-->

رواية جديدة من شيم الرجال لهاجر التركي - تمهيد - الجمعة 22/8/2025

 

   قراءة رواية من شيم الرجال كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية من شيم الرجال 

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة هاجر التركي 


تمهيد


تم النشر يوم الجمعة 

22/8/2025



هدوء مَغمور بنسمات هواء خفيفة، غلفَ تلك البناية الشاهقة في وسطِ المدينة التي لا تهدأ، قطعهَ أصوات أحتكاك أطارات سيارةٍ ما علي الأرض الأسفلتيه، بخفة يدٍ ركنَ سيارتهِ في مكانها المُعتاد أسفل البناية، القىٰ نظرة خاطفة للأمام تحديدًا حيثُ تستقرُ سيارة دفع رُباعي سوداء غريبة عن المنطقة،لم يهتم ظنً أنها من المُمكن أن تكون سيارة ضيف لدي ساكن ما هُنا، دقيقةٍ وكان يقفُ أمام شقتهِ بالطابق الثالث..... 

شقتهُ تغرق في سكونٍ عميقٍ لم يقطعه سوى وقع خطواته المتعبة وهو يخلع معطفه ويعلقه على المشجب بجوار الباب..... الهواء في الداخل يحمل رائحة عَطِرة ، مزيجٌ دافئٌ بين عبق التوابل ورائحة أنثوية خفيفة تسللت إلى أنفه كهمسةٍ خفيةٍ تداعب حواسهِ، رائحة الڤانليا الثقيلة ميزها سريعًا وكأنها طُبعت بداخل حواسهِ لشدة تعلقهِ بصاحبتها

رفع حاجبيه بدهشة ما أن لمحَ إنارة المطبخ وصالون الشقة مُشتعلين، قبل أن يهتف بصوته المتعب، لكن بنبرةٍ تحمل فرحة غير متوقعة:

_"أي ده علياء، أنتِ جيتي أمتا؟"

بخطوات سريعة قطعَ المسافة بينهم مُتقدمًا من حيث تقف بمُنتصف المطبخ، كانت تقف أمام الموقد، وجهها مضاء بضوء النيران التي تتراقص على أطراف القدر، انعكاسها يضفي على ملامحها بريقًا دافئًا يجعل عينيها العسلية تلمع كجوهرتين ناعستين.... 

اطفأت النار سريعًا،تستقبلهُ بينَ أحضانها،تمنحهُ عناقًا دافئًا لا يحظي بمثلهِ سوى بينَ ذراعيها تقول بدلال لا يليقُ سوى بها،وقد تجاهلت سؤالهِ الأخير:

_"حمدالله علي السلامة يا كريم ياحبيبي"

فصلت عناقهم القصير، مُتبسمة الثُغر، وقد أستقرت أناملها الطويلة تعبثُ بشغفٍ بشُعيرات ذقنهِ النابتة، تتأملهُ بعيون لامعة: 

_"وحشتني أوي". 

_"مقولتيش ليه أنك جاية، كُنت رجعت من بدري". 

هزت رأسها بدلال مُفعم بالثقة، قائلة بنبرتها الهادئة: 

_"حبيت أعملهالك مُفاجأة يا حبيبي."

ابتسامةٌ واسعةٌ رُسمت على وجهه كمن تلقى هديةً لم يكن يحلم بها، أمسك بيديها وجذبها نحوه، رفعها قليلًا حتى كاد يرفعها عن الأرض، وهو يهتف بحرارةٍ وعينيه تضيقان :

_"أحلى مُفاجأة أقسم بالله... يا مُفترية بقا تحرميني منك أسبوع بحاله مشوفكيش؟"

أنفرجت شفتيها بأبتسامة واسعة راضية تمامًا، بعدما القي عليها كلمات تُرضي غرورها كأُنثي، أراحت رأسها على صدره ثم همست بجديةٍ تسللت إلى نبرتها، بينما أصابعها تمسد عضلات يده برقة:

_"معلش يا حبيبي، أنتَ عارف بابا الفترة دي متغير وبيتصرف تصرفات غريبة، ومشدد عليا جامد مش فاهمة ليه."

تراجع قليلًا، عقد حاجبيه بقلقٍ وهو ينظر في عينيها، ثم سأل بتوجسٍ واضح:

_"أومال أنتِ جيتي إزاي؟ هو فين؟"

تنهدت ببطء، وكأنها تتخلص من ثقلٍ جاثمٍ على صدرها، ثم أجابته بصوتٍ خافتٍ حمل راحةً مشوبةً بالحذر:

_"سافر يومين البلد عند عمي دياب."

اتسعت ابتسامته فجأة، نسي كل القلق الذي غزا عقله للحظاتٍ، رفع يديه ممسكًا بوجهها بين كفيه، ثم قال بنبرةٍ يملؤها مرحٌ غامرٌ:

_"مش مصدق، هشبع منك يومين بحالهم!"

رفعت عينيها إليه بنظرةٍ ناعمةٍ، صوتها انخفض قليلاً وهي تسأله كمن تحتاج تأكيدًا: 

_"واحشتك يا كريم؟"

ضحك بخفة، أمال رأسه للأمام حتى كادت شفتيه تلامس جبينها، ثم همس وهو يضغط على يدها برفق:

_"وحشتيني بس؟ ده أنتي وحشتيني و وحشتيني."

قهقهت بخجل، غمست عينيها في عينيه المتقدتين عشقًا، فاحت من جسدها أنوثةٌ دافئةٌ أربكت أنفاسه. عيناه هبطتا بانجذابٍ لا إراديٍ إلى ثوبها الأنيق ذو اللون الأسود،قد أنسدلَ علي جلدها بإنسيابيه، يرسمُ تفاصيل فاتنتهُ المغوية

الفتنة تتجسد في تفاصيلها الصغيرة، في خصلات شعرها الأحمر الطويل المتساقطة على كتفيها كاللهب ، في لمعان شفتيها المطلية باللون البُني الفاتح الذي بدا وكأنه دعوةٌ صامتة،وكاد بالفعل يُلبي الدعوة بكُل رحابة حينَ أنحني برأسهِ للأمام وكاد يلتقط قُبلة خاطفة، لكنها لم تدعه يتوه طويلًا،وضعت كفها عمدًا تمنعها، قاطعته وهي تقول بمكرٍ لطيفٍ:

_"مُش جعان...أنا عملتلك المكرونة اللي بتحبها من أيدي. ". 

كانت قريبة منهُ، تقف في حدود مساحته، قريبة حد أنفاسه، تحمل في عينيها مسحة من الدلال وهي ترفع حاجبًا بمرحٍ مُفتعل. تريده أن يأكل

ابتسم، ابتسامة بالكاد تحركت بها شفتاه، لكنها احتوت على مزيجٍ من المكر والتملك الخفي. وقبل أن تستوعب، اختطف منها قبلة مُشاكسة، خاطفة، على وجنتها الدافئة، قبلة أشبه بعلامة توقيعه الخاصة، تُحدث أثرها كل مرة، تترك خلفها خدرًا طفيفًا في بشرتها وقشعريرة تسري في أطرافها. ثم همس، بصوته الرخيم العميق، القادر على إحداث رجفة صغيرة في قلبها كلما خاطبها بتلك الطريقة:

_"بقا في حد يبقى معاه مهلبية ويأكل مكرونة؟"

كانت جملته تحمل من الدفء والمغازلة ما يكفي لتُفلت منها ضحكة قوية، ضحكة خرجت طبيعية، خفيفة، كأنها جزءٌ من أنفاسها. رمشت بعينيها الواسعتين، ومالت نحوه بخفة، يداها تعبثان بياقة قميصه الأسود، تُعدلها بإيماءة عفوية وكأنها لا تحاول استفزازه عن قصد، لكنها تفعل ذلك وأكثر، دون أن تدري ربما، أو تدري جيدًا وتستمتع بإغاظته. وعندما نطقت، كانت عيناها ناعستين، مُغرقتين في بريقٍ خاص:

_"يعني مش هتأكل؟"

لم يكن بحاجةٍ للرد بجملةٍ طويلة، كان يعلم جيدًا أن تأثيره عليها لا يحتاج لكلمات مُعقدة. اقترب قليلًا، خفض صوته، منحها تلك النبرة الماكرة:

_"هأكل، بس هأكلك أنتِ يا جميل."

شهقة صغيرة، مباغتة، خرجت منها ما أن شعرت بجسدها يفقد توازنه عن الأرض. لم يمهلها فرصة لاستيعاب الأمر، في لحظة، باتت مُعلقة بين يديه، وكأنها لا تزن شيئًا، وكأنه لم يجد صعوبة في احتوائها بين ذراعيه القويتين. أصابعها تقبض على قميصه لا إراديًا، عيناها اتسعتا في دهشة، بينما هو، كان لا يزال مُتسع الابتسامة، يتأمل رد فعلها باستمتاعٍ نادر.

المطبخ خلفهما بدا وكأنه مجرد خلفية هامشية، لم يعد للمكرونة أي أهمية، ولا حتى للأطباق التي كانت تنتظر على الرف. اللحظة الآن تتعلق بهما وحدهما، بالدوران الخفيف الذي قام به وهو يحملها، بالمكان الذي سيضعها فيه لاحقًا، بالضياع المؤقت بين الضحكات المبعثرة، واللهيب الذي اشتعل، ليس على الموقد، بل في المسافة المتلاشية بينهما..... 

❈-❈-❈

توسطت صدرهِ العاري برأسها، جسدها يتنفسُ علي إيقاع دقاتهِ البطيئة،  رفعت عينيها التي بدأت  يُداهمها النُعاس ورغبة مُلحة في النوم علي أثر أصابعهِ التي تعبث بشعرها بحركات بطيئة كسولة.... تنظرُ إلي وجههِ عن قُرب، قبل أن تهتف بنبرة هادئة مُنخفضة: 

_"كريم! ". 

أنحدرت عينيهِ نحوها، نفثَ دُخان سيجارتهِ التي قاربت علي الأنتهاء، طبعَ قُبلة قصيرة علي خصلاتها قبل أن يرد: 

_" قلب وعيون كريم! ". 

_" الوقت اتأخر، أنا لازم أمشي". 

جملتها اخترقت الأجواء كريحٍ باردة تقطع حرارة اللحظة، تُعيده بفظاظة إلى الواقع، وكأنها تجرده من أثر القرب الذي تذوقه منذ لحظات. كان لا يزال يحاصرها بذراعيه، يشعر بوجودها مُلتصقة به، بجسدها المُنهك من الاشتياق، لكن عقلها عاد ليحكم قبضته، يُعيدها إلى رشدها المُدجج بالحذر.

نظر إليها، عيناه الداكنتان متورطتان في بريقها المُضطرب، أنفاسه لا تزال تتخلل خصلات شعرها، امتدت يده دون وعيٍ، كأنه يتشبث بأثرها الأخير، تسلل بأصابعه إلى خصلاتها الطويلة المسترسلة فوق صدره، يُمررها بين أنامله وكأنما يحاول استيعاب أنها باتت على وشك الهروب من بين يديه. وبصوتٍ يحمل في ثناياه رجاءً ناعمًا، لكنه ثقيل الوقع، قال:

"خليكِ شوية، لسه بدري؟"

لكنها كانت قد عقدت العزم. تحركت بين ذراعيه بعفويةٍ، في محاولة لتحرير نفسها، لكنه شعر بها كما لو كانت تبتعد عن روحه لا عن جسده فحسب. نهضت ببطء تبتعد عنه قليلاً ليُصبح وجهها مُقابل لوجههِ، مسافة ضئيلة تفصل بينهما... 

رفعت عينيها إليه بإصرارٍ رقيق، تحدق في ملامحه التي توترت قليلًا، كأنها تستطيع الشعور بالضيق الذي بدأ يتخلل صدره. لكنها لم تتراجع. بلعت ريقها بصمت، محاولة ألا تنجرف خلف انفعالاته التي تعرفها جيدًا، وبلسانٍ لا يزال يحمل آثار أنفاسه عليها، نطقت بصوتٍ خافت لكنه واضح الحسم:

"لا، مينفعش أتأخر أكتر من كده، لازم أبات في البيت. أنت ناسي إن في شغالين في البيت، وبيوصلوا لبابا كل حركة؟"

التوتر خيّم للحظة، سكونٌ مُحمل بثقل العتاب والرغبة، وشيءٌ من الاستسلام البطيء. زفرَ بضيقٍ واضح، نفخة هواء دافئة انبعثت من شفتيه المثقلتين بالضيق، عيناه التمعتا بنفاد صبرٍ مكبوت، قبل أن يقول بصوته العميق، الخافت لكنه نافذ، يحمل بين نبراته صدى المشاعر المُكدسة في صدره:

"خليكِ بايتة النهاردة يا علياء... لسة مشبعتش منك."

كانت كلماته وحدها كافية لتُحدث ارتعاشة خفيفة في أوصالها، لكنها لم تُظهرها. لم تنطق على الفور، فقط ظلّت تحدق فيه للحظة، عيناها تسبحان في دفءٍ خجول، قبل أن تخرج تنهيدة صغيرة من صدرها، وكأنها تمنح نفسها ثانية واحدة فقط لضعفٍ مؤقت. ابتسمت له برقة، لمسة حنان طغت على تعبيراتها، قبل أن تهمس بنبرةٍ تحمل وعدًا خفيًا:

"معلش يا كريم، هانت."

كانت تعتقد أن تلك الكلمة ستواسيه، لكنه لم يبدُ مقتنعًا. هو لم يعُد يريد الصبر، لم يعُد يريد أن يعتاد المسافات بينهما، لم يعُد يحتمل فكرة أنها ليست معه دائمًا. التفت إليها، تلك النظرة القوية استوطنت عينيه، نظرته التي تحمل دومًا قرارًا لا يقبل الجدل، ثم قال بوضوح، وبصوتٍ ثقيل بالمعنى الذي يحمله:

"أعملي حسابك إني هاجي لأونكل راغب أول ما يرجع من سفره أطلب إيدك، مبقتش قادر أستحمل بُعدك الكتير... أومال لو مكُناش متجوزين وأنتِ مراتي؟ كفاية لحد كده بقا، بقالنا سنة بنتقابل زي الحرامية"

عضّت شفتها برفق، لم تجد ردًا يُوازي حجم المشاعر التي زرعها في قلبها في تلك اللحظة، لكنها لم تستطع إخفاء ابتسامة صغيرة، ناعمة، كأنها اعتراف صامت بأنها تنتظره أيضًا...تحركت بخفةٍ تبتعد عن الفِراش كُليًا، بعد أن جذب روبها ترتديهِ سريعًا: 

_"هأخد شاور وبعدين تنزل توصلني."

وهمّت بالتحرك، لكن خطوتها تعثرت عندما التقطت عيناها شيئًا لم يكن ينبغي أن يكون هناك. تجمدت لثانية، حاجباها انعقدا بحدة وهي تُثبت نظرها على طرف السلاح الناري الذي ظهر من درج المرآة المفتوح قليلاً. نبض قلبها زاد إيقاعه، وكأن ذلك المشهد أعاد إشعال المخاوف التي تحاول دومًا دفنها.

استدارت إليه سريعًا، عيناها مليئتان باللوم، النبرة المُعاتبة أفلتت منها قبل أن تتمكن من كبحها:

_"برضو يا كريم، ماشي بسلاح طول الوقت؟!"

التفت إليها ببطء، للحظة خاطفة مرّ التوتر في عينيه الداكنتين، لكنه كان سريعًا في استعادته للسيطرة، وكأن كل انفعالاته خضعت لأوامره الصارمة بعد جزءٍ من الثانية فقط. حمحم بصوت خافت، ثم أجاب بثباتٍ مصطنع، نبرة هادئة تحمل تحتها الكثير مما لا يقال:

_"فترة وتعدي يا حبيبتي."

لكنها لم تكن كافية لإطفاء القلق في داخلها، بل زادت الأمور سوءًا. تقدمت نحوه خطوة، عيناها تتفحصانه بجدية، تلاحق كل تفصيلة في ملامحه، تُحاول قراءة ما يُخفيه عنها. قلبها بدأ يدق بخوف، ذلك النوع من الخوف الذي لا يحتاج إلى صراخ أو نحيب ليكون مدويًا. غصة صغيرة علقت في حلقها، قبل أن تهمس بصوتٍ أكثر رقة، لكنه لا يخلو من رجفةٍ خفيفة:

_"لسة الناس دي بتهددك، كريم؟! ياريت الفترة دي تعدي بسرعة، أنا بقيت أخاف عليك أكتر."

_"متقلقيش يا حبيبتي، إن شاء الله خير."

لكنها تعلم، تعلم أن هذه ليست سوى جملة يرددها ليُهدهد قلقها، تمامًا كما يُهدهد عاصفةً يعلم أنها ستعود للغليان من جديد.... 

❈-❈-❈

لتوها أنتهت من حمامها، وأيضًا أرتدت ملابسها، وكانت علي وشك الخروج، صوت مدوي لرصاصة نارية أخترقَ حواسها مما دفعَ تدفق الأدرنالين إلي أوردتها، وقد وقعت زُجاجة العطر من بين أصابعها... بثانية هرولت ناحية الباب، تفتحهُ سريعًا، لفحة الهواء الباردة ضربت جسدها الذي مازال يحمل بقايا المياه، وهي تندفع للخارج، قدمها العاريتان أصتدمتا بالأرضية الخشبية الباردة.... 

دقيقة من الصمت أستغرقتها لتستوعب ما وقعت عينيها عليهِ من فاجعة هوت بقلبها بين أقدامها، "كريم" زوجها، مُمددًا بمكانهِ بإستسلام، نصف جسدهِ العلوي مكشوف، وشلال من الدم القاني ينفجر من صدره أثر رصاصة أخترقته، الدماء أنتشرت ببطء، تتغلغل بين الفراش الأبيض تلّوث النقاء، تحوله إلي لوحة مُرعبة بلون الموت..... كانت عيناه التي طالما تغزلت بها وهوت هي صريعة بفعلٍ فتنتها، مفتوحة جاحظة تنظر للسقف.... 

شهقة قوية لفظتها من بين شفتيها المُرتعشتين، وعينيها ذرفت الدموع تلقائيًا، همست بصوت مختنق: 

_"كريم؟. ". 

لم يأتها ردًا،فقط صمت موحش، أستشعرت وجود فرد ثالث بالغُرفة، لفت نفسها لا أراديًا وقعت عينيها عليهِ يجلسُ بكل إرياحية علي الأريكة، قداماه مُمددة أمامه بكسلٍ وكأنهُ في منزلهم يشاهد فلمًا ما مُملاً علي علم مُسبق بنهايتهِ.....المُسدس يحتفظ بهِ أمامه علي الطاولة، حلقات الدخان المُنبعثة منهُ تلاشت في الهواء، لكن رائحة البارود ما زالت تخنق المكان، تمتزج برائحة الدماء والماء المُتساقط من خصلاتها الحمراء النارية....

_"البقاء لله... مع إنه ما يستاهلش حتى تراب القبر اللي هيندفن فيه....كلب وراح"

  نطق بها بترويٍ وهو ينظر لها مباشرةً ، خرج صوته هادئًا، بلا انفعال ظاهر، بلا نبرة شفقة أو انتصار. 

كانت كلماته كالرصاص، لكنها لم تصبها مباشرة، بل ضربت الأرض تحت قدميها، جعلتها تهتز دون سابق إنذار. لم تكن الصدمة، بل الإدراك، ذلك النوع البطيء الزاحف الذي لا يأتي دفعة واحدة، بل يتسلل داخلها كخيط من الجليد، يجمّد حواسها تدريجيًا حتى يتوقف كل شيء.

شعرت أولًا بتنميل خفيف في أطرافها، كأن الدم انسحب فجأة، ثم ارتخت أصابعها، كأنها لم تعد تملك السيطرة على جسدها. حاول عقلها استيعاب الجملة، تفكيكها، تحليلها، لكن الضوضاء في رأسها كانت أعلى من قدرتها على التفكير. صدرها انقبض، أنفاسها تلاحقت دون أن تستوعبها، والفراغ تحرك من تحتها ببطء، كأن الأرض نفسها قررت أن تتخلى عنها.

اختل توازنها، تمايلت للحظة، عيناها متسعتان كأنهما تبحثان عن شيء تتشبث به، شيء يوقف هذا السقوط الحتمي. لكنها لم تجد شيئًا. قدماها خانتاها، ارتختا بلا مقاومة، وبرودة زاحفة اجتاحت عمودها الفقري كما لو أن الحياة نفسها بدأت تسحبها للداخل.

وفي اللحظة التالية، سقطت.لم يكن سقوطًا صاخبًا،بل كان أشبه بورقة ذابلة انفصلت عن غصنها في خريف بارد. بلا صوت، بلا مقاومة. لحظة واحدة كانت واقفة، والأخرى كانت تنجرف إلى الظلام، كل شيء يتلاشى، كل شيء يغيب.

أما هو لم يتحرك. لم يندفع للإمساك بها، لم يحاول كسر سقوطها. فقط نظر إليها، بعينين لا تحملان مفاجأة ولا اضطرابًا، وكأنه كان يعلم منذ البداية أن هذا سيحدث. وكأن سقوطها لم يكن سوى استكمال لما بدأه قبل لحظات... 

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة هاجر التركي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة