-->

رواية جديدة مرايا الروح لفاطمة الألفي - الفصل 16 - الثلاثاء 29/7/2025

 


  قراءة رواية مرايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية مرايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة فاطمة الألفي


الفصل السادس عشر 


تم النشر يوم الثلاثاء 

29/7/2025


كان صوت البحر لا يزال يتردد خافتًا في أذنيه، وقطرات الماء المالحة تتساقط من شعره، ابتعد عن الجميع وجلس على صخرة ملساء كأنها احتضنت حزنه، اقتربت ضي ببطء، تراقب ملامحه المرهقة، وعيونه التي كانت تائهة في شرود، كأنه يبحث عن شيء ضاع ولن يعود.

جلست بجانبه، قريبة بما يكفي لتشعر بثقل أنفاسه المرتبكة، وقالت بصوت حنون:

-نادر ، ممكن تحكيلي حصل أيه معاك بعد أجهاض تيا؟ أحساسك أيه؟ وليه سبتها ؟  

نظر لها لثواني، صامتًا، وكأن الكلمات كانت تختنق في حلقه. ثم فجأة، تنهد وقال بصوت مكسور:

-كذبت عليّ، تيا كذبت... ماكانش فيه حمل، ولا إجهاض، كل ده كان لعبة علشان تخليني أفضل جنبها.

 رسمت على شفتَيه بسمة جانبيه، لكن عينيه ظلتا تلمعان بوجع دفين:

-تيا خذلتني من أول يوم، كنت أعمى في حبها ،مش شايف غيرها ، لكن هي كانت بتحاول تمتلكني وبس، كأنها عاوزة تشتريني بالفلوس ، أنا اكتشفت انها أسوأ اختيار في حياتي. 


وضعت ضي يدها برفق على كفه المرتجف، ونظرت لعينيه بإحساس عميق:

-أنت مش لوحدك، اللي حصل صدَمة، أنا فاهمة ده... العقل صعب يستوعب لما تكتشف إنك كنت عايش جوه وهم كبير. بس وجودك هنا، وكلامك ده، أول خطوة علشان تتخطى الأزمة، كلنا هنا عشان نلاقي نفسنا اللي تاهت مننا فجاة، آن الأوان نستردها بقى.

سكتت لحظة، ثم تابعت:

-الضغط اللي تعرضت له مش بسيط، بس إنت أقوى من كل اللي حصل. وهتقوم، وهتسترد نفسك، بس خليك حقيقي زي دلوقتي... خليك نادر اللي بيواجه، حتى لو موجوع.

زفر بضيق وقال بصوت يملؤه الحزن:

-لم اكتشفت وهم الحياة السعيدة والأسرة اللي بتكبر وهيكون فيها قطعة مشتركة بينا، لما كل ده أصبح سراب ، طلقتها.

ظلت صامتة تستمع إليه بهدوء، وهو يحكي عن مشاعره التي تبددت فجاة، عن صراعه بين الوهم والخداع، عن الحب الزائف، عن الغضب والجنون وسيطرة التملك التي كادت أن تخنقه، لم يعد قادراً على التحمل فقد نفذ صبره .


❈-❈-❈

وقف دياب على بُعد أمتار، عيناه متسمّرتان على ضي وهي تجلس إلى جوار نادر. ملامحها الحانية، صوتها الخافت، ولمستها الدافئة على يده... كل شيء كان كالسهم في صدره.


شدّ قبضتيه، وحاول حبس أنفاسه، لكن شرارة الغيرة لم ترحم قلبه. لم يكن غاضبًا من ضي، فهي طبيبة تقترب بمهنية لمريض يعاني أذمة ما، بل غاضبًا من ذاك الشعور العاجز الذي التهمه من الداخل. 

حيث سأل نفسه :

- لماذا لم تراه ولم تشعر به هو أيضا؟

اقترب خطوة أخرى، ثم توقف، كأنه يخوض معركة بين كرامته وشوقه، يعرف أنه مجروح، ويستحق لحظة إنسانية، لكن قلبه كان يهمس له بأن هذا القرب يحرقه، ينهش روحه، ويشعل نيران الغيرة داخله، لم يعد يتحمل رؤيتهما أم عينه، سار بخطوات ثابتة متجهًا نحو المنتجع، ذاهبًا إلى غرفته ، بعجز قاتل لرجولته وكبريائه...

ارتمى بثقله على الفراش، يحاول إرغام عينيه على النوم، لكي يهرب من كل شيء حوله، ولكن هاجمت عقله ذكرى لم تُنسى، عندما رأها بثوبها الابيض وهي تُزف لرجُلا أخر، تبتسم له بحب وتعانق كفها الرقيق كفه ، ثم يضمها الآخر، محتضنًا خصرها، تتمايل بين ذراعيه بعذوبة .

فتح عيناه بأتساع وهو يلهث أنفاسه بتسارع، ضرب بقبضته قدمه الفارغة بقوة، متألما ، متحسرًا على كل ما يمر به من قهر يقتل رجولته ويحطم غروره لانه يرى نفسه غير متكامل ، يشعر بالنقص وعدم الكمال، كأنه منغمسًا في قاع المحيط لن يطفو أبدا على السطح...


❈-❈-❈

لا تعلم لما يجذب انتباهها، تتابعه ببندقيتيها اللامعة، شعرت بغضبه منذ أن رأى نادر جالسا على الصخرة والطبيبة جواره، تبادله الحديث، ترك المكان مسرعًا كأنه يهرب من حمم بركانية تشتعل داخله هو فقط.

حين جاء موعد العشاء رفض المشاركة وأخبرهم بأنه نائم ولا يريد تناول الطعام، تناولا الطعام في صمت، فقد كان نادر ملتف بالهموم ، اعتذر منهما لذهابه لغرفته ، لأنه يشعر بالنعاس، كما أن حديثه مع ضي أزاح جبالا من الهموم كان يطبق على كاهله، وظلت ثلاثتهن.



نظرت ضي إلى الفتيات وقالت متساءلة ابتسامتها المعهودة:

-القمرات الحلوين، ناوين على إيه بقى؟

نظرت لها راما بملل طفولي وهي تهز كتفيها:

-ما بعرف شو نعمل هون.

ضحكت ضي بخفة، وقالت بنبرة مشجعة:

-لسه ده أول يوم، طبيعي يحصل شوية ارتباك، خاصة إن ساعاتنا لسه مش متظبطة مع بعض، بس من بكرة عندنا برجرام ، الكل هيلتزم. مافيش أعذار، تمام؟

هزت الفتاتان رأسيهما بالموافقة، لكن ضي لم تغفل عن ملامح هديل التي بدت متحفظة، متوجسة، وكأن صوتًا بداخلها

يريد أن يصرخ ولا يجد منفذًا.

اقتربت منها بلطف، وقالت بصوت ينضح بالاحتواء:

– مافيش جواكي حاجة عاوزة تحكيها يا هديل؟

هديل هزت رأسها سريعًا، كأنها تطرد السؤال، أو تخشى مما قد يُفتح لو أجابت. لكن ضي، بطريقتها الرزينة، لم تستسلم.

-لازم تتواصلي بعينيكي، متخافيش تواجهي، جسمك بيحكي حتى لو سكتي، ولازم تتحكّمي فيه مش يقيدك، إحنا كلنا هنا علشان نقرب من بعض، نسمع لبعض... بلاش الخوف يفضل حابس صوتك، طلّعي اللي جواكي، اتكلمي، اصرخي، ارقصي... أي شيء، أي انفعال، طلعيه.

همست هديل بصوت مخنوق:

-بيجيلي إحساس... إني عاوزة أصرخ.

ابتسمت ضي وربتت على يدها بحنان:

-يبقى لازم تخرجي صوتك المكتوم، صرخي. بالليل، عند البحر، خدي لحظتك، حسي إنك بتتحرري. صرخة من القلب بتقدر تغيرك لو خرجت كل اللي جواكِ.

رفعت هديل رأسها ونظرت لضي بنظرة ممتنة، لم تقل الكثير، لكنها كانت أول شرارة في طريق الشجاعة التي تولد داخلها.

 قطعت راما الجو بشقاوتها المعتادة، قائلة:

-بدنا حفلة رقص على رمال البحر!

انفجرت الثلاثة بالضحك، ضحكة صادقة أعادت الدفء إلى جو من الألفة بينهما...


❈-❈-❈


 بينما دياب يتقلب في فراشه كأنه يتقلب على جمر مشتعل، كلما أغمض عينيه تراوده ذكرى، تزيد من أختناق أنفاسه.

نهض من فراشه بضجر، القى الغطاء أرضا بعنف ، ثم قرر مغادرة غرفته بل الفندق بأكمله، خطى بقديمه أعلى الرمال، سار اتجاه الصخور، قاصدًا صخرة بعينيها، الصخرة التي جلست عليها "ضي" صباحًا، كأنها تحفظ أثرها، دفء جلستها، رائحة عطر اللافندر ، ثم جلس ببطء ورفع عينيه نحو السماء الصافية حيث الفضاء الساشع والنجوم المتناثرة التي تضوي وتتلألأ ،يتسلل القمر مختالا من خلفهم ، اغمض عيناه وتنهد بعمق..


❈-❈-❈

تململت في فراشها وبعدما تأكدت من نوم هديل، تركت الغرفة بهدوء ، كانت تود التفتل عند الشاطئ، أن تختلي بنفسها، ربما تطلق صرخة مكتومه داخل حنجرتها ، كما قالت ضي لصديقتها هديل، هي أيضا تكتم مشاعر شتى ،تطبق على صدرها باغلال من حديد ، سارت بعيدًا عن الفندق، ولكنها لمحت ظله، رأته جالسًا بين الصخور، ضوء القمر أفصح عن مكانه، قررت أن تتجه إليه ، تتحدث معه، تعلم لما النوم جافه هو أيضا؟


اقتربت منه بخطوات متهادئة، كادت قدميها أن تنزلق، فشهقت بفزع.

في تلك اللحظة، لاحت له خطوات خفيفة تتسلل من خلفه، تردد صوت شهقة صغيرة، فأدار رأسه بسرعة، ليجد راما، تتمايل في مشيتها بين الصخور، حاولت رسم ابتسامتها الناعمة لكي تخفي ترددها:

-فيني أقعد جارك؟ قالتها وهي تشير للصخرة بجانبه.

لم ينبس دياب بكلمة، فقط هز رأسه وأمسك بكفيها ليُثبت خطواتها بين الصخور، بإيماءة فيها أكثر من الاحترام، وفيها شيء خفي من الحرص.

جلست بجانبه بصمت، نظرت هي الأخرى نحو السماء، ثم همست بابتسامة:

- ما جاني نوم... حسيت إني مخنوقة شوي، حبيت أمشي على الشط، لما شفتك هون قلت يمكن تقبل أشاركك الهدوء...

ابتسم دياب بخفة، لكن الابتسامة كانت مائلة، وكأنها تائهة في ظل الليل.

-وأنا كمان ما فيش نوم، بيقولوا ما ينام الليل إلا خالي البال.. 

نظرت إليه مليًّا، وترددت للحظة قبل أن تقول:

-بتحمل كتير جواتك صح؟ باين على عيونك، في شي مش قادر تطرده.

صمت قليلا، فهو يشعر أن الكلام معها لا يحتاج جهداً، لا دفاعًا ولا مجاملة.

-أوقات... الواحد بيهرب من الناس علشان ما يبانش ضعيف، بس بيطلع أكتر ضعف لما بيقعد لوحده.

ابتسمت وقالت وهي ترفع حاجبيها بمكر طفولي:

 -وأنا حسبالي الشط للهاربين بس... طلعنا كتار اللي بنخاف ننام لأن أفكارنا صوتها عالي.

قال بصوت يملؤه الأنكسار: 

-يمكن البحر أحسن مكان يتحمّلنا، بدون ما بيحكم علينا ، ولا يصدنا.

سادت لحظة صمت، مريحة، قبل أن تقول بخفّة:

-تعرف؟ ضي اقترحت على هديل تصرخ أذا بدها إياه تخرج أللي جواتها... وأنا حاسة الكل فينا محتاج يصرخ، بس بطريقة خاصة، إنت، كيف ممكن تصرخ؟

أجاب بنبرة فيها وجع دفين:

-يمكن لو قدرت أتكلم... أصرخ جوّا الكلام. بس مافيش حد سمعني

نظرت له عميقًا، ثم همست:

-يمكن ليلتك هاي تكون أول مرة يسمعك فيها حد... ويفهم كمان، فيك تجرب..

لم يريد أن يتحدث عن أموره الخاصة فظل ينظر أمامه حيث تطلاطم الأمواج بالصخور.

حكت ذقنها بخفه كأنها تفكر في أمر هام، ثم أدارت كفة الحديث بينهما إلى عمله بالشرطة فقالت بمرح:

-فيني أسألك ليش ظابط شرطه متقاعد وأنت بعز شبابك ما شاء لله

نظر لها بهدوء لتكمل هي ببراءة قائلة:

-شو عملت، قتلت مجرم ولا شو ؟

ضحك بخفة وقال بنبرة شبه ساخرة، كأنها درع يخفي وراءه عمق الجرح:

-متخيلة ظابط شرطة متقاعد في السن ده، يكون مثلًا ارتكب جريمة قتل؟... إيه التفكير الساذج ده، إحنا بنتعرض للموت في كل لحظة، المجرمين مش بيسيبونا، ضرب نار متبادل... كل طلعة ممكن تكون آخر طلعة في حياتنا.

نظرت له بانبهار، وقالت بتلقائية طفولية:

-واو... يعني الشرطة مش مثل الأفلام!

التفت اليها بدهشة، ثم ضحك وقال:

- أفلام؟! أنتي عايشة في عالم سينما! جو الأكشن بقى والافلام؟

ضحكت وقالت بخفة دم:

- كتير، بموت في الأكشن!

ضرب كفّه بيده الأخرى، وهتف بعصبية مصطنعة:

-أكشن إيه يا بنتي! ده أكشن الدم الحقيقي... إحنا بندخل مهمات ممكن نرجع منها في كفن، مش بشريطة انتصار ونهاية سعيدة!

سكتت قليلًا، ثم سألت بصوت خفيض، لكن فيه إصرار:

-وشو الغلطة اللي عملتها؟ ليش استقلت؟

تحولت نبرته فجأة، صارت مزيجًا من خيبة ونضج:

-مش لازم أغلط علشان أستقيل... حصلت إصابة... إصابة قوية. ومن وقتها، ما بقاش ينفع أكمل. مافيش رجوع للساحة خلاص.

شعرت بقلبها ينقبض، لكنها لم ترد أن تُشفق عليه، بل أرادت أن ترفعه. نظرت له بثبات، وقالت بكل دفء:

-الشرطة هي اللي خسرتك... مو إنت اللي خسرتها، إنت رجال ما شاء الله عليك _قبضاي_ 

التفت نحوها، وكانت أول مرة تلتقي عيناه بعينيها بهذا الوضوح، ربما لم يكن مستعدًا للبوح بالمزيد ، لكن كلماتها هزت شيئًا بداخله... فهو يرى نفسه بعين فتاة جميلة بأنه شابًا كاملا.

ألقى نظرة جانبية تجاهها، ثم أعاد عينيه إلى البحر الذي يتقازف أمواجه، يثور ثم يهدأ، فنهض ببطء من جلسته ثم مد كفه إليها قائلا:

-بينا نرجع الفندق.

ظلت مكانها معاندة على الانصياع لأوامر، وقالت بصوت هامس يتغلغله الحزن:

-فيك ترجع، راح أضل هون لحالي.

لم يريد تركها وهي بتلك الحالة، فقرر المزح معها :

-عاوزة تصرخي؟ بس خدي بالك ممكن تقلبي علينا إدارة الفندق، مش بعيد يطلبوا لينا السرايا الصفرا 

لاحت شبح ابتسامه جانبية على ثغرها، عاد دياب يجلس بهدوء، وقرر هو سماعها، فهي تبدو حقا مهمومة، تنحنح ثم قال بجدية:

-طيب ما تزعليش أنا جنبك وممكن اسمعك ، جربيني..

أنسابت دموعها التي جاهدت كثيرا كبحها، تسيل بحرقة، أقرب إلى ناي مكسور يعزف وجعًا لا يُحتمَل، خرجت الكلمات من بين شفتيها وكأنها كتل من الألم، كل منها يسقط في قلب دياب كحجر ثقيل، يمزق القلب:

-واحشني أهلي، أمي ، خي، جدتي ، راحوا في القصف، واحشني بيتي إللي تهدم وصار ركام، واحشني غزة بشوارعها وريحتها إللى أصبحت دخان وصواريخ وقصف وغارات ، واحشني كل شبر بأرضي.. واحشني رفقاتي إللي ما بعرف عنهم شيء، واحشني أبي اللي على الحدود هون بيحارب في جبهته ومعرض بأي وقت أفقده.

واحشني الهدوء، الامان والسلام ، ليش راح نضل نعاني، ها العدو الغاشم، ليش أرضنا راح تضل مغتصبة، متى ها الحرب تبطل، متى ترجع أرضا ونعيش ببيوتنا ما نعيش غرباء ونموت غرباء، ليش نتشتت أحنا وها العدو متربع على أرضا وعرضنا وحياتنا، فيك تقول لامتى راح نصبر ونضل صامدين؟ لامتى كل يوم بيتجدد جوانا الأمل ؟ ما آن الأوان نعيش بسلام ، بمحبة ، نعاود لارضنا ولحياتنا إللى ضاعت ..

و دياب جالسًا في مكانه، جسده لا يتحرك، لكن داخله كان ينهار، لم يكن يعرف ما يقول، لم يتعلم يومًا كيف يواجه دموعًا بهذا الصدق، بهذا العمق، بهذا القدر من الانكسار، شعر بالعجز يطوقه، بيدين مكبلتبن لا يستطيع لمس كتفها، ولا حتى قول كلمة تخفف عنها.

ولأول مرة، يشعر بالعجز حقا، لم يكن دياب القوي، ولا الضابط السابق، المتماسك دائمًا... بل كان إنسانًا تائها أمام دموع فتاة فقدت وطنها وعائلتها وطفولتها دفعة واحدة.

رفع نظره إليها، ووجدها تنظر للبحر كأنها تبحث عن أجوبة في الأفق، همس بصوت خافت مبحوح:

- أنا آسف...

كلمتان فقط، خرجتا وكأنهما روح تخرج من صدره، لكنها كانت كل ما يملك أمام طوفان وجعها، لم يتجرأ أن يعدها بأن يعود السلام، ولا أن الأرض ستعود غدًا، لكنه كان حاضرًا. كاملًا. مُصغيًا بكل روحه.

بعدما باحت راما بما يثقل صدرها من وجع ، شعرت بهدوء يتسلل داخلها، ليست راحة، بل لحظة استراحة بين دمعتين. ربما، لأنه لم يحاول إسكاتها، لم يقاطع نزفها... فقط جلس يستقبل الألم بصدر رحب.

ساد الصمت بينهما ولكن دياب في داخله صراع قوي مع نفسه:

"أنا ما بعرفش أواسي، ما تعلمتش إني أكون الحضن، كنت دايمًا الدرع، الظل الصامت… بس راما، دموعها كسرت فيّا شيء ما كنتش فاكر إنه لسه موجود، وهي بتحكي عن أهلها، عن غزة، وأنا حاسس إني فقدت نفسي في شوارع غير شوارعها،يمكن مافيش بيوت اتهدمت جوايا، بس في أجزاء من روحي سقطت ومارجعتش.

أنا… مش بطل، مش دايمًا قوي، أنا اللي خفت وقت الإصابة، مش من الألم… لا، من إني أواجه نفسي من غير الزي، من غير المهمة، من غير صياح اللاسلكي، خفت أكون نسخة عادية، بس وهي بتحكي، حسيت إني بشوف الوطن من عيونها، حسيت إني واقف وسط أنقاض قلبي وأقول لنفسي: قوم خليك حيّ حتى لو كان كل شي حواليك ميت.

هي وجعها طالع بنور، وأنا، سايب وجعي تحت جلد سميك، خايف لو خرج، يطغى عليّا.

أخرجته من حديثه الخاص وهي تتساءل بصوت يشبه الهمس:

-وصرختك؟ وينها؟ ولا لسه مكتومة؟

نظر إليها و تنهد، ثم مسح على وجهه بكفّه، وقال بصوت خافت، كأن الكلمة تخرج من حلقه وتمزق قلبه:

- ما كنتش ناوي أحكي، بس لما سمعِتك، لما حكيتِ عن أهلك، عن غزة، حسّيت إني صغير... وإن وجعي، مهما كان، مالوش وجه مقارنه قدّام وجعك.

توقف لحظة، كأنه يحاول جمع الكلمات رغم الغصّة:

-أنا فقدت جزء منّي... حرفيًّا فقدت رجلي في عملية، ورجعت على نقالة بدل ما أرجع على رجلي، حسيت إني مش نافع... لا كرجل، ولا كضابط، ولا حتى كإنسان.

رمى نظره للبحر، كأنه يهرب، وأضاف:

-من يومها، ما قدرتش أصرخ، كل الصراخ اتحبس في صدري، ما كنتش عايز حد يشوفني ضعيف، كنت فاكر إن اللي زيّي لازم يفضل واقف، حتى لو فقد نصّه.

لم تنظر له بعطف أو شفقة ولكن قالت بصوت دافئ:

-يمكن... وجعك مختلف، بس مو أقل، ما تقارن وجعك بحد، لأن الوجع ما بيتوزنش بالكم، كل واحد فيه وجعه الخاص، بس اللي يربطنا... إننا ما عدنا مضطرين نحمله لوحدنا.

وجد نفسه يبتسم لكلماتها ويقول بصدق :

-ممكن تعتبريني أخوكِ الكبير ؟

لمعة عيناها بفرحة وهمست بمرح وهي تغمز له بدلال:

-وليش خي ؟ ليش ما أكون بنت الجيران؟ 

ضحك على مزاحها وقال بحنو:

-لا أنتِ داخله على طمع..

لا يعرف شعوره اتجاه تلك الفتاة التي بدلت حالته تمامًا، فهو يراها رغم صغر عمرها إلا أنها احتوته ببعض الكلمات الصادقة ، عادت إليه الثقة بنفسه، برجولته، بشخصه، بأنسانيته، حقا يتمنى بأن يكون شقيقها ويظل جانبها يعوضها فقد عائلتها، لكي لا تشعر بالغربة أو الوحدة ، ليته يستطيع أن يكون لها كل ما فقدته...

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة فاطمة الألفي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة