رواية جديدة مملكة الرماد لتوتا محمود - الفصل 1 - الجمعة 6/6/2025
قراءة رواية مملكة الرماد كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية مملكة الرماد
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل الأول
تم النشر يوم الجمعة
6/5/2025
لا شيء يبدأ ببساطة هنا...
فكل بداية في "مملكة الرماد" تُولد من نهاية موجعة
كل نفس تأخذه الشخصيات هو محاولة للبقاء،
وكل خطوة... تقترب بهم من مصير لا يشبه الحكايات المعتادة.
في هذا الفصل، لن تجد إجابات، بل أسئلة.
لن ترى بطلاً، بل قلبًا يرتجف بين الحطام.
ومع كل سطر... سيتغير شيء بداخلك.
أرجوك، لا تقرأ بعينيك فقط.
اقرأ بقلبك، بجراحك القديمة، بكل الذكريات التي تظن أنك نسيتها.
وعندما تصل إلى آخر كلمة...
اترك لي أثر شعورك.
أي جملة أحببتها، أي لحظة أوجعتك، أي تفصيلة سكنت قلبك.
لأن هذه الرواية لا تكتمل بدونك.
فلتدخل الآن... على مهل،
واستعد لأن تسمع أول صرخة من الرماد.
❈-❈-❈
كانت الشمس تغرق ببطء في الأفق، تسكب أشعتها الذهبية على أسوار المملكة كأنها تودّعها بلحظاتها الأخيرة قبل أن يغمرها الظلام.
انعكست تلك الأشعة على القصر العظيم الذي وقف شامخًا وسط البلاد، كأن جدرانه تحكي قصص الملوك الذين عبروا من هنا، والأبطال الذين سقطوا دفاعًا عنه.
كانت هذه الأرض أكثر من مجرد مملكة يحكمها "ملك بن أدم"، بل كانت روحه، امتدادًا لكيانه، وموطنًا لكل ما أحبّه في هذه الحياة.
في شرفات القصر، حيث تهب الرياح برائحة التوابل والورود القادمة من حدائقه، وقف ملك يتأمل المشهد أمامه، عيناه تحملان مزيجًا من القوة والتأمل.
لم يكن مجرد أمير ووريث للحكم، بل كان فارسًا قبل كل شيء، رجلًا صقلته المعارك قبل أن يصقلته السياسة.
اسمه لم يكن مجرد لقب، بل كان يحمل ثقلًا يليق بمن سيحمل التاج يومًا ما.
والده، الملك أدم، كان يجلس في القاعة الملكية، يتأمل الأوضاع بنظراته الحكيمة.
رجلٌ صارم، ملامحه محفورة بالأيام، تروي تجاعيد وجهه قصص الحروب والممالك التي أخضعها، لكن عينيه كانتا تحملان ذكاءً يفوق حد السيف.
كان يؤمن بأن العرش لا يُحفظ بالقوة فقط، بل بالدهاء والعقل.
على النقيض تمامًا، كان يعقوب، الأخ الأصغر لملك.
لم يكن يحب الحروب، ولم يجد نفسه في ساحات القتال.
كانت روحه شاعرًا، تائهًا بين الكتب، يرى العالم بريشة فنان لا بسيف محارب.
ومع ذلك، لم يكن هناك شيء يحبه ملك أكثر من هذا الأخ المختلف عنه تمامًا، كان يحميه كما يحمي المرء قلبه، يراه طفله المدلل حتى وإن صار رجلاً.
ثم كانت هناك "ليان"، المرأة التي أشعلت قلب ملك بحبٍ لم يعرفه أحد قبله.
لم تكن أميرة، لم تحمل دماءً ملكية، لكنها كانت كل ما يملك، روحه التي تسير على الأرض.
واجه العالم من أجلها، تحدّى الجميع ليكون معها.
كانت نورًا في لياليه الطويلة، ودفئًا في أيامه القاسية، وكانت أمًا لثلاثة أبناء كانوا أثمن ما في حياته.
أما سيف، فكان أكثر من مجرد صديق، كان السيف الذي يحمي ظهره في المعارك، والرجل الذي يفهمه دون الحاجة إلى كلمات.
لم يكن مجرد تابع أو قائد في جيشه، بل كان أخًا لم تلده أمه، رجلًا يقرأ العدو قبل أن يتحدث، ويحفظ تحركات ملك كما يحفظ دقات قلبه.
القاعة الملكية، قلب الحكم ومسرح القرارات الكبرى
كانت القاعة الملكية تعجّ بالأحاديث، أصوات القادة تتداخل مع ضوضاء الحراس، وأعمدة القصر العظيمة تعكس ضوء المشاعل المضاءة على الجدران المزخرفة.
في وسط هذه الأجواء الجادة، جلس ملك بجوار والده، يستمع إليه بانتباه، وعيناه تتابعان كل تفصيلة صغيرة في حديثه.
قال الملك أدم بنبرة ثابتة تحمل ثقل الحكم :
ـ علينا أن نحافظ على تحالفاتنا، لا يمكن للحرب أن تستمر إلى الأبد، السلام هو ما نحتاج إليه الآن.
هزّ ملك رأسه موافقًا، لكنه لم يكن متأكدًا إن كان الأعداء يؤمنون بالسلام كما يؤمن به والده.
السياسة كانت رقصة معقدة، والملوك لا يقدمون يد السلام إلا إذا كانوا يخفون الخنجر في اليد الأخرى.
قبل أن ينتهي الحديث، فُتح باب القاعة ودخل أحد الجنود، جسده مستقيم بانضباط عسكري، وانحنى بانحناءة محترمة قبل أن يقول بصوتٍ ثابت:
ـ مولاي، وصل رسولٌ من مملكة إيراثيا، يطلب حضور الأمير ملك لاجتماعٍ عاجل مع الملك هناك.
عمّ الصمت للحظات، وكأن الجميع يحاول تحليل المعنى الخفي وراء هذا الطلب.
إيراثيا لم تكن مملكة تهوى الاجتماعات الودية، وإذا طلب ملكها لقاءً عاجلًا، فلا بد أن هناك شيئًا يدور في الخفاء.
رفع الملك الأدهم عينيه نحو ابنه، نظر إليه نظرة طويلة، كأنه يزن قراره قبل أن يسأله بحزم:
ـ ما رأيك، يا معتصم؟
تنهد ملك، ثم قال بصوتٍ يحمل مزيجًا من الثقة والجدية :
ـ إن كانوا يريدون الاجتماع، فهذا يعني أن لديهم ما يقولونه، لا يمكننا تجاهلهم.
أومأ الملك أدم برأسه، لكن صوته حين تحدث كان يحمل تحذيرًا واضحًا، تحذيرًا لم يكن مجرد كلمات عابرة:
ـ لكن كن حذرًا، فالسياسة ليست دائمًا ما تبدو عليه.
كانت هذه آخر كلمات والده قبل أن يقف ملك مستعدًا للرحيل.
نظر إلى والده نظرة عميقة، ثم التفت حيث كان عليه أن يودّع من يحب قبل أن يغادر.
لم يكن يعلم أن هذه الليلة، تحت سماء مملكته، ستكون الأخيرة التي يراهم فيها جميعًا.
❈-❈-❈
في الغرفة المجاورة، حيث الهدوء لا يعكره سوى صوت تقلب الصفحات، كان يعقوب يجلس على مقعده المعتاد بجوار النافذة، غارقًا في عالمه الخاص بين سطور الكتب.
كانت القراءة هوايته المفضلة، ملاذه الآمن بعيدًا عن تعقيدات السياسة وصخب المعارك.
رغم أنه تعلّم فنون القتال والمبارزة، وأتقن استخدام السيف مثل أي أمير في المملكة، إلا أن قلبه لم ينجذب يومًا إلى عالم الحروب، لم يجد نفسه في صوت التصادم بين المعادن، ولا في صرخات النصر والهزيمة.
على الطاولة أمامه، تراكمت الكتب القديمة والمخطوطات النادرة، بعضها يتحدث عن تاريخ الممالك، وبعضها عن فلسفة الحكم، لكن الكتاب الذي كان بين يديه الآن كان شيئًا مختلفًا مجموعة قصائد قديمة، تحمل بين طياتها عالماً من المشاعر التي لا يفهمها سوى قلبٌ مثل قلبه، يبحث عن الجمال حتى في أكثر العوالم ظلامًا.
قطع تأمله في الكلمات صوت ضحكات صغيرة قادمة من الممر، قبل أن يُفتح الباب بقوة، ويقتحم الغرفة ثلاثة أطفال صغار بوجوه تضيئها الحماسة.
ابتسم يعقوب تلقائيًا، وأغلق الكتاب وهو يفتح ذراعيه لهم، فما إن رأوه حتى ركضوا نحوه بعفوية، وأحاطوه بأذرعهم الصغيرة، ضاحكين بحب.
ـ لقد كنا نبحث عنك، عمي أين كنت؟
صرخوا جميعًا في وقت واحد، فهزّ يعقوب رأسه بمرح، وضحك وهو يربت على رؤوسهم واحدًا تلو الآخر:
ـ كنت هنا، يا محاربيّ الثلاثة، لم أخرج إلى أي مكان
كان جلال، أصغرهم وأكثرهم تعلقًا به، ينظر إليه بعينين متألقتين بالحماس، ثم قفز قائلاً بسعادة :
ـ سنلعب اليوم أيضًا، أليس كذلك، عمي؟
لكن قبل أن يتمكن يعقوب من الرد، قاطعهم صوت خطوات هادئة، تبعها انحناءة محترمة من إحدى الخادمات عند الباب، ثم قالت بصوتٍ مهذب :
ـ أميرتي، "ليان" زوجة الأمير معتصم، قادمة.
ما إن نطقت الخادمة باسمها، حتى تراجع الأطفال بحماس، وكأنهم يعرفون أن شيئًا مهمًا على وشك الحدوث.
دخلت ليان إلى الغرفة بهدوء ملكي، كانت امرأة ذات حضور هادئ لكنه مهيب، تحمل في ملامحها ذلك التوازن بين الرقة والقوة.
عيناها البنيتان حملتا لمعة خفيفة، وكأنهما تحاولان إخفاء شيء من القلق.
اقتربت من أطفالها، ثم انحنت قليلًا لتكون في مستواهم، ومسحت على رؤوسهم بحنان قبل أن تقول بنبرة دافئة، لكن حازمة :
ـ أطفالي، والدكم سيرحل بعد قليل، تعالوا لنراه قبل أن يغادر إلى إيراثيا.
ساد الصمت للحظة قصيرة، قبل أن تومض عيون الأطفال بالحزن الطفولي، لكنهم لم يعترضوا، فقد تعودوا على غيابات والدهم في أمور الحكم والسياسة، ومع ذلك، كانوا يدركون أن كل وداع قد يطول أكثر مما يتوقعون.
رفعت ليان عينيها نحو يعقوب، نظرتها حملت شيئًا إضافيًا، كأنها تخبره دون أن تنطق بأن عليه أن يأتي أيضًا.
ثم أكملت بصوت أكثر رقة، لكنه لم يكن مجرد طلب بل كان أمرًا ناعمًا:
ـ وأنت أيضًا، يا يعقوب، تعال معنا.
نظر يعقوب إليها للحظة، ثم أومأ برأسه بصمت، ووضع الكتاب جانبًا قبل أن يقف.
كان هناك شيء غريب في الطريقة التي جاءت بها ليان، في هذا الرحيل المفاجئ لشقيقه، لكن لم يكن لديه وقت للتفكير الآن.
خرج معها، وأطفال أخيه يركضون أمامهم ببراءة، لكن بينما كان يسير في الممر الطويل المؤدي إلى القاعة الكبرى، كانت أفكاره تتشابك، وعقد حاجبيه بحيرة.
لماذا يغادر معتصم بهذه السرعة؟
كان يعلم أن السياسة متقلبة، وأن الاتفاقيات بين الممالك تُعقد وتُلغى في لحظات، لكن هناك شيء ما لم يكن على ما يرام.
ورغم أنه لم يعرف الإجابة بعد، إلا أن قلبه أخبره بأن هذه الرحلة ليست مجرد اجتماع عابر، بل بداية لشيء سيغير كل شيء.
❈-❈-❈
كان الليل قد بدأ يبسط جناحيه على القصر، والنجوم تتلألأ في السماء كأنها عيون تراقب الأرض بصمت.
الهواء الليلي كان يحمل نسمات باردة، تعبث بخصلات الشعر، وتُحرّك الأعلام المعلقة على أسوار القصر برفق.
في باحة القصر الواسعة، وقف ملك المعتصم بالله، يلفّه سكون اللحظة التي تسبق الرحيل.
أمامه، كانت ليان تقف بثبات، لكن عيناها خانتا هدوءها المعتاد.
كان فيهما قلق صامت، كأنها تقرأ في الغيب شيئًا لا يراه أحد سواها.
قالت بصوت خافت، كأنها تحاول أن تخفي ارتجافة في نبرتها:
ـ لا تُطل الغياب، الأطفال لن يهدأوا حتى تعود.
ابتسم ملك، تلك الابتسامة التي كانت دائمًا تحمل طمأنينة خفية، ورفع يده ليمسح على شعرها برفق، كما كان يفعل كلما أحست بالقلق.
ـ سأعود أسرع مما تتوقعين، وأعدكِ أنني لن أتأخر.
لكنها لم تبتسم، كان في عينيها حديث آخر، لم تفصح عنه بالكلمات، لكن ملك قرأه جيدًا.
ربما لم يكن يريد الاعتراف به، ربما لم يكن مستعدًا لسماع ما تخشاه.
همست بصوت بالكاد يُسمع:
ـ لدي شعور سيئ هذه المرة، لا أدري لماذا، لكنه يطاردني منذ علمت أنك ستغادر.
لم يكن شعورها وليد اللحظة، كان منذ أن وصل خبر الاجتماع المفاجئ من إيراثيا.
كان إحساسًا غامضًا، لكنه قوي، كأنه تحذير من شيء لم يحدث بعد، لكنه يقترب بخطى ثابتة.
شدّ ملك على يدها، محاولًا زرع الثقة في قلبها، وقال بحزم:
ـ أنا أقوى مما تظنين، لن يستطيع أحد المساس بي.
لكن حتى كلماته لم تكن كافية لإزالة ذلك الاضطراب من عينيها.
جثا على ركبتيه أمام أطفاله الثلاثة، ضمّهم واحدًا تلو الآخر، قبل جباههم الصغيرة بحنان، كأنه يطبع وعدًا غير منطوق بحمايتهم.
كانت أيديهم الصغيرة تتشبث به، كأنها ترفض أن تتركه يرحل، لكنه ابتسم لهم، وطمأنهم كما يفعل دائمًا، حتى ركضوا إلى والدتهم ليختبئوا بين ذراعيها.
عندما وقف، التقت عيناه بعيني أخيه يعقوب.
كان يقف بعيدًا، لكن نظرته لم تكن عادية، كانت تحمل شيئًا لم يستطع ملك تفسيره.
ـ يعقوب
اقترب يعقوب بخطوات بطيئة، كأن قلبه كان يثقله بشعور لم يفهمه بعد.
وقف أمام أخيه، حدّق في عينيه للحظة، ثم قال بصوت هادئ لكنه مشوب بالتردد :
ـ لا أريد أن أكون متشائمًا، لكن احذر يا أخي، لست مطمئنًا لهذا الاجتماع المفاجئ.
ربّت ملك على كتف أخيه، وابتسم تلك الابتسامة التي اعتاد أن يراها يعقوب كلما كان هناك خطر يقترب.
ـ أنا دائمًا أحذر، لا تقلق، سأعود قريبًا.
لكن شيئًا في الطريقة التي عانقه بها، في شدّة ذراعيه حوله، جعل يعقوب يتجمد للحظة.
كان شعورًا غريبًا، كأنه يودّعه للمرة الأخيرة.
تردد يعقوب للحظة، لكنه ردّ العناق بنفس القوة، وأغمض عينيه وهو يدعو من كل قلبه أن يعود شقيقه سالمًا، ألا يصيبه أي أذى.
وعندما ابتعد عنه أخيرًا، شعر أن هذا الوداع كان مختلفًا، لكن لماذا؟ لم يكن يعرف.
عندما استدار الملك المعتصم بالله ليغادر، لاحظ وجود شخص آخر لم يقل له وداعًا بعد.
كان يقف بجوار جواده، ذراعيه معقودتان على صدره، وعيناه تعكسان قلقًا لم يحاول إخفاءه.
سيف.
كان صديقه ورفيق سيفه، الرجل الذي يعرفه أكثر مما يعرف نفسه.
لم يكن من النوع الذي يُجيد التعبير عن مشاعره بالكلمات، لكنه كان واضحًا بما يكفي لمن يفهمه.
سأله سيف بصوت خافت، لكنه كان كافيًا ليصل إلى أعماقه:
ـ أتظن أنهم يريدون السلام فعلًا؟
ابتسم ملك ابتسامة جانبية، نظرة ساخرة مرت في عينيه، ثم قال بنبرة تحمل من الحكمة بقدر ما تحمل من السخرية:
ـ لا أحد يريد السلام حقًا، لكن الجميع يدّعي ذلك.
لم يضحك سيف، لم يكن يرى في الأمر سخرية.
مدّ يده وأمسك بزمام الفرس للحظة، وعيناه لا تزالان تحيطان صديقه بنظرة ثابتة.
ثم قال بصوت خافت لكنه كان واضحًا كالسيف القاطع:
ـ لو تأخرت عن العودة يومًا واحدًا، سأعتبرك في خطر، وسآتي لأقتلك بنفسي.
ضحك ملك، ضحكة صادقة هذه المرة، وضرب كتف صديقه برفق قبل أن يعتلي جواده.
كان يشعر بثقل نظراتهم جميعًا، نظرات تحمل أكثر مما تنطق به الكلمات.
بدأ الجواد يسير، خطواته تطرق بلاط القصر بصوت متزن، لكنه كان الصوت الأخير الذي سيسمعه هؤلاء منه.
كان يسير بعيدًا، متجهًا نحو بوابة القصر، نحو المجهول، غير مدرك أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي يرى فيها وطنه كما هو.
وأن ما ينتظره هناك، سيغير كل شيء.
❈-❈-❈
كان الليل قد بلغ ذروته، والسماء فوق القصر امتدت كلوحة حالكة لا يُضيئها سوى أنفاس النجوم المتناثرة.
النسيم الليلي كان يهمس بأسرار مجهولة، يُحرك أعلام المملكة الثقيلة فوق الأبراج العالية، ويجعل المشاعل المضاءة عند الممرات تتراقص كأنها تحذر من شيء لم يأتِ بعد.
في ذلك الظلام المهيب، كان ملك المعتصم بالله يعتلي جواده، يقود قافلته نحو المجهول، بينما خلفه تتراقص ظلال الرجال والخيل على ضوء المشاعل الأخيرة للقصر.
كانت أصوات حوافر الخيول تدوي على أرضية الممرات الحجرية، تترك صدى يختلط مع نبضات القلق التي لم تُفارق القلوب التي ودعته قبل قليل.
رغم هدير الخيول، ظلّ ذهنه عالقًا في تلك اللحظات الأخيرة في القصر.
في وجه ليان، في القلق الذي لم يغادر عينيها، في كلماتها الخافتة التي تسللت إلى قلبه كتحذير لم يكن يعرف كيف يتجاهله.
"لدي شعور سيئ هذه المرة... لا أدري لماذا، لكنه يطاردني منذ علمت أنك ستغادر."
ثم في حضن أطفاله، في أيديهم الصغيرة التي تشبثت به للحظة أطول من المعتاد، كأنهم شعروا بما هو قادم قبل حتى أن يراه أحد.
وفي يعقوب، في عناقه المشحون بشيء لم يكن مجرد خوف، بل كان شيئًا أقرب إلى الوداع.
وأخيرًا، في كلمات سيف الجافة، لكنها الأكثر صدقًا من بين الجميع.
"لو تأخرت عن العودة يومًا واحدًا، سأعتبرك في خطر، وسآتي لأقتلك بنفسي."
ابتسم ملك وهو يضغط على لجام حصانه، كأن ضحكته الساخرة تحاول أن تتغلب على القلق الذي بدأ يتسلل إلى داخله.
لم يكن رجلاً يخاف بسهولة، لكنه لم يكن أحمقًا أيضًا.
يعلم أن السياسة لعبة قذرة، وأن السلام الذي يُعرض عليه بهذه السرعة قد يكون فخًا مغلفًا بورق من ذهب.
لكن هذا واجبه.
إن كان هناك خطر، فهو سيواجهه بنفسه، كما فعل دائمًا.
خرجت القافلة من بوابة القصر الحديدية الضخمة، التي فتحت بأصوات خشنة أشبه بالأنين، كأنها ترفض رحيله.
كان الطريق أمامهم مظلمًا، ممتدًا بلا نهاية، محفوفًا بغموض يزداد كلما ابتعد عن وطنه.
كان الليل هادئًا، أكثر هدوءًا مما يجب أن يكون عليه.
كان يمكنه سماع أنفاس خيله، وصوت الرياح التي تعبر السهول القريبة.
كل شيء كان طبيعيًا، أكثر من اللازم.
لكن شيئًا ما كان خاطئًا.
لم يكن يعرف ماذا، لكنه شعر به.
إحساس خفي، كأن الأرض نفسها تتنفس بطريقة غير منتظمة، كأن العالم يتهيأ لانفجار لم يحدث بعد.
وفي الأفق البعيد، حيث لم يكن بإمكانه الرؤية بعد، كانت هناك نارٌ تشتعل.
نارٌ لم يكن يراها بعد، لكنها كانت تنتظره، في طريقها لالتهام كل شيء يملكه.
وكانت هذه بداية العاصفة.
❈-❈-❈
كان الليل قد بدأ يرخي سدوله على المملكة، لكن لم يكن هناك أي راحة في صدر يعقوب.
قبل ساعات قليلة، غادر الملك، تاركًا وراءه صمتًا غريبًا يخيّم على القصر، وكأنه الفراغ الذي يسبق العاصفة.
قرر يعقوب وسيف الدين الخروج للصيد، عادة قديمة بينهما منذ الطفولة، حيث كانا يجدان في الغابة ملاذًا من صخب القصر وثقل السياسة.
غير أن هذا المساء، قبل أن يغادر، استوقفه صوت صغير نادى عليه بحذر:
ـ عمي يعقوب .
التفت يعقوب ليجد الصغير «جلال» يقف هناك، عيناه الكبيرتان تتشبثان به بقلق لم يخفَ عليه.
ارتسمت ابتسامة دافئة على وجه يعقوب وهو يركع أمام الطفل ليكون في مستواه.
ـ نعم، يا صغيري؟
نظر جلال إلى عمه، ثم همس مترددًا:
ـ إلى أين أنت ذاهب؟
لم يكن في السؤال ما يثير القلق، لكنه حمل شيئًا غريبًا، إحساسًا غامضًا جعله يتوقف للحظة.
مدّ يده وربّت على رأس الطفل، ثم قبّله على وجنته وقال بصوت مطمئن:
ـ سأذهب مع عمك سيف الدين للصيد، لن أتأخر كثيرًا.
تردد الصغير للحظة، ثم أخرج من جيبه خنجرًا صغيرًا، وأمسكه بيديه الصغيرتين وقدمه إلى يعقوب.
ـ هذه هدية مني لك، عندما تستخدمها، ستتذكرني.
حدّق يعقوب في الخنجر بدهشة، تفحصه بعناية، كان صغيرًا لكنه حادّ، مصنوع بدقة كأن من أعطاه للصبي لم يكن يراه مجرد لعبة.
رفع عينيه وسأله بنبرة مشوبة بالحيرة:
ـ من أين حصلت على هذا، يا صغيري؟
أجاب جلال بحماس طفولي، لكن في صوته نبرة فخر واضحة:
ـ أبي أعطاني إياه، قال إنه لحمايتي إذا شعرت بالخطر، لكنني لا أحتاجه عندما تكون بجانبي، لأنك دائمًا ستحميني، أليس كذلك؟
حينها، اندفعت مشاعر غامضة في قلب يعقوب، إحساس غريب، كأن الصغير ينطق بحكمة لا يفترض أن يفهمها في عمره.
لم يتمالك نفسه من احتضانه بقوة، وكأن جزءًا منه كان يريد حمايته من شيء لا يستطيع رؤيته بعد.
همس وهو يضمه إليه:
ـ بالطبع يا صغيري، سأفديك بروحي.
ابتعد عنه قليلًا، ثم مسح على رأسه بحنان وقال بنبرة دافئة:
ـ الآن، عد إلى القصر، الجو بارد في الخارج، لن أتأخر طويلًا.
أومأ الصغير بحماس وقال:
ـ وعد يا عمي؟
ضحك يعقوب، ورفع يده ليحلف:
ـ وعد، لن أتأخر أبدًا.
قبّله الطفل سريعًا، ثم ركض عائدًا إلى القصر.
وقف يعقوب يتأمله للحظة، ثم استدار ليغادر، لكنه قبل أن يخطو خارج القصر، وجد نفسه يلتفت للخلف دون سبب واضح، وكأن قلبه أراد تسجيل هذا المشهد في ذاكرته للأبد.
شعر بأن شيئًا غامضًا على وشك الحدوث.
هزّ رأسه محاولًا طرد الأفكار المظلمة، وتمتم لنفسه:
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
لكنه لم يكن يعلم أن ما يشعر به لم يكن مجرد هواجس، بل نذير عاصفة تقترب لتمحو كل شيء.
❈-❈-❈
بعد ساعة في الغابة
امتدت الغابة خلف أسوار المملكة بلا نهاية، أشجارها العملاقة تمتد كأنها تحرس أسرارًا قديمة.
كان يعقوب يحمل قوسه، بينما سيف الدين يسير بجواره ممسكًا بسيفه، عينيه تتحركان في كل اتجاه، دوماً متأهبًا لأي خطر.
ـ سيف؟ أخي سيعود سريعًا، أليس كذلك؟
سأل يعقوب وهو يشدّ وتر قوسه، مستعدًا لإطلاق سهمه نحو غزال قريب.
ـ بالطبع، متى خذلك ملك من قبل؟
أطلق يعقوب سهمه، فأصاب الغزال بدقة، وقبل أن يتمكن من الشعور بالفخر، تغيرت الرياح.
وقف للحظة، شعر بشيء غريب، الهواء أصبح أثقل، ورائحة غير مألوفة تسللت إلى أنفه.
رفع سيف رأسه، عيناه اتسعتا وهو يحدّق في الأفق.
ثم همس بصوت منخفض لكنه كان يحمل نغمة قلق واضحة:
ـ هذا ليس طبيعيًا .
التفت يعقوب ليرى ما ينظر إليه سيف، وعندها، تجمّد في مكانه.
خيوط دخان كثيف تصاعدت من جهة المملكة.
في البداية، لم يصدق ما رآه، لكن بعد لحظات، تصاعدت أصوات الانفجارات، تلاها صراخ بشري يقطّع نياط القلوب.
ـ المملكة تحترق.
لم يضيّعا لحظة، هرعا إلى خيولهما، لكن قبل أن يتمكنا من العودة، انقلبت الغابة إلى جحيمٍ مشتعل.
كأن الأرض نفسها فتحت فمها ولفظت النيران لتبتلع كل شيء.
ـ سيف، علينا العودة فورًا
صرخ يعقوب، لكن النيران كانت أسرع.
بدأت الأشجار تشتعل واحدة تلو الأخرى، والدخان الكثيف زحف إليهما، يجعل الرؤية مستحيلة.
حاول سيف أن يجد طريقًا للخروج، لكنهما كانا محاصرين بالنيران، كأنها جدارٌ لا يسمح لهما بالعبور.
ـ يعقوب، لا تفقد تركيزك، سنجد طريقًا للخروج.
لكن سيف كان يعلم... كان يعلم أن الوقت قد فات.
وفي تلك اللحظة، حيث النار تبتلع كل شيء، كانت المملكة تُذبح، القصر يتحول إلى رماد، وكل شيء كان الملك يحبه، يُمحى من الوجود.
❈-❈-❈
امتد الليل فوق المملكة كعباءة سوداء، لا يشقها إلا بريق النجوم التي تلتمع في السماء، وكأنها عيون خفية تراقب الأرض بصمت.
كان القصر العظيم يغطّ في سكون ثقيل، لكن في أعماقه، بين جدرانه التي شهدت قرونًا من الحروب والتحالفات، كانت هناك عاصفة على وشك أن تنفجر.
أما بعيدًا عن هذا المكان، على بُعد مئات الأميال، في قلب مملكة إيراثيا، جلس ملك المعتصم بالله على طاولة الاجتماعات الملكية، عيناه تراقبان الوجوه حوله، لكن قلبه كان في مكان آخر.
الطريق إلى إيراثيا لم يكن طويلًا بقدر ما كان ثقيلًا.
كان الليل قد رافقهم طوال الرحلة، والغابات الممتدة على جانبي الطريق بدت كأنها تهمس بأسرار لا يسمعها إلا أولئك الذين يعرفون الخطر.
كان ملك صامتًا أغلب الرحلة، يستمع لصوت الرياح، ويشعر بشيء لم يستطع تفسيره.
كأن العالم بأسره يتهيأ لشيء أكبر منه، شيء يقترب، لكنه لا يستطيع رؤيته بعد.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يسافر فيها في مهمة سياسية، لكنه كان يشعر بأن هذه الرحلة مختلفة، كأنها ليست مجرد اجتماع دبلوماسي، بل مصيدة تتخفى تحت قناع السلام.
حين وصلوا إلى إيراثيا، كانت الأجواء هادئة، أكثر مما ينبغي. القصر الذي كان دومًا نابضًا بالحياة، كان هذه الليلة خاليًا من الصخب المعتاد.
الأضواء كانت خافتة، والممرات الطويلة بدت كأنها تراقب الداخلين إليها.
في قاعة الاجتماعات الكبرى، جلس ملك على رأس الطاولة، بينما جلس أمامه عدد من النبلاء والمستشارين.
وجوههم كانت هادئة، لكنها لم تكن مطمئنة.
أخذ نفسًا عميقًا، يراقب التفاصيل الصغيرة في الغرفة طريقة جلوسهم، نظراتهم التي تتلاقى أحيانًا كأنهم يتأكدون من شيء ما، الصمت الذي طال أكثر من اللازم قبل أن يتحدث أحدهم أخيرًا.
في عقله، بدأت أصوات التحذيرات تتردد من جديد.
"لا أحد يريد السلام حقًا، لكن الجميع يدّعي ذلك."
"لو تأخرت عن العودة يومًا واحدًا، سأعتبرك في خطر، وسآتي لأقتلك بنفسي."
"لدي شعور سيئ هذه المرة..."
لكن لم يكن هناك وقت للقلق الآن.
السياسة كانت دائمًا رقعة شطرنج معقدة، وكل خطوة فيها قد تكون الأخيرة.
في تلك اللحظة، بينما كان ملك يجلس هنا، يحاول قراءة ما بين السطور، كان شيء آخر يحدث في مملكته.
على بُعد مئات الأميال، حيث القصر الذي ودّعه قبل يوم واحد فقط، لم يكن يعلم أن كل شيء تركه وراءه، قد انتهى.
لم يكن يعلم أن النيران التي لم يرها قبل رحيله، قد اشتعلت أخيرًا.
وأن كل ما كان يومًا وطنه، كان يُبتلع في لهيب لا يرحم.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبةتوتا محمود، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية