رواية جديدة قلوب على الهامش ليارا علاء الدين - الفصل 5 - الأحد 29/6/2025
قراءة رواية قلوب على الهامش كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية قلوب على الهامش
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة يارا علاء الدين
الفصل الخامس
تم النشر يوم الأحد
29/6/2025
كان الليل ساكنًا بصورة مريبة، والهواء مُثقلًا برطوبة خانقة، كأنّ شيئًا مظلمًا ينتظر أن يقع. مشت هدى بخطوات مترددة، كل خفقة في قلبها تصرخ:
عودي. لكن قدماها كانتا تُكابدان الرعب، وتسيران بها نحو المصيرالمجهول.
ارتجفت أصابعها وهي تضغط على جرس الفيلا، ثم تراجعت خطوة، لكنها لم تُكمل... إذ فُتح الباب قبل أن تفيق من ترددها.
وقف زين أمامها، بقميص مفتوح الزر العلوي، وعطرٍ ثقيل يتصاعد كسُحب خانقة.
ابتسم ببرود وقال:
– إيه ده؟ مش مصدق إنك جيتي فعلًا.
ترددت، نظرت حولها كأنها تبحث عن مفر، ثم قالت بصوت خافت:
– ممكن نتكلم... بس بهدوء، من فضلك.
رفع حاجبًا، ثم مال بجسده قليلًا إلى الجانب:
– اتفضلي… بس خلي بالك، أنا ما بحبش تضييع الوقت.
دخلت بخطى بطيئة، والباب يُغلق خلفها كأنّه فخّ يُطبق.
جلست على طرف الأريكة، تشبك أصابعها وتفركها بتوتر ظاهر.
قالت دون أن ترفع رأسها:
– زين… أنا مش هنكر إني اتعلقت بيك، وكنت عايشة في وهم كبير، بس دلوقتي... كل اللي بطلبه منك، تسيبني في حالي، أنا مش قادرة أكمل.
ضحك بسخرية:
– في حالك؟ مين قالك إن الباب ده بيتقفل كده بالساهل؟
رفعت نظرها إليه، والدموع تملأ عينيها:
– أرجوك... بلاش تعذبني أكتر من كده، أنا تعبت.
اقترب منها، جلس أمامها، نبرة صوته تغيّرت:
– لا يا هدى..اهدي كده ده اليوم طويل, ولسه فيه كلام كتير عايزين نقوله.
ابتعدت عنه، وهي تهمس:
– إنت مريض!
ابتسم ابتسامة أثارت اشمئزازها:
– مريض بيكي.
ثم اقترب منها بسرعة، وامتدت يده نحو ذراعها بقوة.
صرخت:
– زين… سيبني، حرام عليك!
لكن قبضته ازدادت إحكامًا.
في لحظة مقاومة، امتدت يدها المرتعشة إلى الطاولة المجاورة، التقطت فازة زجاجية ثقيلة، وبلا وعي... هوت بها على رأسه.
طقطقة.
صرخة مكتومة، جسد زين يهوي على الأرض، والدم يسيل ببطء.
وقفت تلهث، لا تصدّق ما رأت… ثم تركت الفازة تسقط من يدها، وركضت نحو الباب كمن يهرب من النار.
خرجت إلى الشارع، والمطر بدأ يتساقط بغزارة كأنّ الماء يغسل دمها بالنيابة عنها.
لاتعلم كيف وصلت غرفتها بهذه السرعة, أغلقت الباب خلفها، أسندت ظهرها إليه، وانهارت على الأرض. لم تستطع حتى البكاء، فقط شهقات غير مكتملة تتردد في صدرها.
جلست ساعات... تتنفس بصعوبة، ترتجف.
كل زاوية في الغرفة تبدو وكأنها تُحدّق بها. كل ظل يُشبه ماضيًا يطاردها.
دخلت المرحاض غسلت عنها تلك النجاسة, ثم تمدّدت على السرير دون أن تنام، فكلّما أغمضت عينيها، رأت وجهه... الدم على جبينه... صوته، ضحكته، سُمه.
ثم... في منتصف الليل، وهي لا تزال جالسة تحت البطانية، فتحت هاتفها بلا وعي, تتصفحه لعله يخفف من أفكارها التي صارت وحشًا أوشك أن يلتهمها.
(خبر عاجل)
العثور على جثة زين الناجي داخل فيلا بمنطقة نائية، مصابًا بجرح في الرأس… والقاتل مجهول.
شهقت بصوت عالٍ، كأنّ كل الهواء في الغرفة خرج دفعة واحدة.
حدّقت في الشاشة، ثم وضعت يدها على فمها المرتجف.
همست:
– مستحيل.
لكن عينيها بقيتا معلّقتين على الشاشة، لا ترمش، ولا تهرب… كأنها تقرأ نبوءة لم تكن تتوقع أنها ستُكتب... باسمها.
❈-❈-❈
2-
كان الفناء شبه خالٍ في ذلك الصباح، الشمس تتسلّل بخجل بين غيوم ثقيلة، وأصوات التلاميذ تتردد من بعيد كأصداء باهتة.
صفية كانت تمر عبر الممر المؤدي إلى غرفة المعلمات، تحمل في يدها بعض الأوراق، ملامحها هادئة لكن عيناها تعبّران عن شيء داخلي لا يُقال.
وقبل أن تفتح الباب، فوجئت بيوسف المنشاوي يخرج من غرفة الإدارة، يحمل ملفًا بيده، ويبدو عليه التوتر.
توقفت لثوانٍ، وتوقف هو الآخر.
قال مترددًا:
– صباح الخير يا أستاذة صفية.
أومأت له برأسها:
– صباح النور.
تقدّم خطوة واحدة، ثم قال:
– سمعت من الإدارة إنكِ اعتذرتِ عن استكمال العمل في المشروع, ممكن أعرف ليه؟
نظرت إليه مباشرة، وقالت بثبات:
-معلش اعذرني مقدرش أقول أسباب.
أطرق قليلًا، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا:
– حضرتك من أنشط المدرسات، وجودك هيكون إضافة حقيقية.
قالت دون أن تُغيّر نبرة صوتها:
– السبب شخصي.
– طب… ممكن أطلب منك تعيدي التفكير؟ المشروع محتاج ناس زيك.
رفعت حاجبيها قليلاً، وقالت بنبرة خالية من المجاملة:
– معلش ده قرار نهائي.
صمت يوسف، كأن الكلمات جمدت في حلقه. كان يحاول أن يجد جملة واحدة تُقنعها، لكن ملامحها الحازمة أغلقت كل الأبواب.
أردفت، وهي تنظر إلى ساعتها:
– اتأخرت على حصتي... عن إذنك.
ثم استدارت، وخطواتها تمضي ثابتة، لا تلتفت.
أما هو، فظل واقفًا مكانه، يحمل الملف كأن ثقله صار أكبر فجأة، وعيناه تتبعانها وهي تختفي خلف الباب... دون أن تترك خلفها سوى الصمت.
❈-❈-❈
3-
منذ اللحظة التي أعلن فيها خبر وفاة مريم، لم يهدأ قلب رنا.
حاولت الاتصال بنور مرارًا، هاتفه مغلق.
أرسلت رسائل... لم يجب.
سألت في الشركة، تحفظ الجميع. حاولت الوصول إلى أقرب زملائه... لا أحد يعرف أين ذهب.
لكنها لم تيأس.
وفي مساءٍ رماديٍ ثقيل، وقفت أمام باب شقته التي حصلت على عنوانها بشق الأنفس. يدها ترتجف قبل أن تطرق.
طرقات خفيفة... ثم صمت.
دقائق... فُتح الباب.
وقف نور أمامها، شاحب الوجه، لحية خفيفة غير معتادة تغطي وجهه، وملامحه مثقلة بشيء لا يُفسّر.
تجمّدت نظراته لحظة، ثم قال ببرود:
– إنتِ بتعملي إيه هنا؟
أجابت بصوت منخفض:
– البقاء لله يا نور.
– عرفتي الشقة ازاى؟
لم ترد.
قال بصوت أكثر حدّة:
– إيه اللي جابك شقة واحد عايش لوحده في الوقت ده؟
شهقت، وقد آلمها تلميحه أكثر من أي شيء:
– نور… أنا ماجيتش غير عشان أطمن عليك… إنت كنت جنبي وقت ما احتاجت حد وملقتش غيرك.
ضحك بسخرية:
- بتعملي الواجب يعني بترديهالي, طيب ياست كتر خيرك.
- مش كده… بالله عليك ما تفهمنيش غلط.
اقترب منها خطوة، صوته أصبح أكثر قسوة، وعيناه لا ترفّان:
- الغلط إنك اتعودتِ تعملي كل حاجة من غير صح وغلط, يعني إنتِ بنت الجارحي, كل اللي تعوزيه بييجي لحد عندك.
قالت، والدمعة في طرف عينها تحارب لئلا تسقط:
معاك حق.
نظر إليها لحظة، ثم قال بنبرة منخفضة، كأنها طُعنة أخيرة:
– امشي يا رنا.
لم تتحرك، ظلّت تنظر إليه، تحاول أن ترى فيه شيئًا من ذاك الحنان القديم.
لكنه لم يكن هناك.
استدارت ببطء، وخطواتها تحمل كل ما تبقّى فيها من كرامة.
أغلق الباب خلفها... وظل واقفًا، يضع يده على قلبه يحاول أن يمنعه من الانهيار.
4-
عاد يوسف إلى الفيلا بخطوات بطيئة، كأن كل ما فيه أثقل من أن يُحمل.
كان الظلام قد بدأ يتسلل إلى الممرات الهادئة، والأنوار الناعمة تُلقي ظلالًا طويلة فوق الأرضية الرخامية.
خلع معطفه بصمت، ووضع مفاتيحه على الطاولة الصغيرة في المدخل، ثم اتجه نحو الصالة.
هناك، كان رؤوف بك جالسًا بكامل وقاره، يُقلب في أوراقٍ بين يديه، وعلى الأريكة المقابلة كانت لبنى هانم، ترتشف فنجانًا صغيرًا من الشاي، كما اعتادت كل مساء.
رفع والده عينيه فور دخوله، ثم قال بصوت ثابت لا يرحم:
– يوسف… تعالى.
توقّف يوسف لحظة، ثم اقترب، وسأل بنبرة منهكة:
– خير؟
وضع رؤوف بك الأوراق جانبًا، ونظر إليه مباشرة:
– الفرح حددته مع الجارحي… هيكون نهاية الأسبوع.
اختنق الهواء في صدر يوسف، كأنه اصطدم بشيء صلب.
قال ببطء، كأنما يتأكد مما سمع:
– امتى حصل ده؟
أجاب دون تردد:
– كل حاجة اترتبت، القاعة، المدعوين، التفاصيل كلها, حتى الفيلا هتقعدوا معانا هنا لحد ما الفيلا بتاعتكم تجهز.
هز يوسف رأسه غير مصدق:
– بس...أنا لسه ناقصني حاجات كتير.
قطعه رؤوف بجفاء:
- مبحبش أكرر كلامي مرتين, الموضوع منتهي.
نظر يوسف إلى أمه، لعلها تعارض… تسانده، لكنه وجدها تهز رأسها بهدوء، وتقول:
- والدك معاه حق يا يوسف، إحنا خلصنا كل حاجة, كفاية تأخير.
قال، وقد ارتفع صوته قليلاً رغمًا عنه:
- وأنا؟ حد سألني أنا عايز إيه؟!
نهض رؤوف من مقعده، واقترب منه خطوة، ثم قال بنبرة فيها حدّة لا تُخطئ:
- لو فاكر إن ليك رفاهية الاعتراض فإنت موهوم!
تجمّد يوسف في مكانه، الكلمات تصفعه، لكنها لم تُسقطه... بل أخرسته.
ثم قال بصوت خافت، مكسور:
- حاضر.
استدار وخرج من الصالة دون أن يضيف كلمة.
وفي داخله… كان شيءٌ ما ينكسر، ببطء، كصوت زجاج يُداس في ممرٍ معتم.
❈-❈-❈
5-
كانت خطوات رنا على الدرج ثقيلة، تُقاوم الدمع تارة، وتُكابر على الانكسار تارة أخرى. ملامحها جامدة، لكنها ليست ثابتة… بل كأنها على وشك الانهيار.
فتحت باب الفيلا بهدوء، كأنها تخشى أن تصدر منها أي حركة تُعلن عن هشاشتها. وضعت حقيبتها على الطاولة، خلعت معطفها ببطء، وتوجهت نحو الصالة دون أن تنطق بكلمة.
كانت ميسون هانم تجلس هناك، بكامل أناقتها، تنهي مكالمة سريعة وهي تبتسم بثقة رتيبة.
وحين رأت رنا، قالت بنبرة عملية لا تعرف الحنان:
– أخيرًا جيتي، كنت لسه هرنلك.
لم تُجب رنا، فقط جلست بهدوء، تنظر إلى الأرض.
أردفت ميسون، وهي تُعدّل جلستها:
– والدك اتفق مع المنشاوي… الفرح آخر الأسبوع.
رفعت رنا عينيها ببطء، في لحظة صمت غريبة، وكأنها تنتظر أن تستوعب الكلمة.
– الاسبوع ده؟
قالتها بذهول خافت.
– أيوه، ومفيش مجال لتأجيل تاني. كفاية تأخير.
ظلت تنظر إليها لحظة، ثم شهقت ضحكة قصيرة، كأنها لا تصدق ما يحدث… أو ربما قررت فجأة ألا تهتم.
قالت بهدوء ساخر:
- وماله نعمل الفرح, منعملش ليه؟
نظرت إليها والدتها باستغراب:
- بتتكلمي كده ليه؟
لم ترد, تركتها وتحركت نحو غرفتها, أغلقت الباب خلفها، ووقفت تتأمل نفسها في المرآة.
وجهها شاحب، وعيناها غارقتان في اللاشيء.
أخذت هاتفها، فتحت الكاميرا، التقطت صورة عابرة وهي تبتسم بتكلّف.
ثم كتبت:
وأخيرًا…بدأ العد التنازلي. أيام تفصلنا عن مراسم حفل زفافي مع يوسف حبيب العمر.
ونشرتها على كل وسائل التواصل الاجتماعي.
وقبل أن تضع الهاتف جانبًا، أوقفت يدها، وأعادت قراءة المنشور.
همست، وعيناها تلمعان برغبة جارحة:
- همشي حاضر يا نور, هبعد أوي!
ثم رمت الهاتف على السرير، واستلقت على ظهرها، بينما سقف الغرفة يدور في عينيها، لا يحمل سوى سؤالٍ واحد:
هل حقًا كسبت؟… أم خسرت كل شيء؟؟
❈-❈-❈
6-
في المساء، كانت الغرفة هادئة إلا من صوت حركة قلم صفية وهي تُراجع مع ياسين تدريبات اللغة العربية، وضوء الأباجورة يلقي ظلًّا دافئًا على الجدار، فيما البرد يتسلّل من تحت النوافذ بصمت.
صفية، بثوبها البيتيّ الكحلي وغطاء رأس بسيط، جلست القرفصاء أمام ياسين على السجادة، وبين يديها كراسة التمارين.
قالت وهي تشير إلى أحد الأسطر:
– بص كده على المثال ده، وحاول تطبّق زيه... فاكر إزاي نعرف الفعل الماضي؟
أجاب بتردد:
– هو... الفعل اللي حصل وانتهى؟
ابتسمت له، وربتت على كتفه:
– برافو يا حبيبي، ممتاز!
ثم مال برأسه نحوها، وقال بنبرة متدلّلة:
– يا خالتي صفية... أنا تعبت ينفع ألعب بالموبايل شوية, وأكمل؟
رفعت حاجبها، وكأنها تُفكر، ثم قالت بنبرة حانية:
– خمس دقايق بس، ماشي؟
ناولته هاتفها، ثم عادت إلى تصحيح بعض التمارين.
بعد دقائق، ساد صمت غريب... لم يكن صمت تركيز، بل صمت اكتشاف.
رفعت رأسها، لتجد وجه ياسين قد تغيّر، ينظر للشاشة باستغراب.
قالت وهي تقترب منه:
– إيه يا حبيبي؟ بتلعب إيه؟
أجاب بتلقائية:
– لا، ده في إشعار طالع... دخلني على حاجات مش عارف أطلع منها.
تجمّدت يدها الممدودة نحوه، وعيناها ثبتتا على الشاشة.
اقتربت أكثر، وسحبت الهاتف بخفة.
نقرت على الإشعار...
كان منشورًا رسميًا من صفحة المدير، يبارك لـ يوسف المنشاوي قرب عقد قرانه على رنا الجارحي!
قرأت الجملة مرة، ثم أخرى، وكأنها تحاول تأكيد شيء لا تريد تصديقه.
أخفضت الهاتف ببطء، وأسندت ظهرها إلى الحائط، فيما كان صوت تنفّسها يعلو ويهبط بثقل خفي.
سألها ياسين ببساطة الأطفال:
– إنتي تعرفيه يا خالتي؟
نظرت إليه، وأجبرت شفتيها على ابتسامة باهتة:
– شُغل... كنا شغالين سوا في المدرسة.
ثم نهضت, وتمتمت بصوت لايقوَ على الخروج:
– كفاية مذاكرة انهارده, قوم نام بقى عشان المدرسة الصبح.
لم يكن في صوتها انكسار، بل شدّة مفاجئة... وكأنها تحاول أن تشد على نفسها حتى لا تتهاوى.
لكن، حين أدار ياسين ظهره، سقط نظرها على الصفحة المطفأة للهاتف...
وبداخلها، كان شيء ينطفئ أيضًا.
7-
كان الليل يزحف ببطء فوق المدينة، يكسو الشوارع بلونه الرمادي الثقيل، وفي الزاوية الهادئة من الشقة، جلس نور وحده، يُحدّق في الفراغ كأنما يبحث عن شيء لا يُرى.
كان الصمت يملأ المكان، لا يُسمع فيه سوى أنفاسه العميقة، وأنين قلبٍ لم يزل ينوء بحمل الفقد.
مرّ أسبوع على رحيل مريم... أسبوع بلا صوتها، بلا قهوتها، بلا دعواتها التي كانت تتسلل إلى قلبه دون استئذان.
فتح خزانتها القديمة، ليس بحثًا عن شيء، بل فرارًا من كل شيء.
راح يمرر يده على طيّات الثياب، في حنين مشتعل, حتى سقطت ورقة مطوية من بين إحدى الرفوف، محفورة بخط يدٍ يعرفه أكثر من نفسه.
نور... لوكنت بتقرأ الورقة دي دلوقتي ف ده معناه إني مشيت.
تجمّد جسده، وكأن الزمن توقّف.
جلس على الأرض، والورقة بين يديه ترتجف، ليس من برودة الجو، بل من حرارة ما تحمله.
بدأ يقرأ:
يا نور... أو يا ابني، أو يا أغلى ما أهدتني بيه الدنيا..
عارفة إنك بتتألم، وممكن كمان تزعل مني عشان مقولتلكش الحقيقة دي في حياتي، لكني كنت عايزاك تعيش قوي, تعيش وعينك مش مكسورة يابني.
أنا أمك أه بس مش أمك اللي خلفتك, أمك اللي عاشت حياتها كلها ليك, أنا متجوزتش طول حياتي, ولا خلفت عشانك.. أنا واحد فقدت كل حاجة, وربنا عوضني بيك.
أنا لقيتك وإنت حتة لحمة حمرا, أهلك كانوا عايزين يخلصوا منك, بس ربنا رزقني بيك, كنت أكبر هدية ونعمة في حياتي, كنت بتعيط جامد أوي, وأول ماضميتك لصدري, الحياة رجعتلي من تاني, وإنت نمت عشان حسيت بالأمان.
وقتها قررت أكمل حياتي كلها عشانك وبس, سميتك نور لإنك نورت دنيتي, كنت ابني فعلًا, ما الأم اللي بتربي مش اللي بتخلف, خبيت عنك عشان متحسش بالنقص وتعيش راسك مرفوعة, بس لما عرفت إني عندي المرض إياه, خبيت عنك, قولت أكمل قراري اللي خدته من زمان, إنك تعيش مبسوط طول مانا عايشة, صحيح الدكتور قال إن ليه علاج كيماوي, بس إنت عارف الكيماوي ده هيوقعلي شعري, يرضيك؟ وبعدين كله بقدر الله يابني.
في درج الدولاب بتاعي في الرف اللي فوق خالص, اللي مكنتش بطوله وكنت بناديك تجيبلي اللي عايزاه منه, هتلاقي علبة معدنية صغيرة، فيها الإسورة اللي كانت في إيدك يوم ما لقيتك, فيها اسم المستشفى, واليوم اللي اتولدت فيه, دور وراه يابني عشان توصل لأهلك, إوعى تعيش لوحدك,
واستحلفك بالله يابني, تسامحني, أنا عمري ماكان قصدي أزعلك أبدًا.
أمّك، مريم.
لم يشعر نور بالدمعة وهي تنزلق على وجنته، بل لم يشعر بنفسه حين سقطت الورقة من يده، وراح يحدّق في السقف كأن الغرفة كادت أن تطبق عليه.
ارتجف صدره، وارتعش صوته وهو يهمس لنفسه:
معقول؟
نهض بتثاقل، وفتح الدولاب كما أوصته.
مدّ يده المرتجفة، وسحب العلبة الصغيرة.
فتحها ببطء… فبانت الإسورة.
قطعة بلاستيكية قديمة، باهتة، مكتوب عليها:
" مستشفى دار الفؤاد التخصصي – 1999 – الطفل رقم 347"
ظل ينظر إليها طويلًا، كأنها مفتاح لحياة أخرى لا يعرفها.
ثم جلس على الأرض مجددًا، ودفن وجهه بين يديه، وانهار باكيًا... لا كطفل، ولا كرجل، بل كقلبٍ تهشّم فوق ركام من الأسرار.
في تلك اللحظة، لم يعد نور كما كان.
كان إنسانًا وُلِدَ مرتين...
مرّة بين يدي امرأة لم تنجبه، لكنها أحبّته كما يحب القلب من يظن أنه نجاته.
ومرّة بين يدي الحقيقة، وهي تشقّ صدره لتقول له:
ابدأ من جديد.
8-
كان الليل قد أوشك على الانتصاف، والبيت يغطّ في هدوء مشوب بشيءٍ ثقيل، أشبه بالاحتقان المختبئ خلف جدران أنيقة.
في غرفتها، جلست هدى على طرف السرير، متكوّرة كطفلة أضناها الخوف.
عينان شاردتان، ذابلتان، بلا بريق، وشعر منسدل بعشوائية على وجهها الشاحب، وثياب منزليّة ارتدتها دون اكتراث.
يديها ترتجفان دون سبب ظاهر، وأنفاسها تتقطع كأنها تهرب من شيءٍ لا يُرى.
كان كل شيء فيها مختلفًا، كأنها خرجت من جسدها ولم تعد إليه بعد.
وفجأة…
انفتح الباب بهدوء، ودخلت لبنى هانم، أمها، بأناقتها المعهودة، وعطرها الفاخر الذي سبق خطواتها.
توقّفت لحظة عند الباب، حدّقت بابنتها بنظرة متفحصة، ثم قالت بلهجة رتيبة:
– هدى… صاحية؟
لم تجب هدى، فقط رفعت عينيها ببطء نحوها، محاولة أن تتماسك، فابتسمت ابتسامة واهنة:
- اه.
تقدّمت خطوة، وعقدت ذراعيها أمام صدرها، وقالت بنبرة أقرب للدهشة:
– مالك؟ وشك شاحب كده ليه؟ إنتِ عيانة؟
سارعت هدى تمسح وجهها بكمّ قميصها، ثم نهضت ببطء، وقالت:
– لا، الامتحانات بس, والواحد بيطبق على المذاكرة.
صمتت الأم لحظة، ثم تنحنحت، كأنما قررت تجاهل ما لاحظته، وقالت بنبرة عملية:
– على كل حال، بكرة هنبعت المقاسات بتاع الفساتين للمصمّمة في باريس، معندناش وقت كبير, اختاري الموديل قبل الضهر, سامعة؟
هدى ابتلعت ريقها بصعوبة، وكأن الكلمة ذاتها –الفستان – كانت تخنقها، ثم قالت بصوت مرتجف قليلاً:
– حاضر.
اقتربت منها لبنى، ورفعت خصلة شعر سقطت على وجهها، تمعّنت في ملامحها أكثر، ثم سألتها، هذه المرة بصوت أخفض:
– إنتِ كويسة مش كده؟
ارتعشت عين هدى، لكنّها شدّت على شفتيها بقوة، ثم قالت بصوت لا يشبه صوتها:
– زى الفل يا أم العريس.
لم تقتنع الأم، لكنها لم تُرد أن تبدأ نقاشًا لا تريده!
اكتفت بهزّة رأس قصيرة، ثم استدارت قائلة:
–إيه أم العريس دي, إتكلمي بإسلوب أحسن من كده يا بنت.
وخرجت، تُغلق الباب خلفها بصوت خفيف.
بقيت هدى واقفة، ترمش بعينيها الجافتين، ثم همست لنفسها:
– بخير؟…
وانهارت على الأريكة الصغيرة، تضمّ جسدها، كأنها تحاول الاحتماء من العالم… ومن نفسها.
9-
كان الصباح باردًا كعادته، والشمس تحاول التسلل عبر النوافذ المتربة، لكنها بدت عاجزة عن تبديد غشاوة الحزن التي خيّمت على وجه صفية.
في الطابق الثاني من المدرسة، حيث الممرّات تعجّ بخطى الطلبة وأصواتهم المتداخلة، كانت صفية تسير ببطء، حاملة بعض الأوراق، بعينين شاردتين كأنما تنظر من خلال الأشياء، لا إليها.
منذ أن قرأت الخبر مساء الأمس… لم تعد تشعر بثبات الأرض تحت قدميها.
ذلك الاسم... يوسف المنشاوي، محفور في صدرها، لكنّه الآن يُزفُّ إلى امرأة أخرى!
توقفت عند نهاية الممر، تتأمل الزهور البنفسجية التي تسلقت حائط الفناء، ثم تنهدت بعمق، كأنها تطرد شيئًا أثقل من الهواء.
قطع شرودها صوت المدير، الأستاذ محسن، الذي خرج من إحدى الفصول، يبتسم بارتياح ويبدو عليه النشاط المعتاد.
قال وهو يراها تقف:
– صباح الخير يا أستاذة صفية، إيه الأخبار؟
أجابت بهدوء حاولت أن تُثبّت فيه نبرتها:
– صباح الخير يا أستاذ محسن... تمام الحمدلله.
تابع المدير بنبرة عادية:
– أستاذ يوسف اعتذر عن استكمال الإشراف، قال إنه مشغول اليومين دول عشان فرحه.
توقف لحظة، كأنه ينتظر ردة فعل، لكنها لم تُبدِ شيئًا. فقط رمشت مرة، ثم قالت بهدوء:
– ألف مبروك, ربنا يسعدهم.
أكمل، غير مدرك لما يدور خلف سكونها:
– المشروع كمله زميل ليه اسمه كريم... شاب كويس، وبإذن الله يكمل على خير.
أومأت برأسها، وهمّت أن تنصرف، لكنه أضاف، وكأن الأمر لا بد أن يُقال:
– على فكرة، يوسف عزمني على فرحه, دعوة عامة للمدرسة كلها, وإتفقنا نروح كلنا بإذن الله.
ثم ابتسم بلطف:
– أتمنى أشوفك هناك.
قالت صفية، بصوت ثابت رغم كل ما في داخلها:
– إن شاء الله هحاول...
ابتسم وهو يتحرك:
– حاولي، الجو هيكون جميل, وعشان ميزعلش مننا.
لم ترد وسارت نحو السلم دون أن تشعر بخطواتها.
كانت الأصوات من حولها تتلاشى، كأنها تتحرّك داخل زجاجة مغلقة.
وفي أعماقها...
لم يكن الألم صاخبًا، بل صامتًا، يقطر شيئًا فشيئًا، مثل ماء ينهش صخرة دون صوت.
قالت في نفسها:
لم يكن لي... ولم يعد!
لكنها، رغم كل شيء، رفعت رأسها، وضبطت خطواتها، كمن قرر أن يُكمل الطريق... ولو بقلبٍ مكسور.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاءالدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية