-->

رواية جديدة مرايا الروح لفاطمة الألفي - الفصل 1 - الأحد 6/7/2025

 

  قراءة رواية مرايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية مرايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة فاطمة الألفي


الفصل الأول


تم النشر يوم الأحد 

6/7/2025



"هديل" تتميز بجمالها الرقيق والهادئ، بشعرها الذي يتدلى بلطف على كتفيها كجدول من الحرير، وعينيها الواسعتين اللتين تحملان بريقًا يشبه نور القمر في ليلة صافية، ملامحها ناعمة، لا تخلو من لمسة حزن خفية ، كأنها تحمل سرًا لا تبوح به لأحد.
عزلتها كانت جزءًا من جمالها، وكأنها زهرة نمت بعيدًا عن الأنظار في بستان مهجور، في صمتها قوة لا تُقاوم، وطابع منعزل يعكس رفضها الانصياع لعالم يرفض فهمها. تفضل الوحدة عن الزحام، كأنها تحمي نفسها داخل حصن من الهدوء الذي لا يزعجه أحد.
"بين جدران الوحدة، كانت هي رهينة الخوف، سجينة أفكارها، غريبة عن العالم حتى وإن كانت وسطه"
نظراتها كانت تهرب قبل أن يراها أحد، خطواتها خافتة كأنها تخشى أن تُسمع، قلبها يدق كأنه يريد الفرار من قفص صدرها كلما اقترب منها شخص. كان كل شيء حولها يبدو وكأنه مؤامرة ضدها، حتى الهواء نفسه كان يضيق عليها، وكل همسة في المكان كانت تصرخ داخل عقلها بأن الهروب هو الحل الوحيد.  
الأصوات العالية، التجمعات، الأحاديث العابرة… كلها كانت كوابيس تمضي بجانبها كل يوم دون أن تجرؤ على مواجهتها، اختارت العزلة، لكنها لم تكن خيارًا، بل كانت _الملاذ الوحيد_ الذي عرفته.  
كل ليلة، تراقب العالم من خلف نافذتها، تحاول أن تتخيل كيف سيكون لو أنها استطاعت أن تكون جزءًا منه، كيف سيكون لو أنها تمكنت من كسر الجدار الذي يحيط بها. لكن السؤال الذي يتردد في عقلها دائمًا:  
هل الوحدة أمان لها أم سجن؟
❈-❈-❈
عيد مولدها العشرين ولكنها لم تعد تحتفل به منذ أعوام مضت، ارتدت ملابسها استعداد لذهابها إلى جامعتها في كلية الفنون الجميلة..
ودعت والدتها بقبلة رقيقة على وجنتها وركضت تحمل حقيبتها.
تمنت لها والدتها ميلاد سعيد وهي تقبلها وتوصيها بالاهتمام بنفسها :
-خلي بالك من نفسك يا "هديل" 
-حاضر يا ماما ... سلام بقى هتأخر على أول محاضرة 
-ربنا معاكي يا حبيبتي 
ثم أغلقت الباب خلفها ودلفت لداخل متوجها إلى المطبخ لإعداد مهام اليوم من طهي الطعام وترتيب المنزل وبعدما تنتهي من روتينها اليومي، تجلس أمام التلفاز تشاهد مسلسلها المفضل، ثم يصدح هاتفها مُعلنا عن مكالمة هاتفية من شقيقتها التي تصغرها بعامين، يتحدثون قرابة الساعة وكل منهما تقص على الآخرى ما فعلته منذ الصباح وينتهي الاتصال بينهما على هذا المنوال...

_داخل كلية الفنون الجميلة_
استقرت "هديل" بمقعدها الخاص وهي تثبت الحامل الخشبي بعدما وضعت اللوحة عليه وتمسك بأدوات الرسم، منتظرة ولوج المعيد الذي يملى عليهم طبيعة اللوحة فهذا تدريب عملي قبل الامتحان، يختبر موهبتهم وحضور ذهنهم لكي يجتازوا الاختبار النهائي دون معاناة..

لحظات ودلف الدكتور "نادر عز الدين" شاب في أواخر العقد الثالث من عمره، يتميز بشعره البني الداكن وبشرة قمحية، عيناه بلون العسل الصافي، ذات طول فاره، يرتدي ثيابًا كلاسيكية..
وقف وسط قاعة الرسم بخطى ثابتة ثم رفع أنظاره بين الحضور قائلا بنبرة صوت رتيبة:
-صباح الخير..
علت الهمهات داخل القاعة مرددين تحيته.
عاد يهتف بصوت عالٍ لكي يصل لجميع الطلاب، وهو يحدق إليهم بعينين تحملان التحدي والإلهام قائلا: 
-طبعا كلكم عارفين أن تدريب أنهاردة مهم جدًا، مش مجرد لوحة رسم عادية، لا مطلوب منكم توصلوا رسالة، فكرة تتجسد، عاوزكم تعبروا عن التحرر من القيود، محتاج أشوف أزاي شايفين الحرية من وجه نظركم، عاوز لحظة من الانطلاق والإبداع ، عاوز اللوحة تشع بروح الحماس اللي جواكم. 
انتشرت الهمسات بين الطلاب، بعضهم بدأ يفكر في السلاسل التي تنكسر، في الأجنحة التي تتفتح، في الأبواب التي تُدفع نحو ضوء جديد.
كان هناك من تخيل شخصًا "يكسر قيده" ، وهناك من رأى "طائرًا يفرّ من قفصه نحو سماء الشاسعة" ، ومن تخيل "يدًا تمتد خارج الظلام نحو النور، نحو الأمل، نحو الحياة التي تستحق أن تُعاش بلا أغلال مقيدة"

وبينما الجميع ينهمك في وضع أفكاره على اللوحة، وقف المعيد يراقبهم بابتسامة، منتظرًا أن يرى:
-كيف سيتجسد معنى التحرر من القيود في كل لوحة، وكيف ستنطق الألوان بما لا يُقال بالكلمات؟!
أما عند "هديل" فظلت تطالعهم بحيرة، تراقب حماس الطلاب وهي عاجزة عن مسك الفرشاه، يدها غير قادرة على التحرك نحو لوحتها الخاصة .
شعر بتخبطها وبؤبؤى عينيها تجول به في كل زواية بالقاعة، اقترب منها بخطوات واثقة وقف خلفها وهو يدس يديه داخل جيب بنطاله قائلا بصوت هامس وهو يصوب مقلتيه على اللوحه البيضاء :
-ليه ما بداءتيش رسم زي زمايلك؟
رجفة سارت في جسدها أثر قربه وتلعثم نطقها وهي تهز رأسها بتوتر.
شعر بتوترها، أخرج يده من داخل جيبه وأمسك بفرشتها التي غمسها بالالوان الممتزجة، رسم مجسم لفتاة مُتشحة بالسواد كأنها ظلا ، ثم أعطاها الفراشاه وقال:
-حرري نفسك، اعتبري الفتاة دي أنتِ،خرجيها من سجن الظلام لنور الحرية.
أمسكت الفرشاه بأنامل مرتعشة، بينما هو ابتعد عنها وعاد يقف منتصف القاعة يتابعهم ويراقبهم من مكانه، وبين برهة وأخرى ينظر لتلك الفتاة غريبة الأطوار، لا زالت لم تندمج مع اللوحة، كأنها حقًا مقيدة باغلال ،حبيسة داخل قفص كالطيور، ولن تستطيع الفرار، أو كسر الحواجز التي تفصلها عن حريتها.

 
❈-❈-❈

بعدما أنتهى دوامها داخل كلية السياحة والفنادق ، استقلت "راما"سيارة أجرة تقلها إلى المطعم التي تعمل به شفت بعد الظهيرة .
كانت تمضي أيامها في القاهرة، فتاةٌ فلسطينية تحمل في ملامحها رقةً لا تخلو من القوة، وعينين بلون البندق، عميقتين كأنهما تحملان صورًا لا تُنسى من أرضها.
جاءت إلى هنا منذ أربع سنوات، تاركة خلفها جزءًا من قلبها في "غزة" ، حيث كان صوت القذائف يختلط بأنفاس أهلها، و الحياة تُقاوم الموت يومًا بعد يوم. أرادت أن تدرس، أن تصنع لها مستقبلًا بعيدًا عن الحرب، لكنها لم تكن أبدًا بعيدة حقًا، لم يتبقى من عائلتها إلا والدها، الذي يعمل گطبيب، لم يعرف يومًا معنى الراحة، يأتي لرؤيتها بين الحين والآخر، يشاطرها لحظات العائلة الدافئة، لا يريدها تشعر بالوحدة، ولكنه كان يعلم أنها لحظات مؤقتة ، وأن واجبه اتجاه موطنه سيناديه من جديد.
وحين جاء النداء الأخير، في الآونة الأخيرة ، ودع ابنته ولم يتردد، بل سافر ليكون حيث ينتمي— بين المصابين، بين الجرحى، بين أولئك الذين يحتاجونه أكثر من أي شيء آخر.
بينما وصلت "راما" إلى وجهتها، دلفت داخل المطعم، ثم
ارتدت زيّها الرسمي، قميص روز وبنطال أسود أنيق، رفعت خصلاتها لأعلى، ثم ربطت مريولة حول خصرها بعناية، لتبدأ شيفت العمل. 
بين الطاولات، كانت تخطو بثبات، تحمل في يدها دفتر الطلبات، وفي الأخرى صينية تحمل أكواب الماء، بينما الأحاديث تتداخل، وضحكات الزبائن تتصاعد مع أصوات الموسيقى التي تصدح بالمكان.
نظرت حولها سريعًا، راقبت الطاولات، حددت من يحتاج إلى الخدمة، ثم اقتربت من إحدى الزبائن بابتسامة دافئة:
-شو بَدك؟
قالتها وهي تُمسك القلم، تستمع باهتمام إلى الطلبات، تُدوّنها بدقه، ثم استدارت لتتجه إلى المطبخ، حيث يبدأ جزء من عملها في تنسيق الأطباق، متابعة الطلبات، وإبقاء الابتسامة حاضرة على ملامحها الفاتنة.

❈-❈-❈
"عودة إلى الجامعة"
أنهت "هديل" اللوحة بيدين مرتجفتين، حيث كانت ألوانها مليئة بالتوتر، مشبعة بالقلق الذي شعرت به، لكن ما جعل قلبها يخفق بسرعة لم تكن فقط اللوحة نفسها، بل نظرات المعيد التي بدت وكأنها تخترقها، تحاصرها، تفحصها كما لو كانت هي اللوحة وليست صاحبتها.
تركت الفرشاة، تريد أن تهرب، أن تغادر قبل أن يغمرها الشعور بالعجز، لكن حين نهضت؛ كانت خطوات "نادر" تتجه نحوها، تقترب منها، تقطع عليها طريق الفرار.
وقفت تحاول اتخاذ قرارها بالمغادرة، لكن فجأة، وجدت نفسها أمامه مباشرة، وكأن الأقدار ترفض هروبها.
سألها بصوت خافت يشبوه القلق:
-في حاجة؟ أنتِ كويسة؟"
 لم تستطع الرد، كأن صوتها غادر حنجرتها، تشعر وكأنها تحت الميكروسكوب، كل العيون تلاحقها، تفحصها من رأسها إلى أخمص قدميها، تحيط بها أكثر مما تحتمل.
هزت رأسها ببطء، محاولًا أن تجد صوتها، ثم خرج هامسًا، مبحوحًا، بالكاد يسمع:
-أنا... أنا عاوزة أمشي.
أومأ برأسه، لم يحاول إيقافها، لم يسأل المزيد، فقط تركها تمر بجانبه، تغادر القاعة، لكن نظراته لا زالت تتبعها، حتى اختفت تمامًا من أمامه.
ثم عاد يرفع مقلتيه إلى اللوحة التي كانت بدايتها من نقوش أنامله، ولكن زفر بضيق عندما وجدها مطلية بألوان غامقة، توحي بالكآبة، وتسأل داخله هل هذه هي الحرية بالنسبة لتلك الفتاة ؟ أما أنه الحزن الذي يتوغل داخلها ولذلك لم ترى شعاعًا للنور وسط الظلام . 
بعدما غادرت "هديل" القاعة بخطوات مضطربة، صدح رنين هاتفها معلنًا عن رسائل صوتيه عبر تطبيق الواتساب.
نظرة هلع وهي تحدق في الشاشة حيث أسم المرسل، بأنامل مرتجفة فتحت الرسالة الصوتية ثم وضعت الهاتف أعلى أذنها تنصت بتركيز على الصوت الذي يدخل الرعب داخل أوصالها ...

❈-❈-❈

داخل عيادة الطبيبة النفسية "ضي الشامي"
 يلف المكان شعور بالهدوء العميق، كما لو أنه ملاذٌ للنفوس المتعبة، مساحةٌ آمنةٌ للبوح دون خوف.
الجدران مطلية بمزيجٌ من اللون الرمادي الدافئ والبيج الناعم، ينعكس عليها ضوء المصابيح الخافتة فيخلق جواً من الطمأنينة ، وكأنها تحتضن من يجلس بداخلها، واللوحات المعلقة لا تحمل صورًا صاخبة أو زخارف مشتتة، بل كلمات مقتبسة من كتاب الله عز وجل، خُطّت بحروفٍ ناعمة تهمس بالسكينة في نفوس الداخلين.

توجد أرائك وثيرة من اللون الأزرق الباستيلي، لونٌ يُشبه البحر حين يكون ساكنًا، يُداعب الروح دون أن يوقظ اضطرابها، وعلى الطاولات الصغيرة تجد مجموعة من الصحف والمجلات لمن يفضل القراءة والتسليه.
ونباتات خضراء في زوايا العيادة، تثر الناظرين، كأنها تقول :هذا المكان ليس للحزن، بل لإعادة ترتيب الفوضى الداخلية.
تنبعث الموسيقى الهادئة من خلف جدران غرفة الطبيبة، مقطوعات كلاسيكيه تتداخل مع صمت الجلسات.
كل التفاصيل اختيرت بعناية، ملاذًا للروح قبل أن تكون مجرد مكاناً للعلاج ، حيث يُمكن للمرضى أن يجدوا لحظة راحة وسط زحام أفكارهم، وملاذًا آمنًا يذكّرهم بأن هناك دومًا طريقٌ نحو التعافي.
جلست"ضي" خلف مكتبها الأبنوس، مغلفه بالسواد ، تضبط نظارتها الطبية تخفي تلك العينين المثقلتين بالحزن الصامت ، لا لتخبئ الألم، بل لتضع بينه وبين العالم حاجزًا شفافًا لا يراه سوى خالقها.
أمامها زهرة اللافندر التي تعشق عطرها، و أوراق المرضى التي تفيض بالآلام المختلفة، قصص لا تُحكى إلا بين الجدران المعزولة بعيدًا عن ضجيج العالم الخارجي.
 أمسكت القلم، تنقلت بين الصفحات، تسجل ملاحظاتها ببطء،تنهدت بما يثقل صدرها، وكأنها تحاول طرد شيء ما عالق بين الضلوع، شيء لم تستطيع تخطيه بعد، ثم مدّت يدها نحو زر الإنذار ، ضغطت عليه بهدوء، فارتفع الرنين في المكان، مجرد إعلانٍ بأن يومها بدأ، بأن عليها أن تفتح بابًا آخر لمأساة جديدة، لجراح لم تلتئم، لصوت سيكسر الصمت قريبًا.
دقائق قليلة، وجاءت الممرضة، تقدمت منها بخطوات ثابته واعطاتها تقريرًا مبسطًا عن الحالة وهي تقول بصوت خافت:
-الحالة الأولى بانتظارك يا دكتورة.
رفعت "ضي" رأسها، زفرت ببطء، وكأنها تستعد لخوض معركة لا يعرف أحدٌ أنها تمسها أيضًا، ثم قالت بهدوء وهي تقرأ أسم المريض:
-خليه يتفضل.
لحظات وطرق الباب شابًا فاره الطول ثم ولج لداخل وأغلق الباب خلفه وهو يتقدم منها بخطوات واثقة قائلا بصوت دافء:
مساء الخير يا دكتور.
ردت بصوت جاد :
-مساء الخير يا أستاذ "دياب" ، أتفضل أستريح.
دار بمقلتيه البنيتين الغرفة ولاحت بسمة خافته وهو يقول متسألا:
-هقعد على الكرسي قدام حضرتك ولا هنام على الشزلونج واغمض عنيه؟!
جعلها تبتسم برقة وردت قائلا:
-اللي يريحك ممكن تعمله، تحب تقعد على كرسي ، المكان اللي ترتاح فيه الغرفة كلها تحت أمرك .
جلس أمامها وهو يقول:
-يبقي هنا كويس.
-بتفضل الجلسة والموسيقى شغالة ولا الصوت بيدايقك؟
-لا تمام أنا بحب الموسيقى، خصوصا الناعمة.
كان القلم لا يزال بين أصابعها، يلامس الورق برفق، وهي تخطى اسمه في دفتر الحالات، رفعت أنظارها، متفحصة دون أن تكون متطفلة، متفهمة دون أن تُصدر أحكامًا، كأنها تستعد لتدوين قصة جديدة، ثم سألته بصوت منخفض لكنه يحمل ثقل اللحظة.
-ليه فكرت تلجأ لدكتور نفسي ؟ حسيت بأيه قبل ما تأخد القرار ده؟
نظر إليها طويلا، لم يكن متأكدًا مما يجب أن يقوله، كيف يختصر كل شيء بجملة واحدة؟ كيف يبوح ما نجح في أخفاءه طوال الأشهر الماضية؟
نظرت إليه بعينيها الهادئتين خلف نظارتها، ثم مالت قليلًا إلى الأمام، شعرت بمدا تخبطه، قالت بصوت دفئًا غير مُبالغ فيه، وصدقًا لا يحتاج إلى تأكيد لكي تطمئنه:
-ثق تماما أن اللي هيتقال في الغرفة دي، بيفضل مدفون جواها، وأنا دكتورة ولا يمكن أخون شرف المهنة، وأفشي أسرار المرضى.
توقفت لحظة، تراقب تعابير وجهه، تدرك أن الصمت في هذه اللحظة أكثر أهمية من أي كلمات أخرى تُقال.
كان يحاول استيعاب ما سمعه، يحاول أن يصدق أن هناك مكانًا يستطيع أن يُلقي فيه أعباءه دون أن يُحاكم، دون أن تُلاحقه العيون، دون أن يضطر إلى إخفاء وجهه.
مرت ثوانٍ طويلة، ثم زفر ببطء، ورفع رأسه، ونطق أخيرًا:
-أنا.... "Hitman"
اتسعت حدقتاها بصدمة وهي تحاول أن تتكلم، أن تسأل، أن تفهم، لكن أبت الكلمات أن تنطق ظلت عالقة في حنجرتها .
لكن الحقيقة كانت جالسة أمامها، تتنفس، تنظر إليها بثبات لا يرحم.
حاولت السيطرة على ارتجاف بسيط في أصابعها وهي تمسك بالقلم، بعدما أستمتعت بما نطق به قبل ثوانٍ، شيئًا لم تكن تتوقعه.
رفعت عينيها إليه، كان لا زال جالسًا بهدوء، كأنه لم يلقِ للتو اعترافًا من شأنه أن يهز أي شخص آخر.

تنحنحت قليلاً، ثم تنفست بعمق، تستجمع أفكارها، لكي تجد المدخل المناسب لهذا الحوار المعقد، لكن كيف تبدأ؟ كيف يُمكنها أن تعالج شخصًا اعتاد إنهاء حياة الآخرين؟
قالت بصوت ثابت يشوبه التردد:
-حضرتك هنا عشان حاسس بالذنب؟ مش بتعرف تنام؟ بتشوف كوابيس؟! 
عليها أن تظل متماسكة، أن تحافظ على هدوئها، ولكن الحقيقة من الصعب تجاهل ما قاله واعترف به.

نظر إليها، عينيه ساكنتان، لا تحملان إجابة مباشرة، لكنه انحنى قليلًا إلى الأمام، كأنه يزن كلماته قبل أن ينطق بهدوء مخيف، وكأنه يناقش أمرًا بسيطًا:
-لا أنا أصلا ما بحسش ، مات الإحساس ده جوايا.
ثم ضرب بقبضة يده أعلى صدره حيث يقبع خافقه وقال بصوت غليظ:
هنا قلب ميت ... ثم ضحك بملئ صوته وطالعها بنظرات مبهمة وهو يتسألا:
-هو الميت بيحس ولا أيه يا دكتورة؟
لاول مرة في حياتها بعدما اتخذت مهنتها في ذاك التخصص النفسي لكي تستمع لمرضاها بوجدانها قبل عقلها ، كأنهم جزءًا منها وتحاول بشتا الطرق التخفيف عنهما ، لتكون العلاقة بينهما ليست طبيبة ومريض بل كأنه يتحدث مع نفسه.
كيف لها أن تُعالج قاتلًا مأجورًا؟ كيف لها أن تسمع صوته دون أن يخترقها الخوف؟ 
تؤمن أن الجلسات العلاجية تُشبه المرآة، أن المريض حين يجلس أمامها لا يرى طبيبًا فقط، بل يرى انعكاس نفسه، يواجه مخاوفه بصوتٍ مسموع، يُفكك الألم ليُعيد فهمه من جديد، لكن هذه المرة، هي من تحتاج إلى لحظة صمتٍ لتستوعب، لتتنفس، لتجد الطريقة الصحيحة لتبدأ معه الرحلة التي لم تكن تتوقعها أبدًا.

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة فاطمة الألفي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة