-->

رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 34 - الجمعة 20/6/2025


قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة عفاف شريف


الفصل الرابع والثلاثون

تم النشر الجمعة 

20/6/2025



حسنًا يا عزيز،

تغيّرت، تبدّلت، وربما اختلفتُ وقسوت.

هكذا أخبروني، ولقّبوني بالعديد من تلك الألقاب.

لكن لم يُدركوا الفرق، لم يعلموا أني تعلّمت.

تعلّمت أن الحياة ليست كما ظننا وتوهّمنا، وقرأنا في قصص الحب والخيال.


هنا، في أرض الواقع، أنت الفريسة والصيّاد،

المقاتل والخصم في آنٍ واحد،

ستكون كل شيء وضدّه.


وإن نجحتَ وانتصرت،

فتأكّد، ووثِق،

أنه مع كل درجة نجاح ستخطوها،

ستصفعك الحياة صفعةً لن تنساها.


ستعلّمك الشدائد الصبر والسلوان،

ستعلّمك أن تنسى ورديّ اللون،

وثِق أن رماديّة الحياة تربح دائمًا.


وأنه، وببساطة شديدة  خَلَقْ الإنسانَ في كَبَدٍ


وها أنت ذا،

بين لحظات الانتصار، خسرت.

ووجدتَ نفسك تخوض حربًا جديدة.


والمؤلم؟

أنها أمام نفسك،

والخسارةُ تلك المرة ستكون بالكثير...

كصفعةٍ لطفلٍ صغير.


❈-❈-❈

كم ظَلّت تُناظره

لحظة اثنتان أم عشرة؟

لم تعلم،

بل لم تفهم.


ارتجف جسدها دفعة واحدة قبل أن تفتح فمها،

تهمس له بخفوت وتيه،

كأنها لم تفهم ما نطق به للتو: إيه؟

بتقول إيه؟

مش فاهمة يا عمر.


أخفض عينيه عن عينيها بتوتر شديد،

متنهّدًا بضيق.

كان يخشى، بل ويخاف من تلك اللحظة،

وكان خوفه في محله.

الأمر لن يكون سهلًا أبدًا،

لكن لا مجال للنقاش أو التفكير حتى في تلك اللحظة،

لا مجال أبدًا لأي شيء سوى الرضوخ والموافقة.


لذا رفع عينيه مرة أخرى،

يناظرها بقوة،

قبل أن يكرر مرة أخرى قائلاً بتأكيد وتقرير: البيت وقع يا فريدة،

بيت عمتي وسلمى وقع،

بقى تراب على الأرض،

خسروا كل حاجة،

بمعنى كل حاجة،

وملهمش مكان يقعدوا فيه،

بقوا في الشارع.


قالها بحزن وألم حقيقي،

وشدّد على يدها متابعًا بحزم وتأكيد: بس ده مش هيحصل يا فريدة،

مش هيحصل أبدًا طول ما أنا عايش وموجود،

عمتي مش هتترمي في الشارع،

بيتي هو بيتها،

بيتي يعني بيت عمتي وسلمى.

عمتي اللي ضحت بحاجات كثير أوي عشاني

عمتي اللي ربتني مكان أهلي الله يرحمهم

ربتني زي ابنها من غير أي تردد

وزي ما شلتني العمر ده كله

أنا مستحيل أتخلي عنهم

أبدًا يا فريدة

دي عمتي

أمي التانية يا فريدة

قالها بتشديد وتأكيد،

قبل أن يتابع بتقرير: عشان كده أنا جبتهم يعيشوا معانا،

لحد ما ربنا يأذن بحاجة تانية.


قالها بجمود وتأكيد،

وصمت،

صمت وترك يدها،

قبل أن يتحرك مبتعدًا عنها،

عائدًا حيث عمته.


وظلت هي محلها،

مستندة على المقعد خلفها،

تحاول استيعاب ما حدث دفعة واحدة.

 وقلبها يخفق بقوة،

رفعت يدها تمسّ قلبها الخافق بجنون،

وقد شعرت بالهواء ينسحب من حولها،

كأن كل شيء من حولها صامت، كأن الزمن توقف.


وفي اللحظة التالية،

رفعت عينيها تنظر نحوهم بتيه شديد،

قبل أن تصطدم عيناها بعيني عمة عمر،

تناظرها بنظرات غريبة،

نظرات غامضة،

وإن لم تفهم،

فقد ارتجف قلبها،

ارتجف خوفًا منها.

منهم.

❈-❈-❈

لم تخفض عيناها، بل ظلت تناظرها بصمتٍ وجمود،

قبل أن تتحرك نحوهم ببطء، قائلةً بهدوء ورفق، وهي تقرّب يدها لتمس يد عمتة برفقٍ وحرص: حمد لله على سلامتك يا طنط.


أومأت لها الأخرى بصمت،

لتتابع هي بحنان وهي لا تدري ماذا يقال في مثل تلك الظروف : مش مهم أي حاجة،

المهم إنكم بخير وبس،

صدقيني، مفيش حاجة أهم من ده.

ربنا هيعوضكم خير إن شاء الله، أنا واثقة من رحمة ربنا.


ومالت نحوها متسائلةً بقلق، وهي تلاحظ شحوب ملامحها: حضرتك كويسة؟

وتابعت بسرعة وخوفٍ حقيقي: أنا هجهز لحضرتك عصير، ثواني وهيكون جاهز.


قالتها، وما إن كادت تتحرك،

حتى أوقفها صوت سلمي، وهي تردد ببرود، مقتربةً منهم، تحمل بين يديها كوبي عصير:

مش متأخر شوية الاهتمام ده يا مدام فريدة؟


وتابعت بنبرةٍ تحمل الكثير من التقريع:

بقالنا شوية في الشقة، مفكرتيش حتى تجيبي بوق مية لحد فينا!

على العموم خلاص،

أنا جبتلها عصير، ومش مستنياكي أكيد.


قالتها وهي تمد يدها بالكوب لأمها،

قبل أن تجلس بجانبها، ترتشف من  الآخر، وعيناها تلقيها بنظرات حارقة.


زمت فريدة شفتيها، قبل أن تتنهد بصمت، ناظرةً لعمر الصامت بجمود، قبل أن تردد بهدوء: آسفة طبعًا،

أنا بس اتفجئت من اللي حصل،

واتوترت من الخوف ورعب الساعات اللي فاتت.


وتابعت بتوتر، ويدها قد ارتفعت لتمس صغيرها:أنا هروح أجهز حاجة خفيفة عشان تاكلوا قبل ما تناموا،

مش هتأخر، على طول.


وقبل أن تتحرك للمطبخ، أوقفها عمر، وقد كان يدلك ساق عمته المنتفخة، قائلًا بهدوء: جهزي الأوضة الأول يا فريدة،

عشان عمتي ترتاح في سريرها،

وتبقى تاكل وهي على السرير براحتها.

وكمان طلعي لسلمي هدوم من عندك،

ولعمتي أي حاجة مناسبة،

أكبر مقاس عندك.

أنا كنت جبتلك عباية كبيرة للحمل،

إن شاء الله تيجي على قدها، بس مؤقتًا لحد ما أشتري بكرة إن شاء الله.

شوفي ليهم حاجة مناسبة.


كانت تقف تستمع إلى كل ما يريد، بملامح شاحبة متعبة،

قبل أن تؤمئ له بصمتٍ وهدوء، متحركةً سريعًا للغرفة.


دلفت للغرفة سريعًا،

تفتح النافذة لتهوية الغرفة ،

تجمع فراش وألعاب لوزة وصغارها،

وتنظم وتعطر الغرفة سريعًا.


تحركت تبدّل الشراشف،

بعقلٍ منشغل، يفكر في ألف شيء،

ألف شيء وشيء

الطعام، والشراب، والمبيت، والتنظيف... ووو...


ووسط كل هذا،

كانت تشعر بتوترٍ غريب،

لا يخص وجودهم فقط ،

بل  هناك شيء آخر،

شيء لا تعلم ما هو،

كأنها قد غفلت عن شيء،

شيء مهم تشعر أنه نُسي وسط هذا الارتباك.


دقيقة فقط دقيقه 

قبل أن تتسمر مكانها، ويتجمد جسدها، وقد اتسعت عيناها بشدة،

قبل أن تنتفض، وعيناها تجول بالغرفة بسرعةٍ وهلع، تبحثان عن لوزة وصغارها.

كانوا هنا...


وقبل أن تتحرك سريعًا لتبحث عنهم،

كان الصراخ بالخارج

يعطيها الإجابة بوضوح.


لقد غفلت عن أمرهم تمامًا.

والآن...

إنهم...

إنهم... بالخارج...

مع سلمي، وعمّة عمر.


وكان اليوم يأبى أن ينتهي بسلام .


❈-❈-❈

تحرّكت بسرعة تخرج من الغرفة،

لتتّسع عيناها أكثر وهي ترى المشهد أمامها؛

حيث تقف سلمى وراء أمّها الصامتة، تصرخ بقوة، تلتقط الوسائد من حولها وتُلقي بها نحو لوزة والصغار المرتعبين حيث كانت تصرخ  بغضبٍ وجنون،

وعمر أمامها يصيح بها ويحاول منعها عن جنونها،

ولوزة أمامها شامخة، وقد بدأت في الخُرخرة بصوتٍ عالٍ مخيف، دليلٍ على غضبها وتوترها الشديد.


تحرّكت بسرعة تقف أمام لوزة، وقد اجتمع الصغار خلفها بسرعة، ورومي التي قد اسرعت إليها وقد تسلّقتها بالفعل، قبل أن تجلس على كتفها بفطرة الأمان نحوها،

وقد وقفت هي تنظر لسلمى بجمود، وعمر الواقف بجانبها يحاول تهدئتها، قبل أن تردّ هي بهدوء: لو سمحتي... كفاية.


صاحت سلمى بصوتٍ أعلى: كفاية إيه وزفت إيه!

مشي القطط دي من هنا حالًا!

هو أنا مش قلتلك قبل كده إني مش بحب القطط؟

أنا مش عايزة قطط في البيت!


والتفتت نحو عمر تصيح به: عمر!

مشّيهم! أنا مش عايزة قطط!


والآخر صامت، ينظر لها بتعبٍ وإرهاقٍ بادٍ على وجهه.

وقبل أن يرد، سبقته فريدة وهي ترد بقوة:

لو سمحتي يا سلمى، كفاية بجد.

القطط معملوش حاجة لكل ده،

هم ليهم مكان خاص بيهم ونُضاف جدًا.

بس طالما هنعيش مع بعض، يبقى نقدر ونحترم بعض وحياة بعض.

القطط دول قططي،

وأنا مش هتخلّى عنهم أبدًا مهما حصل.


قالتها بقوةٍ وحزم،

إلّا أنها تنهدت قبل أن تتابع بنبرةٍ أقل حدّة:

لكن برضو، أنتو أهل عمر،

ووجودكم ليه احترامه وتقديره،

وأنا أكيد ميرضينيش زعلك أبدًا...


وصمتت،

قبل أن تزفر بضيق، متابعةً بإرهاقٍ حقيقي:

أنا هجهّزلهم مكان خاص بيهم، بعيد عن أوضتك إنتي وطنط.

وأظن ده الحل الوحيد المتاح للطرفين،

ومفيش للأسف حلول تانية.

بس لو سمحتي، زي ما قدرتك واحترمت رغبتك،

أظن من حقي يكون في احترام متبادل على الأقل.

أتمنى تقدّري إن لوزة وولادها مهمين عندي.

هم قططي، وأنا مستحيل أتخلّى عنهم مهما حصل.


قالتها بتأكيد وهي ترمق الجميع بقوة،

وصمتت مرةً أخرى، قبل أن تردد بسرعة:

عن إذنكم... هروح أخلّص الأوضة عشان ترتاحوا.


وقبل أن تتحرّك، أوقفها صوت عمة عمر، وهي تسألها بهدوء: طيب مش مهم إحنا...

مش خايفة على حملك؟

ابنك؟


تسمّرت فريدة محلها،

محاولةً أن تلتقط أنفاسها اللاهثة من شدة توترها،

قبل أن تقبض على يدها المرتعشة بقوة،

أغمضت عينيها لوهلةٍ قبل أن تفتحهما،

وهي تمسك برومي، تُنزلها أرضًا بعد أن مسّدت عليها بحنان،

قبل أن تلتفت نحو عمة عمر، تنظر لها بصمت،

وترد باحترامٍ وتساءل: إزاي مش مهم انتو يا طنط؟

لا طبعًا مهمين.

حضرتك وسلمى مهمين طبعًا.

حضرتك أم لعمر، وسلمى أخت ليه،

فطبعًا مهمين.

لكن وجود لوزة وولادها مش لعبة عشان آخدهم وقت ما أحب وأرميهم وقت ما أحب.

دول أرواح هنتحاسب عليهم،

ومش بعد ما نظّمت ليهم حياة ونظام أكل وشرب،

أرميهم فجأة لحدّ الله أعلم هيعمل معاهم إيه!

يمكن يبان إني ببالغ،

بس دي أنا.

وزي ما قلت لحضرتك وهاكد تاني،

أكيد حضرتك مهمة،

ووجودك مهم،

وبعتذر جدًا لو حسيتي بغير كده،

لأنه مش صحيح أبدًا.

أهل عمر ليهم كل الاحترام والتقدير مني.


وصمتت، قبل أن تنظر لعمر متابعةً:

أنا بحب عمر،

وأكيد أهل عمر.


وصمتت مرةً أخرى،

قبل أن تتابع بضيقٍ وإرهاق: أما بالنسبة لابني،

فلو كان في ١٪ خطر عليّا أو على البيبي من القطط،

أنا كنت على طول لاقيت حل للقطط وطلعتهم تبنّي، رغم صعوبة الموضوع عليّا زي ما قلت لحضرتك، لكن ربنا كان رحيم بيا.

فاطمّني يا طنط،

القطط آمنة جدًا عليّا،

أنا حريصة على التطعيمات والكشوفات والتحاليل الدورية الخاصة بيهم،

وكمان أكلهم وشربهم،

والحمّام تحديدًا بيكون بحرص شديد وجلاڤز عشان الجراثيم.

أنا مستحيل أضر البيبي أبدًا أبدًا،

أنا حريصة جدًا على كل ده يا طنط،

وعمر يشهد بده، تقدري تسأليه طبعًا.


قالتها وعيناها تناظره بقوة،

وتابعت بتأكيد: الحمد لله، أنا والبيبي بألف خير،

والدكتورة عارفة إني عندي قطط،

وخدنا كل الإجراءات اللازمة والحرص بخصوصهم.

متقلقيش أبدًا.

أنا مقدّرة خوفك،

وبشكرك عليه يا طنط،

بس صدقيني، الموضوع مفيهوش أي خطر عليّا أو على البيبي بأي شكل من الأشكال...

الحمد لله.


قالتها وهي تراقب ضيق ملامح عمّته الواضح،

والتفتت لتغادر، قائلةً بهدوء: عن إذنكم...

يلا يا لوزة.


قالتها وتحركت،

والأربع كرات فرو يركضن خلفها بسرعة،

ولوزة التي رمقت سلمى بنظرةٍ حانقة،

قبل أن تتحرك بهدوءٍ متبخترة، لتلحق بفريدة.

وعمر ينظر لعمّته بصمت،

قبل أن ينقل عينيه لسلمى بتوبيخٍ شديد،

فهي نفسها قد كانت تتمنى قطة يومًا ما، منذ سنواتٍ عديدة،

لولا رفض عمّته الشديد وقتها.

❈-❈-❈

دلفت لغرفتها تضع الصغار ولوزة مؤقتًا بها،

قبل أن تجلس على الفراش بوهنٍ وإرهاقٍ شديد،

تلتقط أنفاسها بعد هذا النقاش الطويل، والمبررات التي كانت مُجبرة هي على تقديمها.


لم تدم جلستها طويلًا،

فلا وقت لديها، للأسف.

لهذا تحركت نحو الخزانة،

أخرجت منها منامةً جديدة كانت قد ابتاعتها مؤخرًا لتعطيها لسلمى،

ولم تَنْسَ بالطبع العباءة لعمّته،

رغم ثقتها أن المقاس لن يناسبها أبدًا،

لكنها أخرجتها، لكي لا يُظن بها الظنون.


وخرجت سريعًا بعد أن أغلقت الباب على لوزة والصغار ،

عائدة نحو الغرفة الأخرى، لعلها تنتهي منها سريعًا.


كانت تتحرك بصمت، وإن كان عقلها لا يكفّ عن التفكير في الوضع بأكمله،

وضعٌ بات واقعًا بين لحظةٍ وأُخرى.

جلست على الفراش وقد شعرت بالدوار يلفّها،

إلا أنها تحاملت على نفسها، وقامت لتتابع ما تفعله بسرعة،

حتى انتهت أخيرًا.


وبعد خمس عشرة دقيقة، كانت تخرج من الغرفة،

تتحرك بخطواتٍ هادئة، تقترب من عمر،

تهمس له بخفوت :الأوضة جاهزة.

أنا حطّيت اللبس على السرير.


أومأ لها بصمت،

إلا أنها تابعت بهمسٍ خافت، دون أن يسمعها غيره: بس ماظنش العباية هتناسب طنط أبدًا، يا عمر.

هنعمل إيه؟

العباية واضح إنها صغيرة أوي،

وأظن هتحتاج تاخد شاور وتغيّر لبسها، بذات إنه كله تراب.


أومأ لها مرة أخرى بصمت،

فتحرّكت هي نحو المطبخ،

وتحرّك هو ليساعد عمّته للدخول الغرفة، وخلفهم سلمى الصامتة بتبلّد.


وما إن أجلسها على الفراش، حتى أمسكت بالعباءة،

تعطيه إياها قائلة بهدوء: خد العباية يا عمر.

أنا هنام باللي عليّا.


قطّب حاجبيه مردّدًا باعتراض: إزاي يا عمّتي؟

مش هتاخدي حمّام الأول وتغيّري هدومك؟


هزّت رأسها نافية، وهي تقول بتعبٍ وهمسٍ خافت: لا، هنام... مش قادرة أفتح عيني، يا حبيبي.

اطفي النور عليّا بس، وسبني أنام.


ردّد باستنكار:  من غير ما تاكلي يا عمّتي؟!


أومأت له مرة أخرى،

قبل أن تُخفض رأسها وتهمس له بتعب:

 مش قادرة...



جلس بجانبها، ومدّ يده يمسك يدها،

هامسًا بقلق:  عمّتي...


وهنا رفعت يدها تغطي وجهها،

قبل أن تجهش في بكاءٍ عنيف، كأنها لم تَعُد قادرة على التحمل،

أو ادعاء المزيد من القوة.


ضغط عمر على شفتيه،

مُتأوهًا، يكتم في صدره ألمًا شديدًا،

وهو يناظرها بقهر،

قبل أن يجذبها، يضمها إلى صدره بقوة وحزن.


وسلمى تقف، تنظر لهم بعيونٍ دامعةٍ مقهورة.

لقد خسروا كل شيء

منزلهم،

أمنهم.


دمعةٌ حارقةٌ هبطت من عينيها،

قبل أن ترفع يدها تكتم شهقةً باكية،

وعيناها تراقبان انهيار أُمّها.


وهناك، كانت تقف هي،

تحمل الطعام، تنظر لهم بعينٍ متألّمة،

وقد اغرورقت عيناها بالدموع.

كانت تشعر بالقهر والحزن ..

حزينة على وضعٍ أصبحوا فيه بين لحظةٍ وأخرى.


ارتجف قلبها،

وهي تفكر وتتمنى لو كان بيدها شيء لتفعله،

لفعلته دون ذرة تردد.


فما أقسى أن يفقد المرء أمانه،

منزله،

وهل هناك أقسى من هذا الألم؟


تنهدت بألم، وكادت أن تتحرك لتبتعد،

مانحةً لهنّ أكبر قدرٍ من الخصوصية،

لكن، وقبل أن تخطو خطوةً واحدة لتعود إدراجها،

لمحتها سلمى الباكية.


التَمعت عيناها بغضبٍ شديد،

قبل أن تتحرك نحوها بخطواتٍ سريعة،

وفي ثوانٍ،

كانت قد أغلقت الباب في وجهها.


ارتدّت فريدة للخلف بصدمة،

وقد تجمدت ملامحها، وشحبت، كمن تلقى صفعةً على وجهه،

قبل أن تُطبِق شفتيها بغيظٍ وضيق، تكتم انفعالها.


لو كانوا في وضعٍ آخر،

لكانت فتحت الباب ودخلت لتثبت لها مكانتها،

إلا أنها آثرت الصمت لأجل الوضع الكارثي وما يمرّون به.

لا ينقصهم ما كانت لتفعله.


وبالفعل، التفتت بهدوء،

تضع الطعام على الطاولة،

قبل أن تنسحب نحو غرفتها بصمت...

صمتٌ مؤذٍ، خانق،

تحديدًا وهي تتعرض للطرد والإقصاء من جزءٍ من منزلها،

ركنها الآمن،

ومُجبرة هي على الصمت.

ليس ضعفًا،

بل احترامًا لحُطامٍ لا يحتمل المزيد.


❈-❈-❈

صغيري الأول، وفرحتي التي لا تُنسي...

 يا مَن كنتُ أعدّ الأيام لأضمّك إلى قلبي،

لأمسَّ وجهك، وأسمع بكاءك الأول...

كنتُ أنتظر، بكل حب، لحظة اللقاء الأولى بيننا.

وحين حانت اللحظة المنتظرة...

خرجتَ منّي، ولم تخرج إليّ.

خرجتَ من رحمي لا باكيًا صارخًا،

بل ساكنًا... صامتًا...

كأنك جئت لتودّعني، وترحل.

لم تبكِ، فبكيتُ أنا من بعدك،

لم أسمع صوتك،

لكنّي سأظل أناديك في صلاتي.

رحلتَ يا صغيري...

وفطرتَ قلبي.

لكنّي سأظل دائمًا أحملك في قلبي...

حتى آخر أنفاسي.


كالعادَة مؤخرا، استيقظتْ مذعورة بفعل كابوسٍ بشع يُعاد مرارًا وتكرارًا،

يجعلها تنتفض لاهثة، تمسُّ قلبها المرتجف.

نقلتْ عينيها الذابلة نحو أنس النائم بجانبها،

وفمُها يردّدُ بهمسٍ خافت : أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم...

سترك يا رب... أيه الحلم ده؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...


ورفعتْ يدها الأخرى تمسُّ صغيرها القابع بأحشائها، بخوفٍ فطري بات أقرب للرعب.

وكأنّه كلما اقترب الموعد، زاد رعبها وخوفها من تلك اللحظة.

اعتدلتْ في جلستها، تمسح وجهها المتعرّق،

قبل أن تتحرّك من الفراش، مقرّرة الخروج من الغرفة شاعرة بالاختناق،

ولا تدري إلى أين، وتركت نفسها حيث قادتها قدماها...

إلى الغرفة المنشودة.


أغمضتْ عيناها، وتسارع خفقان قلبها المتألّم بكل مرة تقترب من تلك الغرفة،

كأنّه يخبرها، بكل قسوة، أن خسارته تركت بقلبها ندبة لن تُشفى أبدًا،

مهما مرّت الشهور والسنوات...

ستظلّ ذكرى فقدان صغيرها، الذكرى الأقسى والأمر مهما حدث.


أفلتت من عيناها دمعة حارقة،

قبل أن تفتحهما وهي تمدّ يدها، تضعها على المقبض لتفتحه ببطء شديد.

لتظهر بعدها الغرفة المظلمة،

سوى من ومضاتٍ خضراء صغيرة علي هيئة نجوم بالسقف، وضعتها خصيصًا له،

لكي لا يخشى الظلام.


جهّزتها قطعةً قطعة، بكل حبّ، هي وأنس.

بكل حب... من كلّ قلبها، في انتظار وصوله.


خطَت بقدمها للداخل، مشعلة الأضواء،

وعيناها تراقبان كلّ ركن وتفصيلة.


حتى اقتربت من المقعد بجانب الفراش الصغير،

لتجلس عليه بعد أن التقطت دميةً صغيرة، كانت تخصه،

وله... حتى وإن لم يحظَ بها،

تضمّها إلى قلبها بقوة، كأنها صغيرها الراحل.


مردّدةً بقلبٍ مفطور، وعيناها لا تكفّان عن زرف الدموع:

وحشتني أوي...

وحشتني أوي يا حبيبي.

وحشتني رغم إني مخدتكش في حضني.

ملحقتش أشبع من ريحتك.

مشيت وسبتني يا قلب ماما...

سبت ماما لوحدها.


وتابعتْ بصوتٍ متحشرج متألّم:

بس اتأكّد إني حبيتك أوي،

حتى من قبل ما أشوفك.

حبيتك أكتر من نفسي،

حبيتك لدرجة إني مش قادرة أتخطّى إنك مشيت...


وصمتتْ تلتقط أنفاسها اللاهثة، قبل أن تجهش في بكاءٍ طويل،

بكاءٍ مرير...


خسرت طفلها.

خسارة ثقيلة لكل أمّ مرّت بذلك الشعور.

خسارة قطعةٍ منها،

القطعة الأغلى...


ازدادت من ضمّ الدمية إلى صدرها،

تشعر باحتراقٍ لم يغادرها للحظة.


إلا أن حركةً وركلة من صغيرها أيقظتها من تلك الدوّامة،

حين فتحت عيناها تناظر لبطنها المنتفخة بعين باكية،

قبل أن تمدّ يدها، تمسد على صغيرها،

تعطيه الأمان، تخبره أنها بخير، وإن لم تكن كذلك...


صغيرها... جبرُ الله لقلبها.


استندتْ برأسها على فراشه الصغير،

وغامت عيناها إلى مطافٍ بعيد،

مطافٍ تتمنّى أن تتخطّاه، ولا تستطيع.


قبل أن تنتفض على يدٍ تمسُّ يدها المستقرة علي بطنها ،

ارتفعت عيناها تلتقي بعيني أنس الناعستين،

ولم ترَ لمحة الخوف بهما،

وقد انتفض هلعًا حين تقلب في نومه، ولم يجدها بجانبه.


أصبح الرعب يحاوطه في الأسابيع الأخيرة من حملها مثلها وأكثر.

فانتفض من فراشه يبحث عنها،

حتى هدأت أنفاسه وهو يراها هنا...


مدّ يده يمسّ بطنها، سائلًا بقلق: إنتوا كويسين؟


لم يكن بحاجة لإجابة.

هي بخير، وليست كذلك.

وبالفعل، صمتتْ ولم ترد.


قبل أن تهمس بخفوتٍ متألمٍ محتار:  ليه مش قادرة أتخطّى فراقه يا أنس؟

ارتعشت شفتاها وهي تتابع بتأكيد خانق:  أنا راضية، والله راضية بقضاء ربنا،

بس موجوعة أوي أوي يا أنس.

مش هكون أول ولا آخر أم تخسر ابنها،

ورغم إني راضية، بس قلبي وجعني أوي...

مش قادرة...


وصمتتْ مرة أخرى،

قبل أن ترفع يدها تمسّ قلبها هامسةً بألم: قلبي وجعني أوي يا أنس.


التمعتْ عيناه بقهر مثلها،

ألمٌ يتألّم هو... تألّم، والله وحده يشهد على ذلك.


لذلك، رفع يده يمسح وجنتها بحنان،

قبل أن يتمتم بهدوء: قلتهالك كثير، وهرجع أقولك

الإنسان طول ما هو عايش، هيخسر يا ملك.

مش معناه إننا هنعيش تعَساء... أبدًا يا حبيبتي.

معناه إن دي سنة الحياة.

هييجي يوم، وبإيدينا هنحطّ تحت التراب أغلى الناس على قلبنا،

وهنرجع نكمّل حياتنا، حتى لو مش قادرين... أو مش عايزين.


هنحزن، هنتوجّع، وقلبنا هيتكسر،

بس هنكمّل، لأننا واثقين في رحمة ربنا بعباده.

واثقين إن بعد كل صبر، جَبر،

وإن دي سنة الحياة،

اللي لازم نتقبلها دلوقتي أو بعدين.


وإن كل ما تقبّلنا إن الحياة مش دايمة لحد،

كل ما الخسارة كانت أهون على قلوبنا.


والتقبّل ده ملوش علاقة بالحزن على الخسارة،

بس بيطبطب على القلب، إن لنا لقاءً أكيدًا إن شاء الله... في الجنة.


كانت تتابعه بعينٍ متعبة حزينة،

على ما أوصلت نفسها له.

ليتابع هو بحنانٍ أكبر رغم حزنه :  تعالي نفكر فيها من جهة تانية...

رحمة ربنا بينا، إن الخسارة تيجي في البداية.

إنك تشوفي ابنك، تخديه في حضنك، تعيشي معاه أيام وشهور وسنين،

وقتها الخسارة بتكون تقيلة أوي...


لكن إحنا خسرنا ابننا في البداية.

اتوجعنا، آه، ويشهد ربنا على كده...

بس أنا واثق إن برضو ده من رحمة ربنا بينا.


ولو كان الابتلاء إننا نخسره في سن أكبر، لا قدّر الله،

كنت هقولك نفس الكلام

هنصبر، ونحتسب.

مفيش في إيد الإنسان أكتر من كده.


سواء صبرتي أو لا، اللي حصل حصل.

في كل الأحوال، الابتلاء حصل.

رضيتي أو لا، هو حصل.

بس بصبرك... انتي كده راضيه.

وربنا بيراضي العبد الراضي.

بيطبطب على قلبه، لأنه رضي وقت ما كان الرضا صعب.


واجب علينا نصبر على ابتلاء ربنا لينا يا ملك.

لازم تعرفي إن صبرك وتقبّلك، رغم حزنك في اللحظة دي... كبير أوي.

وتأكّدي، وثقي... إن بعد الصبر، جَبر.


وأخيرًا، رفع يده الأخرى ليحاوط بها وجهها،

قائلًا بحزم، رغم ألمه: تأدّب في بلائك، وتوجّع بالحمد، فأنت في حضرة قضاء الله وقدره.


احمدي ربنا يا ملك، واطلبي منه الصبر والسلوان لقلبك،

واشكريه على عوضه لقلوبنا.


قالها، وقد أخفض يده ليمسّ بطنها المنتفخة:

ابننا عوض ربنا لينا، جَبر قلبنا الموجوع.

مش هقولك انسِيه، لأني مستحيل أنساه.

هقولك اصبري على خسارته، لحد ما نتقابل في الجنة، إن شاء الله.


وتأكّدي إن بعد العسر يُسرًا...


كانت تناظره بعينٍ ذابلة منهكة،

قبل أن تضمّ شفتاها بألم،

وهي تتحرك من على المقعد،

قبل أن تلقي بنفسها بين أحضانه...


حتى أصبحتْ تجلس على ساقه،

يضمّها إلى صدره، وهي تجهش في بكاءٍ عنيف،

مردّدةً بقلبٍ راضٍ رغم ألمه:

 الحمد لله، الحمد لله، الصبر يا رب... الصبر.


ولم ترَ دموعه هو الآخر،

وهو يشدّد من ضمّها،

فرغم صبره ورضاه،

كان د يتألّم...


ولكنه عاد يردّد مثلها:

 الحمد لله على كل حال،

الصبر من عندك يا رب.


❈-❈-❈

بعد بعض الوقت، كانت تندس بين أحضانه بعد أن منحها كل الوقت الذي تحتاجه للبكاء والحديث عمّا بداخلها.

كانت بحاجة لذلك، بحاجة لإخراج كل هذا التخبط بداخلها، وفعلت.

شدد من ضمّها نحو صدره، بعد أن انتقلا لغرفة المعيشة ليجلسوا بها براحة أكبر،

قبل أن يردد بهدوء، وتساءل حنون:  بقيتي أحسن؟

أومأت له بصمت دون رد.

يشعر بها، ويعلم بما تمرّ تحديدًا في فترة يملؤها الضغوطات؛

بداية من حادث تميم، ثم ما مرّت به آلاء والطلاق، واقتراب موعد الولادة، وخوفها من تكرار تجربة قاسية كخسارة صغيرهما.

يدرك كم التشتت والتخبط الذي تمرّ به، ولن ينكر أنه مرتبك وخائف مثلها،

فكيف تكون مشاعرها هي؟

ك ام واخت وزوجة

كانت يده تمسح على خصلاتها بشكل تلقائي، قبل أن تهمس له فجأة: أنا عايزة أعمل إطعام يا أنس.

أخفض عيناه نحو رأسها المندس في صدره، قبل أن تنفرج شفتاه في ابتسامة صغيرة، متمتمًا بموافقة: ليه لا؟ نعمل يا قلب أنس. شوفي حابة تعملي إيه وامتى، وأنا أعمله.


زادت من التصاقها به وهي تغمغم بخفوت:

–بكرة إن شاء الله، عايزة بكرة لو ينفع. أنا مخنوقة أوي، وحاسة إني هرتاح لما أعمله.

وقبل أن ينطق بشيء، تابعت هي هامسة بشرود: تظن ربنا هيسامحني يا أنس؟

عقد حاجبيه، ينظر لرأسها فوق صدره، قبل أن تتابع هي: تظن هيسامحني على كل لحظة ضعف؟ 

كل مرة خفت واتهزّت ثقتي؟ 

في كل مرة جه في عقلي سؤال، حتى لو منطقتوش؟


قالتها وهي ترفع وجهها لتقابل عيناه الغائمة، ليبادلها هو النظر متسائلًا عمّا تقصد،

إلا أنها صمتت، قبل أن تتابع بهمْس:

 ليه؟ ليه أنا؟ ليه قلبي يتوجع كل الوجع ده؟

السؤال ده اتكرر في راسي كثير اوي... 

كنت بحزن أوي من تفكيري، عشان أنا مش عايزة أفكر كده.

وسبحان الله، في نفس اللحظة بتتكرر قدامي الآية الكريمة


"فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ".


وأسأل نفسي سؤال واحد

ليه لما خسرت حاجة غالية عليّا قلت: ليه أنا؟

طيب ما أنا ربنا رزقني بنعم كثير أوي مش عند غيري.

ليه مقلتش "ليه أنا؟" غير في الوحش بس؟

وتغافلت، ولو لوهلة، عن كل الرزق اللي في حياتي: صحتي، أهلي، إنت...


قالتها وهي تمسّ وجنته.

مسح على خصلاتها، قبل أن يردد بتأكيد:

 مينفعش نعيش حياتنا بنلوم نفسنا على لحظات الضعف يا ملك.

مين فينا مامرّش بيها؟ مين فينا ما توجعش؟

وحس إن دي النهاية؟ كلنا.

مش مهم اللي حصل، المهم بقينا إيه بعد اللي حصل.

وتابع مؤكدًا بثقة:

 وكلامك فعلًا صح... في حياتنا نعم كثير أوي، نعم لا تُعد ولا تُحصى.

نِعم بيغفل عنها ناس كتير، وشايفين إنها أمر مسلم بوجوده،

لكن فكرة أصلًا إننا بنصحي من النوم بخير... دي نعمة.

إن اليوم يعدي وننام على المخدة مرتاحين... دي نعمة.

إننا نعيش بدون علاج وأدوية... دي نعمة.

ودي حاجات بسيطة أوي أوي، ونقطة في بحر نعم ربنا لينا وعلينا.

عشان كده، واجب علينا نصبر على الابتلاء. نصبر ونحتسب.

مش سهل... بس مش مستحيل.

الشدائد بتعلّم الإنسان الصبر،

بتعلمه إن مهما حصل،

 ومع كل ليل هيغطي حياتنا... 

في شمس هتشرق تاني، بكل تأكيد.


ابتسمت له بعيون دامعة، ليمد يده سريعًا ملتقطًا إياها بإصبعه، مرددًا بحنان ولين:

 ربنا رحيم أوي بعباده يا ملك... رحيم وغفور.

مش مهم وقعتي، وغلطتي، ولا لأ.

المهم بقيتي إيه بعد الابتلاء.

ربنا عارف اللي في قلبك، حاسس بوجعك.

وده يعرّفك تكوني أقوى على الصبر،

وتحطي في قلبك دايمًا إنّ رحمة ربنا وسعت كل شيء.

وقولي يا رب.

هو كفيل بكل وجع مسّ قلوبنا.

وردّد بثقة: "إن الله كان عفوًّا غفورًا"،

ورحيم بعباده،

عشان كده، خليكي إنتِ كمان رحيمة بنفسك يا ملك.


ابتسمت له بصمت، ليبادلها إياها بحب وعشق،

لم يقل لوهلة، بل يزداد بكل لحظة،

قبل أن يعيد ضمها نحو صدره بحنان طاغٍ،

وطال صمتهم، سوى من ثرثرة بسيطة،

قبل أن يتمتم متسائلًا حينما لاحظ شرودها:

كلمتي آلاء النهاردة؟ تطمني عليها؟

هزّت رأسها وهي تغمغم بخفوت:

– أيوه، بكلمها كل يوم، أكتر من مرة كمان .

وتابعت بأسى وحزن:  مكنتش حابة أبدًا أكون بعيدة عنها في وقت زي ده يا أنس 

في الفترة دي تحديداً ...


مش هأنكر وجع قلبي وصدمتي لما عرفت اللي حصل...

وتابعت بشفتين مطبقتين، وأعين لامعة تهدد بالبكاء: وزعلت أكتر إنهم خبّوا عليّا ومحدش قال غير لما بقت كويسة وتقدر تكلمني ...


قاطعها أنس قائلًا بحنان: غصب عنهم يا ملك، الكل كان خايف عليكي.

مكنش سهل يبلّغوكي باللي حصل وانتي لسه يا دوب بتفوقي من حادثة تميم.

هم عملوا ده عشانك، وعشان البيبي.

غصب عنهم، صدقيني.

اللي عملوه هو الصح، محدّش كان هيخاطر أبدًا يا ملك،

عشانك يا حبيبتي، وعشان ابننا.

عارفة؟


قالتها بضيق وتابعت:

– بس برضو كان نفسي أكون جنبها، أخدها في حضني.

كان نفسي بجد أخفف عنها وأكون معاها.

مش كفاية إني حتى بعد ما عرفت مقدرتش أروح لها،

بسبب إن الدكتورة منعتني من السفر.


تنهدت بضيق، ليزيد من ضمها لصدره، متمتمًا بهدوء: مش لازم تكوني معاها في نفس البيت أو  البلد عشان تكوني جنبها.

أنا متأكد إنك حتى وإنتي بعيدة، قريبة.

أنا واثق إن آلاء مقدّرة الوضع، وإنه غصب عنك يا حبيبتي.

المهم إنها بخير، وإنها تقدر تتخطى المرحلة دي وتفوق لنفسها.

مفيش أهم من ده.


وتابع بمشاكسة، وهو يقرص وجنتها:

وثم خلاص... هانت.

وتابع بغيظ، مُمَسِّدًا بطنها:

وبكرة اللي ما نعرفلوش نوع ده ييجي، وننزل مصر.


كتمت ضحكاتها بيأس، قبل أن تغمغم بشوق:

– إمتى يا أنس؟ إمتى آخده في حضني؟

شدّ من ضمها، مرددًا بثقة كبيرة:

– هانت... هانت.

في أي لحظة هينوّر الدنيا، وتخديه في حضنك،

لحد ما تزهقي، 

وتنشغلي بيه... تنشغلي عني.


قالها ممازحًا،

التفتت له سريعًا، تمسّ وجنته، وعيناها تناظره بحب،

قبل أن تغمغم بخفوت:  مستحيل ده يحصل أبدًا.

إنت ابني الأول يا أنس.

مستحيل أنشغل عنك، مهما حصل.


وقبل أن يردّ عليها، جاها ردّ آخر،

وكان من نصيبها ركلة قوية،

انتفضت علي أثرها بألم، تمسّ بطنها بذهول،

قبل أن ترفع عيناها لأنس متسع العينين مثلها،

تنظر له تارة، ولصغيرها الشقي تارة،

قبل أن ينفجرا سويًا في ضحك يائس،

وعينا كلٍّ منهما تلمع بحب وسعادة شديدة.


فيبدو هكذا أن الصغير يغار،

ولم يكن يعلم أحدهم أن موعد اللقاء قد اقترب كثيرًا،

وأن الصغير قد وقّع استمارة الحضور لتلك الحياة،

وبحفل استقبال يليق به،

ففي النهاية... هو فرد من أفراد آل العسلي.

وكان هذا أكثر من كافي.

❈-❈-❈

التمعتْ عيناها وهي تتقلّب على فراشها، تتلاعب بأحد خُصلاتها ،

تُراقب صورته الزاهية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.

كان وسيماً وإن لم يكن الأوسم،

كان فارساً اختارته هي بعناية.

واقعٌ سيحدث عاجلاً أم آجلاً.

رفعتْ إصبعها تمسّ وجهه بعينين لامعتين، وربما عاشقة.

أحبّته.

متى؟

لا تعلم ولا يهم ،

هي فقط تريده، وفي التوِّ والحال.

وبعد صبرها الشديد، تستحق إحدى المكافآت.

ومرّرت يدها على الشاشة تفتح إحدى الصفحات،

قبل أن تبعث رسالة لأحدهم،

رسالة قصيرة، هادئة،

رسالة لم تكن الأولى،

بل كانت ضمن الكثير،

ومنذ شهور،

رسائل متكرّرة،

والكثير من الاقتراب والتودّد بحرص،

كطُعمٍ تُلقيه مراراً وتكراراً دون ملل،

حتى تحصل على غنيمتها.

رفعتْ عيناها تطالع الصورة بابتسامة صغيرة،

فلم تكن تحادث سوى "ملك"،

شقيقة تميم،

واحدةٌ من أهم خُطواتها للوصولِ إليه.

أن تصلَ إلى قلبه عائلتُه.

اتّسعت ابتسامتها وهي تفكّر في الفترةِ الماضية،

كانت ساكنةً، هادئة،

إلا أنّها لم تستسلم أبدا.

ولن تفعل،

فتميم لها في كل الأحوال.

تنهدتْ وهي تعيد النظر إلي صورته بشُرود،

قبل أن تُلقي بالهاتف بلا مبالاة،

وتُلقي بنفسها خلفه، مستلقيةً على ظهرها،

تنظر للسقف تُراقب اللا شيء بجمود وصمت.

وفي تلك اللحظة تحديداً،

انطفأتْ عيناها، وظهرتْ بهما نظرة مختلفة،

انطفاء لا يتركها،

ونظرة لا تُوصَفها الكلمات،

كأنّها أصبحت أخرى،

أصبحت منطفئة،

بل هي دائماً هكذا،

كظلامٍ لن يُنير أبداً.


وفي النهاية، يُخفي الإنسان ما يُريده بدهاء.


❈-❈-❈

كانت كما هي منذ دخلت الغرفة،

تتحرّك هنا وهناك بصمتٍ شديد،

صمتٌ يُخفي خلفه الكثير،

كعاصفةٍ قويةٍ تخشى حتى أن تعترف بوجودها.


مشوّشة،

خائفة،

وبرأسها ضجيج لا يتوقّف،

والتفكير قاتل لها في تلك اللحظة.


أعدّت للوزة والصغار فراشًا صغيرًا بنهاية الغرفة، بعيدًا عن فراشهم، لأجل عمر،

بشكلٍ مؤقّت، حتى تجد لهم مكانًا جديدًا ومناسبًا.


تنهدت بتعب، وهي تُلقي بجسدها المتعب على الفراش، غير قادرة على تحريك إصبعٍ واحدٍ حتى،

شاعرة بالكثير من الضغط،

والكثير من الضيق.


حركةٌ بجانبها لفتت انتباهها،

وهي تشاهد الصغيرة رومي قد أتت وجلست بجانبها، تُلقي بذاتها على ظهرها بدلالٍ لا يفشل أبدًا،

وكأن الصغيرة أتت لتخفّف عنها،

لتخبرها أنها ليست وحدها.


انفرجت شفتاها في ابتسامةٍ صغيرة،

وهي تمد يدها تمسّد على الصغيرة المشاكسة،

مردّدةً بحنان:

 ليه صاحيِة لحد دلوقتي يا ست رومي؟

قومي يلا نامي زي ماما وأخواتك.


قالتها وهي تنقل عينيها نحو لوزة والصغار، وقد غفوا جميعًا منذ قليل.

فيبدو هكذا أن اليوم كان مرهقًا للجميع،

حتى القطط.


دفعت الصغيرة بحنان تحثّها على الذهاب،

إلا أن الأخرى أبت أن تذهب،

وتحرّكت تقفز على ساقها،

تنام عليها بهدوء.


ابتسمت لها، وظلّت تطالعها بصمت،

قبل أن تهمس لها بخفوتٍ وارتجاف:

 أنا خايفة أوي يا رومي،

خايفة ومش فاهْمة،

جوايا حاجات وكلام كثير،

عاملة زي التايهة.

معرفش المفروض أعمل إيه،

أو يمكن عارفة بس خايفة أعمل حاجة من الأساس.

كأن كل حاجة هتتّاخد ضدّي وبشكل مش صحيح خايفة خايفة اوي يا رومي .

أنا والله مقدّرة الوضع،

بس تظنّي أنا هتقدر؟


قالتها بتيه، قبل أن تصمت تمامًا،

كأنها تخشى أن تحصل على الإجابة.


ضرب الصداع رأسها بقوة،

لترفع يدها تمسّ جبهتها بألمٍ شديد،

شاعرةً به يكاد يفتك رأسها.


مدّت يدها بجانبها تبحث عن أقراصٍ للصداع،

قبل أن تتجمّد محلّها، وهي تشعر بالباب يُفتح ويُغلق،

يتبعه دخول عمر.


وظلّت هكذا لا تدري ماذا تفعل،

قبل أن ترفع رأسها قليلًا،

تنظر له، وهو يتحرّك متخطّيًا إياها نحو الخزانة بصمت ، ليخرج ملابس نظيفة.


فلم تجد نفسها سوى وهي تهمس بخفوت،

خافضةً رأسها، ورافعةً يدها، مشيرةً خلفها: على السرير، جهزتلك الهدوم على السرير.


التفت، ينظر لرأسها المنتكس بصمت،

قبل أن ينقل عيناه حيث أشارت،

ليعود ويتخطّاها، منتشِلًا الملابس بسرعة،

مغادرًا الغرفة مرةً أخرى،

تاركًا إياها تنظر في أثره بصمت،

لا تدري ماذا تفعل،

لا تدري أبدًا.


❈-❈-❈

انحنى يضرب وجهه بالماء أكثر من مرة،

كأنه يحاول أن يُفيق نفسه من تلك الصدمة،

يحاول أن يفهم،

يحاول أن يقتنع أن ما حدث لم يكن سوى حقيقة،

وأن الواقع أقسى مما نظن أحيانًا.


أغلق الصنبور،

ووقف ينهَت، شاعرًا بألمٍ يُحيط قلبه،

كأنه لا يقوى على التحرك حتى.


رفع وجهه، ينظر لنفسه في المرآة بعينين مهزومتين،

يُطالع صورته الباهتة،

كان شاحبًا، مُنهكًا،

كمن زاد فوق عمره عمر.


حتى الآن، لا يصدق أن ما حدث قد حدث.

كان الأمر أقسى من أن يتقبّله،

فلم يكن المنزل وحده من انهار،

بل حتى هو،

عمته،

سلمى،

وهو...


جميعهم خسروا،

والخسارة تلك المرّة كانت أقوى من أن يتحمّلها أحدهم.


❈-❈-❈

وضعت رومي بجوار أمها بحنانٍ طاغٍ،

قبل أن تتحرك لتقف بجوار الباب، منتظرةً إياه بقلقٍ شديد،

قلقٍ ينهش قلبها.


في وضعٍ آخر، كانت لتلحق به،

لكنها لم تكن في وضع يسمح لها بالاحتكاك بأحدٍ منهم أبدًا بالخارج،

ففضّلت أن تنتظره هنا، بغرفتهم.


تحركت تجوب الغرفة ذهابًا بتوتر،

وعقلها يفكر إن عمر بحاجةٍ إليها،

بحاجةٍ أن تقف بجانبه،

فقط تكن بجانبه، ولا شيء أهم من هذا.

لقد ليكن بخير.


وفي الدقيقة التالية، فُتح الباب وظهر عمر،

وقد ظهرت عليه علامات التعب والوهن الشديدة.


ترددت لوهلة،

قبل أن تندفع نحوه، تُلقي نفسها بين أحضانه،

مربّتةً على ظهره بقوةٍ ودعم،

ولسانها يردد له بحنان:

أنا هنا...

أنا هنا يا حبيبي.


لم تعلم كم ظلّت هكذا،

إلا أنها في النهاية حررته لتُمسك يده، تأخذه نحو الفراش،

جلست وأجلسته،

قبل أن تضمه لها مرةً أخرى،

مربّتةً على رأسه بحنانٍ شديد.


وكان هو الآخر مستسلمًا لها تمامًا،

غير قادرٍ على الحديث،

ولا على أي شيء،

فقط هو ينشد الراحة،

وراحته دائمًا بين أحضانها.


كانت تراقبه بعينٍ حزينة،

قبل أن تمد يدها، تمسّ وجنته متسائلةً بهدوء:

 هم كويسين؟


أومأ لها بصمت،

لتتابع بحنان:  ناموا؟


أومأ لها مرةً أخرى.

صمتت، قبل أن تهمس له بتأكيد:  إن شاء الله خير يا حبيبي،

متشلش هم أي حاجة.

كله هيتحل بإذن الله ،

أنا طلبت كذا حاجة لطنط أونلاين،

إن شاء الله يوصلوا الصبح أو بالكثير اليوم اللي بعده، ويكونوا مناسبين لها.

وبالنسبة لسلمي، عندي حاجات لسه جديدة، هدهالها إن شاء الله.


أومأ لها مرةً أخرى.

ولم يدرِ هو في تلك اللحظة،

أنها هي الأخرى تخاف،

تخاف ولا تدري أي طريقٍ تسلك لتكون بجانبه،

لم تمرّ بالأمر من قبل،

وتخشى أن تتفوّه بما لا يجب أن يُقال،

ببساطة، تشعر بنفسها تسير على صفيحٍ ساخن.


إلا أنها تابعت بهمْسٍ خافت: عمر إنت كويس؟


توقعت أن يتجاهل الرد،

وبالفعل، صمت لعدّة ثوانٍ،

قبل أن تسمع صوته يهمس بتعب:  لا...

أنا مش كويس يا فريدة.


قالها باختناقٍ شديد،

تكاد تقسم أن صوته يبكي.

شدّت من احتضانه، وهي تضمه بقوةٍ أكبر، لا تدري ماذا تقول،

وعيناها قد بدأت بالبكاء بالفعل لا تريد أن تراه هكذا لا تريد سوا ان تراه بخير ،

ولم تدري حقا ماذا تفعل فقط كانت تضمه، تهمس له بالكثير من العبارات الداعمة،

وتكرر مرارًا وتكرارًا بدعم واضح وصريح : أنا هنا،

مش هسيبك،

هنعدّي الأزمة دي سوا.

أنا عارفة قد إيه الوضع صعب،

بس صدقني، لو مكنتش قد الابتلاء، مكنش ربنا حطّك فيه.

سيب كل حاجة على الله،

ربنا قادر على كل شيء يا عمر.

وثق إنه هيعوضكم خير يا حبيبي البيت والحاجات تتعوض أن شاء الله،

اللي رزقهم بيها مره قادر يرزقهم تاني وعاشر المهم انهم بخير وصدقني مفيش اهم من ده، كله هيكون كويس وهيتعوض أن شاء الله .

أنا جنبك يا عمر،

وعمري ما هسيبك أبدًا.


رفع رأسه ينظر لعينيها المُحبّة بهدوء،

قبل أن تتابع هي، ويدها تمسّد وجنته:

 متشلش هم، كله هيتحل بإذن الله.

حتى إن شاء الله، هحاول آخد إجازة بكرة من الشغل، علشان أكون معاهم في أول يوم.

أكيد هيكونوا مكسوفين ومش عارفين يتحركوا.

هكون معاهم إن شاء الله، متقلقش أبدًا.


وصمتت،

قبل أن تتابع بقلق: أتمنى بس يتوافق على الإجازة،

لأن مفيش إجازات الفترة دي بسبب ضغط الشغل،

بس إن شاء الله يقدّر الظروف ويوافق.


كانت تثرثر بحنانٍ طاغٍ،

تخبره عن وجودها،

دعمها،

عن كل شيء.


وكانت عيناه هو تراقبها بجمود،

وكأنه يُحضّر نفسه للقادم،

قبل أن يفتح فمه، ينطق بما تردد به كثيرًا،

قائلًا بوجوم: فريدة... أنا مش عايزك تاخدي إجازة يوم.


قطبت حاجبها بعدم فهم،

وقبل أن تفتح فمها لتسأله عمّا يقصد،

كان هو يتابع بنبرةٍ قاطعة حاسمه قائلا بحزم : أنا عايزك... تسيبي الشغل.



يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة عفاش شريف، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة