رواية جديدة مملكة الرماد لتوتا محمود - الفصل 2 - السبت 7/6/2025
قراءة رواية مملكة الرماد كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية مملكة الرماد
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل الثاني
تم النشر يوم السبت
7/5/2025
في هذا الفصل، لا تنتظر ضوءًا في آخر النفق...
بل استعد للسير في عمق العتمة.
لن تجد في هذه الصفحات منقذًا،
بل ستجد من كان يحاول النجاة... ولم يُمنح الفرصة.
اقرأ هذا الفصل بصمتٍ يشبه الحداد،
واسمح لقلبك أن يحزن... كما لم يفعل من قبل.
وعندما تنهيه، لا تغلق الباب وراءك بصمت.
اكتب لي :
ما الذي وجعك؟
من الذي تمنيت أن تنقذه؟
الحكاية لا تكتمل بدونك .
ولا الرماد يحكي نفسه دون شهود.
❈-❈-❈
كانت النيران تلتهم السماء كما لو أن غضب الآلهة قد سُكب على الأرض دون رحمة، تتراقص ألسنتها البرتقالية والقرمزية في الهواء كأنها أرواح ضائعة تصرخ في جنون.
الدخان الأسود كان يصعد في خطوط كثيفة متشابكة، يلفّ المكان بوشاح خانق من الرماد والاختناق، وكأن الأرض نفسها تحتضر، تصرخ في صمت من ثقل الجريمة.
كانت الأصوات تتعالى من كل زاوية، صرخات بشرية تنزف رعبًا، أنين محتضرين، ووقع سيوف تختلط بهدير الانفجارات، في سيمفونية مرعبة لا عزاء فيها ولا نهاية.
وكأن المملكة بأكملها أصبحت مسرحًا للقيامة، حيث لا خلاص، ولا رحمة، ولا فرصة للهرب.
وقف يعقوب في قلب المشهد، ساكنًا كتمثال، لكن روحه لم تكن ساكنة.
عيناه كانتا متسعتين على اتساع الرعب، تحدقان في جحيم لا عقل يقبله، ولا قلب يصدقه.
النيران كانت تقترب، تبتلع الأشجار، تغزو الأبراج، وتلتهم السماء، وكأنها وحش عملاق خرج من باطن الأرض، ولن يشبع إلا بابتلاع كل شيء.
كان وجهه شاحبًا، يداه ترتجفان رغم أنه لم يشعر بالبرد، بل لم يشعر بشيء سوى الوجع الذي بدأ يتكاثف في صدره كسحابة لا تمطر.
جسده كان متجمدًا، كأن الهواء نفسه قد تثاقل عليه، كأن الزمن توقف حوله ليُجبره على النظر دون قدرة على الفعل.
ومازال ينظر إلى النار التي تحترق حولهم، كأنها جدار من اللهب يمنع حتى الأمل من المرور.
النيران لم تكن مجرد نار... بل كانت نهاية، كانت إعلانًا صارخًا بأن لا شيء سيعود كما كان.
كان عقله يرفض تصديق ما تراه عيناه. كيف يمكن لكل شيء أن ينتهي هكذا؟ كيف يمكن لدفء البيت، وحنان العائلة، وصوت الضحكات، أن يتحوّل فجأة إلى رماد؟ كيف يمكن أن يكون كل شيء يحبه... يحترق الآن؟
ـ لا... لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا.
خرج صوته مشوّشًا، مكسورًا، كأنه لا يخاطب أحدًا، بل يحاول أن يقنع نفسه أن ما يراه ليس أكثر من كابوس طويل، قاسٍ، سينتهي عند شروق الشمس... لكن الشمس لن تشرق أبدًا على هذه المملكة بعد الآن.
لكن صوت سيف جاء صارمًا، ممزوجًا بقسوة الحياة التي تعلّمت أن تنقذ من تستطيع قبل أن تنهار الأرض تحت أقدام الجميع. اقترب منه، قبض على ذراعه بقوة، صوته كان واضحًا كالسيف:
ـ عليك الرحيل الآن، يا يعقوب، لا يمكنك فعل شيء هنا.
كانت كلمات سيف مثل صفعة أيقظته من وهمٍ أراد الغرق فيه، لكنه لم يقبلها، لم يحتملها.
كانت قاسية جدًا، لأنها ببساطة تعني أن عليه أن يتخلّى عن كل شيء.
يعقوب لم يكن يستمع، لم يكن يرى أمامه إلا وجوه أحبّائه في قلب اللهب.
حاول أن يحرر ذراعه من قبضة سيف، وفي عينيه نار لا تقل شراسة عن النيران المحيطة به.
صرخ، وكان صوته هذه المرة لا يُشبهه، مليئًا بالذعر والرجاء:
ـ يجب أن أنقذهم، أطفال أخي هناك، ليان هناك، وأبي هناك.
كان يتكلم وكأن ذكر الأسماء سيحميهم من الموت، وكأن النطق بهم سيعيدهم من الجحيم، لكن لا شيء حدث... سوى أن النار اقتربت أكثر.
لكن سيف لم يتراجع.
لم تكن المرة الأولى التي يرى فيها الموت، لكنه لم يره أبدًا بهذا الشكل.
سحب يعقوب بقوة أكبر، وفي عينيه ألمٌ لم يظهره لأحد من قبل، ربما حتى لنفسه.
نظر إليه نظرة رجل يعرف أن ما يفعله هو خيانة لقلبه، لكنه ضرورة للعقل:
ـ إن دخلت الآن، ستموت معهم، أقسم لك أنني سأعود لإنقاذهم، لكن عليك أن تذهب بعيدًا عن هنا.
الدموع التي لم تخرج من عيني سيف، خرجت من نبرته، من رعشة أصابعه التي كانت لا ترتجف حتى في الحروب.
لكنه كان يعلم... يعقوب لن ينجو إن بقي.
يعقوب لم يقتنع، ظل يقاوم، يقاتل سيفًا لا بسيف، بل بقلب منكسر.
لكن سيف كان أقوى، جسديًا وروحيًا، ودفعه دفعة عنيفة نحو شيء لم يكن يعقوب قد رآه من قبل، باب حجري، قديم، كأنه وُضع هناك منذ قرون في انتظار هذه اللحظة بالذات.
كان خلفهم تمامًا، مغطى بنباتات كثيفة، لا يراه أحد، إلا من يعرف سره.
كان نفقًا سريًا تحت الأرض، لا يعرفه إلا الحراس المخلصون للعائلة الملكية، نُحت في الصخر كمهرب أخير، لا يستخدم إلا حين يسقط كل شيء.
حاول يعقوب أن يتراجع، لكن سيف لم يُعطه فرصة.
دفعه داخله بقوة، وسقط يعقوب في ظلام كثيف كأن العالم قد ابتلعه.
ـ سيف، افتح الباب، دعني أخرج.
صوت يعقوب كان هشًا، يائسًا، يضرب على الباب الخشبي بكل ما بقي له من قوة.
قبضتاه ترتجفان، دموعه تختلط بالغبار، لكنه لا يتوقف.
ضرب الباب مرارًا، وهو يصرخ بجنون، وكأن كل صرخة قد تُعيد إليه ما فقد، لكن الصوت الوحيد الذي وصل إليه كان ما يحدث فوقه، في العالم الذي لم يعد له قدرة على إنقاذه.
انفجارات تتوالى، صرخات تتصاعد من كل اتجاه، كانت تلك أصوات النهاية... وكان يسمعها وحده.
ظل يدق على الباب بلا فائدة، وصوت الاستغاثة في الأعلى كان كخنجر في صدره.
كل نداء من فوق، كان يذبحه بصمت. صرخ باسم "سيف"، بكل ما فيه من ألم، من رجاء، من خذلان:
ـ سيف
لكن لا أحد رد.
لم يكن هناك صوت سوى أصوات الموت.
الانفجارات، وصرخات الأطفال، وصوت اللهب وهو يلتهم الذكريات.
ضرب الباب بقوة أكبر، بقبضتيه حتى تورّمتا، حتى سال الدم من يديه، لكنه لم يشعر بشيء.
كان يريد فقط أن يخرج، أن يُنقذ، أن يفعل... أي شيء.
لكن لا أحد يسمعه.
ولم يبقَ أحدٌ لينتظر.
❈-❈-❈
أغلق سيف الباب خلفه، ويداه ترتجفان لا من خوف، بل من ثقل القرار، من فداحة اللحظة التي اضطر فيها إلى أن يختار قلبًا واحدًا لينقذه، بينما يترك قلوبًا أخرى تحترق.
كان الباب سميكًا، خشنًا، يكاد يصدر أنينًا مع الإغلاق، وكأن الحجارة نفسها تبكي على فراق من حُبس خلفها.
لم يتردد سيف، أسرع يجر الأشجار والأغصان الميتة من محيطه، يكدّسها فوق الباب الحجري، بأيدٍ متعبة لكن مصمّمة، يغطي المدخل حتى يختفي عن أعين العابرين، وكأنه لم يكن.
أراد أن يطمسه من الوجود، من التاريخ، من الخراب القادم.
ثم انحنى، وبدأ برمي الرمال فوقها، بسرعة، وعيناه تتحركان في كل اتجاه، يلاحق صوت الريح، صوت اللهب، وصوت الرعب الذي يتسلّل في صمت الليل.
كان يعرف أن الوقت ينفد، وأنه لم يعد له إلا تنفيذ الوعد... ذلك الوعد القديم، الذي قطعه على نفسه ذات يوم أمام الملك، وعيناه في عينيه :
"إن أصابني شيء... احمِ يعقوب كما تحمي ظهرك."
وها هو الآن، ينفذ الوعد، ولو كلفه كل ما يملك. حتى حياته.
بعد أن أنهى التمويه، تراجع خطوة، ينظر إلى النيران التي غزت الغابة، مثل وحش جائع، يبتلع الأرض، ينهش في الأشجار، ويطارد الهواء نفسه كأنه لا يريد أن ينجو أحد.
حاول أن يشق طريقه وسط الدخان الذي يتصاعد من كل جهة، رائحته خانقة، كأن رئة السماء نفسها احترقت، وكأن الأوكسجين تحول إلى رماد.
رفع ذراعه، يغطي وجهه، يزيح الغيوم السوداء عن عينيه، عله يرى، عله يجد شيئًا يشبه الطريق.
وفجأة... لمح .
فتحة صغيرة، باب خفي بين الصخور، يعرفه جيدًا.
مخرج سري يؤدي مباشرة إلى أطراف القصر.
لم يفكر، ركض نحوه، وسيفه مشدود إلى قبضته، ينبض معه، كأنه صديقه الأخير.
كان الباب مظلمًا من الداخل، ممر ضيق يشبه بطن وحش صامت، لكن النار المشتعلة بجواره كانت تنتظر، كما لو أنها تعرف أنه سيأتي.
التقط شعلة منها، ورفعها أمامه، وهي تهتز من أنفاسه اللاهثة، تُلقي بظلّه على الجدران وكأنها ترسم له نهاية لم تكتب بعد.
دخل.
ومع كل خطوة، كانت روحه تنزف.
كان يسمع شيئًا... شيئًا لا يُحتمل.
صرخات.
صرخات نساء، خدم، جنود، رجال، أطفال. صرخات تحمل كل ما تعنيه الكلمة
رجاء، ذعر، وداع، موت.
ثم...
سكون مفاجئ.
كأن المكان نفسه استعد للصمت قبل الانفجار.
خرج من الباب إلى القصر، فانحبست أنفاسه.
عيناه تجمدتا، كأن قلبه سقط من مكانه.
كانت كبيرة الخدم، تلك المرأة التي عاملته كابن، والتي كانت يومًا تضع يدها على رأسه حين يتعثر، ملقاة على الأرض.
جسدها ساكن، وحولها بركة دماء غامقة، لا تنتهي.
بالقرب منها، الخدم والمخلصون، مكدّسون كأوراق الخريف، سقطوا دون وداع.
جسده لا يتحرك، عقله عاجز عن إصدار أمر، لكنه أجبر قدميه على التقدم، حتى رأى المشهد التالي...
صديقه.
أخوه.
الرجل الذي عاش معه أيام الحرب والسلم، كان ممددًا على الأرض، مقطوع اليدين، وسكين ضخمة مغروسة في صدره، حتى مقبضها.
كأن القاتل أراد أن يزرع الموت داخله لا أن يطعنه فقط.
كتم شهقته، كأن حتى الهواء أصبح رجسًا
دموعه لم تسقط... بل احترقت داخل مقلتيه.
لكن لا وقت... لا وقت للبكاء الآن.
صوت صراخ قادم من الأعلى، جعله يلتفت خطواته تسرّعت، تلاحق الأنين، تصعد السلالم وكأنها تهرب من جحيم نحو جحيم آخر.
وحين فتح باب غرفة المُلك
توقف.
عيناه لم تستطع التحمّل.
كانت ليان، زوجة الملك، واقفة، لا... كانت واقعة، جسدها غارق في دمائه، عيناها مفتوحتان على الفراغ، تحدّقان في سقف لم يعد موجودًا.
اقترب منها، ركع عند رأسها، ببطء، كأن الزمن كله توقف، ورفع يده المرتجفة، وأغلق عينيها، بلطف، كأنه يخشى أن يؤلمها أكثر.
لم يستطع الحديث، فقط وضع يده على فمه، يكتم شهقاته، يمزق صوته داخله.
لكنه سمعه.
صوت خافت... صوت خافت جدًا قادم من جهة الخزانة.
رفع سيفه، وتقدم نحو مصدر الصوت.
فتح باب الدولاب الصغير فجأة، يتهيأ للقتال... لكنه لم يجد عدوًا.
بل وجد الأطفال.
أطفال الملك.
تجمّد.
وقف بينهم وبين الجثة التي كانت ليان، يخفيها بجسده، وكأن بإمكانه حمايتهم حتى من رؤيتها.
عدّهم بعينيه.
طفلان.
أين الثالث؟ أين جلال؟
اقترب، همس بسرعة ولهفة:
ـ خليكم هنا ومتتحركوش ولا تعملوا صوت.
ثم تابع، ونظر بقلق خلفهم:
ـ أين جلال؟؟
أجاب الأكبر، وصوته يرتجف كأنه طفل يحاول أن يتذكر ما يعنيه الأمان:
ـ في الغرفة مع جدي .
أومأ سيف، وحسم أمره. نظر إليهم، وقال بقوة تخفي رجفة خوف:
ـ أياكم أن تخرجوا من هذا المكان ، مهما حدث ، سـ أجلب جلال ونذهب جميعاً من هنا ، مفهوم ؟؟
أغلق سيف الدولاب خلف الأطفال بإحكام، وقد تملّكه إحساس عارم بالخوف لا من الموت، بل من أن يرى في أعينهم ما لا يجب أن يراه طفل.
كانت يداه ترتجفان قليلًا، لا من التعب، بل من شدة الحرص.
دفع الخزانة حتى تأكد أنها مغلقة بالكامل، ثم وضع يده للحظة على سطحها، وكأنه يمنحهم آخر ذرة من الأمان يستطيع تقديمها.
كان بالخارج عالمٌ آخر... عالم غارق في الدم، تفوح منه رائحة الموت في كل زاوية.
جثث ممزقة، دماء متناثرة، وملامح وجوه لا يُمكن تمييزها بعدما عبثت بها النيران أو السيوف.
لم يشأ أن يترك باب الدولاب مفتوحًا، لم يُرد أن يرى الأطفال ما رآه هو.
لم يكن في قلبه قوة تكفي لاحتمال دمعة واحدة في أعينهم.
لم يُرد لهم أن يعرفوا معنى أن يموت الجميع دفعة واحدة.
استدار بعزمٍ مضطرب، واتجه مسرعًا نحو غرفة والد يعقوب، قلبه يسبق قدميه، ونبضه يضرب صدره بقوة.
لم يكن يعلم ما ينتظره، لكن داخله كان يهمس له بأن الأسوأ لم يأتِ بعد.
وصل إلى الباب.
كان مغلقًا.
لكن ليس إغلاقًا عاديًا، بل محكمًا، كأنه قد أُغلق من الداخل بأمر الحياة نفسها التي قررت أن تفصل ما تبقّى عن النهاية.
ركل الباب بقوة.
مرة، مرتين، ثلاث... حتى تحطّم تحت قدميه كأنّه كان يقاوم الحقيقة، لا الخشب.
وما إن فُتح الباب، حتى توقفت أنفاسه للحظة.
رآه.
والد يعقوب، الرجل الذي كان رمزًا للحكمة والصمود، جالسٌ على ركبتيه، في منتصف الغرفة.
سيفه لا يزال في يده، يده المتجمدة، والأسهم تغوص في ظهره كأنياب خيانة طعنت فيه من الخلف.
رأسه مائل إلى الأمام، كأن ثقله قد غلبه، أو كأن روحه غادرت ولم تأخذ الجسد معها.
تراجع سيف خطوة، لم يستطع التقدم على الفور.
لم يرَه ميتًا فقط، بل رأى كل الهيبة تسقط.
كل ما يمثّله، كل ما علّمه لهم، كل سطر من التاريخ... سقط هناك، وسط الدماء.
غامت الرؤية في عينيه.
ارتجفت ملامحه.
تكوّرت مشاعره، وصار وجهه طفوليًا فجأة، كما كان قديمًا، حين كان يحتاج إلى حضن هذا الرجل.
اقترب منه أخيرًا، ببطء كأنه يمشي إلى قبرٍ مفتوح، ثم جثا على ركبتيه أمامه، ورفع يديه المرتجفتين ليحتضن وجهه، كأنه يحاول إعادة الحياة إليه بمجرد اللمس
لمس جبينه البارد، ومسح عن عينيه دمًا متيبسًا.
بكى.
بكى بكاءً مكتومًا، مجروحًا، لا صوت له، لكنه كان يصرخ بداخله آلاف المرات.
كان يتذكر صوته، كلماته، ضحكاته، وحتى ملامح الغضب التي كان يظهرها حين يخالفه. وكل ذكرى... كانت الآن تمزق قلبه قطعة قطعة.
يا ليته يموت الآن.
يا ليته ينتهي هذا كله، وينام بينهم، ويدفن معهم، ويُنسى.
خسر والده الذي لم ينجبه، وصديقه الذي اختار موته، وكبيرة الخدم التي كانت له أمًا، وليان التي كانت شقيقته في الرحمة والود.
كل شيء أحبه خسره... لم يبقَ له سوى رمادهم.
ووسط هذا السواد، صوت صغير اخترق الجدران التي بنى بها حزنه.
اسمه.
ـ جلال... صغيري.
رفع رأسه فجأة.
قلبه عاد للنبض بجنون.
تذكر جلال .
الطفل الصغير، آخر ما تبقّى من الأمل، من العهد.
وقف بسرعة، يتحرّك بجنون، يبحث، يركض كمن يطارد الحياة وسط الجحيم.
ينادي، صوته مليء بالرجاء :
ـ جلال... صغيري.
ـ عمي.
صوت خافت.
مرتجف.
صوت كالهمس، لكن بالنسبة لسيف... كان كأنه سمع نداء من السماء.
تبع الصوت، اقترب من الفراش ، وانحنى بسرعة ينظر تحته، وهناك... رآه.
كان جلال ملفوفًا على نفسه، يبكي بصمت، جسده الصغير يرتعش بشدّة، وجهه مغطى بالدموع والتراب، وعيناه متسعتان من الفزع، كأنه رأى الشيطان نفسه، وظلّ حيًا ليخبر عنه.
ـ صغيري، تعال إلي، لا تقلق، أنا هنا.
مدّ يده إليه، صوته حنون، مرتجف، كأن كل خوف الطفل استقر بداخله فجأة.
لكن الطفل تراجع، عينيه على الباب، أذناه تلتقطان صرخات الموت في الخارج، والنار التي تزأر في الجدران.
ـ صغيري أ...
لم يُكمل.
سهام نارية اخترقت الغرفة.
ارتفع اللهب في الجدار الأيسر.
اشتعل الهواء.
ارتفعت الحرارة.
لم يكن هناك وقت.
حبس أنفاسه، مد يده بسرعة أكبر، وعيناه على النيران التي بدأت تأكل الحوائط والأثاث، تقترب، تهمس بالخراب.
ـ صغيري لا تقلق، تعال إلي، يعقوب ينتظرك بالأسفل.
قالها بصوت مشبع بكل ما تبقّى فيه من رجاء.
رفع الطفل رأسه، وصوته يأتي كأن الروح تعود إليه فقط لسؤال واحد:
ـ عمي يعقوب؟
ـ نعم، صغيري، هو ينتظرك أسرع الآن، أرجوك، حتى لا يذهب عمك يعقوب بعيدًا.
تردّد الطفل للحظة، ثم... مد يده.
قبل أن يسحبه، همس سيف:
ـ اغمض عينيك يا صغيري ولا تفتحها أبدًا حينما أقول لك، اتفقنا؟؟
هز جلال رأسه.
واغمض عينيه.
وفي لحظة، حمله سيف كأنّه يحمل قلبه، وركض.
وصل لغرفة ليان، كانت تحترق بالكامل. النيران تخرج من الشقوق، والدخان أسود كثيف.
ـ مستحيل.
قالها كأنها آخر ما يستطيع قوله.
اقترب، أراد الدخول... لكن الغرفة انفجرت أمامه، دُفع للخلف بقوة، سقط على الأرض، يحتضن جلال كدرع، يحميه من العالم كله.
بكى.
بكى وهو يتذكّر الأطفال داخل الخزانة، الصغار الذين وعدهم بأنه سيعود. بكى حتى لم يعد يشعر بوجهه.
لم يعد يشعر بشيء سوى الخذلان.
لكن النيران كانت تقترب.
والوقت انتهى.
نهض، وحمل جلال بكل ما تبقى فيه من قوة، وركض نحو الباب السري.
ركض وكأن العالم كله يطارده.
خرج.
لكن حين خرج...
توقف.
نظر إلى القرية... الغابة... الأسوار...
كلها تحترق.
جثث الحراس متناثرة، الدماء في الطرقات، رائحة الشواء البشري تملأ أنفه، تحرق صدره من الداخل.
ركض نحو القرية، يبحث عن أي حياة، أي نجاة.
لكن البيوت كلها... احترقت.
الاستغاثات، العويل، رائحة الدخان، والخراب.
الإمبراطورية كلها... سقطت.
لم يشعر بنفسه إلا وهو ينهار، يسقط على ركبتيه وسط الطريق، يحتضن جلال بقوة، ويصرخ.
صرخة طويلة مليئة بالالم
كأنها كانت تختبئ داخله منذ قرون.
وما زال يحمل الصغير... وما زالت عيناه مفتوحتين على مملكةٍ ماتت.
❈-❈-❈
ظل يعقوب يسير في ذلك النفق الطويل المظلم، كأنما كل خطوة يخطوها كانت تنزع جزءًا من روحه، الأرض تحت قدميه باردة، والهواء من حوله خانق، كأن النفق نفسه يبتلعه ببطء، يُغرقه في سكون مُرعب، لا صوت يرافقه سوى ارتجاف أنفاسه، ووقع قدميه المتثاقلتين على الأرضية الحجرية.
كل شيء حوله صامت... صامت لدرجة أن صوت قلبه بدا له كطبول حرب، ينبض بالخوف، بالقلق، بالانتظار المجهول.
لكن في داخله، وسط كل هذا السكون المخيف، كان هناك صوت صغير... صوته الداخلي، يصرخ بكل ما فيه من رجاء، يهمس بإصرار في عقله المرتجف:
سيف سيعود... سيف وعدني.
ذلك الوعد... كان كخيط الأمل الوحيد الذي يتمسك به في تلك الظلمة، مثل شمعة صغيرة وسط عاصفة لا تهدأ.
ومع اقتراب نهاية النفق، لم يسرع يعقوب، لم يقفز نحو المخرج كما تفعل الأرواح الهاربة من العتمة.
بل توقف... توقف هناك، عند الحافة، وبدلاً من الخروج، جلس... أسند ظهره إلى الجدار، وضمّ ركبتيه إلى صدره، كأنما يلف جسده بحثًا عن دفء مفقود.
جلس ينتظر... وينتظر.
لم يكن يعلم كم مر من الوقت، ربما ساعات، ربما أيام، ربما دهر بأكمله مرّ فوق رأسه المنحني، دون أن يشعر.
لم يأكل، لم يشرب، لم يغفُ، فقط كان جسده ينتظر، وعيناه معلقتان بظلام النفق الذي ابتلع سيف ولم يُعده بعد.
لكن لم يأتِ أحد.
لم يأتِ أحد.
بدأ شعور غريب بالتسلل إليه، كأن الهواء صار أثقل، كأن قلبه ينكمش شيئًا فشيئًا... الحقيقة المرة بدأت تتغلغل في صدره ببطء شديد.
سيف... لم يعد.
رفع رأسه أخيرًا، عيناه جافتان من البكاء، كأنما الدموع خجلت أن تنزل بعد كل ما خسر.
تقدّم نحو نهاية النفق، جسده متعب، روحه منهكة، وكل شيء فيه يصرخ تعبًا، خرج أخيرًا منه، وإذا به يقف أمام طريق ضيق مغطى بالغبار والذكريات، يؤدي إلى بيت صغير وحديقة بائسة، أشجارها ذابلة كأنها شاركته الحزن، وأرضها مليئة بأثر الموت والنسيان.
سار بخطى متقطعة، يجرّ قدميه كأنما تحملان جبلاً من الألم، وعندما وصل إلى باب المنزل، طرقه، طرقه بقبضة مرتجفة، بالكاد كانت تقوى على الحركة.
الباب فُتح ببطء، وإذا برجل عجوز يقف أمامه، عيناه لا توصفان... كانت تمتلئان بالدموع، لكن خلف تلك الدموع كانت قصة، وألم، وعمر من الذكريات.
يعقوب لم يكن قد قال شيئًا بعد... لم يستطع.
لكن الرجل لم ينتظر.
تقدّم منه واحتضنه، كأنما كان ينتظر هذا اللقاء منذ زمن، صدره يهتز من البكاء، وصوته خرج كرجفة تنهيدة غارقة في الألم:
ـ يعقوب... يعقوب، كيف وصلت إلى هنا بعد الدمار والمجزرة التي حدثت؟؟
تجمد يعقوب بين ذراعيه، لا يعرفه، لم يفهم من هو، لكن كلماته وقعت على قلبه كسهم مسموم.
ـ مجزرة؟ ، كيف عرفت اسمي؟ من أنت؟؟
صوته خرج بالكاد، متحشرجًا، مرتجفًا كطفل ضائع.
ابتعد الرجل قليلًا، وجهه غارق في الدموع، وعيناه تنظران إليه نظرة مشفقة، حزينة، عميقة... كأنما يرى فيه بقايا شيء أحبه يومًا.
همس بصوت مرتجف:
ـ يا بني، لا تعلم؟ المملكة... المملكة قد دُمِّرت، أهلها قُتلوا، ومن لم يُقتل، احترق مع القصر.
في لحظة واحدة... كل شيء في يعقوب تحطم.
كأن الأرض سُحبت من تحت قدميه.
كأن قلبه توقف عن النبض.
كأن الهواء من حوله انقطع فجأة.
ـ لا... لا، هذا غير ممكن، يجب أن أنقذهم.
قالها وهو يستدير فجأة، يركض بجنون نحو النفق، وكأن كل خطوة منه ستعيده إلى لحظة لم يُفقد فيها كل شيء.
لكن الرجل، رغم كِبر سنه، أمسكه بقوة، بقوة لا تتناسب مع عمره، وصاح بانفعال ممزوج بالرجاء:
ـ لا، يعقوب، لن أسمح لك بالعودة، وإن عدت، ستُقتل أنت أيضًا.
يعقوب لم يكن يسمع، لم يكن يرى، كان فقط يركض خلف أمل واهٍ، ويدفع من أمامه كل من يعترض طريقه.
دفع الرجل، وكان على وشك أن يركض من جديد نحو النفق... لكنه فجأة شعر بشيء يخترق ذراعه، الألم كان حادًا لكنه بسيط... إلا أن جسده بدأ ينهار بسرعة، عيناه تغمضان رغمًا عنه، والضباب يتسلل إلى وعيه.
نظر إلى ذراعه المرتجفة، فوجد سهمًا صغيرًا مغروسًا فيها، لا يُسبب ألمًا كثيرًا، لكنه كان كافيًا لإسقاطه.
رفع رأسه بصعوبة، ونظر إلى الرجل، الذي وقف هناك، والدموع تسيل من عينيه بصمت قاتل، وصوته خرج كأن قلبه ينكسر مع كل حرف:
ـ أنا آسف، يعقوب... لكن لن أسمح لك بأن تضيع كما ضاعوا.
ولم يحتج يعقوب أكثر من ذلك.
سقط أرضًا، وعيونه أُغلقت بهدوء، تاركًا خلفه نداءً صامتًا... وجعًا لا ينطفئ... وقلوبًا لم تُودع كما يجب.
❈-❈-❈
على الجانب الآخر من الخراب، بعيدًا عن لهب المملكة المحترقة وصرخات الأطفال والدماء التي لطّخت بلاط القصر الملكي، كان هناك هدوء خادع... هدوء قاتل لا يُبشّر بخير، بل يُمهّد لعاصفة لا ترحم.
في قلب مملكة إيراثيا، وفي القاعة الكبرى المخصصة لمجالس الحكم، جلس الملك المعتصم بالله، بثبات ملوكي يليق برجل لم ينحنِ في معركة، ولا ارتجف أمام عدو.
كانت ملامحه هادئة، لكنها متأهبة، وعيناه تدوران بين وجوه الجالسين كما لو كان يقرأ أفكارهم واحدة تلو الأخرى.
كان الاجتماع قد بدأ منذ لحظات فقط، والأحاديث تتخذ طابعًا سياسيًا مملًا في ظاهره، مليئًا بالكلمات المنمقة حول "معاهدات السلام" و"خطط التهدئة" و"الرغبة في بناء مستقبل جديد بين الممالك".
لكن ما كان يشعر به المعتصم من الداخل لم يكن يرتاح لتلك الكلمات... لم تكن صادقة. كانت الجمل ناعمة أكثر من اللازم، والنظرات ثابتة أكثر من الحد الطبيعي، وكأن شيئًا ما يُخفي خلف الكواليس.
ورغم كل هذا، لم يظهر عليه القلق. جلس معتدلًا، يضع يده على ذراع كرسيه الثقيل المزخرف برموز المملكة، وكأن الحديد الذي صُنع منه امتزج بعظام أجداده، وجعل منه مقعدًا لا يُهتز.
لكن فجأة...
وبدون سابق إنذار...
فُتحت الأبواب بعنف، كما لو أن أحدهم اقتلعها من جذورها.
الخشب ارتطم بالحائط بصوت مدوٍّ، ارتجّت له جدران القاعة، وجعل الحرس المتناثرين يتلفتون بفزع، يتأهبون، لكن متأخرين جدًا.
اندفع مجموعة من الرجال إلى الداخل، لم يكونوا يرتدون زيًا رسميًا، ولا علامات مملكة، فقط سيوفهم كانت تروي كل شيء.
سيوف مغطاة بالدماء، تقطر منها الحياة المسفوكة حديثًا، ووجوههم لم تكن تحمل سوى الغضب، والدمار، والانتقام.
كانت تلك اللحظة مثل ارتطام صاعقة، أصابت القاعة الملكية في قلبها.
كل من فيها جمد في مكانه، بما فيهم الملك نفسه.
لم يكن المعتصم قد نهض بعد، لكنه كان على وشك.
جسده تحرك ببطء، كأنه يدرك ما يحدث لكنه يرفض التصديق، يرفض الاعتراف بأن الخيانة قد وصلت إلى هذا الحد، بهذه السرعة.
لكنه لم يُمنح الوقت.
قبل أن يُكمل وقوفه، شعر بشيء بارد قاطع يضغط برقة قاتلة على رقبته.
السيف.
سيف لا يعرفه، لكنه شعر بحده كأنما صنع خصيصًا لعنقه.
لم يكن هناك وقت ليستوعب، ولا لحظة واحدة لتحليل ما يحدث.
كل شيء وقع بسرعة، لكن بالنسبة للمعتصم، بدت كأنها أبطأ لحظة في حياته.
ثم سمع الصوت.
كان الصوت خلفه، هادئًا وهادئًا جدًا، هدوء الثعابين قبل اللدغ، هدوء الموت حين يهمس في أذن الضحية:
ـ المملكة احترقت... والآن، دور الملك ليلحق بها.
لم يرتجف المعتصم.
لم يصرخ.
لم يتوسل.
بل أغلق عينيه لثانية ، كأنه ودّع شيئًا ما في داخله.
وفي لحظة...
تحرك السيف.
الدم انفجر في الهواء.
وصوت ارتطام الجسد على الأرض كان صدى النهاية .
نهاية مَلِكٍ لم يمت في ساحة المعركة، بل في قلب السلام الذي لم يكن يومًا سلامًا.
يتبع...