-->

رواية جديدة قلوب على الهامش ليارا علاء الدين - الفصل 3 - الجمعة 20/6/2025

 

  قراءة رواية قلوب على الهامش كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية قلوب على الهامش

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة يارا علاء الدين 


الفصل الثالث


تم النشر يوم الجمعة 

20/6/2025



بدأ المطر ينساب على الزجاج في خيوط دقيقة, كأنه يكتب على النوافذ رسائل لا يجرؤ أحد على قراءتها.

داخل المكتب الزجاجي الهادئ، جلس نور أمام الحاسوب، لكنه لم يكن ينظر إلى الشاشة، بل إلى انعكاسه عليها.

تردّد. أصابعه تلامس الهاتف، ثم تتراجع!


مجرد مكالمة شغل... هكذا أقنع نفسه.

ضغط زر الاتصال.

ألو, إزي حضرتك يا آنسة رنا, عاملة إيه دلوقتي؟

ردت بنبرة هادئة متعبة قليلًا:

الحمدلله, كويسة.

- الحمد لله... أنا.....، يعني خلصت التصاميم المبدئية اللي اتفقنا عليها، وكنت محتاج رأيك فيها قبل ما نكمل.

تابعت بنبرة أخف:

 تحب نقعد في كافيه قريب من الفيلا؟ لإني مش هقدرأتحرك كثير.  

آه طبعًا، تمام جدًا، اللي يناسب حضرتك.

أغلق نور الهاتف، ووضعه على المكتب بهدوء.

لكنه ظل ينظر إليه لثوانٍ طويلة... كأنه لا يصدق أنه تحدّث معها فعلاً

كان في نبرتها شيء جديد... دافئ رغم المطر.

❈-❈-❈


بعد ساعتين, كان الكافيه هادئًا، نوافذه ضبابية من البخار، والهواء مشبع برائحة البن المحمص والفانيليا الدافئة.

أضواء خافتة تنعكس على الطاولات الخشبية، والمطر بالخارج لا يزال يهمس على الزجاج كأنه يُنصت هو الآخر.

جلس نور على أحد المقاعد القريبة من النافذة، كوب النسكافيه أمامه.

كان يرتبك كلّما نظر إلى الباب، يحاول أن يبدو طبيعيًا، لكن يده لا تكفّ عن تحريك الملعقة في الكوب رغم أنه لم يضف سكرًا.

ثم دخلت.

رنا، بمعطف رمادي طويل، وشال كحلي ملتف حول رقبتها...

شعرها مبلل قليلًا من المطر، ووجهها خالٍ من المبالغة... لكن فيه شيء لا يمكن تجاهله.

ابتسمت وهي تضع عصاها بجانب المقعد قبل أن تجلس:

– اتأخرت؟

– لأ خالص... أنا لسه واصل من شوية.

– حضرتك تحبي تشربي حاجة, ااه صحيح نسيت إننا بنشتغل.

ابتسمت، فأضاء وجهها جمالًا قبل أن تقول:

- قلبك أسود أوي.

لاحت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يمد جهازه الحاسوب أمامها:

اتفضلي دي التصاميم, محتاج أعرف رأيك فيها؟

أخذت تحدق فيها قليلًا قبل أن تقول بجدية:

تسلم إيدك يا بشمهندس, التصاميم ممتازة حقيقي, مش محتاجة أي تعديل.

تنهد براحة:

الحمدلله مبسوط إنها عجبتك, يعني كده أبلغ المدير بإننا نبدأ في التنفيذ.

أومأت برأسها موافقة:

في أقرب وقت.

صمتت لحظة قبل أن تردف:

إنت اللي هتتابع التنفيذ ولا حد تاني؟

- أنا بإذن الله, لو حضرتك معندكيش مانع؟

شعرت ببهجة لم تعرف مصدرها وقالت:

- أكيد لأ, أنا ارتاحتلك وبقيت بثق فيك, مش هنسى كمان اللي عملته عشاني, واللى محدش عمله معايا قبل كده.

ابتسم بود:

- صدقيني أي حد مكاني كان هيعمل كده, أنا معملتش إلا الواجب.

ساد الصمت وغرق كل منهما في مشاعره التي ظهرت على إستحياء.

كانت النظرات بينهما أثقل من الكلمات.

رغم أن كل منهما يعرف أنه يسير في الاتجاه الخاطيء!


❈-❈-❈


2-


خرجت مريم من المنزل بعد أن توجه نور لعمله, كانت تمشي بخطى سريعة كعادتها، وهي تمسك بطرف الشال بيد، واليد الأخرى تتكور داخل المعطف كأنها تخفي شيئًا… أو تحتضن شيئًا مكسورًا.


وصلت المستشفى، وقلّبت نظرها في الوجوه، كلّها مستعجلة، تعبة، لكن هي وحدها كانت تشعر أن الزمن لا يمر!

قالت اسمها لممرضة الاستقبال بصوت خافت، وتبعت الإشارة إلى غرفة الطبيب, الذي سألها بدوره:

حضرتك عملتي الأشعة والتحاليل اللي طلبناها؟

أومأت بصمت، وناولته الأوراق من الحقيبة.

ظل يقرأ، يطوي ورقة، ويفتح أخرى… ثم قال، بنفس النبرة التي يستخدمها الأطباء حين يعرفون أن ما سيقولونه سيفتح بابًا لا يمكن إغلاقه:

فيه كانسر، للأسف في مرحلة متقدمة شوية.

لم تقل شيئًا. لم تسأله, لكن عينيها اتسعت لحظة، كأنها كانت تعلم!

أكمل، يحاول أن يبدو مطمئنًا:

بإذن الله الدنيا تتحسن مع الكيماوي, بس لازم نبدأ فورًا.

قالت بنبرة ثابتة أكثر من اللازم:

وهيبقى فيه أمل؟

قال بيقين: الأمل موجود بإذن الله.

ردّت وهي تنهض: 

الأعمار بيد الله, كل واحد مكتوبله يومه مش هيتقدم ولا هيتأخر.

قال الطبيب بهدوء، كأنه سمع هذه الجمل من قبل:

خلي عندك يقين في ربنا, ومتيأسيش.

قاطعته بابتسامة بها تعب عمرها كله:

ونعم بالله, تفتكرني زعلانة؟ والله أبدًا ده ربنا حبيبي, ومشوفتش منه إلا الخير, عن إذنك.

خرجت من الغرفة ببطء، مشيت في الممرات والبخار يخرج من فمها في كل نفس، لكنه ليس من البرد, بل من الخوف!

في هذه اللحظة لم تخف على نفسها بل عليه, أن تتركه وحيدًا في هذه الحياة, بعد أن كانت حياته كلها, لم تخشى لقاء ربها, بل تمنته, وهنيئًا لها أن تلقاه صابرة محتسبة راضية بقضائه.

وبعد الكثير من الأفكار التي ألحت عليها, قررت أخيرًا أن تفعل ماكنت تؤجله لسنين!

❈-❈-❈

3-

كانت الشمس قد غابت منذ ساعة، لكن المدينة لم تلبس ليلها بعد،

السماء رمادية كأنها خجلت من أن تمطر، والهواء البارد يمرّ كصفعة خفيفة على الخد.

هدى كانت ترتجف، رغم أن معطفها الثقيل يغطيها.

توقفت سيارتها عند بوابة الفيلا، في حي راقٍ على أطراف المدينة.

نظرت إلى المدخل... الفيلا ضخمة، نوافذها معتمة، ولا أثر لصوت أو ضجيج حفلة.

أخرجت هاتفها، كادت أن تهاتفه, لكنها لم تنتظر كثيرًا، الباب انفتح فجأة...


وظهر زين، بنفس الابتسامة الواثقة، بقميصه الأبيض، والعطر الذي يسبق خطاه.

حدجها بنظرات غريبة:

دايمًا بتيجي في وقتك مظبوط.

ابتسمت بتوتر وهي تنظر حولها:

فين الناس؟ هي الحفلة لسه مبدأتش ولا إيه؟ مش قولت هتبدأ 6؟

اقترب منها وهو يشير للداخل:

كلهم جايين، بس أنتي أول واحدة وصلتي, تعالى ارتاحي لحد ما نبدأ.

ترددت للحظة… ثم دخلت.

كان الممر طويلًا، الإضاءة خافتة، والمكان هاديء بشكل غير طبيعي.

أغلق الباب خلفها بهدوء…

ثم التفت نحوها، وجهه تغير, اقترب منها ببطء:ه

إيه رأيك في الفيلا المرة دي مش أحسن من المرة اللي فاتت؟

قالت وهي ترجع خطوة للخلف:

اه, أحسن فعلًا.

لكنه اقترب أكثر، وأمسك بذراعها، كانت يده باردة… وقاسية.

زين مالك فيه إيه؟ سيبني!

صوتها خرج مرتعشًا، لكنها حاولت أن تبدو قوية.

همس في أذنها بصوت مرعب، وابتسامة مقززة:

ابقى غبي لو سيبتك المرة دي, ده أنا مستني اللحظة دي من زمان.

دفعها برفق نحو الحائط… يداه تطوقانها… وعيناه مليئتان بنار شيطانية.

سيبني يا زين, عشان خاطري ليه بتعمل كده؟ سيبني!

 صرخت، وبدأت تدفعه بكل قوتها.

لكنه كان أقوى… وأكثر إصرارًا.

اصرخي زي ما انتي عايزة، مافيش حد هنا، ولا حد هيسمعك, اليوم ده بتاعنا أنا وإنتي وبس!

وفجأة…

انكسر الباب بصوت مدوّي!

اندفع آدم كالعاصفة… عيناه مشتعلة، وصدره يعلو ويهبط بغضب مجنون.

إبعد عنها يا .........

صوته كان كالطلقة.

نظر زين نحوه، ضاحكًا ببرود:

 إنت مين؟! وعايز إيه, اطلع برة يابني.

لكن آدم لم يرد…

لكمة في وجهه، تبعتها أخرى في صدره، حتى ارتطم زين بالحائط، ووقع أرضًا.

هدى وقفت مذهولة، ودموعها تملأ وجهها، لا تصرخ… فقط تنظر.

أمسك آدم بيدها برفق, خرج بها من الفيلا، دون أن تنظر خلفها،

وهو يفتح باب عربته ويجلسها، ثم دار المحرك… وانطلقا في صمت.

كان وجهها شاحبًا، ودموعها تسيل بصمت.

قال وهو يقود، صوته منخفض لكن ثابت:

سمعتك بتتكلمي عن الحفلة من شوية, مرتاحتش للموضوع, قولت أمشي وراكي!

نظرت إليه، وعيناها تهتزّان:

أنا مكنتش أعرف... أنا كنت فاكرة.... هو قالي إن فيه حفلة.

ردّ دون أن ينظر لها، لكن نبرته كانت تنزف قهرًا:

ربنا لطف.

أما هي فأغلقت عينيها، وأسندت رأسها على الزجاج،

بينما المطر، الذي أخيرًا بدأ يسقط، غطّى النافذة بصوت خفيف…

يشبه بكاء قلبها.

بعد دقائق كانت قد وصلت للفيلا, عندما كفكفت دموعها بيدها, وهي تفتح الباب, دون أن تجد كلامًا تقوله, لكنه قطع الصمت قائلًا:

العربية هجبهالك هنا, ونقفل الموضوع ده تمامًا.

انعقد لسانها عن الرد لكنها أومأت برأسها, وانصرفت مسرعة تخجل من النظر في عينيه أكثر من ذلك.

لكنه لم ينطلق إلا بعد أن اطمأن على دخولها, ثم ضغط على البنزين بقوة يفرغ بها غضبه!

❈-❈-❈


عادت هدى إلى غرفتها، تجرّ قدميها جرًّا كأنما كل خطوة تُثقلها الذكرى، وتُلسعها مرارة اللوم.

أغلقت الباب خلفها بهدوء، لكن قلبها كان يصرخ... أنفاسها متقطعة، ويدها المرتعشة تمسح دموعًا لا تنقطع! 

جلست على طرف السرير، تنظر إلى نفسها في المرآة، وكأنها ترى غريبة لا تشبهها.

همست بصوت مخنوق:

زين؟ ليه؟ ليه يعمل فيا كده؟ ده أنا حبيته؟

كانت تشعر باهتزازٍ داخلي لا يشبه غضبًا، ولا يشبه خوفًا… بل هو أقرب إلى انكسارٍ صغير في قلبٍ ظنّته منيعًا.

وضعت يدها على صدرها، همست:

إزاي خدعك بسهولة؟ طلع بيمثل عشان ياخد اللي عايزه زي المسلسلات!

ابتسمت ابتسامة لا فرح فيها، ونهضت تغسل وجهها لتمحو معه أثر تلك الذكرى, ثم تذكرته, هذا الملاك الذي أنقذها من كارثة أوشكت أن تُدمرحياتها.

كيف كان قريبًا لهذا الحد دون أن تراه, هل يجب أن تشكره الآن؟ أم أنها سقطت من عينه بعد ماحدث؟

خسرتِ كل شيء يا هدى!

جلست على طرف السرير، تحدق في الهاتف... ثم وضعته جانبًا دون أن تتصل

في الناحية الأخرى، كانت أنوار الشوارع تنعكس على الزجاج الأمامي لسيارة آدم، وهو يقودها بلا اتجاه.

ضرب المقود بيده، وقال بصوتٍ خافت:

غبية يا هدى!

هزّ رأسه بقوة، كأنه يحاول طرد فكرة مزعجة، ثم أطلق زفيرًا عميقًا وقال:

هي أصلَا مش شايفاك حتى لو كنت شهم معاها, بلاش تتعلق بحبل دايب!

أطلق ضحكة قصيرة، بلا طرافة، وقال:

أظن آن الآوان إني أخد القرار اللي كنت خايف منه.

ضغط على دواسة البنزين فجأة، وانطلقت السيارة بعنف!

❈-❈-❈

4-


كان الفناء قد بدأ يخلو من تلاميذه، بعضهم يركض، والبعض ينتظر أهله عند البوابة.

في زاوية غير مرئية للعين، وقفت صفية تنظر إلى عمر، أحد تلاميذها الذين تحفظ وجوههم جيدًا... لكنه اليوم لم يرفع عينيه نحوها.

اقتربت منه بخطى ثابتة، ثم جلست القرفصاء أمامه.

قالت بصوت حنون:

مالك يا عمر يا حبيبي؟ واقف لوحدك كده ليه؟ فيه حد زعلك؟ ولا زعلان عشان ماما اتأخرت عليك؟

لم يجب.

لكنها رأت طرف قميصه ممزق، وأثر أحمر واضح على كتفه.

تغيّرت ملامح وجهها فورًا.

قالت بصوت أقوى:

مين عمل فيك كده؟ اتكلم يا حبيبي متخافش قولي اللي حصل.

رفع الطفل عينيه إليها، وصوته يرتجف:

الأستاذ... الأستاذ طارق... شدّني من دراعي، وقالي قدام الفصل: 

أنت عيل غبي لازم تتربى من أول وجديد!

أشتعل الغضب في عينيها ثم أمسكت بيده قائلة بحزم:

تعالى معايا ياحبيبي. أنا هجبلك حقك.ه

وفي تلك اللحظة.

كان يوسف المنشاوي يمر بالصدفة في الفناء في جولة مع المدير، فرأى المشهد بعينيه.

رأى صفية تمشي بخطى سريعة، تمسك بيد الطفل، ووجهها ممتقع كأن الدنيا كلها خيّبت أملها.

توقف يوسف، واستأذن من المدير وقرر أن يتبعها!

كانت صفية تقف كالطود، أمام المدرّس الذي جلس على كرسيه وكأن شيئًا لم يكن.

قالت بنبرة حادة:

إزاي تسمح لنفسك تمد إيدك على طفل مهما كان اللي حصل؟! 

ضحك طارق قائلًا بتحدي:

أنا بعلمه! واللي زيه مبيتعلمش غير كده!

أردفت بصلابة تعتادها في مثل هذه المواقف التي لا تلبث أن تدافع فيها عن الحق, في وجه الظالم مهما كان:

لأ, حضرتك اللي محتاج تتعلم إزاي تتعامل مع الأطفال!

ثم التفت حولها لتجده واقفًا ينظر إليها بفخر واضح على محياه, لكنها لم تلبث أن اتجهت إلى المدير الذي كان قريبًا, وقالت بجدية:

لازم حضرتك تاخد موقف, الأستاذ طارق مد إيده على طفل عندنا في المدرسة, وأهانه أدام زمايله, وأنا مش هسمح إن ده يحصل أبدًا!

تغيرت ملامح وجهه عندما علم بما حدث ثم قال:

متقلقيش يا أستاذة صفية, أنا هحل الموضوع ده.

انصرفت ممسكة بيد عمر بحنان لاتخفيه, تطمئنه بكلامتها, حتى سلمته بيدها لوالدته التي قد وصلت للتو, ثم غادرت المدرسة.

❈-❈-❈


بعد دقائق, كانت السماء ملبّدة، يقطر منها مطر خفيف. 

هدير السيارة يشق الطريق اللامع، والزجاج الأمامي تتناثر عليه قطرات تُمسَح بآلية رتيبة… لكن داخل يوسف، كان الصمت أعلى من كل شيء!

يداه على المقود، وعيناه تتبعان الطريق أمامه، لكن فكره... فكره لم يكن هنا!

 إزاي؟ إزاي واحدة زي دي تفضل واقفة كده... قدّام مدرس جبّار، تدافع عن طفل, لمجرد إن مدرس مد إيده عليه! جابت القوة والثقة دي منين؟

تنهد، ومرّر أصابعه في شعره بانزعاج، ثم هتف في داخله:

صفية مختلفة, مش زي أي حد.

وفجأة، قطع رنين الهاتف سكونه. نظر إلى الشاشة...

رنا الجارحي!

زفر بحدة، ولم يجب.

ظل الهاتف يرن... ثم سكن.

وبعد لحظات، عاد يرن من جديد.

فتح الخط أخيرًا، وصوته مشدود:

خير يا رنا؟

جاءه صوتها متوترًا، لكن خلفه نبرة جريحة:

واضح إنك نسيت إن في واحدة اتخبطت واتكسرت في الشارع، ورغم كده أنا اللي بتابع التصاميم وبتابع كل حاجة, وإنت ولا هنا !

صمت، ثم قال ببرود مصطنع:

كنت مشغول شوية، معلش.

قالت وهي تحاول السيطرة على نبرتها:

أنا عايزاك تشوف التصاميم قبل ما نبدأ التنفيذ, ممكن تيجي الفيلا؟

أجاب بفتور:

ماشي.

وأغلق المكالمة.

ألقى الهاتف بجانبه، ثم أدار وجهه نحو النافذة، والشتاء بالخارج يزيده جمودًا:

! هي عندها حق

بس أنا... مش قادر أعمل اللي مفروض أعمله!

ولا عارف أكون الإنسان اللي بيهتم بحد لمجرد إنه لازم يعمل كده... 

ضغط على المقود بيده، كأنما يُخرج ما به من ضيق:

العلاقة دي لازم تتغير؟

سحب أنفاسًا عميقة، وهو يغيّر اتجاهه نحو حي المعادي، وقال في نفسه:

هروح أشوفها, وأديها فرصة أخيرة.

كانت قطرات المطر تتسابق على الزجاج، كأنها تغسل المدينة من ثقلها,

أما يوسف... فكان في طريقه ليفهم حقيقة علاقة دخلها دون إرادته, لكنه سيكملها كما يريد!

❈-❈-❈

5-


دخل يوسف فيلا الجارحي بعد أن فُتح له الباب تلقائيًا، كان الجو في الداخل دافئًا رغم برد الخارج، لكن قلبه لم يعرف دفئًا مذ غادر المدرسة منذ قليل.

كانت تجلس على طرف الأريكة، مائلة قليلًا لتخفّف الضغط عن ساقها اليسرى، التي التفت حولها الجبيرة البيضاء كقيدٍ غير معلن.

 

رغم الكسور، لم ينكسر حضورها؛ شعرها منسدل على كتفيها بعناية، وبشرتها الشاحبة زادها التعب رقة لا تُشبه الهوان.

معطفها الأسود يُغطيها بخفة، فيما القدم المصابة مرفوعة على وسادة، ملفوفة بعناية، كأنها تحاول أن تحيط الألم ببعضٍ من أناقتها المعتادة.

كانت عيناها تلمعان... ليس من الدموع، بل من شيء أقرب إلى العناد. 

قالت وهي تقترب، بنبرة هادئة:

إنت جاي غصب عنك ولا إيه؟ مالك وشك مقفول كده؟

جلس على الأريكة دون أن يجيب، عينيه لا تستقران على شيء.

اقتربت منه أكثر، حتى جلست إلى جواره, سألته:

مش هتقولي سلامتك برده؟

لم يجب.

حدّق في طرف السجادة، ثم رفع بصره إليها للحظة خاطفة... ثم أدار وجهه بعيدًا.

في داخله، صارت المقارنة جرحًا لا يمكن إنكاره.

صفية.

التي مازالت تحتفظ بحجاب قلبها قبل رأسها، والتي تتحدث بكلمات موزونة, لا تخطئها!

صفية... التي تنظر إلى العين فتغرس في القلب احترامًا، دون أن تنطق.

أين هي من هذه المرأة التي تجلس الآن إلى جواره بكل ما تملك من بجاحة وادّعاء، كأنها تظن أن القرب الجسدي قد يخلق قربًا حقيقيًّا؟

قالت رنا، بعدما طال صمته:

مالك يا ابني هتفضل ساكت كده؟

أجاب بهدوءٍ قاتل:

عايزة إيه يا رنا؟ أنا ورايا مواعيد تانية.

قالت وقد ضاقت عيناها:

أمال إيه اللي جابك؟ 

نهض عن الأريكة، كأن الأرض صارت لا تحتمله، وقال وهو يتجه نحو الباب:

أنا غلطان فعلًا.

يوسف! قالتها بحدة، لكنه لم يلتفت.

فتح الباب، وقبل أن يخرج، قال دون أن ينظر:

إحنا لسه مخطوبين مش متجوزين عشان أشوفك بالمنظر ده!

وأغلق الباب وراءه.

في الداخل، بقيت رنا جالسة... متجمّدة، كأن دفء المكان لم يعد يعني شيئًا.

لماذا قال عنها هكذا؟ هي لم ترتدي شيئًا مشينًا, ولم تتعمّد ما ظنّه بها... كانت فقط على سجيتها. فهل أساء الفهم؟ أم أنه اختار أن يرى بعيني الريبة ما لا يدعو لها؟

كيف حوّل تلقائيتها إلى تهمة؟ وكيف لم يرَ ذلك من قبل؟

أكان يبحث عن سبب ليبتعد؟ أم أن خوفه من مشاعره جعله يتشبّث بتأويل أرخص ليُبرّر انسحابه؟

وفي الخارج، وقف يوسف للحظة، ينظر إلى السماء الرمادية، والمطر الخفيف ينزل على وجهه كأنه يصفع يقظته الجديدة.

كان يعرف الآن… أن الطريق الذي سلكه لم يكن يومًا طريقه!

❈-❈-❈

6-

كان المساء يهبط على الشقة بصمتٍ رمادي، والشتاء يملأ الزوايا بنسائم باردة تتسلّل من خلف الستائر الثقيلة.

وفي المطبخ، كانت مريم تقف أمام الحوض، تغسل الأواني ببطء، كأنها تغسل عن يومها بعضًا من ثقلٍ لا يُمحى.

دخل نور من الباب، صوته الهادئ سبق خطواته:

ماتريحي يا مرمر وأعمل أنا مكانك.

ابتسمت من دون أن تلتفت، وقالت:

روح شوف شغلك يا ولد.

اقترب منها، لاحظ اهتزازًا خفيفًا في يدها اليمنى، وتلك النظرة الهاربة التي ترتمي في الحوض لتتجنّب عينيه.

قال بصوت خفيض:

ماما... فيه حاجة؟

سكتت لحظة، ثم أجابت وهي تغسل كوبًا كأنها تغسل سرها معها:

لا, شوية إرهاق من قلة النوم بس.

نظر إليها طويلًا. قلبه لم يصدّق، لكن لسانه لم يُصرّ.

يبقى تروحي تريحي وأنا هكمل.

أدارت وجهها نحوه أخيرًا، وابتسمت تلك الابتسامة التي لا تُقنع أحدًا:

إنت فاكرني كبرت وعجزت ولا إيه؟ لا أنا لسه بشبابي, قولي بقى كنت جاي عشان تحكيلي إيه, عيونك بتقول فيه حاجة؟

نظر إليها بعينين دامعتين، ثم جلس على الكرسي الخشبي في منتصف المطبخ، وأسند رأسه إلى راحة يده.


قال فجأة، كأنه يُلقي سرًّا ثقيلًا:

عمركِ حبيتي حاجة... وكنتي عارفة إنك مش هتقدري توصلي لها؟

توقفت مريم عن الحركة. نظرت إليه نظرة طويلة، ثم سألت بهدوء:

كنت حاسة والله ياابني بقالك كام يوم كده متغير, مش هتوصل ليهاعشان الفلوس يعني؟

أومأ برأسه دون أن يرد.

اقتربت منه، وضعت يدها على كتفه، وقالت بصوت خافت:

اللي مش لينا... ما ينفعش نسرقه من الدنيا غصب يا ابني, خليك عارف إنه لومقسوم ليك, مهما حصل هتنوله.

ظل ساكتًا... ثم رفع رأسه وقال:

معاكي حق يا أمي, يبقى لازم أسيب المشروع كله.

نظرت إليه بدهشة:

العميلة اللي عملت حادثة مش كده؟

ثم أردفت وهي تمسح على شعره بحنان:

أوقات لازم نختار الوجع... علشان نحافظ على اللي باقي مننا. 

لم يجب، فقط نهض بهدوء، أخذ نفسًا طويلًا، ثم قال:

عندك حق, عن إذنك, هروح أريح شوية.

ثم غادر المطبخ، وترك خلفه مريم واقفة، تُخفي وجعها بابتسامة صامتة، لكنها، في قلبها... كانت تبكي على الموقف الذي تكرر للمرة الثانية!

❈-❈-❈

وقفت في زاوية المطبخ، تنظر من خلف النافذة إلى المدينة التي ملأتها بأحلامها وأوهامها في الماضي، تغمرها موجة من الحنين واللوعة. في لحظة صمت، غاصت في أعماق ذاكرتها، فتسربت إلى ذهنها صور من زمن بعيد.

رأت نفسها فتاةً صغيرة، عيناها تلمعان بالحب والبراءة، تعلقت بابن عمها الثري، الذي كانت تعتقد أن قلبها قد استسلم له بلا قيد أو شرط. كان شابًا وسيماً، ترتسم على محياه علامات الفخامة والثراء، وكان ينبض قلبها بحبه كنبض الربيع في أول أيامه.

لكن الأم، بصوتها الحاد المليء بالحرص والخوف، كانت تحذرها دائمًا: 

ابعدي عنه يا مريم، مش من مقامنا، ولا يناسبنا يا بنتي.

 كانت كلماتها كصواعق تقطع أشرعة حلمها، وتزرع في قلبها غصة الممنوع.


حينها، قررت مريم أن تبتعد. قررت أن تترك كل شيء خلفها؛ بلدها، أهلها، وأحلامها القديمة. جمعت شجاعتها، وغادرت المدينة، متجهةً إلى القاهرة، عازمةً على أن تبني حياتها بيدها، وأن تعمل وحدها، بعيدًا عن كل من يعوقها.

وفي تلك الغربة، جاءت الصدمة الكبرى. وصلت إليها الأخبار كالرصاصة: أمها قد رحلت عن هذه الدنيا، تاركة إياها وحيدة في عالم قاسٍ. لم يعد لديها من تلجأ إليه، أو من تعود إليه، خصوصًا بعد موت والدها منذ زمن بعيد، قبل أن ترى هي نور الدنيا.

تابعت مريم في ذكرياتها، ترى نفسها وقد وجدت ملجأً في أحد مشاغل الخياطة الصغيرة بالقاهرة. كانت الأيام الأولى صعبة، لكنها امتصت كل لحظة بإصرار وعزيمة لا تلين. تعلمت الخياطة بخطى ثابتة، كل غرزة كانت تبني مستقبلها قطعة قطعة، وكل قطرة عرق كانت تثبت أنها قادرة على الصمود والاعتماد على ذاتها.

لكن في اليوم الذي رزقها الله ب( نور) ، قررت أن تجعل حياتها كلها له.

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاءالدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة