكون شغال معاها بشكل مباشر… هو حضرتك, مش عايز أي أخطاء, زي مانت معودني يا نور.
أومأبرأسه قائلًا: متقلقش يا مدير.
ضغط هاني على الزر الداخلي:
دخلي آنسة رنا لو سمحتي.
بعد ثوانٍ…
دخلت رنا الجارحي.
أنوثة راقية… حضور قوي… وعينان مليئتان بالحكايات.
ترتدي بدلة بلون سكري، بشعر مشدود للخلف وطوق بسيط، ومع ذلك بدت كأنها خارجة من غلاف مجلة فخمة.
قال هاني، بابتسامة رسمية:
آنسة رنا، ده نور… المصمم اللي هيكون مسؤول عن مشروع الفيلا… من أكتر الناس المتميزين في الشركة, واللي أنا واثق إنه هيعجبك شغلهم.
نظرت إلى نور للحظة، ثم مدت يدها بأدب:
أهلاً وسهلاً.
ابتسم دون أن يمد يده:
أهلاً بحضرتك.
رمقته بنظرة نارية, زادت من احمرار وجنتيها, كيف يجرؤ؟ هذا المغرور!
لم يلحظ هاني تلك النظرة, فقال وهو يغلق الملف:
خد آنسة رنا واتكلموا براحتكم في مكتبك يا نور، اتفقوا على كل التفاصيل… ومحتاج تصور مبدئي خلال يومين.
خرجا من مكتب المدير، واتجهوا إلى المكتب الزجاجي الخاص بنور.
جلس نور على الطاولة، بينما رنا فتحت جهازها المحمول، تحاول أن تشتت نفسها عن سخافة الموقف السابق.
تنحنح نور قائلًا: حضرتك تحبي تشربي إيه؟
قالت بنبرة حادة: أنا مش جاية أشرب, نتكلم في الشغل من فضلك.
ثم أردفت:
الفيلا مساحتها 900 متر… دورين، وعايزة يبقى في طابع عصري بسيط، من غير بهرجة… بس في نفس الوقت يكون مميز, مش عايزاه تقليدي خالص, عايزة فيلا رنا الجارحي, متكونش زي أي فيلا!
مرر نور يده بين شعره الكثيف الناعم، أسود اللون, حيث كان مرتبًا بعناية واضحة تعكس ذوقه الرفيع ثم قال:
يعني حضرتك عايزة ستايل مودرن ناعم؟ حاجة minimal لكن تبين قيمة المكان.
قالت وهي توميء برأسها:
بالظبط من الآخر، عايزين الناس تقول واو.
ابتسم نور وهو ينظر إلى الشاشة:
تمام يا أفندم, تحت أمرك.
ضحكت بخفة، ثم نظرت له نظرة أقرب للدهشة:
أفندم؟ إيه يابني أنت من التسعينات ولاإيه؟
صمت لحظة، ثم قال:
عمر الاحترام ما كان ليه زمن معين!
ثم أردف وهو يعود بنظره للشاشة:
يومين بإذن الله والتصاميم تبقى عند حضرتك.
اكتفت بإيماءة رأسها, دون أن ترد, ثم تركته وانصرفت.
لكنها، لأول مرة منذ زمن طويل…
ابتسمت بدون سبب.
❈-❈-❈
في مدرسة الصفا الإبتدائية, كانت صفية تقف في فناء المدرسة خلال الفسحة، تراجع جدول الحصص وهي ترتشف شايها الثقيل.
كان الجو باردًا، والطلبة يركضون ويضحكون، بينما هي تقف بثبات وسط كل هذه الفوضى.
نظرت إلى الباب الرئيسي…
ورأت سيارة فخمة تقف أمام المدرسة.
نزل منها رجل يرتدي بدلة رسمية، وساعة لامعة في معصمه.
كانت الزيارة مهنية، متابعة من إدارة مجموعة المنشاوي للمدارس.
دخل إلى المدرسة بخطى ثابتة.
كانت هي تقف عند المدخل، فمر بجانبها, لمحت وجهه للحظة…يوسف المنشاوي.
لم تعرفه، لكنها شعرت بشيء في حضوره…
شيءٌ كأنها رأته في حلم قديم، أو قرأته في رواية ذات مساء.
بعدها بساعة تقريبًأ...
كان يوسف يسير بجوار مدير المدرسة، رجل ستيني وقور يُدعى الأستاذ محسن، يرتدي بدلة باهتة وحذاءً يئن تحت ثقل قدميه. يتحدث بحماس عن رؤية المنشاوي لتطوير العملية التعليمية في المدرسة، ويوسف يجيب بإيماءات مقتضبة، وعيناه تتنقل بين الجدران المتقشرة والنوافذ المهشّمة والمقاعد المتهالكة.
قال المدير وهو يفتح باب أحد الفصول:
وده فصل خامسة (ب)، من أكتر الفصول المتميزة… والأستاذة صفية من أكتر المدرسات انضباطًا.
دخل يوسف، يتبعه المدير، ليجدها واقفة أمام السبورة، تشرح درسًا عن "المفعول المطلق"، والطلاب منضبطون كأنهم في عرض عسكري.
توقف الحديث حين رأت المدير ومعه الزائر.
نظرت صفية إلى يوسف، نظرة هادئة، لكنها مشتعلة من الداخل، ثم قالت بصوت عالٍ:
– ردوا السلام بصوت عالي يا حبايبي.
ردّ الفصل في صوت واحد:
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ابتسم المدير، ثم قال وهو يشير إلى يوسف:
– ده الأستاذ يوسف المنشاوي، من مشروع التطوير, التابع لشركة المنشاوي, بيشوف إزاي نقدر نحسّن الفصول والبنية الأساسية.
أومأت صفية برأسها، وقالت وهي تحدجه بنظرة ذات معنى:
– أهلاً وسهلاً، إحنا فعلاً محتاجين تطوير كبير, مش بس في الأساسات لكن في حاجات كتير.
رفع يوسف حاجبه مستفهمًا:
– حضرتك تقصدي في الإدارة... ولا في هيئة التدريس؟
نظرت إليه نظرة مطوّلة، ثم قالت:
محتاجين تغيير للنفوس.
ضحك المدير ليخفف التوتر، وقال:
– الأستاذة صفية دايمًا بتحب تهزر كده.
يوسف لم يرد، بل سار بخطى بطيئة بين المقاعد، تأمل السبورة، ثم التفت قائلًا:
– واضح إن حضرتك شاطرة في العربي أوي.
قالت بهدوء حاد:
– وأنا شايفة إن ده ميخصش حضرتك.
ابتسم ابتسامة باهتة، ونظر للمدير قائلًا:
تمام, ممكن نشوف الدور اللي فوق.
قالت صفية، وهي تمسك بالطبشور:
– تكلّم الزائرُ تكلُّمًا أحمقَ. تكلمًا: مفعول مطلق منصوب, أحمق نعت أو صفة!
خرج يوسف دون تعليق.
أما المدير فابتسم بخجل، ثم همس وهو يغلق الباب:
– ممتازة فعلًا.
صفية عادت للشرح… لكن يدها كانت ترتجف خفيفًا، كأن شيئًا ما في ذلك الرجل أثار في داخلها شيئًا لم تعتده.
❈-❈-❈
كانت الفيلا ساكنة على غير عادتها، يغمرها ضوء مغسول بلون الغروب، والسكون يُخيّم على الممرات المزينة بالرخام الأبيض والتحف الأوروبية.
وقفت رنا أمام الباب الخشبي الكبير، تنظر إلى السقف المرتفع، ثم زفرت بصوت مسموع قبل أن تضغط الجرس.
فتح يوسف الباب بنفسه، دون خدم، مرتديًا قميصًا كحليًا بأكمام مطوية وبنطال رمادي.
نظر إليها للحظة، وقال:
مقولتيش إنك جاية يعني.
ردت بثبات:
نعم؟ أنا مكلماك الصبح وقايلالك!
فتح الباب على وسعه وقال ببرود:
– اتفضلي يا عروسة.
دخلت دون أن تعلّق، نظرت إلى الجدران، ثم قالت وهي تدس يديها في جيبي معطفها:
أنت نسيت إني روحت انهارده للشركة اللي هتعملنا الفيلا؟
أغلق الباب خلفها وقال وهو يتقدّم نحو الصالة:
لا فاكر.
قالت وهي تسير خلفه:
– بلاش برود, أنا جاية نشتغل على بيت المفروض هيجمعنا.
استدار فجأة نحوها وقال:
–يجمعنا؟ إنتي مصدقة إن الجوازة ديه هتكمل!
توقفت، ثم رفعت حاجبيها بدهشة:
– إنت بتهزر!
اقترب منها قليلًا، ثم قال بنبرة ناعمة لكنها حادة:
خوفتي كده ليه يا عروسة, شكلك وقعتي!
قالت دون تردد:
إنت مستفز بجد!
اقترب أكثر، نظر في عينيها وقال بلهجة ساخرة:
مش أكتر منك.
نظرت إليه بثبات، ثم قالت:
هتختار معايا ولا أمشي؟
ضحك بخفة وقال:
شكلك حلو وإنتي متعصبة, اقعدي.
قالت وهي تتجه نحو الأريكة الكبيرة:
أمال هدى فين؟
قال باستهزاء:
هتتصاحبي على أختي عشان تجيبلك أخباري بقى, وتخليني أقع في حبك, انسي!
سكتت لحظة، ثم استدارت نحوه، وقالت بهدوء:
إنت شكلك بتشوف أفلام كتير, ومغرور كمان, إنت مش بتشوف نفسك في المراية يابني!
نظر إليها، للمرة الأولى دون سخرية، ثم قال:
أنا حقيقي مكنتش عايز أظلمك معايا, بس مادام إنتي موافقة, يبقى إنتي اللي اختارتي!
عاد الصمت بينهما، صمت هشّ لكنه مملوء بالتوتر، ثم قالت رنا وهي تتوجه نحو الباب:
لما تخلص التصاميم هبعتهالك, شكلك كده كده مش هتختار!
قال وهو يراقبها تغادر:
ومن امتى بختار حاجة!
أغلقت الباب خلفها بصمت، وتركت وراءها كلمات تئنّ في صدره, دون مخرج!
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاءالدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية