-->

رواية جديدة قلوب على الهامش ليارا علاء الدين - الفصل الأخير - الجمعة 11/7/2025

 

  قراءة رواية قلوب على الهامش كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية قلوب على الهامش

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة يارا علاء الدين 


الفصل الأخير 


تم النشر يوم الجمعة 

11/7/2025



في غرفة التحقيق الصامتة، جلست شهد على الكرسي الخشبي، يداها تتشابكان فوق حجرها، وعيناها لا تجرؤان على النظر في وجه الضابط, بعد بحث طويل دام لأكثر من اسبوعين.

صوت المقدم شريف انطلق هادئًا، لكنه لا يخلو من الحزم:

– قوليلي بقى يا شهد, إنتي دخلتي الفيلا على زين, لقيتيه بينزف, كمّلتي عليه؟ مش كده؟

شهقت، ثم أطرقت برأسها، وصوتها خرج كمن يعترف بخطيئة العمر:

– حضرتك عرفت إزاي؟

ارتفع حاجباه، دون دهشة، وكأنه كان يعلم، ثم قال برفق:

– ليه يا شهد؟

تنفست ببطء، ثم همست:

– كان بيبتزني... شهور وأنا بسدده من جسمي وكرامتي... وكنت ساكتة! بس يومها... شوفته واقع، بيبصلي بضحكة... ماقدرتش. خلّصت عليه زي ما قتل فيّا كل حاجة.

سجّل الاعتراف، ثم نهض من مكانه وقال للجندي الواقف:

– استدعيلي الآنسة هدى المنشاوي، فورًا.

بعد أقل من ساعة، كان الثلاثة يجلسون في القاعة الجانبية. الصمت بينهم أثقل من الكلام. دخل المقدم شريف، بيده ملفّ كبير، ووقف أمامهم بثبات.

قال وهو ينظر إليهم واحدًا تلو الآخر:

– القضية انتهت.

التفت له يوسف وقال بصوت متوتر:

– يعني إيه خلصت؟ حضرتك وصلت لإيه؟

أجابه بثبات:

– اللي قتل زين... بنت من ضحاياه، اسمها شهد عبد الرحمن. دخلت الفيلا بعد ما وقع، وكملت عليه. واعترفت.

شهقت هدى، ثم تمتمت:

– يعني أنا بريئة؟

قال الضابط وهو يضع الهاتف القديم الخاص بزين على الطاولة:

– من اللحظة الأولى، فتشنا تليفونه. لقينا فيه رسايل وصور وابتزازات, لبنات كتير., مشينا وراهم كلهم لحد ماوصلنا لشهد.

سأله يوسف مستغربًا:

– يعني اللي عمله مع هدى... كان جزء من اللي بيعمله مع الكل؟

أومأ الضابط برأسه:

– كلهم كانوا أدوات، واللي حصل في الفيلا مجرد نهاية متأخرة، لراجل مات من زمان بس محدش دفنه.

ساد الصمت لحظة، قبل أن يتابع المقدم:

– كان ممكن أي واحدة من البنات تبقى مكان شهد، لكن القدر اختارها.

رفع الملف أمامهم، وقال بابتسامة ظهرت على محياه أخيرًا:

- مبروك يا آنسة هدى.

❈-❈-❈


2-


كان الصباح باردًا كأن الليل لم يغادر بعد، والشمس تتسلل بخجل من خلف ستائر ثقيلة تُغطي شبابيك فيلا المنشاوي. في الصالة الواسعة، اجتمع الأربعة حول طاولة الإفطار؛ لبنى هانم توزع نظراتها بين الصحون بعينين شاردتين، هدى تعبث في الأطباق دون تركيز، ويوسف يقلب فنجان القهوة بأطراف أصابعه... أما رؤوف بك، فكان يقرأ الجريدة، كعادته، بصمت ثقيل.

وفجأة، انفتح الباب الكبير.

دخل نور، بثبات من يعرف الحقيقة أخيرًا.

وقف لحظة عند المدخل، وأخرج من جيبه ظرفًا أبيض، ثم تقدم نحو الطاولة، ووضعه أمام يوسف.

قال بصوت هادئ:

– نتيجة تحليل الحمض النووي... بتقول إن أنا ابن المنشاوي.

تجمّد الزمن.

لبنى هانم شهقت بصوت مكتوم، كأن الهواء انفلت من صدرها.

هدى نهضت فجأة، تسأل بعينين متسعتين:

– إنت متأكد؟

أما يوسف، فكان الوحيد الذي مدّ يده بهدوء، فتح الظرف، وأخرج الورقة... قرأها بعينين ثابتتين، ثم رفع رأسه نحو نور، وقال دون نبرة واضحة:

– التحليل... صحيح.

ساد الصمت مجددًا، حتى تكلم أخيرًا من لم يتكلم بعد.


رؤوف بك المنشاوي، وضع جريدته جانبًا، ثم اعتدل في جلسته، ونظر إلى الجميع نظرة ثقيلة، كأنها تُحضّرهم لزلزال قادم.

قال بصوت خافت، كأن كل كلمة تخرج منه تُنزَع من روحه:

– ايوة هو ابني!

صرخت لبنى هانم:

– رؤوف! إنت بتقول إيه؟!

قال دون أن ينظر إليها:

– اللي سمعتوه هو الحقيقة... من أكثرمن عشرين سنة، كنت متجوز السكرتيرة بتاعتي... جواز رسمي، بس في السر.

خفض رأسه قليلًا، ثم تابع بصوت أعمق:

– ولما حَمَلت، حاولت أسيطر ع الوضع... لكن الولادة جات فجأة، وماتت وهي بتولد. كنت هتجنن... مش بس من موتها، لكن من الفضيحة اللي كانت هتقلب الدنيا.

هدى وضعت يدها على فمها، لا تصدق ما تسمعه.

أما يوسف، فظل واقفًا، جامد الملامح، كأن قطعة من الجليد ذابت داخله فجأة.

قال رؤوف بك، وعيناه تبتعدان عن أي وجه:

– بعت واحد من رجالتنا... ياخد الطفل، يبعده... يرميه في أي مكان، وينهي الموضوع.

ثم تمتم:

– ما توقعتش... إنه يفضل عايش.

لبنى نهضت، تترنح وكأن الأرض خانتها:

– ودفنت ده سنين؟! ممثل بارع!

نور وقف ثابتًا، لم يصرخ، لم ينهَر، فقط قال بصوت متهدّج:

- الحمدلله إنه جواز رسمي.

رؤوف رفع عينيه إليه، وقال بصوت نادم:

– ماكانش المفروض أسيبك... بس الخوف... الخوف خلى قلبي حجر.

قال يوسف، وهو يطوي الورقة ببطء:

– واضح إن البيت ده... أكبر من كل الحكايات اللي كنا فاكرين إننا نعرفها عنه.

هدى، نظرت له وقالت بصوت خافت:

– يعني انت أخويا؟!

أجاب نور، دون أن يلتفت:

– ورغم كل اللي حصل... أنا مش جاي آخد حاجة... أنا جاي أثبت نسبي بس.

وانتهى اليوم. لا بنهاية، بل ببداية صدعٍ لن يُرمم بسهولة... بين جدران فيلا، لم تكن يومًا كما بدت.

❈-❈-❈

3-


وفي اليوم التالي, كانت الشمس قد مالت قليلًا نحو الغروب، تلقي خيوطًا ذهبية على واجهة فيلا المنشاوي، كأنها تُبارك هدوءًا طال انتظاره. داخل الصالة الرحبة، جلس المنشاوي إلى جانب لبنى هانم, بينهما هدى تتصفح هاتفها، ساكنة الملامح، لكن في عينيها بريق صغير يحاول أن يولد من جديد.

دقّ جرس الباب.

تقدمت الخادمة لتفتحه، ثم عادت تقول:

– الأستاذ آدم الجارحي.

دخل آدم بخطوات واثقة، يرتدي قميصًا أزرق بسيطًا، يحمل في يده ظرفًا صغيرًا، وعيناه تشعّان بالهدوء.

وقف أمامهم، ثم قال بصوت ثابت:

– مساء الخير يا رؤوف باشا, مساء الخير يا لبنى هانم.

أومأ الاثنان برأسهما بتحية هادئة، وردّ رؤوف بنبرة حذرة:

– مساء النور يا آدم... اتفضل.

لم يجلس. بل أخرج الظرف، وقدّمه إليه قائلاً:

– قبل ما أتكلم، كنت حابب حضرتك تشوف ده بنفسك.

فتح رؤوف الظرف، فإذا بطباعة حديثة لعدة أخبار منشورة على المواقع الإلكترونية، وكلها تحمل عنوانًا موحدًا:

تكذيب رسمي لما تم تداوله بشأن الآنسة هدى المنشاوي... وبلاغ قانوني ضد مروجي الشائعة.

اتسعت عينا لبنى، ونظرت لآدم بدهشة صامتة، بينما قال هو:


– بعد اللي حصل، كان لازم أردّ اعتبارها... كلمت الإعلام, ووسائل التواصل, وتم سحب كل المحتوى المسيء خلال 24 ساعة.

ثم التفت نحو هدى، وقال بنظرة عميقة:

– يمكن ماعرفتش أوقف اللي حصل، لكن حاولت أصلح اللي جاي.

قالت هدى بصوت خافت، وفي عينيها دمعة خجولة:

– شكراً يا آدم... مش علشان دافعت عني وبس... لكن علشان صدقتني.

ثم استدار آدم إلى والدها، وتقدم خطوة، كأنما يستعيد عهداً نسيه الزمن، وقال بجدية لا تخلُ من التوتر:

– أنا جايلك النهاردة ياعمي... طالب إيد الآنسة هدى.

ساد الصمت لحظة. وضع المنشاوي الأوراق جانبًا، ونظر إلى وجهه نظرة فاحصة، ثم قال بصوت عميق:

– يعني هتقدر تحافظ عليها؟

ابتسم آدم لأول مرة، وقال:

– في عينيا ياعمي.

نظرت لبنى إلى هدى، ثم أمسكت بيدها، وقالت برقة لم تعهدها:

– إيه رأيك ياهدى؟

رفعت هدى عينيها إلى آدم، ثم إلى والدها، وقالت بثقة ناعمة:

– اللي تشوفوه.

ابتسم رؤوف، ومسح على كتف ابنته، ثم قال بصوت دافئ:

– بس الجواز بعد ما تخلص الكلية... اتفقنا؟

أومأ آدم بفرح:

– اتفقنا...

علت الوجوه ابتسامات دافئة، وخفّت ظلال الأيام السابقة, كأن دفءَ هذه اللحظة قد ذاب فيها كل ما كان يؤلم.

❈-❈-❈


4-


في صباحٍ ثقيل الظلال، كان الهدوء يسود فيلا الجارحي، كأن الجدران تسترق السمع لشيء على وشك أن يُقال للمرة الأولى دون خوف.

في غرفة المكتب، جلس سليم الجارحي خلف مكتبه الفاخر، يراجع بعض الأوراق، حين دخلت رنا بخطى هادئة، لكنها ثابتة.

رفع بصره إليها، وابتسم ابتسامة ضيقة، ثم أشار إلى المقعد أمامه.

قال بصوته المعتاد، الصارم الواثق:

– كلمت رؤوف المنشاوي من شوية... اتفقنا نعمل الفرح من جديد، بس على مستوى أعلى. لازم الناس تنسى المهزلة اللي حصلت، ونرجّع اسم الجارحي زي ما كان.

سكت لحظة، وكأنّه يمنحها فرصة لتفرح، أو على الأقل تُبدي امتنانًا، لكنها لم تتكلم.

رفع حاجبه، وقال وهو يضع الورقة جانبًا:

– في إيه يا رنا؟ مفرحتيش يعني؟

تقدّمت خطوة للأمام، نظرت إليه نظرة طويلة، ثم قالت بهدوءٍ لا يقل عن الزلزال وقعًا:

– لا يا بابا... مش هتجوز يوسف.

ارتسم الذهول على وجهه، كأن أحدهم ألقى عليه ماءً باردًا فجأة.

– إيه؟ بتقولي إيه؟!

– بقولك مش هتجوزه... مش عايزة أعيش في تمثيلية تانية، ولا أكمل حياة مش بتاعتي.

نهض من مكانه دفعة واحدة، وصوته ارتفع لأول مرة منذ سنوات:

– إنتي اتجننتي؟! إنتِ إزاي تقوليلي لأ؟ وبعد إيه؟

نظرت إليه بثبات، وأجابت دون أن ترفع صوتها:

– أنا إنسانة، وآن الأوان أختار.

– تختاري؟! من إمتى؟!

– من اللحظة اللي عرفت فيها إن السكوت ضعف، وإني مش صفقة من صفقاتكم!

صدمه الرد، وارتبك صمته، ثم قال بصوت مختنق بالغضب:

– مين اللي لعب في دماغك؟ إنتِ إزاي تكلميني كده يابنت؟

– أنا فوقت أخيرًا يمكن متأخر بس فوقت!

ثم استدارت، وتركت وراءها صدى الكلمات يتردد في الجدران، وخرجت من الفيلا، لا تلتفت، لا تضعف، كأنها تحررت من قيدٍ قديم.


❈-❈-❈

في شركة أركان، كان نور جالسًا أمام مكتبه، يقلب في ملفٍ أمامه، حين سمع الباب يُفتح فجأة.

دخلت رنا، ملامحها مجهدة، لكن في عينيها نار لا تنطفئ.

قالت وهي تتنفس بسرعة:

– أنا جاية أقولك حاجة... مش هستنى أكتر من كده.

رفع عينيه إليها بقلق، نهض من مكانه وهو يقترب:

– خير يا رنا؟!

– تتجوزني؟

تجمّدت اللحظة، وكأن الزمن توقف لبرهة.

تابعت بصوت متماسك، رغم الارتجاف في صدرها:

– من أول لحظة معاك حسّيت بالأمان، وأنا خلاص مش ههرب تاني.

نظر إليها نور، عيناه امتلأتا بصراعٍ لا يحتمل، ثم قال بصوت ثقيل:

– رنا... في حاجة لازم تعرفيها قبل أي حاجة.

– إيه؟!

تنفس ببطء، ثم قال:

– أنا... ابن رؤوف المنشاوي. يعني...

سكت لحظة، ثم أكمل:

– يعني يوسف أخويا.

ثم قص عليها قصته, بداية من موت مريم لنتيجة تحليل الحمض النووي!

انهار كل شيء في ملامحها في لحظة، كأنها تلقت طعنة في صدرها لا في قلبها فقط.

تراجعت خطوة، نظرت إليه بذهول، وعيناها ترمشان في محاولة لاستيعاب الصدمة:

– يعني, إنت بتبعدني تاني يا نور!

– مقدرش آخد خطيبة أخويا يا رنا... حتى لو كنت ب........

وضعت يدها على فمها، كأنها تمنع شهقة حارقة، ثم استدارت، وخرجت من مكتبه بخطوات مترنحة...

مرة أخرى، تشعر أن قلبها تفتت... لا من خيانة، بل من الحقيقة.

خرجت إلى الشارع، والسماء كانت تمطر خفيفًا... كأنها تبكي بدلًا منها،

لكنها هذه المرة لم تركض، بل مشت بثقل من عرف أن الحب وحده لا يكفي،

وأن القدر أحيانًا... له رأي آخر!

❈-❈-❈

5-


في جناح المكتب العلوي من فيلا المنشاوي، كان رؤوف بك واقفًا أمام النافذة الزجاجية، يُدخّن سيجارًا فاخرًا، وعيناه تتأملان حديقة لا يراها. دخل يوسف بهدوء، كأن خطواته كانت تحمل نيةً أثقل من الزمن نفسه.

استدار الأب ببطء، وابتسم ابتسامة معتادة:

– كنت هابعتلك يا يوسف.. الجارحي كلمني, عشان نحدد ميعاد الفرح من تاني.

قاطعه يوسف لأول مرة، بصوت ثابت لم يعهده فيه:

– مافيش فرح يا بابا... ولا جواز من رنا... أنا مش هتجوزها.

صمتٌ مشدوه.

ثم قال الأب، بعد برهة من الصدمة:

– بتقول إيه؟

اقترب يوسف خطوة، ونظر إليه نظرة رجلٍ قرر أن يُشعل نارًا في بيت الخضوع القديم:

– بقول إني هاتجوز... بس مش رنا.

– أمال مين إن شاء الله؟!

– صفية... مدرسة اللغة العربية في المدرسة اللي كنت شغال فيها المشروع بتاعنا.

ضحك رؤوف ضحكة قصيرة، لكنها بلا فرح، وقال وهو يلقي السيجار جانبًا:

– إنت إتجننت؟ مدرسة؟ فقيرة؟! مش من مستوانا؟

قال يوسف، بنفس الهدوء الذي يُخفي وراءه عاصفة:

– يمكن تكون بالنسبة لحضرتك فقيرة... بس بالنسبالي أنا عمري اللي جاي.


– إنت أكيد اتجننت!

– لا يا بابا، الجنون الحقيقي إني أعيش طول عمري سلبي, أسكت، أوافق، أبتسم للناس اللي بتشتري وتبيع فيا...

أنا تعبت من الدور ده, أنا من حقي أختار ولو لمرة في حياتي.

صمت الأب، لم يُجِب. كأن ابنه قد ألقى في وجهه مرآة لا مفر من النظر إليها.

تابع يوسف، وعيناه دامعتان:

- أنا آسف يابابا, بس مش هرجع في كلامي.

لم يردّ رؤوف فقط أشار بيده في هدوء له ليخرج... كأنها أول مرة ينهزم فيها دون قتال.

يوسف أومأ برأسه، ثم استدار وخرج... لا بنصرٍ، بل بحرية.

                                   ❈-❈-❈

بعد دقائق, في مدرسة الصفا، كانت صفية تقف في فناء المدرسة، ترتّب أوراقها في هدوء، وجهها شاحب، وعيناها تغوصان في حزن صامت، كأن الليل بات فيها رغم أن النهار مشرق.

سمعت وقع خطواتٍ مألوفة، رفعت عينيها... فإذا بيوسف يقف أمامها.

كان يحمل وردة بيضاء، ونبضًا واضحًا في عينيه.

قال بصوتٍ خافت:

– يا أستاذة صفية... أنا جاي النهاردة أخد منك ميعاد عشان أتقدملك.

شهقت، كأن الهواء لم يجد طريقه لرئتيها، ثم قالت دون أن تلتفت تمامًا:

– حضرتك بتهزر معايا يا أستاذ يوسف؟

اقترب منها، ومد الوردة نحوها:

– لا أنا بتكلم بجد, وجد أوي كمان, لو بتتكلمي على خطيبتي فأنا سيبتها.



نظرت إليه، وجفناها يرتجفان، ثم همست:

– يعني إنت مش بتهزر؟!

بكت. لكنها لم تبكِ ألمًا هذه المرة... بل لأن أحدًا أخيرًا رأى فيها أنثى، لا قلبًا على الهامش.


❈-❈-❈

6-


في صباحٍ هادئ، تخلّت فيه الشمس عن حدّتها، وقف نورإلى جوار يوسف أمام مبنى الأحوال المدنية، والملف الأزرق في يده يُمثّل لحظة لا تُنسى… لحظة انتساب، لا بالدم وحده، بل بالأوراق.

دخل الاثنان، سارا بخطى متزنة، وعيناهما تتبادلان نظراتٍ مختلطة، فيها شيء من التأخر… وشيء من البداية.

وبعد إتمام التوقيعات والإجراءات، خرج يوسف يُلوّح بنسخة من المستند قائلاً:

– من النهاردة… بقيت نور المنشاوي رسميًا أخو يوسف المنشاوي.

ضحك نور، لكنه ما لبث أن سكت، وألقى نظرة خفيفة إلى الأرض، ثم قال بصوت متردد لكنه صادق:

– يوسف… كنت عايز أقولك حاجة.

– قول يا أخويا.

– بخصوص رنا.

– رنا؟! مالها؟

– أنا كنت… يعني… حبيتها, غصب عني والله, وكنت ناوي أبعد تمامًا وخصوصًا بعد ماعرفت إنك أخويا, متزعلش مني.

ضحك يوسف، ضحكة هادئة، ثم ربت على كتف نور قائلاً:

– إنتَ فعلاً أخويا…بس تحب تسمع المفاجأة؟

رفع نور حاجبيه بدهشة، فقال يوسف بابتسامة عريضة:

– رنا أناعمري ما حبيتها.

– إيه؟!


– أيوه... الجوازة دي كانت قرار من قرارات أبويا… لكن قلبي كان في حتة تانية.

– بتتكلم بجد؟ يعني بتحب حد تاني؟

نظر يوسف أمامه، وصوته يلين:

– فيه مدرسة لغة عربية… اسمها صفية, هي دي اللي خدت قلبي.

شهق نور، ثم ضحك، ثم اقترب منه وعانقه بقوة، وقال بصوت خافت:

– شكرًا... شكرًا عشان ريّحت قلبي, هروح أقولها, معندكش مانع صح؟

أومأ برأسه موافقًا.

انفصل نور عن يوسف وهو يبتسم، ثم فجأة ركض بعيدًا، يخرج هاتفه، يكتب شيئًا… ثم يتوقف. ويهمس بفرح:

- حتى لو مردتيش عليا أنا عارف هلاقيكي فين.

انطلق إلى الكافيه المجاور لفيلتها… الكافيه الذي شهد بداية دفء لم يكتمل. دخل بخطوات متلهفة، يبحث بعينيه… حتى رآها.

كانت رنا تجلس إلى طاولتهما السابقة، تنظر من النافذة بصمت، ويدها تُقلّب الملعقة في كوب قهوتها الباردة، كأنها تحرّك الوقت الذي لا يمرّ.

اقترب منها، نبضه يسبق خطواته، قلبه يُسرع قبل أن يصل. وقبل أن ترفع عينيها، كان قد جلس أمامها.

رفعت بصرها ببطء، صُدمت، ثم فتحت فمها لتتكلم، لكنه سبقها، وقال بصوت متهدّج يقطعه الصدق:

– أنا آسف يا رنا… آسف إني خذلتك مرتين.

سكتت، تتأمل وجهه الذي بات أكثر تعبًا… وأكثر صدقًا.

عيناه تلمعان بندمٍ لم يكن زائفًا، ثم أردف:

– أنا رايح لباباكِ… أتقدملك رسمي.


شهقت، وكأن قلبها لم يتحمل حجم المفاجأة… وضعت يدها على فمها، ثم ابتسمت، ابتسامة ناعمة خرجت من عمقٍ موجوع.

قالت بخفوت:

– يعني… مش هتمشي تاني؟

قال بحنانه السابق الذي افتقدته:

– عمري.

ضحكت، دمعة صغيرة جرت على خدها، وهمست:

– وأنا عمري ما كنت عايزة غيرك.


في الخارج، بدأت السماء تتلون بدرجات الغروب، كأن الحياة قررت أن تُمهّد لولادة جديدة... لا علاقة لها بالماضي، ولا بالحسابات، فقط… بالحب.

❈-❈-❈

الختام


كان المساء قد ارتدى حلته الأجمل، والسماء تنثُر ضوء نجومها كأنها تُبارك ليلةً خُصِّصت للفرح وحده. على ضفاف قصرٍ فاخر تحوّل بلمساتٍ ناعمة إلى قاعةٍ تُشبه الحلم، تجمّع الأهل والأحباب، والأنوار تتراقص على أنغام موسيقى كلاسيكية هادئة، تنساب كما النسيم بين الأرواح.


القاعة فسيحة، سقفها يتلألأ بثريات كريستالية تتدلّى كأحلام معلّقة، والجدران مُزدانة بورودٍ بيضاء وذهبية. طاولات دائرية نُسّقت حول منصة مرتفعة تتوسط القاعة، حيث جلس العرسان الثلاثة، كأنهم نجمات ثلاث أضاءت سماء هذا المساء المهيب.


كانت رنا أول العرائس ظهورًا، ترتدي فستانًا من الحرير العاجي، ينسدل بانسيابية على جسدها الرشيق، تُزيّنه تطريزات دقيقة عند الأكتاف والخصر، مع حجاب محتشم متناسق مزين بخيوط ذهبية دقيقة تعانق وجهها بهدوء، وتزينه وردة بيضاء واحدة على جانب الرأس.

إلى جوارها كان نور، يرتدي بدلة سوداء فاخرة، قميص أبيض ناصع وربطة عنق رمادية داكنة، يقف بثبات رجل اختار حبيبته مرتين، وابتسم لها كأن كل ما مضى صار خلفه بلا مرارة.


أما صفية، فقد بدت كأنها خارجة من روايةٍ قديمة... ترتدي فستانًا رقيقًا، من التُل الأبيض المائل للعاج، بأكمام طويلة, وحجاب طويل ينسدل برقة على رأسها، تزينه من الجانب باقة من زهور الياسمين، كأنها لمسة من نقاء روحها.

إلى جوارها وقف يوسف، يرتدي بذلة بيضاء أنيقة، يزين جيب سترته وردة ذهبية صغيرة، وعيناه لا تفارق صفية كأنها كنز عثر عليه أخيرًا، وقرر ألا يُفلت يده عنه مرة أخرى.


هدى، العروس الثالثة، لم تكن عروسًا كاملة... بل عروسًا تُمهّد لحلمٍ جميل. ارتدت فستانًا من الستان الوردي الفاتح، بتصميم بسيط ومحتشم، يليق بفتاة لاتزال على أعتاب الحياة. وقد ارتدت حجابًا ناعمًا بلونٍ ورديٍّ هادئ، وعيناها تلمعان بمرح طفوليٍّ كأنها تذوق الفرح للمرة الأولى.


إلى جوارها جلس آدم، ببدلة رمادية أنيقة، ونظرة صادقة تحمل عهداً صامتاً، أن هذه الخطوبة ما هي إلا بداية لعمرٍ يُبنى بالتؤدة والحب.


منصة العرس امتلأت بالوجوه المألوفة. كانت ميسون ولبنى تجلسان في الصف الأمامي، كلٌّ منهما تراقب العرائس بنظرات امتزج فيها الدمع بالفخر. سليم الجارحي جلس صامتً ، كأن قلبه أخيرًا هدأ بعد ضجيج طويل. رؤوف المنشاوي جلس بقربه, وربت على كتفه بابتسامة هادئة، وقال: أخيرًا فرحنا بيهم.

 لحظتها، حسّ بدفء غريب يتسلل لقلبه، وابتسم من أعماق روحه، لأول مرة من زمن طويل. 


في الزاوية اليمنى، جلست معلمات من مدرسة صفية, يصفّقن بخجل وسعادة، وبعضهن يهمسن بدهشة: صفية جميلة أوي النهاردة.


ومن جهة أخرى، حضر فريق شركة أركان، يتبادلون التهاني مع نور، ومديره هاني يُربّت على كتفه قائلاً: مبروك يانور, ربنا يسعدكم.

الموسيقى تعلو تدريجيًا، ثم تخفت، ويبدأ المذيع يُعلن:

– نحتفل الليلة بقصص حب صادقة: رنا ونور، يوسف وصفية، وهدى وآدم.

قصص جمعت بين أشخاص اختاروا إن هما يسيروا في دروب الحياة مع بعض, لكلّ منهم قصة، ولكن اللي جمعهم رغبتهم إنهم يكملوا الطريق بقلبٍ واحد.


بدأت رقصة العرسان، خطواتٌ واثقة تتداخل مع لحنٍ يشبههم: بسيط، صادق، دون تكلّف.

كان الحب في تلك الليلة لا يُقال... بل يُرى.

في دمعةٍ ناعمة على خدّ أب،

في نظرةٍ صامتة بين حبيبين،

وفي يدٍ تُمسك يدًا أخرى كأنها الوعد الأخير.

هكذا أُسدلت ستارة الحكاية، لا على نهاية، بل على ثلاث بدايات...

كلٌّ منها كُتب بالحب، واستُكمل بالاختيار،

ولم يبقَ سوى أن تمضي الحياة، كما يشتهيها من أخلص النية.

والقلوب التي طالما ظنّها الجميع على الهامش،

هي ذاتها التي كتبت السطر الأخير، بصوتها، ودمعها، وإصرارها.

لم تنل كل شيء، لكنها نالت حقّها في أن تُرى.

وهذا وحده... كافٍ ليبدأ فصلٌ جديد، بفهمٍ مختلف، وقلوب لم تعد تنكسر في صمت.

لم يعودوا ظلالًا لحكايات غيرهم، بل صاروا هم النور الذي يسطع في حكاياتهم.


وانطفأت الأضواء الأخيرة،

لكن القلوب... ظلت مُضيئة.

تمت بحمدالله

إلى حين نشر الرواية الجديدة للكاتبة يارا علاءالدين، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة