رواية جديدة مملكة الرماد لتوتا محمود - الفصل 3 - الأحد 8/6/2025
قراءة رواية مملكة الرماد كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية مملكة الرماد
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل الثاني
تم النشر يوم الأحد
8/5/2025
– ما بعد الرماد
النجاة أحيانًا لا تُشبه الفوز
بل تُشبه الخسارة المؤجلة.
في هذا الفصل، لا تنتظر راحة.
بل لحظة واحدة من الهدوء... قبل العاصفة التالية.
❈-❈-❈
فتح " يعقوب " عينيه، لم يشعر بالضوء، بل شعر بالثقل... ثقل غريب، كأن جفونه مصنوعة من حديد، وكأن جسده كله مدفون تحت جبل لا يُرى.
كان كل شيء حوله ساكنًا، لكنه لم يكن هادئًا.
هناك فرق شاسع بين السكون، والموت الصامت.
أراد أن ينهض، أن يصرخ، أن يركض... لكنه لم يستطع.
لم يكن قادرًا حتى على فهم أين هو.
لسعة بردٍ أصابت جلده العاري من الغطاء، وملمس الوسادة تحت رأسه كان خشنًا، بدائيًا.
فتح عينيه قليلًا، فواجهته خشبة السقف، والأعمدة العارية، وسقف منزل صغير... لا يخصّه.
تنهيدة خرجت منه لا إراديًا، متقطعة، ثقيلة، تبعتها سُعال خافت كأنه يرفض الخروج من صدره.
وقبل أن يحاول الحديث، سمع صوتًا.
خطوات بطيئة، ثابتة، وكأن الأرض تعرف صاحبها جيدًا.
دخل الرجل العجوز.
وجهه متجعد، لكن ملامحه قوية.
نظراته مثقلة بالتاريخ، كأنها شاهدت أكثر مما ينبغي، وتعبت من الحكي.
لكنه لما رأى يعقوب صاحيًا، لمعت عيناه، وارتجفت شفتاه.
جلس بجواره، وبصوت ناعم مليء بالحزن والطمأنينة في آنٍ معًا، قال :
ـ الحمد لله أنك استعدت وعيك ، كنت أخشى أنني وصلت متأخرًا.
يعقوب كان ينظر إليه، وعيناه لا تزالان غارقتين في الدهشة، لكنه حاول أن يتماسك، فنطق بصوت مبحوح:
ـ أين أنا؟
ـ في منزل صغير على أطراف الشمال ، بعيدًا عن الخراب كله.
مرت لحظة صمت، لحظة كانت تسأل فيها عينا يعقوب السؤال الذي تمنى أن ينطقه.
ـ كيف عرفت اسمي؟ من تكون؟
ابتسم الرجل، ابتسامة حزينة، ومال قليلاً نحوه، وقال بنبرة تهز القلب :
ـ أنا شقيق والدك، يا يعقوب...
أنا عمّك، عبد الله .
كأن الزمن توقف.
يعقوب تجمّد في مكانه.
عمي؟
الاسم الذي لم يُذكر في البيت منذ سنين.
الرجل الذي قيل إنه مات، أو نُفي، أو اختفى في ظروف غامضة، أو ربما ، مجرد كذبة نسجت لينساه الجميع.
ـ لا... لا يمكن... أنت... لقد... ظننا أنك متَّ .
ـ لم أمت... لكن ما خسرته كان أقرب للموت ،
نُفيت، وتبِع اسمي تهمة الخيانة، وقيل عني كل شيء... فقط لأُبعد عن المشهد.
ـ المشهد؟ عن أي شيء تتحدث؟
ـ عن لعبة العرش، يا يعقوب ، اللعبة التي أصبحتَ جزءًا منها الآن، شاءت إرادتك أم أبت.
يعقوب شعر بدوخة، لا من أثر السهم الذي أصابه، ولا من التعب، بل من الحقيقة.
رأسه كانت تدور، وفي قلبه ألف سؤال يريد أن يخرج، لكن في تلك اللحظة
دُقّ الباب الخارجي.
قلب يعقوب ارتجف، نهض بسرعة رغم ألمه، لكن قبل أن يتحرك، فُتح الباب.
وصوت مألوف، مرهق، ومكسور، نادى :
ـ هل يوجد أحد هنا؟؟
كان سيف.
وجهه مغطى بالتراب، والدم الجاف، وملامحه مزيج من الألم والإنهاك.
وفي حضـ ـنه
كان جلال، الطفل الصغير، ملفوفًا في عباءة سيف، نائمًا، لكنه غير مطمئن، كأنه لا يزال يحلم بالحريق الذي ما زال ساخنًا في ذاكرته.
يعقوب تحرك نحوهم، وقلبه يسبقه، ودموعه تنهمر دون استئذان.
ـ سيف... جلال؟
سيف رفع رأسه، وللمرة الأولى يلتقي بعينَي يعقوب بعد كل ما حدث، وقال بصوت مبحوح :
ـ لقد أحضرت إليك أمانتك.
لم يكن يعقوب يصدّق ما تراه عيناه، ظلّ يحدّق في سيف للحظات، كأنّ الوقت توقف بينهما.
كان سيف يقف عند الباب، يحمل جلال في حضـ ـنه، وملامحه منهارة تمامًا كتفاه منحنيتان، ثوبه ممزق، وجهه متّسخ بالخدوش والدم الجاف، كأن النيران طاردته حتى وصل إلى آخر هذا العالم.
لكن ما حطّم قلب يعقوب لم يكن ذلك فقط... بل كانت عينا سيف.
لم تكن عينا رجل نجا من الموت، بل عينا من دفن كل شيء يعرفه في آنٍ واحد.
اقترب يعقوب منه، خطواته ثقيلة، لا من التعب، بل من الرهبة كأن قلبه يقوده نحو الحقيقة التي لا يريد أن يسمعها.
وقف أمامه، وأخذ جلال منه برفق، وكأنّه يحمل روحه بين ذراعيه.
ضمّه إليه، قبّل رأسه وهو يرتجف، والصغير نائم كمن أنهكه البكاء حتى غفا.
ثم رفع يعقوب عينيه إلى سيف، وصوته خرج مرتعشًا، لكنه حادًا كالسكين علي قلب " سيف * :
ـ أين الباقون، أين الأطفال؟ ، ليان؟ ، أبي؟ ، الخدم؟ ، من نجا؟!
سيف لم يرد.
عيناه لم تلتقِ بعيني يعقوب، بل هربتا نحو الأرض، كأنّها باتت مأواه الوحيد، المكان الوحيد الذي يستطيع أن ينظر إليه دون أن ينهار.
كرر يعقوب سؤاله، لكن هذه المرة بصوت أشدّ، ممزوج بالرجاء والخوف معًاة:
ـ سيف، أجبني ،بالله عليك، قل لي أين هم؟ ،هل خرج أحد غيركما؟؟
لكن سيف ظل صامتًا، شفتاه ترتجفان، لكن لا صوت يخرج.
ثم فجأة... نزل بركبته على الأرض، جلس بصمت، وعيناه ما زالتا موجهتين نحو التراب، كأنّه يحمل وزر العالم على كتفيه.
كان الصمت أقسى من ألف جملة.
يعقوب شعر بأن الدم تراجع من وجهه، وبرودة شديدة زحفت إلى أطرافه، كأن قلبه توقّف لوهلة، وانسحب النور من الدنيا كلها من حوله.
همس وكأن صوته نفسه لا يريد الخروج:
ـ لا... لا تقل إنني فقدتهم كلهم.
سيف لم يتكلّم، لكنه أغمض عينيه، وأومأ برأسه ببطء، كأن الإيماءة نفسها تحتاج إلى شجاعة لا يملكها.
كانت تلك الإيماءة كافية لتفعل ما لم تفعله النيران.
يعقوب لم يصرخ.
لم يبكِ.
لم يتكلم.
بل سقط على الأرض بهدوء، وضمّ جلال إلى صدره، كأنه يحمي فيه بقايا ما تبقّى من عالمه.
كان كل شيء فيه ينهار بصمت.
أما سيف
فقد ظل جالسًا، وجهه إلى الأرض، وصـ ـدره يصعد ويهبط كمن يحاول أن يتنفس في وسط بحر من الذنب.
كل الإجابات قيلت دون أن تُقال.
وكل المشاهد أُعيدت في خيال يعقوب من جديد، بدم أكثر، بنار أقسى، بحزن لا حدود له.
وبين الثلاثة .
جلس الزمن قليلًا، ليراقب ما خلفه الرماد.
ظلّ يعقوب جالسًا على الأرض، لا يتحرك، لا يتكلم، لا يُظهر أي ردة فعل.
فقط كان يحتـ ـضن جلال بين ذراعيه، يحتـ ـضنه كما يحـ ـتضن الغريق آخر خشبة نجاة في البحر.
كان الصغير نائمًا، تنفسه خفيف كأنّه يحاول ألا يزعج أحدًا، لكن صـ ـدر يعقوب كان يعلو ويهبط بعشوائية، كأنّ قلبه يحاول أن يستوعب ما لا يُستوعب، أن يعيش رغم كل ما انتهى.
عيونه كانت ثابتة، لا تنظر لأحد، وكأنها معلقة على مشهد لم يعد هنا، على لحظة من الماضي، من الطفولة، من الضحك الذي أصبح مجرد صدى في الذاكرة.
حاول " عبد الله " ان لا يبكي امامه ، ولكن شهق حين تذكر شقيقه " ادم " الملك ، الذى كان طول معه في طفولته لم يتفرقوا ابدا
نظر الي يعقوب الذى كان جالساً على الأرض، يحمل جلال، وسيف بجواره، جالس كمن خسر الحرب الأخيرة في حياته.
لم يقل شيئًا في البداية، لكن ملامحه تغيرت فجأة، ارتجف طرف فمه، وانحنت كتفيه قليلًا.
ثم تقدم، وانحنى ببطء على يعقوب، كأنّه يهاب أن يلمسه حتى لا ينهار أكثر.
جلس بجواره، ووضع يـ ـده على كتف يعقوب بحذر، لم يضغط، فقط لمس، كما يلمس الأب باب غرفة طفله المريض في الليل دون أن يوقظه.
قال بصوت مبحوح، مليء برجفة رجل حمل أكثر مما يحتمل:
ـ أعلم أن الكلام لا يُجدي، وأن العزاء لا يُعيد أحدًا ،
ولكنك لست وحدك، يا بني... نحن معك، أنا هنا.
ثم سكت وصوته اختفى.
مرت لحظة، وسُمِع صوت آخر، لم يكن من الخارج، بل من داخله.
كان بكاء.
عبد الله بكى.
بكى وهو يضع راحة يده على رأس يعقوب برقة، كأنّه يحاول أن يسحب منه بعض الحزن، أو يقسم معه الألم.
بكى الرجل الذي اختفى لسنوات، وها هو يعود لا ليُصلح شيئًا، بل ليحمل جراح ما تبقى.
أما يعقوب... فلم ينطق.
لم ينظر إليه.
لم يحرك ساكنًا.
كأنّه تحوّل إلى تمثال، تمثال منحوت بالحزن، ومتجمّد في لحظة لم يستطع الخروج منها.
كان يرى أمامه صورًا لا يراها أحد
ليان وهي تضحك، ثم تصرخ
والده وهو يعلّمه كيف يحمل السيف، ثم يسقط أمامه راكعًا .
والده ، الأطفال ، زوجه شقيقه . ضحكتهم في الممرات، ونداءاتهم حين اختفوا.
الكل كان يعود إليه، لا كذكرى، بل كطعنة جديدة.
لم يصرخ.
لم يسأل.
لم يعاتب أحدًا.
فقط كان يصمت
يصمت لأنه لو تحدث، لانكسر.
ظلّ الصمت مخيّمًا، ثقيلًا، خانقًا... كأن الهواء نفسه لم يعد يملك الجرأة ليمرّ بينهم.
يعقوب ما زال جالسًا، يحتـ ـضن جلال بقوة، كأنّ الطفل أصبح الشيء الوحيد الذي يبقيه على قيد الحياة.
لم ينطق بحرف، ولم تدمع عينه، لكن وجهه كان غائبًا، كأنّه انفصل عن هذا العالم وذهب إلى عالمٍ لا أحد فيه سواه وسواهم ، من رحلوا.
مالك لم يُبعد يده عن كتفه، بل تركها هناك كأنها محاولة بائسة لمنعه من السقوط أكثر.
أما سيف
سيف ظلّ صامتًا لوهلة، لكنه لم يحتمل الثقل داخله.
وجهه كان شاحبًا، وعيناه متورمتان من أثر البكاء الذي لم يكن له مكان بالأمس، لكنه انفجر الآن دون إذن.
أدار وجهه نحو يعقوب، نظراته كانت ممتلئة بالذنب، كأنّه يرى فيه صورة الطفل الذي وعد والده بحمايته وفشل.
صوته خرج أخيرًا مكسورًا، مهزومًا، صوت رجل حمل جثثًا في صـ ـدره دون أن يستطيع دفنها :
ـ حاولت أن أساعدهم ،ولكن حين دخلت إلى المملكة ،لم يكن أيُّ أحدٍ على قيد الحياة.
قالها وهو يُخفض عينيه، كأنّه لا يحتمل أن يرى وجه يعقوب بعد تلك الكلمات.
شفـ ـتيه كانت ترتجف، وصوته اختنق في حلقه، وكأن قلبه يخونه حتى في لحظة الصدق.
ثم أدار رأسه جانبًا، وانفلتت دمعة على خده.
لم يمسحها، لم يخفِها، تركها تنزل كما تنزل الحقيقة الثقيلة صامتة، لكنها حارقة.
لم يتحرك يعقوب .
لم يتكلم.
لم يرمقه بنظرة، ولا رفع رأسه حتى.
كأنه لم يسمع.
أو كأنه سمع، لكن الصوت وصل متأخرًا لدرجة أن صدمته سبقت فهمه.
ظل يحتـ ـضن جلال، عينيه شاخصتان في نقطة مجهولة على الأرض، لا يرى منها شيئًا، لكن يرى من خلالها كل شيء.
العبارات كانت كالسكاكين في الهواء
وسيف، رغم كل ما مرّ به، كان يبدو كمن ينهار على مهل، لأنه لم يستطع أن يفي بوعده.
ولأن يعقوب لم يغضب.
لم يصرخ.
لم يتّهمه.
بل التزم الصمت، الصمت الذي كان بالنسبة لسيف أقسى من ألف عتاب.
وهكذا جلس الثلاثة في الغرفة الواحدة
واحد يبكي بصوتٍ مرتجف،
وآخر بصمتٍ قاتل،
وثالث لا يملك إلا أن يراقب الألم وهو يتكاثر أمامه.
❈-❈-❈
بينما كانت السماء ما تزال تتعافى من دخان الحروب، وعلى بعد مسافات لا تعرف النيران كيف تصل إليها، خرجت فتاة صغيرة من أحد القصور الجديدة في قلب مملكة تُعاد رسم حدودها بلون الدم، لا تدري عن الحروب شيئًا... سوى ما تسمعه في قصص والدها.
كانت تحمل طائرًا صغيرًا بين يديها، أبيض الريش، عيناه تتحركان بفضول وهي تضحك له ببراءة لا تعرف ما خلف الجدران. شعرها الطويل كان يتطاير خلفها مثل شال حريرٍ سرقه النسيم، ووجهها الصغير كان يلمع تحت الشمس كأنها قطعة ضوء.
ركضت نحو الحديقة، حافية القدمين، خطواتها خفيفة كأن الأرض لا تُرهقها، ووقفت وسط الزهور وهي ترفع الطائر عاليًا في السماء، ثم تضحك... تضحك من قلبٍ نظيف، وكأنها أميرة خرجت من أرضٍ لا تُعرف فيها الخسارة.
كانت تتحدث مع الطائر كأنّه صديقها الوحيد، تهمس له وتبتسم، ثم هتفت بصوتٍ مليء بالحماس والأمل:
ـ أنا سعيدة اليوم، اليوم قال لي أبي إنه انتصر على عائلة الملك ، قال إنه سيأخذ أرضهم كلها، وسيجعل مملكتنا أكبر من أي وقت مضى
نظرت للطائر كأنها تنتظر منه تصفيقًا، ثم أضافت وهي تدور حول نفسها :
ـ تعرف يا صغيري ،أنا حلمي كبير جدًا ، أريد أن يُكتب اسمي في كتب التاريخ، أن تُروى حكايتي في كل مدينة، أن يقول الناس عني ، كانت فتاة لا تُنسى
أغمضت عينيها للحظة، ورفعت ذراعيها كأنها تحتضن العالم، وكأنها صدّقت فعلًا أن كل ما حولها ينتمي لها.
الحديقة كانت خضراء، السماء زرقاء، والنسيم يحمل رائحة الورود.
ولا شيء، لا شيء كان يوحي بأنها فوق رمادٍ لم يبرد بعد
وأن اسمها، حين يُكتب في التاريخ
قد لا يُكتب كما تتمنى.
كانت لا تزال تضحك، تدور في الحديقة كفراشة لا تعلم أن كل ما يحيط بها نبت على أنقاض.
لكن شيئًا ما ظل يزعجها، ظل صوت صغير يتردد في عقلها، همسًا لم يُفارقها منذ الصباح.
توقفت فجأة عن اللعب، نظرت للطائر الذي تحمله وهمست:
ـ بالأمس... لماذا لم أخرج من غرفتي؟ لماذا منعوني؟
شعور غريب، ثقيل، تسلّل إلى قلبها الصغير.
لم تكن خائفة، بل فضولها الطفولي بدأ يتقد، يلحّ عليها أن تعرف، أن تفهم ما لا يُقال لها.
فجأة استدارت، وعينيها مليئتان بتساؤلات لا تجد لها أجوبة في الهواء.
ركضت عائدة إلى القصر، خطواتها سريعة، وملامحها جادة للمرة الأولى.
صعدت السلالم بخفة، تجاوزت الحراس، واتجهت مباشرة إلى جناح والدها، الرجل الذي كانت دائمًا تراه بطلاً، فارسًا لا يُهزم.
فتحت الباب دون أن تطرق، كعادتها، ودخلت.
كان يجلس هناك، بثوبه الأسود، وأمامه خريطة كبيرة، يحرّك عليها أحجارًا صغيرة تشبه الجنود والملوك.
نظر إليها عندما دخلت، وابتسم، لكنها لم تبتسم.
تقدّمت نحوه، وحدّقت فيه بعينين صغيرتين، لكنها تحملان ثقل سؤال:
ـ أبي، لماذا منعتني من الخروج من غرفتي أمس؟
ساد صمت قصير.
ثم تنفّس والدها بهدوء، ولم يبتعد عن خريطته، كأنّ السؤال كان متوقعًا، كأن الإجابة كانت تنتظر الخروج.
قال بصوته العميق، الهادئ، كأنّه يروي قصة عادية:
ـ لأنني... كنت مشغولًا بقتل الملك المعتصم بالله.
تجمّدت ملامحها.
شعرت وكأن الهواء اختفى للحظة.
كأن شيئًا ما انكسر داخلها، لكنها لم تفهم ما هو.
ظلت تنظر إليه، لا تصدق ما قاله أو ربما صدقته، لكنها لم تعرف كيف تتعامل مع الحقيقة.
لم يشرح.
لم يبرر.
قالها بهدوء القاتل، الذي لا يشعر بالذنب، بل بالرضا.
أما هي
فلم تعرف إن كانت تخاف منه الآن، أم تفتخر، أم تبكي
كل ما عرفته هو أن العالم تغيّر
بجملة واحدة فقط.
توقّفت أنفاسها للحظة، وعيناها ثبتتا على وجه والدها دون رمشة، لا تعلم ماذا تقول، ولا كيف ترد.
لم تكن صغيرة بالقدر الذي يجعلها تجهل معنى "قتل"، لكنها أيضًا لم تكن كبيرة بما يكفي لتفهم عمق ما يعنيه أن يُقتل ملك على يد أبيها.
لاحظ سكوتها، نظر إليها بتمعن، ثم ترك الخريطة التي أمامه، وأشار لها أن تقترب.
ـ تعالي يا صغيرتي
اقتربت ببطء، خطواتها فقدت الحماسة، والطائر في يدها أصبح ثقيلًا فجأة، كأنّه لم يعد صديقها، بل مجرد شيء غريب لا تعرف لماذا تحمله.
عندما وصلت إليه، جلس على ركبته، حتى صار في مستواها، ووضع يديه على كتفيها برفق، وقال بنبرة ناعمة، لكنها ثابتة كالسيف:
ـ أنا أعلم أن الأمر يبدو غريبًا ، وربما قاسيًا في نظرك، لكني فعلت ذلك من أجلك ، من أجل مستقبلك، ومستقبل هذه المملكة.
سكت قليلًا، ثم تابع وعيناه تتفحصان تعبيرات وجهها المتقلّبة:
ـ لقد آن الأوان أن نأخذ ما نستحق.
تلك الأرض التي دُمّرت، ستصبح جزءًا من إمبراطوريتنا.
وسيُذكر اسمك، يا صغيرتي، في التاريخ الذي لا يُكتب للضعفاء.
هزّت رأسها ببطء، دون أن تقول شيئًا، لكن في داخلها
كان هناك صراع صغير يولد للمرة الأولى.
هي أرادت أن تُذكر في التاريخ، نعم
لكنها لم تسأل نفسها أبدًا ، بأي ثمن؟
وبينما هو يبتسم بفخر
كانت هي تفكر للمرة الأولى:
هل المجد يُبنى من رماد الآخرين؟
خرجت من غرفة والدها بخطى بطيئة، لا كمن انتهى من حديث عابر، بل كمن ترك خلفه شيئًا ثقيلًا لا تعرف كيف تحمله.
كانت تمسك الطائر بنفس اليد، لكن يدها كانت مشدودة، وأصابعها تقبض عليه دون أن تشعر، وكأنها تحاول أن تجد فيه اتزانًا، بعدما اختلّ كل شيء في رأسها.
الممر كان طويلًا، لكن خطواتها كانت أقصر من العادة.
كل ما قاله والدها ، ظل يتردد في أذنيها.
"كنت أقتل الملك المعتصم بالله."
"من أجلك"
"لكي يُكتب اسمك في التاريخ."
كانت دائمًا تسمع عن الحرب. عن الانتصارات.
عن الأعداء الذين هزمهم والدها بشجاعة.
لكن أبدًا ، لم تتخيل أن يكون ذلك بهذه الصورة.
توقفت عند إحدى النوافذ المطلة على ساحة القصر، نظرت إلى الأسوار العالية، والجنود المتمركزين في أماكنهم.
هناك حيث كان يُفترض أن تكون المعارك ، هناك حيث يجب أن يُواجه الملك خصمه وجهًا لوجه، لا أن يُذبح كمن وقع في كمين.
همست في داخلها، دون أن تنطق شفتيها:
"كان عليه أن يُقاتله في أرض الحرب ، لا أن يقتله داخل قصره."
هزّها هذا التفكير. لأول مرة، شعرت بأن تصرف والدها ليس كما كانت تتوقع من "الملك الشجاع".
أزعجها، أقلقها، وشوّه صورتها البريئة عن معنى القوة.
جلست على مقعد حجري عند طرف الحديقة، وضعت الطائر في حجرها، ومرّرت يدها فوق ريشه بصمت.
لم تعد تضحك.
ولم تعد تحلم كما قبل قليل.
هناك شيء جديد نشأ في قلبها شيء صغير، خافت اسمه الشك.
❈-❈-❈
أرخى الليل سدوله على المكان، لكنّ الحزن كان أعمق من أن يُسكِنه السكون.
جلال نائم على الفراش، أنفاسه هادئة، وجسده الصغير منكمش كأنّه يحاول الاحتماء من العالم في صدر الحلم.
جلس يعقوب إلى جواره طويلًا، ينظر إلى وجهه البريء، ثم انحنى يقبّله على جبينه قبلةً تشبه الوداع أكثر مما تشبه الطمأنينة.
نهض بهدوء.
لم يُصدر صوتًا، لم يلتفت، فقط مضى خارج الغرفة بخطوات هادئة.
لم يشعر به أحد.
اختفى.
كأن الحزن قاده إلى حيث لا يُرى.
والذى رأه يخرج من البيت ، عمه ، ظل ينادي عليه بخوف ، ولكنه لم يرد ، لم ينظر له ، كأنه شارد ، مما دخل الس البيت بلهفة ، واقترب من " سيف " الذي خرج من الغرفة وهو يبدل ثيابه :
ـ يعقوب ذهب يا سيف ، اذهب خلفه ، فـ إذا فعل تصرف طائش سيموت علي يـ ـد هولاء الذى بلا رحمه .
ختم حديثه حتى خرج " سيف " وهو يلاحقه ، فهو أمانة " الملك " وسيحميه بأي طريقة كانت .
❈-❈-❈
كان الليل ساكنًا، إلا من صوت الريح وهي تعوي بين الأنقاض.
وقف يعقوب أمام بقايا المملكة ، مملكة المعتصم بالله.
لم يبقَ شيء.
كلّ شيء احترق.
الجدران التي نشأ بينها ، تهدمت.
الحدائق التي كانت تعبق بالعطر والألوان ، صارت رمادًا.
ومع ذلك، انحنى، ومدّ يده ليجمع حفناتٍ من هذا الرماد، كأنّه يجمع ذاكرته.
حفنة تلو الأخرى.
يده ترتجف، وعيناه تفيض بصمت.
لم يكن يبكي، لكن كلّ ذرة رماد بين أصابعه كانت تبكي.
توقّف عند زاوية لم يتبقَّ منها سوى جزء من عمود محترق.
هنا، كانت ليان زوجة أخيه تقف دومًا تضحك وهنا، كان يركض الأطفال وهنا كان أبوه يُصلي.
تنهّد، كأنّ صـ ـدره اختنق بما لا يمكن نطقه.
لكنّه لم يكن وحده.
كان سيف قد استبدل ثيابه، وحين لاحظ غياب يعقوب، خرج يبحث عنه حتى وجده، واقفًا وسط الركام، يحني ظهره على الرماد كأنّه يبحث عن شتاته بين الركام.
وقف بعيدًا أولًا، يرقبه بصمت، ثم اقترب وهمس:
ـ يا يعقوب عد، المكان لم يَعُد لنا.
رفع يعقوب نظره، وجهه مغطّى بالرماد، وصوته خرج ضعيفًا:
ـ بل هو لي ، هذا كلّ ما تبقّى لي.
لم يُجبه سيف، فقط وقف بجانبه، يشدّ على ذراعه.
وفجأة، جاء صوتٌ من ناحية القرية المجاورة.
ارتفع الصراخ، وبكاء نساء، وهرولة أقدام.
أسرع الاثنان نحو الصوت، وحين اقتربا، رأيا المشهد.
كان جنود العدو يقفون في ساحة القرية، والناس مجتمعون، محنيّو الرؤوس، والذعر يملأ عيونهم.
الأطفال كانوا يُسحبون من أيدي أمهاتهم.
صرخت امرأة بذعر وهي تحاول أن تمسك أبنها :
ـ لا تأخذوه! بالله عليكم، هذا كلّ ما لي .
لكن الجنود لم يُبالوا.
سأل يعقوب، والغضب في عينيه :
ـ ما الذي يفعلونه؟؟
ردّ أحد الرجال من القرية بصوت مبحوح كان بجانبه :
ـ يريدون إذلالنا ، سيأخذون أطفالنا، ويجعلوننا عبيدًا ، قالوا إننا سندفع ثمن ولائنا للملك المعتصم بالله
همّ يعقوب أن يتقدّم، لكن يـ ـد سيف أمسكت بذراعه بقوة:
ـ لا، ليس الآن.
ـ أتُراني سأصمت وهم يسحبونهم كما تُسحب النعاج ؟؟
ـ إن تدخلت الآن، سنموت معهم ، انتظر فقط ، فكر في جلال وعمك ، وانتقامك من هؤلاء الذين قتلوا احبائنا .
كاد أن يرد عليه يعقوب ، ولكنه توقف حين هتفت امرأة من القرية وهى تصرخ بهم :
ـ ستتحسبون جميعكم ، الملك المعتصم بالله لم يرحم أحد فيكم ، ولا أحد من عائله الملك يترككم ، افعلوا ما تشاءون ، ولكن الملك لم يرحمكم ابداً
صاحوا أهل القرية باسم الملك ، مفتخرون بأنه ملكهم ، وبأنه ينقذهم
رأي " سيف " اهل القرية مفتخرين بانه ملكهم ، ابتسم هو وهتف بفخر :
ـ أرأيت ، الملك المعتصم بالله لم يتركنا ابداً ، ولم يترك هؤلاء الخوانة و…..
لم يُكمل سيف حديثه، إذ ارتفع صوتٌ جهوريٌّ من بين صفوف العدو .
صوت ملك إيراثيا، ممتلئ بالفخر والقسوة، وهو يخاطب الأهالي :
ـ تبحثون عن ملككم
رفع شيئًا في يـ ـده ، شيء مغطّى بقطعة قماشٍ حمراء.
ثم أزاح القماش.
كانت رأس المعتصم بالله.
رماها أمامهم كما يُرمى الكفن على حفرةٍ مفتوحة.
شهق البعض، وبكى آخرون.
أما يعقوب
فلم يتحرك.
ولم يتنفّس.
حدّق في الرأس، وكأنّ الوقت توقف.
كان هذا أخاه.
الملك.
السند.
رمز العائلة.
كُسِرت الصورة التي كانت في ذهنه، وتحطّم الصوت الذي لطالما سمعه في الليالي.
ركع ببطء وذراعه ترتجف.
وهمس لنفسه :
ـ حتى الرأس ، لم تُسلَم.
سيف وقف إلى جواره ينظر بصدمة الي رأس صديقة وهو يهز رأسه بلا ، يستحيل أن تكون رأس الملك
لكنّه علم شيئًا واحدًا:
أن شيئًا في يعقوب انكسر.
ولم يعد كما كان.
يتبع...
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة توتا محمود، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية
يتُبع …