-->

رواية جديدة مرايا الروح لفاطمة الألفي - الفصل الأخير - السبت 23/8/2025

 

  قراءة رواية مرايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية مرايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة فاطمة الألفي


الفصل الواحد والثلاثون 

والأخير 


تم النشر يوم السبت 

23/8/2025


 طوال الطريق وهو يختلس النظرات إليها، يحترم صمتها، لا يريد أن يضعها في موقف محرج، وعندما شعر برأسها تميل ناحية النافذة علم بأنها ذهبت في النوم، هدئ من سرعة قيادته، لكي لا يقلق منامها، وهو يبتسم لرؤيتها بجواره يتمنى أن يخترق أحلامها كما هي دائما يراها في صحوه ومنامه، يتتوق للحظة تجمعهما لا ينفصلان ابدأ..

تنهد بعمق يستنشق الهواء العليل وأدار تشغيل الجهاز على أغنيته المفضلة، التي يستمع إليها كلما كان منشغل الذهن ويدق بفرشته على اللوحات ، كأنه عالمه الخاص ..


أما عن ماجد الذي يقود السيارة خلفه، نظر إلى دياب متسألا:

-باقي قد ايه على الوصول؟

رفع معصمه ينظر لساعة يده ثم قال:

-تقريبا ساعة ونوصل المنتجع .

ألقى دياب نظرة سريعة بالمقعد الخلفي ثم عاد ينظر لماجد قائلا ببسمة هادئة:

-البنات نامت..

-ضي أول ما ارتاحت من السواقة، بتحب تنام في السفر ، أما راما فأنا لسه بكتشف بنفسي.

قالها وهو يرمقها من مرأة السيارة الأمامية، ثم ابتسم بلطف وأكمل قيادته منشغلين بالحديث..

❈-❈-❈

وسط نسيم الليل الهادئ، توقفت السيارتان أمام بوابة الفندق الفاخرة. قبل أن يترجل نادر من السيارة التفت بهدوء نحو هديل، ابتسامة دافئة تلوح على محياه وهو يهمس باسمها برفق، وكأن الزمن توقف للحظة. فتحت هديل عينيها بتثاقل، قبل أن تستقبل المكان بنظرة دافئة، ها قد عادت إليه ثانيا ولكن تلك المرة بلحظات أخرى ، تشق سعادة دربها وتخطو في هدوء .


أما عن السيارة الأخرى، كانت رامـا تضبط خصلات شعرها التي تبعثرت بفعل النوم، بينما ضي تفتح باب السيارة برشاقة، تنسدل خطواتهما على الممر المؤدي إلى مدخل الفندق، وهالة من السكون اللطيف ترافقهما. لم يكن في الأمر صخب ولا ضجيج...بل يستعدون لاستقبال بدايات جديدة .

اجتمع الجميع في بهو الفندق الذي كان مضاءً بأضواء صفراء دافئة تعكس فخامة المكان. كانت الأرائك أنيقة، والسجاد منسوجًا بألوان رمادية. وقف نادر بجانب الفتيات وكأنه الحارس الصامت، متيقظًا، يراقب المكان بعيونه الثاقبة.


بينما ذهب ماجد ودياب مباشرة إلى مكتب الاستقبال، يتبادلان كلمات مع موظف الحجز الذي بدا عليه الانشغال بالتفاصيل التقنية لإتمام إجراءات الدخول. كان هناك شيء من الانسجام بينهم، وكأن هذه الرحلة لا تتعلق فقط بكونها مجرد نزهة، بل بلحظات تكشف الجوهر الحقيقي للعلاقات والأرواح التي اختارت أن تتشارك اللحظة.


❈-❈-❈

في صباح اليوم التالي، وقفت الفتيات في بهو الفندق، يتحدثان بأنسجام، بينما أقترب منهن شخصأ أخر ، تفاجئ بوجودهن.

وقف أمامهما مندهشا وهو يهتف بأسمها:

-هديل.!

دارت رأسها ونظرت لصاحب الصوت، اختفت ابتسامتها، لم تكن تتوقع أن تراه هُنا أيضا، لكن سادن بعد لحظات من الصمت همس بتفاخر:

-القرية تخص والدي، وأنا مبسوط جدا أن شوفتك هنا، يمكن فرصة نحاول نتكلم وتقرب من بعض .

ظلت راما واقفه بينهما لا تريد ترك هديل بهذا الموقف، ونظرت لها تشجعها على الحديث دون خوف أو انكسار.

 رفعت هديل عينيها تنظر إليه بثبات، وقالت:

-لو كنت أعرف أن المكان هنا يخصك أكيد ماكنتش وافقت أكون فيه 

قاطعها بنبرة توسل وإلحاح:

-هديل أنا أسف، ممكن فرصة أخيرة، أنا غلط… بس بعتذرلك، ووعد مني هتغير عشانك، وهننسى اللي فات، ونبدا مع بعض من جديد ، صدقيني أنا بحاول أكون شخص نضيف ووجودك جنبي هيقويني.

زفرت بضيق وردت قائلة:

-سادن مافيش حاجه بينا أصلا عشان اسامحك أو اديك فرصة تانية، لان ببساطة عاوز تتغير اتغير لنفسك مش عشان حد.

 في تلك اللحظة، ظهر نادر، ملامحه مشدودة وعيناه مشتعلة بالغضب. تقدّم نحوهم بخطى ثابتة وقال بنبرة حازمة وهو ينظر لسادن:

-أنت عاوز منها إيه؟ ابعد عنها وإلا هيحصل تصرف مش كويس. أنا محترم المكان، ومش عاوز شوشرة، هديل تهمني، ومش هسمح لك تدايقها تاني.

شعر بانقباض في صدره، تنهد بغيظ وكاد يرد، لكن مؤنس شعر بالتوتر واقترب مسرعًا، باعد بينهما، شعرت هديل بالإحراج لكنها ابتعدت بهدوء، تنسحب نحو راما بينما عينيها لا تفارق نادر، تقرأ ملامحه في صمت.

استدار نادر نحو مؤنس، وهو يحاول كبح انفعاله، هاتفا:

-ابعد سادن عن هديل… هديل تخصني، ومش عاوز اتجنن عليه. أنا ماسك أعصابي بالعافية.

حاول صديقه تهدئته فلم يراه بهذا الغضب من قبل، وسحب نادر من كتفه قائلا بضحكة خفية:

-إنت لاحقت تحب ولا إيه؟

تنهد نادر وقال بعفوية:

-آه، اتنيلت! عندك مانع؟

ضحك مؤنس أكثر، وربّت على كتفه:

-خلاص يا عم، اهدى عليّا وفهمني الحوار. اوعدك سادن هيبعد خالص.

 أما سادن، فترك المكان بغضب ودلف إلى غرفته بخطوات واسعة، جمع حقيبته وهو يتمتم لنفسه:

-أنا هربان من كل حاجة وجاي أنسى وجعي… ألاقي هديل هنا، ونادر كمان واضح في بينهم علاقة. أهرب من قلبي أروح فين يا ربي؟

ثم خرج من الغرفة وهو يحمل حقيبته، لا ينظر خلفه، هاتف شقيقته يخبرها بأنه سيعود إلى القاهرة ولم يبدى لها أي أسباب..

❈-❈-❈


كان البحر هادئ، كأنه بيتنفس ببطء، والموج بيتأرجح على مهل، كأنه يعزف ألحانا العاشقين.

في تلك اللحظة قرر نادر الإفصاح عن مشاعره التي نجح في كبتها لفترة طويلة ، الأت قرر التحرر في حضن البحر، بعيدا عن القيود.

أراد التحدث مع هديل بعيدا عن العيون المترقبة، يريد لحظة هادئة وذكرى ناعمة تحفر داخل عقلهما يصعب نسيانها..

 أستأجر لانش، وطلب منها مرافقته دون خوف من أمواج البحر ، رغم ترددها إلا أن نظراته الحانية كأنها تحتويها ، أنساقت خلفه، كعصفور يُحلق في الفضاء رافضا الاغلال المكبلة 

قاد اللانش يشق طريقه وسط المياه، بعيد عن اليابسة، بعيد عن العيون، بعيد عن كل شيء إلا الحقيقة.


جلست بالقرب منه، شعرها يتطاير مع النسيم، وعيناها العسليتان تلمع تحت ضوء الشمس كأنها مرآتين من دفء وصدق.

كان نادر صامتا، لكنه يشتعل من الداخل كالعاصفة، يخشى أن ترى غضبه ويحزنها تبدل ملامحه ، يخاف من فقدانها، يخاف من الصمت الذي يغلفه، يخاف خسارتها.

تبادلًا النظرات بينهما، نظرته تطوقها بدفء، لا يخلو من رجاء، احتياج، حب ناضج يصرخ من أعماقه بقوة، يود أن يطوّقها بذراعيه، يخبئها عن العالم، يخبرها أنه أمانها، يحتويها ويخاف عليها حتى من نفسه.

تنهد بعمق اللحظة التي تتأجج فيها مشاعره، خرج صوته كأنه يحمل قلبه بين يديه ويقدمه اليها:

-هديل... أنا بحبك.

بتر أعترافه الصريح دون تردد ثم أكمل كلماته قائلا:

-مش قادر أتحمل أنتظر أكتر من كده، خايف أخسرك، تضيعي مني، وساعتها مش هلاقي نفسي تاني.

صمت ثواني ثم تابع بصدق:

-أنا معاكي لاقيت نفسي الضايعة، وعدت والدتك إني لما أحس إنك بتبادليني نفس المشاعر، أوجهك بالحقيقة، بس وجود سادن، قربه منك، تطفله... ما قدرتش أتفرج في صمت،

لازم يوصلك إحساسي، إن بجد بحبك كأنثى، أتمنى أقضي معاها عمرين فوق عمري،أنثى بحبها، وبحتويها، وبخاف عليها حتى من نفسي. مش مجرد طالبة عندي وأنا أستاذ، لا... مشاعري ناحيتك أكبر من أي لقب.أنا لاقيت نصي التاني اللي بيكملني، لاقيت روحي، ومرايتي،اللي لا يمكن أهرب منها وبواجه نفسي فيها.


كسا الخجل وجهها، ونظرت بعيدًا ولكن عاد نادر قائلا بحب وهو يرفع أنامله ويقربها من ذقنها لكي يجعلها تنظر إليه:

-ما تبعديش عيونك عني، أنا محتاج أشوفهم وأحس بيهم، وعاوزك تبصي في عنيه وتقوليلي ردك أيه على مشاعري؟؛

رفعت مقلتيها ببطء لتجده يحتضنها بنظراته، كأنه يسمح لها باختراق عالمه دون خوف أو مقاومة .


لحظه سكن فيها كل شيء، حتى الموج كأنه توقف لحظة، كأن البحر نفسه يصغي لنبضات قلبين يتعانقين، ويتواعدين على بداية جديدة...

 لفّها الخجل كأنه وشاح ناعم، احمرت وجنتيها، وعيناها العسليتان تتهرب من حصار عيناه، لكنه لم يتركها تهرب أو تتردد في الاعتراف هي الأخرى، فهو يدرك رغم خجلها، بأنها تكن له مشاعر صادقة، واضحة في ملامحها.

_الأمان_ لأنها قريبة منه، من روحه، من صدقه، من دفء نظراته التي تطمئنها إنها دائما ليست وحدها.

رفعت راسها ببطء ونظرت داخل عيناه بارتباك، لكنها كانت لحظة تضي بها نور جديد ، نور الثقة، نور يخفي عتمة الماضي ويشعل أملا جديدا داخلها قلبها الصغير الذي يخفق بصخب وقالت بصوت هامس:

-أنا... مش عارفة أقول إيه، بس حقيقي حسّيت بكلامك جوّا قلبي،أنا كنت دايمًا بخاف، بخاف أفتح قلبي، بخاف أصدق، بخاف أكون نقطة ضعف لحد. بس معاك... أنا مش خايفة، بالعكس أنا حاسة بالأمان، حاسة إني مش لوحدي، حاسة إنك شايفني زي ما أنا، مش زي ما الناس بتشوفني.عارفني أكتر من نفسي.

تهللت اساريره بسعادة غامرة ، رغم عدم تصريحها بمشاعر الحب إلا أن كلماتها خرجت صادقة ، خجلة ، ناعمة، بها حب خفي، وابتسامة رائعة كأنها تهمس برقة أنها جانبه، مستعدة أن تشاركه الحياة ويتقاسمان المصير معًا..

❈-❈-❈

عند غسق الليل، جلسوا تحت ضوء القمر، في دائرة صغيرة على الرمال، الهواء ناعمًا، والصمت بينهم مترقب، مليء بالانتظار، حيث لعبة الصراحة بدأت، لحظات صادقة،نادرة، تشق طريقها نحو أمل جديد وبداية سعيدة.

كان دياب أول من كسر الصمت،وهو ينظر لضي بعينين ممتلئتين بالامتنان :

-إنتِ كنتي المرايا اللي شفت فيها نفسي، أول مرة حد يفهمني من غير ما أتكلم.

 بدأ يفضفض دون خجل من عجز قدمه،وعيناه متعلقتان بها وحدها،لم يتردد في الحديث عن الحادث وفقده جزءًا من جسده، أحساس بالعجز وعدم الكمال، عرى ماضيه دون ضعف بل بقوة، وحب نابع من القلب، حب جعله يعيش الحياة وينظر لها بمنظور أخر...

-أنا ما شفتش نفسي كامل غير معاكي،نسيت العجز، نسيت الفقد، نسيت إحساسي بعدم الاكتمال، بمجرد ما بصيت لنفسي جوه المرايا الحقيقية لروحي… اللي هي إنتِ يا ضي..

غمرها الشعور بالفرحة من أجله وأجل نفسها، فهي أيضا تجد روحها من الداخل عندما تطالع مقلتيه، كيف له أن يفهمها ويفهم مشاعرها، كأنهما مرآة لوجه واحد ..

-أنا هنا، و شايفاك، كامل زي ما أنت.

كانت اللحظة أكتر من مجرد اعتراف بالحب ، بل لحظة شفاء من وجع الماضي، لحظة جبر القلوب من الكسر، لحظة ترميم الجراح وطي صفحات الظلام .. 

أتاح الفرصة للجميع بالتعبير عن مشاعرهم وكيف تخطوا ألم الماضي، تنفست هديل بهدوء ثم خرج صوتها قويا أكثر من ذي قبل: 

-كنت بخاف من اقرب الناس ليا، فقدت الثقة في كل حاجه ، اخترت العزلة والوحدة، بعدت عن كل الناس ، صمت لحظة تسترد أنفاسها ثم عادت قائلة بصوت كساه الحزن:

-أنا سامحت بابا رغم وجعي، بس لاقيت نفسي، اكتشفت أن الحياة مش بتقف على شخص تخلى عن دوره ومسئوليته كأب، ومش كل الوجوه بتتشابه، وأن الأمان لسه موجود ولازم أدور عليه في قلبي وحياتي .

ابتسم نادر بملئ فمه وهو يطالعها بنظرات حب :

-اوعدك اكون ليكِ الأمان وعمري ما أخذلك .

قالها بصدق وعيناه تتوهج ببريق من السعادة، ود لو ضمها إلى صدره في تلك اللحظة ، لكنه تماسك إلى أن تصبح زوجته وتشعر بالمحبة التي هي بحاجة إليها .

زفر بهدوء وحكي عن حياته السابقة مع طليقته كيف نسى نفسه وتاه وسط صخب الحياة، التملك الذي سيطر على حياته وافقده حب الحياة وشغفها، قالها بصدق دون تزيف ، والان تخطى تلك المرحلة ولم يعد يشعر بالندم على كل ما مر به ..

هتفت راما هي الأخرى عن الفقد ، فقد العائلة والأهل والوطن ، تشتت الحياة، كتمان الألم ولكنها لا زالت متمسكة ببصيص من الامل ،ولابد من وجود شعاع ينير الزاويا المظلمة داخل قلوبنا التي تجرعت وذاقت حسرات ومرارات، لابد وسيأتي اليوم التي تشرق فيه شمس الحرية من جديد ، أعترافاتهم تلك كانت أشبه ببناء جسر من الثقة والحب الحقيقي والتحرر من مشاعرهم ...

فقد انتصروا على الخوف، على العزلة، على الوحدة، على الصمت..

❈-❈-❈



بعد انتهاء العطلة الدراسية، عاد راكان في ذلك الوقت من رفح لكي يتمم خطبة ابنته "راما"

ذات مساء هادئ داخل شقة راكان، كان جالسًا على الأريكة، ينظر إلى ابنته راما بعينين يغمرهما الحنين والفخر.

حاوطها من كتفها وهي جالسة بحواره، تنهد ببطء ثم بدأ بالكلام بصوت دافئ:

-كبرتي يا راما... اتخرجتي، وبتتجوزي، وماجد بيحبك وبيحترمك، وأنا فخور فيك.

صمت قليلا ثم تابع حديثه بجدية:

-بس في شيء لازم تعرفيه.. ما بقدر أخبي أكتر من هيك،. قلبي مال لمريم، مش حب فجائي، ولا إعجاب، ولا محاولة نعيش شبابنا من جديد...هو دفء، مودة، مشاعر طيبة، ترابط بينا.. مريم شدتني بكل شيء فيها، بعلاقتها فيكِ، باحتوائها إلك، بقربها منك...مع مرور الوقت بقيت حاسس إنها مسؤولة مني، أحب أكلمها، أطمن عليها وعلى هديل.

الوحدة صعبة، خصوصًا على الست... بنتها كبرت، هديل كمان راح تتجوز، ومريم عاشت عمرها لهديل، نسيت نفسها.

 هي تستحق راجل يسندها، نعيش اللي باقي من عمرنا سوا، ونكون لكم العيلة والأمان.

انسابت دموعها ورفعت أناملها تمحيها وهي تبتسم بحب لوالدها :

-أنا بحب مريم جدًا، وهديل فعلاً أختي من أول ما جيت مصر. وما راح ألاقي عروسة لأبي أحسن من مريوم

ضمها لاحضانه وهو يضحك ، لكنها ابتعدت بخفة وقالت وهي تنهض من جواره:

-راح أخطبها لك بنفسي من هديل!

عاد يضحك على تسرع ابنته :

-استني، بلاش جنان! مريم تمهد لها الموضوع الأول... بس مريم مكسوفة.

ردت راما بثقة:

-لا، سيب بنتك تتصرف.



تركت الشقة في خطوات سريعة، نحو باب شقة مريم المقابلة، وقفت أمامه تدق الباب بحماس، بعد لحظات فتحت هديل الباب، فسحبتها راما من يدها إلى غرفتها،ثم اغلقت الباب خلفها، وقفت في قبالتها تحدق بها بعينين تلمعان بالمشاعر والمزاح:

-أنا بدي أخطب منك إيد إمك لأبي.

لم تتفاجئ هديل فقد استمعت مكالمة بين والدتها من قبل ، لكنها أتسعت عيناها بصدمة لم تتوقع حدوثها الان؟

ضحكت راما واردفت قائلا بحماس:

-ها يا بنتي، شو قولتي؟ نقول مبروك؟

 أجيب القبضاي أبي، ونلم شمل ها العرسان، ونزوجهم لبعض قبل ما يتحركش بيها!، أنا أخاف على أبي، والله!


ضحكت هديل هي الأخرى ثم اقتربت من راما تعانقها بحرارة، وهي تعلم كم تجاوزت راما فقدان عائلتها، وكم أصبحت مريم لها أكثر من أم.

همست راما بتأثر:

-بعرف مريم عانت كثير بحياتها، وضحت بسعادتها عشانك..

هلا جه الوقت نقف جنبهم، ونلم شمل العائلة كلها.

لم تعقب هديل على كلامها، فهي محقه، والدتها عانت الكثير من أجلها، رفضت أن تتزوج بعد طلاقها رغم صغر سنها ولكنها أبت ذلك من أجل ابنتها، ولكن بعد كل هذا العمر فهي بحاجة إلى سند ، رجلا يحتويها ويظل جوارها،الونس عن كل ما مرت به ، لا تريد حرمان والدتها من هذا الحق ، فهي أيضا ستتزوح وتبدأ حياة جديدة لماذا لم تترك والدتها تفعل ما تحتاج إليه هي أيضا؟ فهي لم ولن تكون سببًا في حرمان والدتها من السعادة التي تستحقها..


احتضنا بعضهما بدفء، بينما مريم كانت تقف عند الباب وتستمع لحديثهما بابتسامة خجولة، لم تكن تعلم بالخطوة القادمة في تحديد علاقتها براكان، الآن ابنتهن هن اللاتي يحددان مصير تلك العلاقة..



❈-❈-❈


بعد مرور ثلاثة أشهر، قد حدث بهما الكثير، حيث تم زواج مريم وراكان وانتقلوا للعيش بمنزل اخر أكبر مساحة، وتم عقد قرآن راما وماجد وهديل ونادر ، أما عن الثنائي دياب وضي سيتتوج حبهما الليلة في زفاف أسطوري..

داخل الحرم الجامعي كان يستدع نادر لمغادرة الجامعة وانتظار "هديل" عند الباركن فقد أنهت امتحانات أخر العام ، وسوف يقلها إلى الفندق الذي تزين به العروس.

لكن استوقفته "تيا"– طليقته – واقفة أمامه، نظراتها مترددة، تحمل شيئًا من الحنين والضعف، قالت بصوت خافت:

- نادر... ممكن أتكلم معاك؟


نظر لها ببرود ولكنه كانت يتحدث بتهذيب وأشار نحو مكتبه قائلا: 

- تعالي، نتكلم في المكتب.

في تلك اللحظة كانت تسير هديل بخطوات متهادئة متجهة إلى نادر بعد مغادرتها قاعة الامتحان ، لكي يقلها إلى ضي ،لمحت نادر يدخل مكتبه مع فتاة جميلة لم تعرفها، ظنت من هيئتها وملامحها بأنها زوجته السابقة، اشتعلت عيناها بالغضب وهي تحدق بهما وتتابعهم بنظرة مشوشة، وبعدما اختفى من أمامها أتجهت ناحية جراج السيارات وقفت بجانب سيارته، تنتظره وهي تحدق في الفراغ وتتنفس بقلق ،تحاول أن تهدئ توترها، لكن فضحتها غيرتها..




بينما داخل المكتب، جلس نادر خلف مكتبه، ثم أشار لتيا بالجلوس.

 جلست أمامه وهي تهمس بنبرة ناعمة، ممتزجه بالحنين :

-واحشتني... قوي يا نادر.


نظر إليها بعينين ثابتتين وخرج صوته هادئ لكنه حاسم:

-الكلام ده ماعدش ينفع دلوقتي يا تيا.. إحنا بقينا غرباء عن بعض.لو في حاجة أقدر أساعدك فيها، قولي.

حاولت التماسك وأخفاء دموعها التي تهدد بالانهيار وقالت بندم:

-مافيش فرصة تانية؟ عشان خاطر حبنا؟، أنا اتغيرت، اتعالجت من إحساس التملك... هتشوف قد ايه انا حاولت وأتغيرت و

قاطعها بحزم، وهز رأسه بأسى، ثم خرج صوته يحمل صدقًا مؤلمًا:

-واضح إنك لسه محتاجة تكملي علاجك يا تيا.صدقيني، انتي محتاجة تلاقي نفسك...تكوني تيا جديدة، غير الأنانية، غير حب السيطرة.أنا شايف جواكي شيء نضيف، بس لازم تدوري عليه.أنا آسف يا تيا، اللي بينا فعلاً انتهى.

أنهى كلماته بمشاعر صادقه:

- بتمنى تلاقي الحياة اللي تستحقيها، حياة بدون قيود التملك والأنانية. انتي محتاجة تدي تيا نفسها فرصة تانية، مش تطلبيها مني.

همست بصوت مكسور:

- في واحدة تانية في حياتك؟ نسيتني بسهولة يا نادر؟

تنفس بعمق، ثم نظر بعيدًا في الفراغ ،وعاد ينظر إليها:

-مافيش داعي نفتح القديم.صفحات الماضي بالنسبالي اتقفلت خلاص يا تيا.


نهضت عن مقعدها وهي تشعر بالضعف، مسحت دمعة عالقة بأهدابها ثم غادرت مكتبه بصمت قاتل.

ظل يراقبها وهي تبتعد، يشعر بشيء من الشفقة، لكنه لا يشعر بالحب، فمشاعره الآن ملك لشخص أخر، بعدما تحرر من لعنة التملك التي كانت تربطه بها.


غادر مبني الجامعة وتوجها إلى سيارته حيث تقف محبوبته ولكن يبدو عليها التوتر والغضب وهي تجاهد لكي تبدو هادئة لكنها فشلت وهو يعلم ما يدور برأسها من مجرد النظر إلى ملامحها، فهي كالكتاب المفتوح أمامه وهو يقرأ كل ما بداخله دون عناء أو مجهود

اقترب منها ليرى ملامح الغيرة في عينيها، ابتسم بخفة ودنا منها قائلا بتساءل:

-حبيبي عمل أيه في اخر امتحان؟

لم تجيبه بل هتفت بصوت متوتر:

- مين دي؟ مراتك؟

أقترب منها بخطوة أخرى وهو يضحك ثم أرسل إليها غمزة مشاكسة:

-لا يا حبيبتي، مراتي واقفة قدامي دلوقتي.لكن دي طليقتي... يعني كانت، وانتهت من حياتي للأبد.

يا قلبي أنتِ على الغيران؟

نجح في تحويل عبثها لبسمة خجولة، ثم دنا منها أكثر ونظر داخل عينيها وهو يهمس بحب:

-تعرفي إنك ملكتي قلبي، وعقلي، وحياتي؟ومافيش غيرك أنتِ وبس.


توردت وجنتيها كحبات الكريز وقالت وهي تبتسم برقة:

- طب يلا، هتأخر على ضي، لازم أكون معاها .

ابتسم بسعادة ثم فتح لها باب السيارة، وقال بدعاء :

-عبقالنا يا رب.

ثم استقل بالمقعد المجاور خلف عجلة القيادة وانطلق بسرعة يشق الطريق وصولا إلى الفندق الذي سيقام به زفاف"ضي"و"دياب".

❈-❈-❈

حل المساء واشتعلت القاعة بصخب الموسيقى، الضيوف يتوافدون، الوجوه مبتسمة، والقلوب مهيأة لليلة لا تُنسى.

 قاعة فاخرة مضاءة بأضواء كريستالية، ورود بيضاء وذهبية تزين المداخل. تفيض بالجمال، وكأنها خُلقت لتشهد على لحظة استثنائية.

الزهور البيضاء تتدلى من السقف، والشموع تضيء الممرات، وفي وسط القاعة، وقف دياب، متألقا ببذلته السوداء ،ينتظر رؤية ضي بفارغ الصبر.

علت أصوات الاغاني ترحيبا بقدوم العروس وهي تتقدم تتباط ذراع شقيقها ماجد، وهي تتألق بفستان أبيض ناعم، وحجاب يعلوه تاج ألماس ،

قرع قلبه كالطبول وهو يتقدم بخطوات هادئة والإبتسامة تعلو ثغره، هتف ماجد بدفء:

- دياب، أنا بقدم لك ضي... بنتي اللي ما خلفتهاش، بس ربيتها من قلبي، خلي بالك منها وحافظ عليها .

قبله دياب ثم مد يده، يسحب يد ضي، نظر إليها بعينين يغمرهما الحب، ثم التفت لماجد قائلا:

-شكراً لأنك وثقت فيا... وعد مني، هسعدها طول العمر، ضي دي حياتي اللي نورت بيها.


ابتعد عن شقيقته ثم اقترب من راما التي ترتدي ثوب ملكي أنيق بلون العاج ، يليق بها كأميرة، نظر إليها بحب ، رفع كفه يعانق كفها في حب ثم طبع قبلة على ظاهره وهو يطالع عينيها الساحرة :

-بحبك يا ملاكي، واوعدك يا راما أكون ليكِ وطن.


اشتعلت القاعة بالتصفيق، الموسيقى ترتفع، والفرح يعم المكان.ثم تخفت الانوار قليلا، وتبدأ الرقصة الأولى للعروسين..


وفي زاوية القاعة، وقف نادر، أنيقًا، يراقب هديل وهي تتحدث مع والدتها، تتألق بفستان بلون الزمردي يحيط بها كهالة، شعرها منسدل بنعومة، ابتسامتها تخطف الأنظار.

أقترب منها، يهمس بعشق وعيناه تطالعها بإعجاب:

-طلتك النهاردة تسرق القلب... فستانك، عيونك، كل حاجة فيك بتقول إنك ملكة. بس خسارة جوازنا مع إيقاف التنفيذ... نفسي بقى تكوني في بيتي.

نظرت إليه بعينين مترددتين، ثم همست بخجل:

- مش عاوزك تندم إنك ارتبطت بيا... أنا عارفة إنك هتتعب معايا.

رفع سبابته يضعها على شفتيها الناضجة كثمار الفراولة لكي تصمت فهو لا يريد إلا سواها وتلك اللحظة التي يعيشها معها، وضع يده على خصرها بتملك، جذبها برقة، وبدأ في الرقص معها وسط القاعة، رغم الزحام، كأنهما وحدهما.

ينظر في عينيها، صوته يفيض دفئًا:

-أنا أتحملك العمر كله... بس كل ده وضع مؤقت، وحبيبي هيتعافى، وتنتهي كل المخاوف. وأنا معاكي يا قلبي، ما تقلقيش.

تدمع عيناها من فرط سعادتها، و تضع رأسها على كتفه، ترقص معه ببطء، كأنها وجدت أخيرًا الأمان الذي بحثت عنه طويلاً.

❈-❈-❈

بعد مرور عامين..


داخل شقة نادر ، كان جالسا بغرفة المرسم ينهي لوحة زوجته وبطنها منتفخة أثر الحمل، الابتسامة لا تفارق محياه ، كان يود الذهاب معها إلى الطبيبة لمعرفة جنس المولود ولكنها رفضت وارادت أن تفاجئ بهذا الخبر بنفسها، لذلك حاول اشغال نفسه برسم ملامحها التي يعشقها.

أتت هديل في ذاك الوقت تولج من باب الشقة وهي تمسح دموعها المنهمرة على وجنتيها كالشلال، تحاول أن تبدو متماسكة، لكن عيناها المحمرتان تفضحانها.

عندما أحس بعودتها قفز من مكانه وركض إليها ،لكنه تفاجئ برؤيته لدموعها ، شعر بالقلق وهو يقترب منها متسألا:

-هديل؟ حبيبتي، مالك؟ في إيه؟

الدكتورة قالت حاجة؟ انتِ كويسة؟ البيبي بخير ؟

اجهشت بالبكاء، وهي تضع يدها على بطنها، كأنها تحتضن طفلها، اجلسها نادر على الأريكة، وهو متعلق بملامحها متوجس خيفة ، يحاول تهدئتها، لكي تتكلم ،لكن الكلمات خرجت متقطعة بين شهقاتها.

جلس بجانبها، يربت على كتفها بحنو ، ثم مسك يدها، ينتظر بصبر أن تخبره ما الأمر ؟


همست بصوت ضعيف حزينا:

-بنت... قالولي إنها بنت يا نادر...


تهللت اساريره بسعادة وتنفس الصعداء وهو يقول:

- بنت؟ يا حبيبتي دي أجمل خبر... ليه بتعيطي؟ البنت نعمة، هتكون شبهك، وهيكون عندي قمرين في البيت وهتملأ البيت فرح.


هزت رأسها رفضاً، ووضعت كفيها تغطي وجهها، وهي تهمس من بين دموعها:

- أنا خايفة عليها...خايفة تعيش اللي أنا عشته، خايفة من عيون الناس، من نظراتهم، من تحرشهم، من خوفها تمشي لوحدها، من إنها تحس إنها ضعيفة...خايفة تكون بنت في عالم ما بيرحمش البنات.


ظل يتأملها، أحس بثقل الألم الذي تحمله، ثم اقترب منها أكثر، يضمها إلى صدره، يهمس في أذنها بصوت حنون:

- أنا مش هسيبها...ومش هسيبك. بنتنا هتكبر في بيت فيه حب، فيه أمان، فيه راجل بيحميها وبيحترمها. هتعرف إنها قوية، وإنها مش لوحدها. هتعرف إنك كنتي بطلة، وإنك علمتيها تكون حرة وآمنة.

 تبكي بصمت، تتشبث به، كأنها تحاول أن تتشبث بالأمان الذي افتقدته طويلاً.

بينما نادر يضع يده على بطنها، يهمس بحب:

- دي بنتنا يا هديل...وأنا هكون سندها، وسندك. مش هخليها تمر بأي حاجة من اللي وجعتك.وعد مني... بنتنا هتكبر وهي مرفوعة الرأس، محمية، ومحبوبة.

رفعت رأسها، تنظر إليه بعينين دامعتين، لكنها تبتسم بخجل، كأنها وجدت في كلماته طوق نجاة.

مسح لها دموعها، وقبل جبينها، وقال بفرحة:

-البنت دي هتكون أقوى منك، لأنك هتكوني أمها... وأنا هكون أبوها اللي بيخاف عليها من الدنيا كلها.


داعب خصلاتها الكاحلة وظلت هي نائمة على صدره ، يهمس بكلمات من الحب كأنه والدها الذي يحتويها ويخفف من وطأة المعاناة التي مهما حاولت النجاة منها ، تعاود بالظهور ثانيا ، فما مرت به ليس بهين وعليه أن يظل السند والأمان والاحتواء ..




لم يكن الانتصار في الحب وحده، بل في _الاعتراف بالذات_، في الوقوف أمام مرآة الروح دون خوف، دون أقنعة، دون محاولات للتجميل أو التبرير.

 لم يكن كل منهما يبحث عن نصفه الآخر ليكتمل، بل عن من يعكسه بصدق، من يرى ذاته في عينيه، ويقول له: أنا هنا، لأحبك كما أنت.

هكذا انتهت الحكاية…

لا بانتصار خارجي، بل بانتصار داخلي.

كل روح وجدت مرآتها، وكل قلب وجد من يراه،

لا ليُغيره، بل ليحتضنه، ويقول له:

_أنت كافٍ… كما أنت_


تمت

إلى حين نشر الرواية الجديدة للكاتبة فاطمة الألفي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة