رواية جديدة من شيم الرجال لهاجر التركي - الفصل 1 - الخميس 21/8/2025
قراءة رواية من شيم الرجال كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية من شيم الرجال
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة هاجر التركي
الفصل الأول
تم النشر يوم الخميس
21/8/2025
استيقظ الكون متثاقلًا كعادتهِ، متثائبًا تحت وطأة الصمت المزعج للصباح الباكر. لا ضجيج سيارات، لا صراخ أطفال، حتى العصافير بدت وكأنها أخذت إجازة من التغريد. الشمس، كموظف يكره دوامه، تسلل نورها بتكاسل عبر النوافذ...
جائت هي بكُل تَمردٍ لتخترقُ قانون الطبيعة الصباحي الذي منَ المُفترض أن يكون هادئًا بخلاف صخبهِ في بعض الأحيان الضرورية، كعادتها تخترق جميع القوانين، وليست قوانين الطبيعة فقط..... أرتفعت أصوات صاخبة جدًا لمُوسيقي روك قديمة نوعًا ما، وكأن هُناكَ حفلةٍ ما تُقام هنا في الصباح الباكر ليحضرها قطط الشواع...
خرجت من المِرحاض متهادية في مشيتها تُدندن مع صوت المُغني الغير مفهوم، بيدها منشفتها البيضاء تتولي مهمة تجفيف خصلاتها النارية.... وقد لفت جسدها برداء الأستحمام...
بعينيها لمعة أستمتاع مُستفزة وكأنها سعيدة بإزعاج الجيران في كُل صباح تُوقظهم من نومهم علي الموسيقى الغريبة الصادرة من غُرفتها.....حتى أنهم لا يفهمونها فقط موسيقي مؤذية للأُذن فقط.... سيئات بلا هدف
في البداية، كانوا متسامحين. مُدعيين أنه حماس شباب لكن بعد ليلتين فقط من أستمرارها علي سماع مثل تلك الفئة من الموسيقي الحماسية،بجانب صراخها تردد وراء المُغني،بصوتها الذي يشبه محاولة قط عالق في أنبوب صرف صحي، بدأ الحي يعيد النظر في مفاهيم التسامح والحرية الشبابية
وكأنها بالفعل تهتم، أنشغلت لدقائق بوضع بعض الكريمات المُرطبة علي بشرة أقدامها العارية من أسفل ردائها، ومازالت تُدندن، لم تستمع بالبداية إلي صوت الطرقات علي باب الغُرفة، وما أن يأسَ منها الطارق،حتي أخذ يدقُ بعُنف أكثر حتى ألتقطت أُذنيها الصوت، أنحنت تُغلق مُكبر الصوت قائلة بملل وهي لا زالت تركز في ما بينَ يديها:
_"أدخل".
كانت "آمال" تقف على أعتاب الغرفة وكأنها مبعوث دبلوماسي مكلف بمهمة حساسة في منطقة عدائية. أما" علياء"، فقد كانت تمثل تلك المنطقة العدائية بكل جدارة، جالسة علي طرفِ سريرها،تميلُ برأسها للأسفل قليلاً، لم تُكلف نفسها عناء رفع رأسها لها حتى، بل ما أن أقتربت منها حتى اصتدمت بكلمتها الضجرة تصرخُ بها بصلفٍ:
_"عايزة إي؟"
وكأن مجرّد وجود "آمال" أمامها جريمة يعاقب عليها القانون. توسعت عينا المسكينة للحظة، وكأنها فوجئت بأن الإنسان يمكنه اختزال كل درجات الوقاحة في ثلاث كلمات فقط، لكنها استعادت رباطة جأشها سريعًا، حمحمت بأدب، ذاك الأدب الذي أصبح درعها الواقي في التعامل مع كائن مثل "علياء" ذات المزاج المُتقلب
_"حاتم بيه مستني حضرتك على الفطار تحت".
قالتها بصوت هادئ، وكأنها تخشى أن يتم اتهامها بانتهاك خصوصيتها وأزعاجها في الصباح الباكر،ليسَ وكأنها كانت تستمع منذ قليل لأصوات من الطبيعة بينما تقوم بتمارين اليوغا للأسترخاء...
بدا أن هناك مواجهة غير مرئية تجري في الأجواء، حيث اصطدم صقيع"علياء" بحرارة صبر "آمال". أحدهما معتاد على توزيع الوقاحة بالمجان، والأخرى تحاول أن تتعامل معها وكأنها ظاهرة طبيعية يجب التعايش معها، كالرطوبة أو زحام الشوارع.
لم ترد" علياء" مباشرة، فقط رفعت حاجبها بالكاد... أما "آمال"، فقد ظلت واقفة، تتساءل في عقلها كم من الأرواح الطاهرة يجب أن تدعو لها اليوم حتى تمر هذه اللحظة بسلام.
بقيت "آمال" واقفة للحظة، تراقب "علياء" التي لم تُحرك ساكنًا، كأنما تنتظر أن تُستدعى إلى الإفطار بواسطة موكب ملكي أو أن يُرسل لها خطاب رسمي مختوم بختم النسر. أخذت نفسًا طويلًا، محاولة أن تتمسك بآخر ذرة من ضبط النفس، قبل أن تضيف، بصوت أكثر هدوءًا مما ينبغي لشخص يتم إجباره يوميًا على التعامل مع كتلة متحركة من الصلف:
_"حاتم بيه طلب مني أبلغ حضرتك إنه مستني.. ومستعجل."
_"مستعجل؟"
رفعت رأسها أخيرًا، أخيرًا! نظرت إليها نظرة قصيرة، رمت العبوة من بين يديها علي الفراش بجانبها بحدة كأنها تعاقبها على شيء لا يعلمه إلا الله.
_"ما قالّكيش هو مستعجل ليه؟"
في هذه اللحظة، أدركت "آمال" أن الحرب لم تنتهِ بعد، بل على العكس، كانت هذه مجرد المناوشات الأولى. عضّت على باطن خدها في محاولة لابتلاع الردود التي تحترق في حلقها، ثم قالت، بابتسامة مصطنعة تصلح للإعلانات التجارية أكثر من الحوارات الإنسانية:
_"معتقدش "
نظرت إليها أخيرًا، ليس بازدراء هذه المرة، ولكن بشيء أشد فتكًا: لامبالاة ساحقة.ثم، وبكل بساطة، رفعت كتفيها وقالت بلا مبالاة مطلقة:
_"طيب، خليّه يستعجل براحته."
وأدارت وجهها وكأنها قد انتهت من الحدث تمامًا، بينما "آمال" وقفت مكانها، تتساءل بجدية: أيهما سيكون الخيار الأسهل، الاستقالة أم ارتكاب جريمة؟
ظلّت واقفة في مكانها للحظات، تحدّق بها وكأنها تحاول فك شفرة هذا الكائن الذي يصرّ على تحدي قوانين المنطق واللياقة الاجتماعية في آنٍ واحد. لم تكن تعلم أي شيء عن السيد "حاتم"، لكن شيئًا ما يخبرها أنه في هذه اللحظة تحديدًا، كان على الأرجح يحدّق في ساعته وهو يسبُ الزمن الذي أوقعه في فخ انتظار هذه الفتاة... أو يلعنُ اليومَ الذي أنجبها فيهِ، لتُعيث في الأرض أستفزازًا
حاولت "آمال" أن تبقى متماسكة، لكن معركة الأعصاب التي تخوضها يوميًا معها جعلتها تتساءل لماذا لم تختر مهنة أكثر رحمة، كمدربة سباحة لأسماك القرش مثلًا. أخذت نفسًا طويلًا، وكأنها تستعد لإلقاء خطاب دبلوماسي يهدف لمنع حرب عالمية ثالثة، ثم قالت بلهجة تحمل آخر فتات من صبرها:
_"حضرتك تحبي أقولّه إي ؟"
لم تتحرك ، لم تومئ، لم تفعل أي شيء سوى أنها رفعت يدها ببطء شديد، كما لو كانت مشغولة جدًا بتوقيع اتفاقيات دولية، وأشارت بإصبعها إشارة غامضة إلى الباب.
"آمال" رمشت مرتين. "إشارة الباب" هذه كانت، على ما يبدو، الترجمة الرسمية لجملة: "مش فارق معايا، أمشي من هنا".علي ما يبدو أن أحدهم تبعثرت كرامته أدراج الرياح الآن
أحنت رأسها قليلًا، ليس احترامًا بل لأنها كانت تحاول كتم شتيمة كادت تفلت منها، ثم استدارت وخرجت ، أغلقت الباب وراءها، وتوجهت نحو السلم بخطوات سريعة، متخيلة رد فعل السيد" حاتم"
لكن، وبينما كانت تهمّ بالنزول، سمعت صوت الباب يُفتح مجددًا، وصوتًا رتيبًا خلفها يقول بلا اكتراث:
"قولي له جاية بعد خمس دقايق."
التفتت "آمال" ببطء، تحدّق في "علياء" وكأنها لا تصدق أن هذه الجملة قد خرجت منها أخيرًا. خمس دقائق! خمس دقائق بعد كل هذا العناء؟ لو كانت تعرف أن هذا الحل موجود، لكانت قد هدّدت "علياء" بمطرقة على رأسها منذ البداية!
❈-❈-❈
نظرَ إلى ساعة يدهِ بضيقٍ بدا جليًا على قسمات وجههِ المُتعب، يُراقب الدَّرج من دقيقة لأُخرى، وقد بدأ الضجر يحتلهُ كُليًا، نظرَ إلى المائدة المُمتدة أمامهُ، مرصوصة بعناية ودقةٍ، وقد امتلأت بأنواع عديدة من الوجبات الخفيفة المُناسبة لوجبة خفيفة كوجبة الفَطور، تأملَ صِحنه الذي لم يتناول منهُ بعد، ينتظر قدومها كي يأكلا سويًا بدلاً من أن يأكل كلٌّ منهما بمفرده بسبب تفاوت الوقت لديهم في تناول فطورهم...
رفعَ رأسهُ عن الصَّحنِ، يُلقي نظرة على الدرج للمرة الخمسين هذا الصباح، لكنه تنهدَ بخيبة أمل عندما لم يجد ما يدلُ على قدومها، التقط كوبَ قهوتهِ وارتشف منهُ على مهلٍ، ثوانٍ وأبعدهُ مرة أُخرى يضعه بمكانهِ وقد امتعض وجهه من مذاق القهوة الذي فَسِدَ تقريبًا لكونها بردت... وضعت "آمال" آخر صحن مُمتلئ بالزيتون أمامه، نظرت لهُ بهدوء مُقترحة عليهِ ما إن لاحظت ضيقهِ ومزاجه العَكِر:
"أطلع أستعجلها يا حاتم بيه".
هز رأسهُ نافيًا، وقد شرعَ في تناول طعامهِ بأخذ قطعة من الخُبز، قبل أن يقول:
"لا خلاص، خلّيها براحتها، هفطر لوحدي، وهي تبقى تفطر وقت ما تحب".
منحتهُ إيماءة صغيرة قبل أن تتحرك للرجوع للمطبخ مرة أُخرى، لكنها توقفت بمكانها وكذلك رفعَ هو رأسه عندما اخترق سَمعهما أصوات خطواتها السريعة على الدرجِ، تنهدَ هو بنوعٍ من الارتياح، بينما "آمال" ابتسمت لهُ بهدوء وغادرت...
تقدمت هي كالعاصفة تسير بخطوات مُسرعة، أناملها بينَ جيوبِ تنورتها القُطنية القصيرة ذات اللون الأسود، تعتليها سُترة بيضاء بأكتاف عريضة ذات ملمس قُطني مُريح، دونَ حديثٍ سحبت كُرسيًا لها بطريقة همجية قليلاً وجلست، ألقت نظرة على والدها الجالس بمكانهِ مُتشابك الذراعين يتطلعُ إليها بهدوء، منحتهُ ابتسامة قبل أن تقول:
"صباح الخير يا حاتم..... أتمنى مكونش أخرتك عن مواعيدك".
هزَ رأسه بلا مُبالاة قبل أن يُجيبها بنبرة غلفتها السُخرية:
"يا دوب بس المصنع مقلوب، والشغل واقف على توجيهاتي".
كانت قد لملمت خُصلاتها الحمراء الداكنة المصبوغة حديثًا، في ربطة عشوائية غير مهندمة كُليًا، تمضغُ علكةً بصوتٍ مُزعج يُنافي تمامًا الأدب العام، عبثت بأطرافها المطلية بلون أخضر فاقع بقطعة الجُبن أمامها، قبل أن تضحك بدلال تقول:
"سوري بجد.... بس فدايا أكيد".
"أكيد".
انشغلت عنهُ بتفقدِ محتوى صِحنها، بينما لا زالت تمضغُ العلكة بطريقة مُستفزة، تجعل من يراها يود صفعها على فمها يُسقطها لها، وبالفعل كانت هذه رغبة والدها حينما رآها قبل فترة، لكن الآن باتَ مُعتادًا على تصرفاتها الغريبة، عبثت بطريقة طُفولية تصرخُ تُنادي على مدبرة منزلهم:
"آمال.... يا آمال".
أبعدت الصحن من أمامها تُخاطب والدها بتذمرٍ:
"أي كمية الجِبن دي هو إحنا فيران... أكيد مش هفطر بالأكل ده".
ما إن أنهت إلقاء كلماتها، وجدت "آمال" أمامهم بعد أن جاءت مُهرولة، وبختها الأُخرى بفظاظة:
"فين الأكل بتاعي؟ ألف مرة قُلت لك ما بحبش أفطر بأكل العيانين ده".
لم تتضايق لأنها بالفعل اعتادت على طريقتها الخالية تمامًا من الذوق، بررت لها تقول بأدب:
"بس حاتم بيه..."
قاطعها هو هذه المرة يُشير لها بأن تعود من حيثُ أتت وتتركه يتولى تلك المُهمة الصعبة، فقد أشفقَ عليها فعليًا، ماذا فعلت في حياتها ليدفعها الله في طريق ابنتهِ المُتغطرسة، وبخها هو بنوعٍ من الحِدة:
"علياء.... كام مرة قُلت لك اتعاملي مع آمال بطريقة كويسة، هي مش شغالة عندك".
قلّبت عينيها بمللٍ، كانت تمضغُ العلكة ببطءٍ، قبل أن تنفخها بهدوء، فتتمدد لتُكوّن فقاعة وردية شفافة، عاكسة الضوء كفقاعة صابون، ما إن بلغت حجمًا مناسبًا حتى انفجرت بصوت خفيف تاركة أثرًا لزجًا على شفتيها قبل أن تلتقطه بلسانها بخفةٍ بنظرة غير مُبالية وكأنها معتادة على هذا الطقس الطفولي، لتقول بلا مُبالاة شديدة:
"هي اللي مُستفزة، ومش بتسمع الكلام".
حدجها بنظرات غاضبة مُحذرًا إياها بغضبٍ:
"علياء....".
زفرت الهواء دُفعةً واحدة، وقد مالت قليلاً نحو الطاولة مستندة عليها بمرفقها، وهنالك خصلة متمردة سقطت من شعرها أخذت تُداعبها بأصابعها:
"حاضر يا بابا... ناولني طبق البيض اللي قدامك ده كده!".
سحبَ الصحن يمدهُ ناحيتها قبل أن ينهض تمامًا من مقعدهِ، تاركًا الطعام كما هو لم يمسهُ، ألقى عليها أوامرهِ قبل أن يُغادر الغُرفة:
"خلصي أكلك وتعاليلي أوضة المكتب، عايزك".
هزت لهُ رأسها مرتين متتاليتين علامةً على موافقتها، دونَ أن تتكبد عناء رفع عينيها له، اختفى عن ناظريها وتركها تأكل بنهمٍ وبشهية مفتوحة، وقبل أن يُغلق باب مكتبهِ صاحَ:
"آمال، بعد إذنك هاتيلي كُباية قهوة تانية على مكتبي".
سمعَ صوتها من الداخل تُجيب بطاعة:
"حاضر يا حاتم بيه!".
❈-❈-❈
ثلاث طرقات هادئة مُنتظمة علي بابِ مكتبهِ، جعلتهُ ينتبهُ ويرفعُ رأسهِ عن الدفتر الذي كانَ مُنكبًا عليه، سريعًا ميزَ صاحبة الطرقات، ومَنْ غيرها؟ بالرغم من فوضويتها، ألاَ أنها تملكُ عادات ثابتة مميزة، مثلاً كطرقها علي الباب بمثل هذه الطريقة.
سمحَ لها سريعًا بالدخول، بعد أن أغلقَ دفترهِ يتركهُ جانبًا ليصب كامل تركيزه علي ما سيحدث بعد قليل، دخلت هي متهادية في مشيتها البطيئة هذه المرة، وقد أغلقت هاتفها الذي كانت تعبثُ بهِ خلفَ الباب، تُسلي وقتها لحين يسمحُ لها بالدخول، تركتهُ يسقطُ بداخل جيوب تنورتها، ومازالت العلكة تمضغها وكأنها تعاقبها علي أشياء لا تعلمها، ألَمْ تَشعرُ بألم في فكها!
_"أقعدي".
نطقَ بها"حاتم"بهدوء، يدفعها للجلوس بعد أن وقفت مستقيمة أمامه تطالعه بملامح مُستفسرة عن سبب طلبهِ لها، تنهدت قبل أن تجلسُ على المقعد أمامهِ، قبل أن تفتحُ فمها لقولِ شيء قاطعها هو بسؤالهِ الساخر:
_"أرحمي اللبانة شويه بقا! ".
أنزلقت ضحكة عفوية من بينَ شفتيها المطلية بطلاء داكن اللون تقول بمرحٍ:
_" لا لسه شويه ".
أستندَ بظهرهِ للخلف يجلس بإرياحية أكثر، حمحمَ لثواني، وكأنه يُجهز لألقاء قُنبلة موقتة وليست مجرد كلمات لأبنتهِ:
_" كُنتِ فين أول أمبارح؟ ".
اوه تبًا تبًا؟ جريمتها بالطبع قد كُشفت، وهي الآن علي مشارف أن تُفضح، تعلثمت قبل أن تقول:
_" هكون فين يعني يا بابا؟ ".
_" معرفش، اومال أنا بسألك ليه؟ "
_"يا تري يا علياء الساعتين اللي قضتيهم أنتي وصحابك في القسم أستمتعتوا بيهم. أن شاءلله يكون المكان نال اعجابكم ".
شعرت بلسانها يلتصق بسقف فمها، كأن العلكة التي كانت تمضغها انتقلت فجأة إلى داخل حنجرتها. رفعت يدها ببطء لتبعد خصلة متمردة من شعرها عن جبينها، وهي في الحقيقة تحاول كسب ثانيتين إضافيتين لتستوعب أن أباها لم يسألها "هل فعلتِ؟" بل قالها مباشرة: "أنا أعرف".
تقلصت كتفيها قليلًا، حركة دفاعية غير واعية، كمن يستعد لتلقي ضربة أخرى. داخلها، كان هناك صوت صغير ساخر يهمس: "ها يا بطلة… كنتِ فاكرة نفسك نينجا وخرجتي من الموضوع زي الشعرة من العجين؟"
حاولت أن تبتسم ابتسامة صغيرة، لكن عضلات وجهها خانتها، فاكتفت بضحكة قصيرة خرجت مشوهة، نصفها محاولة للتخفيف من الموقف والنصف الآخر طلب استرحام صامت. عينيها، رغم كل محاولات الصمود، فضحتا القلق الذي بدأ يزحف بهدوء، مثل قط يقترب من فريسته دون صوت.
_" أنتَ عرفت ازاي؟ ".
_" دا بس اللي فارق معاكي؟ ".
هو لم يترك لها فرصة لالتقاط أنفاسها، مدّ يده بهدوء نحو كوب القهوة أمامه، ارتشف رشفة صغيرة:
— "يعني هنتكلم ولا هتفضلي عاملة نفسك مش فاكرة؟"
ارتفعت حاجباها قليلًا، محاولة أن تشتري وقتًا بالدهشة المصطنعة:
— "أنا…"
قاطعها فورًا، ابتسامة جانبية ارتسمت على وجهه:
_"بصي… أنا مش عايز أسمع قصص وروايات دلوقتي. أنا عايز أعرف، إيه اللي ودّاك القسم، وليه أنا عرفت من برّه مش منك."
حركت قدميها تحت الكرسي، وكأنها تحاول أن تدفن أصابعها في الأرضية هربًا من الموقف.
_ "ماهو… الموضوع مش كبير، بس…"
_"آه طبعًا، كل المصايب اللي في الدنيا بالنسبة لحضرتك مش كبيرة، يلا وريني مش كبير إزاي."
تنحنحت، أخذت نفسًا قصيرًا، ثم قالت:
_"إحنا كنا… يعني… قاعدين في النادي وبعدين حصل سوء تفاهم صغير…"
رفع حاجبه مرة أخرى، صوته صار أكثر هدوءًا، لكن في هذا الهدوء تهديد صريح:
_ "سوء تفاهم؟ سوء تفاهم بيخليكِ تروحي القسم ساعتين؟ طب الحمد لله إنك ما دخلتيش السجن، كنتي هتقولي: خلاف بسيط"
لم تستطع أن تكتم ابتسامة صغيرة هذه المرة، لكن ضحكتها ماتت سريعًا حين رأت عينيه تركزان عليها بلا رمشة.
— "بصراحة… هو كان في خناقة، بس إحنا معملناش حاجة… يعني إحنا كنا بنتفرج."
"آه، بتتفرجوا… طبعًا. القسم بقى بيستضيف جمهور المتفرجين دلوقتي، ويعمل لهم ضيافة ساعتين!"
هنا أسندت ظهرها للكرسي، زفرت بهدوء، وأدركت أن أي محاولة لتهوين الموقف لن تنطلي عليه، فهو يعرف كل التفاصيل، وربما أكثر مما تعرف هي.
أستسلمت تقول:
_"طيب خلاص… أنا آسفة.".
كانت تنظر لهُ بوداعة، عينيها تشعُ براءة وكأنها ليست الفتاة ذاتها التي ضربت الراجل وكادت تقتله لولا تدخل الشُرطة، زفر حانقًا، لا يستطيع أن يقسو عليها مهما فعلت، طريقته الصلبة والتي هي مُصطنعة من الأساس تخلي عنها، نهض، يجلس أمامها علي الكُرسي المقابل، يقول بقلة حيلة:
_"ينفع اللي حصل ده يا علياء؟ مش كفايه يبنتي كل يومين مشكلة مع حد شكل، أنا نفسي أعرف لي بتعملي فينا وفي نفسك كده... لولا ستر ربنا كان زمانك مرمية في القسم، الراجل كان هيروح فيها يا علياء".
هي، وكعادتها حين تشتد المواجهة، لم ترفع نظرها، وكأن الأرض أمام قدميها صارت فجأة غاية في الجاذبية. أصابعها تعبث بحافة تنورتها، حركة صغيرة متكررة تكشف عن قلق داخلي، لكنها في نفس الوقت لا تخلو من عناد صامت. حين تكلمت، خرج صوتها هادئًا على نحو يثير استفزازه أكثر من الصراخ:
"كان بيعاكسنا يا بابا… أسكت يعني؟ يستاهل أصلًا."
كلماتها كانت كالرصاص المغلّف بالسكر؛ بسيطة في ظاهرها لكنها تحمل في باطنها كل قناعتها بأنها لم تخطئ، وأنه يستحق ما ناله، بل وأكثر...
مهلاً لماذا يشعر بالغضب الآن، أوليسَ كأنه لا يعرف أبنتهُ، لم يستطع أن يستمر في هدوءه اكتر من ذالك، لذا نهضَ يعود لمكانهِ، قائلاً بصرامة ونبرة حازمة لا تقبل نقاش:
_"من هنا لأسبوع قُدام يا علياء مفيش خروج من باب أوضتك... علشان تتعلمي تبقي مسؤلة وتبطلي تهّور وتقدري قيمة إني سايبك علي راحتك... اتفضلي يا هانم علي أوضتك".
نهضت غاضبة، تضرب الأرض أسفلها متذمرة بأعتراض كالأطفال الصغار:
_"أنا مش عيلة صغيرة...علشان كل مرة تعمل كده".
هز رأسه بيأس:
_"وياريتك بتتعلمي...يلا يا علياء علي أوضتك يا حبيبتي،وشلة الصيع صحابك دول مش هتعرفيهم تاني من هنا ورايح،ساحبينك وراهم في كل مصيبة،أنا مش فاضي الم من وراكم ".
مهلاً هل قال انهم من يسحبونها خلفهم،اوه اهانة صريحة في حقها.....أنها هي زعيمة العصابة،هي من تسحبهم خلفها...
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة هاجر التركي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية