-->

رواية جديدة قلوب على الهامش ليارا علاء الدين - الفصل 2 - الإثنين 16/6/2025

 

  قراءة رواية قلوب على الهامش كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية قلوب على الهامش

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة يارا علاء الدين 


الفصل الثاني


تم النشر يوم الإثنين 

16/6/2025



في مساءٍ شتويٍ بارد، كانت صفية جالسة على أريكة صغيرة في غرفة المعيشة، تلفّ شالًا صوفيًا حول كتفيها وتحتضن كوب الشاي الثقيل الذي لا تستغني عنه بعد يوم عمل طويل.


صوت التلفاز في الخلفية ينبعث منه برنامج قديم عن الشعر العربي، لكنها لم تكن تتابع. كانت شاردة، تنظر إلى البخار المتصاعد من الشاي وكأنها تقرأ فيه شيئًا لا يُقال.


في تلك اللحظة، خرجت سناء من المطبخ، تمسح يديها في منشفة مطبخ باهتة، وقالت:

– عملت شوربة عدس، هتيجي تاكلي معانا ولا مش قادرة زي عوايدك؟

ضحكت صفية بخفة، وقالت:

مش قادرة ياسناء والله, الواحد في دوامة من الصبح.

رفعت سناء حاجبيها وقالت:

خير, فيه حاجة حصلت في المدرسة ولا إيه؟

أجابت صفية وهي ترتشف من الشاي:

أبدًا, زيارة كده من واحد من الناس اللي فوق, بيقولك هيرمم المدرسة, قال يعني بيهتموا, ما كلهم بياخدوا اللقطة وخلاص!

قبل أن ترد سناء، دخل ياسين إلى الغرفة، طفل في التاسعة من عمره، يحمل كتابًا بين يديه، وقال بصوت فيه رجاء:

– ماما ممكن تقرأيلي القصة دي قبل ما أنام؟

نظرت إليه صفية، وابتسمت ابتسامة دافئة، ثم فتحت ذراعيها:

– تعالى هنا يا حبيبي، نقرأ سوا.

جلس في حضنها، وبدأت تقرأ له القصة بصوتٍ هادئٍ رخيم، بينما سناء تقف عند الباب، تراقبهما بابتسامة فيها شجن... شجن امرأة رأت الحياة تأخذ منها الكثير، لكنها تشكر الله على ما تبقّى.


وبين سطور القصة وصمت الغرفة، شعرت صفية، ولو للحظة قصيرة، أن هذا الركن الصغير في الحياة... يكفي.

❈-❈-❈

2-


كانت السماء ملبدة بالغيوم، والهواء مشبع برائحة مطر خفيف بدأ لتوّه في الهطول. أمام مدخل شركة أركان، اصطفّت السيارات على جانبي الطريق، وصوت الزحام المعتاد في وسط المدينة يملأ الأجواء.


رنا كانت تعبر الشارع بخطى متعجلة، تحتضن ملفًا صغيرًا بيدها، وفي الأخرى حقيبتها، فيما يعلو وجهها توتر واضح. نظرت إلى ساعة يدها، ثم رفعت بصرها نحو مبنى الشركة.


لم تكن تنتبه للسيارة المسرعة القادمة من الاتجاه الجانبي، والتي لم يستطع سائقها التوقف في الوقت المناسب.

صوت الفرامل ممزوجًا بصرخة مرتفعة… ثم صدمة… وسقوط.

سقطت أرضًا بجانب الرصيف، وقد ارتطمت ركبتها بالأسفلت بقوة. تهاوت الحقيبة على الأرض، وتناثر الملف منها في اتجاهات مختلفة.

في اللحظة ذاتها، كان نور يهمّ بالخروج من بوابة الشركة، حاملاً كوبًا من القهوة بيد، وهاتفه في الأخرى، حين سمع صوت الارتطام.

التفت سريعًا، واتسعت عيناه…

- يا الله, آنسة رنا؟

ركض نحوها، وانحنى فورًا بجانبها، وقد تناثرت القهوة من يده دون أن يشعر.

إنتي كويسة؟

كان وجهها شاحبًا، تتنفس بسرعة، وتمسك بركبتها اليسرى بقوة.


رجلي… مش قادرة أحرّكها, دماغي كمان واجعاني.

رفع نظره نحو السائق المرتبك الذي ترجل من السيارة:

شيلها معايا بسرعة نوديها المستشفى.

ثم التفت إليها مجددًا، وصوته أقل حدة:

متقلقيش هتبقي كويسة.

همست بألم، تحاول أن تبتلع دموعها:

بجد؟

ابتلع ريقه، وبحزن لم يستطع إخفاءه قال:

اتماسكي, الموضوع بسيط بإذن الله.

مد يده بهدوء، وسحب جاكيته ليضعه تحت رأسها، ثم جلس بجانبها في المقعد الخلفي من السيارة, قبل أن تنطلق السيارة مسرعة.

في رواق المستشفى، كانت الإضاءة باهتة، والجو مشبع برائحة معقّمات نفّاذة. ممرضون يتحرّكون بخطى سريعة، وأصوات أجهزة المراقبة تنبض برتابة ثابتة.


خلف ستارة بيضاء، كانت رنا ممددة على سرير صغير، ما تزال تحت تأثير الصدمة. ركبتها اليسرى مغطاة بجبيرة بيضاء، وآثار الخبطات واضحة على كفها وجانب وجهها.


وقف نور خارج الغرفة، يراقب من بعيد، تملأ صدره أنفاس متوترة. كان يحاول الاتصال بعائلتها، دون جدوى.

اقترب منه الطبيب شاب يبدو في منتصف الثلاثينيات، وقال بجدية:

عندها كسر بسيط في رجلها الشمال، وكدمات في الدراع. محتاجة راحة ومتابعة… بس مفيش حاجة خطر الحمد لله.


أومأ نور برأسه وقال:

ــ طيب… ممكن أشوفها؟

هز الطبيب رأسه إيجابًا، ثم مضى.

دخل نور بخطوات حذرة، ليجدها ممددة، تنظر إلى السقف في شرود.

-آنسة رنا, عاملة إيه دلوقتي؟

التفتت إليه ببطء، ملامحها باهتة ومرهقة:

ــ كويسة, ممكن تجبلي موبايلي لو سمحت أكلم بابا.

اقترب منها وجلس على الكرسي المجاور، نظر في عينيها على استحياء وقال:

ــ أنا حاولت أتصل بيهم من على موبايلك, بس محدش رد.

ضحكت ضحكة مكسورة فقد توقعت تلك الإجابة:

لا لا أكيد إنت غلطان, هات الموبايل أنا هكلمهم.

ناولها هاتفها بحزن, قبل أن تحتد نبرتها قائلة:

إنت قاعد معايا ليه؟ هو إنت اللي خبطتني؟ كنت سبتني ومشيت.

قال دون تردد، صوته صادق وبسيط:

إزاي هسيبك في موقف زي ده, ومفيش حد معاكي.

سكتت للحظة، ثم قالت:

ــ أنا مش متعودة حد يبقى معايا, أنا قوية ومش بحتاج لحد!

كانت كلماتها تشير لعمق كبير, فهمه هو دون أن تتفوه به, قال محاولًا تغيير دفة الحديث:

ممكن ترني على خطيبك, لو والدك ووالدتك مشغولين.

رغبة عارمة انتابتها الآن في البكاء إلا أنها قاومتها بصرامة:

معاك حق.


لم يمرّ وقت طويل حتى انفتح باب الغرفة بهدوء، ودخل يوسف المنشاوي، أنيقًا كالعادة، لكن ملامحه مشدودة، وعيناه تفتشان الغرفة قبل أن تستقر على رنا الممددة على السرير، وعلى نور الجالس إلى جوارها.

تقدّم بخطى ثابتة، وصوته بارد:

ــ رنا… إيه اللي حصل؟

رفعت رأسها قليلاً، ملامحها بلا تعبير:

ــ عربية خبطتني… وأنا داخلة الشركة.

اقترب أكثر، وعيناه لا تغفلان عن نور، الذي نهض بهدوء من مقعده، دون أن ينطق.

قال يوسف، بنبرة واضحة في فجاجتها:

ــ مين حضرتك؟ وبتعمل إيه هنا بالظبط؟

أجابه نور بهدوء، صوته ثابت:

ــ مهندس نور سليمان, كنت واقف عند باب الشركة… شُفتها وهي بتقع، ونقلتها للمستشفى.

ابتسم يوسف وصافحه بهدوء:

شكرًا يابشمهندس على شهامتك.

لم يرد نور، فقط نظر إليه، ثم أعاد نظره إلى رنا.

تدخّلت رنا، بنبرة متعبة:

 مسابنيش ولا لحظة من ساعة الحادثة.

نظر إليها يوسف، وشيء أشبه بالغيرة الممزوجة بالاستعلاء ظهر في صوته:

ــ كتر خيرك يا بشمهندس نور, تعبناك, أنا جيت تقدر تمشي!

نور تنفّس بعمق، ثم قال بنبرة حيادية وهو يتجه نحو الباب:

أكيد, عن إذنكم, ألف سلامة على حضرتك, ثم خرج.

نظرت إليه رنا طويلًا، بعينين تقولان ما عجز لسانها عن التعبير به، ثم أومأت برأسها بخفة.

يوسف شبك ذراعيه، وابتسم بسخرية لرنا التي كانت على وشك الانفجار:

شهم أوي نور ده!

رمقته بنظرة حادة:

مستفز أوي حقيقي.

صمت لحظات قبل أن تردف: أنا عايزة أروح الفيلا دلوقتي لو سمحت, خلي الدكتور يعملي إذن خروج.

اتسعت ابتسامته وهو يشير بسبباته نحو عينيه, واحدة تلو الأخرى, ثم خرج وأغلق الباب خلفه.


❈-❈-❈


3-


كان الليل قد أسدل ستاره على المدينة، وأضواء الشارع تنعكس على وجه نور وهو يدخل شقته بصمت، خطواته بطيئة وكأنها مثقلة بما مرّ به خلال اليوم.

فتح الباب بهدوء، فوصل إليه صوت حركة خفيفة من المطبخ.


خرجت مريم، تمسح يديها في منشفة مطبخ قديمة، وبابتسامة تلقائية قالت:

ــ إيه يا حبيبي، اتأخرت ليه كده؟ أنا قلقت عليك أوي.

نظر إليها، وعيناه تخفيان شيئًا لا تعرفه، ثم قال بصوت متعب:

ــ حصل موقف غريب أوي النهارده يا أمي.

اقتربت منه بقلق:

ــ خير؟ احكيلي يا نور قلبي.

جلس على طرف الأريكة، مرّر يده على وجهه، ثم قال:

ــ فيه بنت… واحدة من العملاء اللي المفروض بشتغل معاهم وهي داخلة الشركة، اتخبطت بعربية. كنت واقف أدام الشركة, ووديتها علطول على المستشفى.

شهقت مريم بقلق:

ــ يا ربي! طب هي كويسة؟ حصل لها إيه؟

ــ كسر في رجلها وشوية كدمات، أنا مسبتهاش فضلت معاها لحد ما اتطمنا عليها.

صمت قليلًا، ثم أردف:

ــ بس اللي صدمني بجد… إن محدش من أهلها جه. لا أمها، ولا أبوها، حاولت أتصل بيهم كتير من تليفونها ولا حد رد, ولا كأنها بنتهم.

مريم جلست بجواره وربتت على كتفه:

ــ يا حبيبتي يا بنتي, معلش لازم نلتمس ليهم العذر يابني, الله أعلم بظروفهم.

همس بخفوت: معاكَ حق!

نظرت إليه نظرة بها حنان الدنيا ثم قالت:

ــ عارف يا نور, قدر ربنا كله خير يا ابني, بتشوف حاجات ظاهرها شر لكنها مليانة خير, ممكن منشوفوش وقتها, بس لازم نبقى متأكدين من كده.

تنهد بعمق، وقال بصوت أقرب للهمس:

ونعم بالله, عندك حق يا مرمر, قوليلي صحيح الريحة الحلوة اللي مالية الشارع كله دي مسقعة؟

ابتسمت بخجل: أه يا حبيبي, يالا بقى قبل ماتبرد, غير هدومك لحد أغرفلك الأكل.

قبّل رأسها: 

ربنا مايحرمني منك ياست الكل.

- ولامنك يا نور قلبي.

❈-❈-❈

4-


كان صباحًا رماديًا في كلية التجارة، والسماء معلّقة بسُحب ثقيلة توحي بأن المطر قادم لا محالة. الهواء بارد لدرجة تجعل الأنفاس تُرى كخيوط دخان خفيف، تتصاعد من صدور الطلبة وهم يتحركون في الساحة الواسعة ببطء، ملفوفين في معاطفهم الصوفية والكوفيات المتشابكة حول أعناقهم.


هدى كانت تجلس على أحد الدرجات الحجرية القريبة من الكافيتريا، ملتفّة بمعطف ثقيل لونه كحلي، ونظارتها الشمسية التي لا تفارقها حتى في غياب الشمس، مرفوعة فوق شعرها المنسدل.

إلى جوارها، جلست سارة، وصديقتان أخريان، يضحكن من شيء ما قيل للتو، بينما يد كل واحدة منهن تحتضن كوبًا بلاستيكيًا من الشاي الساخن.

قالت سارة، وهي تهمس بالقرب من أذن هدى:

هتخرجي مع زين انهارده برده؟

ضحكت هدى بخفة، ونظرت إلى أظافرها المطلية بلون رمادي:

- وهو يقدر يستغنى عني ولو يوم واحد.

- يابنت المحظوظة ومش أي حد ده زين الناجي.

هزّت هدى كتفيها بلا اهتمام ظاهر، لكنها لم تخفِ ابتسامة صغيرة تشكّلت في طرف شفتيها.

في تلك اللحظة، كان آدم يجلس على الطرف الآخر من نفس السلم، قريب كفاية ليسمع الحديث، لكنه تظاهر بأنه منشغل بدفتر صغيرة بين يديه. كان يرتدي جاكيت رمادي خفيف، وشعره لا يزال مبللًا من بخار المطر الخفيف الذي سقط منذ قليل.

رفع رأسه فجأة، ونظر نحو هدى.

شعرت بنظرته، لكنها لم تلتفت فورًا.

كأنها توقعت وجوده, أو لا تهتم!

ثم استدارت نحوه ببطء، وقالت بنبرة باردة:

ازيك؟

ابتسم بود لم يصطنعه:

- كويس الحمد لله، إنتِ عاملة إيه؟

- الحمدلله, عندك محاضرات لسه؟

- أه لسه آخر محاضرة.

أومأت برأسها, ثم عاد كل منهما إلى صمته، كأنّ ما بينهم كان يجب أن ينتهي عند هذا الحد.

وقبل أن يُقال المزيد…

رنّ هاتفها, نظرت إليه بسرعة، وابتسمت ابتسامة واسعة:

- عن إذنكم بقى, زين وصل.

نهضت وهي تربت على معطفها، ثم عدّلت شعرها قليلًا، وتوجهت بخطى ثابتة نحو بوابة الكلية.

سيارة سوداء فخمة كانت تنتظر بالخارج.

أضواءها تلمع رغم ضوء النهار، وزجاجها الملوّن يخفي الداخل.

فتحت الباب الأمامي، وجلست دون أن تنظر خلفها.

زين شاب يتمتع بهالة من الثقة والجاذبية التي لا تخطئها العين. ملامحه حادة وملفتة، وعيناه تلمعان بذكاء وفطنة، يرتدي قميصًا أسودًا، يلتف حول جسده بتناسق, أما الساعة الفاخرة التي تزين معصمه فهي ليست مجرد أداة لمعرفة الوقت، بل رمزًا لذوقه المترف. 

خطواته الواثقة وتعبير وجهه المتمرد يجعلان كل من حوله يشعرون بأنه قائد في مجاله، ولا عجب أن كل البنات تجري وراءه، مجذوبات بحضوره وسحره الذي لا يُقاوم.

سألها بابتسامة على وجهه:

- تحبي تروحي فين؟

- أي حتة معاك حلوة.

انطلقت السيارة ببطء، تاركة خلفها نظرات آدم التي كانت تتبعهم!

اسندت رأسها للخلف وهي تسحب نفسًا عميقًا. رائحة الجو الممطر امتزجت بعطر رجالي قوي، فيه لمسة فانيليا، وطابع غامض... يشبه صاحبه.

ألقى زين نظرة سريعة عليها، وهو يعدّل المرآة الجانبية ثم قال بنبرة خفيفة:

- مش ناوية نروح شقتي بقى عشان نبقى براحتنا بدل الأماكن العامة المزعجة دي؟

نظرت إليه بثبات، ثم رفعت حاجبيها:

- إنت بتهزر؟ ما إنت عارف إن المبدأ ده مرفوض!

ضحك زين وهو يضغط على دواسة البنزين بخفة:

- مفيش مشكلة يا دودو, المهم أنا انهارده محضرلك حتة خروجة تجنن.

لفت وجهها نحوه بحماس طفولي:

- قول بسرعة.

قال زين، وهو يشغّل التكييف على درجة دافئة:

- اتقلي وهتعرفي كل حاجة.

ثم مدّ يده، وأخرج من الجيب الجانبي ظرفًا صغيرًا:

دي دعوة لبارتي في الفيلا يوم الجمعة والشلة كلها هتكون موجودة, بس المفاجآت الشهر ده غير الشهر اللي فات خالص.

أخذت الدعوة منه بفرح، ثم قالت وهي تنظر فيها:

- ناويين تخترعوا إيه المرة دي كمان, مش كفاية الكوارث بتاعت كل شهر.

أطلق ضحكة قصيرة ثم قال بثقة:

- مفاجآة هتعجبك أوي.

اتسعت ابتسامتها, لكن داخل قلبها، كان هناك شيء يتحرك… لا تعرف هل هو تحذير؟ أم مجرد فضول؟


❈-❈-❈

5-


كانت السماء لا تزال ملبّدة بالسُحب الرمادية، والهواء مشبّع برائحة المطر العالق على أوراق الشجر، حين توقفت سيارة يوسف المنشاوي أمام بوابة فيلا الجارحي.


هبطت رنا من السيارة ببطء، تستند على عصا خفيفة ناولها لها الطبيب بعد تركيب الجبيرة، وحقيبة يدها تتأرجح بتعب واضح من كتفها المصاب.

يوسف ترجل معها، يفتح لها الباب الحديدي الخارجي بنفسه، للمرة الأولى دون أن يستدعي حارس الفيلا أو السائق.

سألها:

- هتقدري تمشي لوحدك؟

ردّت دون أن تنظر إليه:

- اه.

فتحت الخادمة الباب من الداخل، وارتبكت قليلًا حين رأت الجبيرة والعصا.

- أهلاً آنسة رنا… ألف سلامة على حضرتك... إيه اللي حصل؟

قبل أن ترد رنا، كان صوت والدتها، ميسون هانم، ينزل من أعلى الدرج، هادئًا، معتادًا، بلا أي لهفة:

- خير, إيه اللي حصل يا رنا؟

رفعت رنا عينيها نحو أمها، تنتظر أن تراها تهبط بسرعة، أو تمد يدها لمساعدتها… لكن لا شيء من هذا حدث.

ردّت، بصوت متهدّج:

- حادثة بسيطة.

ظهر والدها في الصالة، يطالعها من فوق الجريدة:

- والرجل اللي عمل كده سيبته يايوسف؟

قال يوسف بهدوء:

- متقلقش يا عمي, كله تحت السيطرة.

نظر سليم الجارحي إلى يوسف، ثم إلى ابنته، وقال بنفس النبرة التي يستعملها حين يناقش صفقة خاسرة:

- ابقي خلي بالك بعد كده, كفاية استهتار! 

ردّت رنا، وهي تنزع شالها بعصبية:

- متقلقش يا سليم باشا مش هتتكرر.

رمقها بنظرة حادة, دون أن يرد.

تقدمت ميسون بخطوات باردة، مدت يدها نحو حقيبة ابنتها:

- روحي ارتاحي شوية… وبلاش دراما.

رنا لم ترد. لم تبكِ. لم تعلّق.

فقط نظرت إلى يوسف، كأنها تقول له بنظرة واحدة:

هذه عائلتي!

أما هو، فابتسم ابتسامة مجاملة، وقال:

أنا هابقى أطمن عليكِ بكرة… تصبحوا على خير.

خرج من البيت, يفكر قليلًا, ويسأل نفسه:

ماهذا الجفاء؟ أهكذا تُعامل رنا؟ وليس في أي وقت بل أشد الأوقات احتياجًا للرحمة, لكنها لم تنلها.

صمت للحظة قبل أن يجد الرد تلقائيًا:

- إنها سلبية, هي من رضيت بذلك, فلا تستحق غيره!


❈-❈-❈

6-


كانت شمس الظهيرة تتسلل بخجل عبر زجاج النوافذ، ترسم خطوطًا ذهبية على الأرضية القديمة للممر، كأنها تراقب بخفة كل من يعبر المكان. في تلك اللحظة، كانت صفية تسير بخطى ثابتة، تمسك بعددٍ من الأوراق المثبتة بمشبك صدئ، وعقلها غارق في بحر من الأفكار المتراكمة.

حين بلغت باب الإدارة، توقّفت لحظة، رتّبت أنفاسها، ثم طرقت الطرقات الثلاث المعتادة. جاءها صوت المدير، كعادته جافًا سريعًا:

اتفضل.

دفعت الباب برفق، ودخلت… ولم يكن في حسبانها أن تراه.

كان يوسف جالسًا، كتفاه مرتخيتان قليلًا، وعيناه تتبعان حركتها دون أن يُظهر دهشة.

كان وسيم الملامح وذو حضور قوي. يرتدي بدلة داكنة أنيقة وقميصًا أبيض ناصعًا، مع ربطة عنق رفيعة وحذاء جلدي مصقول. عيونه تحمل ثقة هادئة، وحركاته تنم عن هيبة وجاذبية طبيعية تجذب الأنظار.

تجمّدت خطواتها للحظة خاطفة، لكنها أخفت ارتباكها سريعًا بابتسامة قصيرة.

قال المدير، وهو يُقلب أوراقًا أمامه:

إحنا ابتدينا نجهّز للمبادرة الجديدة مع الإدارة التعليمية… وهيبقى في شغل على المحتوى مع فريق التطوير، اللي على رأسهم الأستاذ يوسف.

لم تُجب، أومأت برأسها، في انتظار التفاصيل.

قال يوسف بصوت خفيض، لكن يحمل نبرة هادئة غريبة عنها:

احنا محتاجين نحط خطة تدريبية للمعلمين، وحضرتك هتكوني مسئولة عنها… فهنحتاج نشتغل سوا كتير شوية الفترة الجاية.


نظرت إليه، لم يكن صوته كما عهدته، ولا نظراته تلك النظرات الحادة. شيءٌ ما قد تغيّر.

قالت، وهي تعدّل حافة الورقة بين يديها:

مافيش مشكلة… حضرتك بلغني بالتفاصيل، ونتفق على الخطوات بإذن الله.

قال المدير بنبرة جدية:

خدي رقم أستاذ يوسف عشان تنظموا الأمر ده يا أستاذة صفية, أنا رشحتك لإنك من المتميزات عندنا في المدرسة, وعارف إنك هتكوني على قدر من المسئولية.

ساد الصمت برهة، وكأن الهواء نفسه انتظر ردة فعلها.

أخرج يوسف هاتفه من جيبه، ومدّه ناحيتها، وهو يقول بنبرة تحمل شيئًا من المزاح الخفيف:

قولي رقمك, صحيح, اسجله أستاذ صفية لغة؟

لم تستطع منع الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها، لكنها خفضت نظرها للحظة، ثم قالت:

صفية جابر.

دوّن الرقم بصمت، وأرسل لها رسالة فورية. رنّ هاتفها برسالة قصيرة:

ده رقمي. يوسف تطوير.

رفعت عينيها إليه، صادفت نظرة سريعة، غير مقصودة، لكنها محمّلة بتساؤلات غير منطوقة.

همس، وهو ينظر بعيدًا كأنه يحاول تخفيف وطأة الموقف:

إن شاء الله الشغل ده يبقى بداية كويسة, والمدرسة تتنقل نقلة تانية.

لم ترد. فقط أومأت برأسها بخفة، ثم استدارت تغادر، وصوت خطواتها يتلاشى شيئًا فشيئًا في الممر الطويل.

لكنها لم تكن كما دخلت.

كانت تحمل بين جنباتها شيئًا صغيرًا… ربما لمحة من فضول، أو رعشة خفيفة في قلبٍ ظنّته قد صار هادئًا للأبد.

❈-❈-❈

7-

كان اليوم رماديًا، لا شمس فيه ولا مطر. فقط هواء بارد يتسلل من بين نوافذ الشقة القديمة، يمرّ على أطراف مريم المرتجفة وهي تجلس أمام ماكينة الخياطة، في محاولة يائسة لإنهاء قطعة زبونة، لكن عينيها لم تعدا قادرتين على التركيز، ويديها خذلتاها أكثر من مرة.


ثم، فجأة، اجتاحها دوارٌ حاد. شعرت وكأن جدران الغرفة تميل، والصوت من حولها يتحول إلى همهمة باهتة. وضعت يدها على صدرها، حيث وخزٌ مألوف بدأ يستيقظ، لكن هذه المرة كان أشد… أعمق.

ارتخت رقبتها قليلًا، ثم أغمضت عينيها للحظة، ظنّت أنها قصيرة، لكنها لم تدرك كم مر من الوقت حتى سمعت طرقًا على الباب.

فتحت الباب بصعوبة، وعلى وجهها ابتسامة باهتة، تحاول أن تُخفي الوجع.

كانت جارتها ناهد التي رفعت حاجبيها بدهشة فور ما رأتها:

وشك أصفر أوي… إيه ده؟ إنتي تعبانة؟

قالت بصوت مبحوح:

"لا لا… شوية دوخة بس. متقلقيش

لكن ناهد لم تقتنع، وضعت يدها على جبهتها، ثم أمسكت بذراعها قائلة:

غيري هدومك… هنروح المستشفى. بلاش لعب عيال.

ورغم اعتراض مريم الخافت، كانت قد وصلت إلى النقطة التي لم تعد فيها تملك الرفض.

في رواق المستشفى الحكومي البسيطة التي تجاور منزلهم, كان هناك ضوء أبيض باهت، رائحة مطهّرات، وساعة حائط تكاد تتوقف.

جلست على السرير, راحت تُحدّق في الأرض بينما الممرض يملأ بياناتها.

أُدخِلت إلى غرفة الكشف بعد دقائق، حيث التقاها طبيب خمسيني، ملامحه مرهقة، لكن صوته كان هادئًا.


فحصها، سألها عن التاريخ الصحي، ضغط الدم، الوزن الذي نقص بشكل ملحوظ… ثم طلب تحاليل دم وأشعة صدر مبدئية.

قال بصوت رخيم:

هنطلب شوية فحوصات… فيه مؤشرات محتاج نطمن عليها أكتر. احتمال نحتاج أشعة تانية بعد كده.

همست بقلق واضح:

حضرتك شاكك في إيه يادكتور؟

ابتسم بود:

مافيش حاجة مؤكدة دلوقتي. بس الأحسن نكمل تحاليلنا الأول… ما نستعجلش في الحكم.

أومأت برأسها، لكنها شعرت بالبرد يتسلل إلى داخلها أكثر من أي وقت مضى…

كأن قلبها بدأ يعرف ما يخبئه الجسد، لكنه يرفض أن يصدق.


خرجت من غرفة الفحص، وناهد ما زالت تنتظرها في الخارج، واقفة كالصخر، ممسكة بكيس صغير من العصير.

اقتربت منها مسرعة, سألتها والقلق يعتريها:

قالك إيه؟ طمنيني؟

مافيش… شوية أنيميا بس, محتاجة أكل كويس. 

لكن داخلها، كان شيءٌ آخر ينهار بهدوء.


ولأول مرة، شعرت مريم أن الزمن أصبح ضيقًا… أضيق من خيط الإبرة الذي أفلت منها صباحًا.

لم يصلها باقي كلمات ناهد التي أصرت أن تُعد لها طعامًا من المرق واللحم, حتى تستعيد عافيتها, لكنها شردت بعيدًا, والأسئلة تتقاذف لذهنها واحدًا تلو الآخر, دون إجابة!

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة يارا علاءالدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة