-->

رواية جديدة من شيم الرجال لهاجر التركي - الفصل 3 - الأحد 24/8/2025

 

   قراءة رواية من شيم الرجال كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية من شيم الرجال 

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة هاجر التركي 


الفصل الثالث


تم النشر يوم الأحد 

24/8/2025


انحرفَ"مَهران"بالسيارة قليلاً إلى جانب الطريق، وقد أطفأ مُحرّك السيارة، أنفدعَ يميلُ بجزعهِ نحو نافذة السيارة النصفِ مُغلقة، وقد أخرجَ رأسهِ ليتتبعُ الأصوات الصاخبة مجهولة المصدر، والتي تداخلت بينَ صرخات غاضبة، وسُباب قُذِفَ من أفواه قد أندفعَ الأدرنالين في أوردتهم، مختلطًا بأصوات خطواتٍ مُتعجّلة علي الأرض الأسفلتية المُتهالكَ، تهيأ له أن الأرض المتشققة تهتز تحت وقع الأقدام المتلاحقة.... ألهذهِ الدرجة ما يحدثُ مُثيرًا؟.... 


القي نظرة حائرة علي شقيقهِ الجالسُ لجوارهِ هو الآخر يُلقي نظرات حائرة هناك وهنالكَ لعلهُ يلتقطُ شيئًا، من ثُمَ عاود النظرِ مرة ثانية مُضيقًا عينيهِ بفضول وأستغراب في آننٍ واحد. 


بدا الحيّ وكأن أحدهم قررَ توزيع أموال مجانية، فهرعَ الجميع بسُرعة جُنونية، يتدافعون بأكتافٍ مُتعرقة، ووجوه تلمعُ تحت أعمدة الإنارة المتراخية علي أطراف الشوارع الضيقة نسبيًا: 


_"هو في أي بالضبط؟ ". 


هتفَ بها" فارس"مُستفسرًا، وقد بدأت تظهر علامات الحيرة علي وجههِ، رفعَ الآخر كتفيهِ معًا في حركة سريعة وقصيرة، وقد القي نظرة أخيرة من الزجاج الامامي للسيارة تركيز أشبهُ بمُحقق بوليسي حائر، لم يملك أجابة شافية، فأكتفي بذمِ شفتيهِ قائلاً: 


_"مش عارف، حد مات ولا اي؟ ولا في مصيبة؟ ". 


موقعهِ كان‌َ علي بُعد مسافة ليست بقصيرة عن المعرض، لذاَ لم يتمكن من تخمين أن المُشاجرة العنيفة تلك، رجالهم طرفًا فيها، وبالطبع الطرفين غير متكافئين، لم تمضِ ثوانٍ حتى ظهرَ لهم" سرنجة" مندفعًا نحوهم بقوةٍ ما أن لمحَ السيارة وكأنما وجدَ طوق نجاتهم، أقتربَ منهم يلهثُ بانفاسِ مُتلاحقة، كأنَ قدميهِ خاضتا سباقًا دونَ إذن منهُ..... 


صاحَ بصوتٍ عالي يُناديهِ مُستفسرًا: 


_"واد يا سرنجة! في أي يا واد؟ أي اللي بيحصل في الحارة؟ حد بيوزع لحمة ولا اي؟ ". 


كانَ الآحر منشغلاً لثواني بمسح عرقهِ بكُمِ قميصهِ، نظرَ إليه وكأنه أرتطمَ بشخص مختل عقليًا، نفخَ بضيقٍ يقول وبنبرة ساخرة: 


_" هو لحمة فعلاً يا معلم! بس لحم رجالتنا اللي بتتطحن جوه، المعلم ناصر ورجالته نازلين ضرب في رجالتنا ". 


فتحَ عينيهِ علي وسعهم، وقدَ بدأ الأدرنالين يتدفق عبر أوردتهِ، وأشتعلت عينيهِ غضبًا، كأنها ثانية وستُخرجُ نارًا تحرق ذالك الأرعن، بالطبع فَطِنَ سريعًا حيلتهُ الغبية، أستغلَ غيابهم وبالطبع كان علي علمٍ بأنهم خرجوا من الحيّ صباحًا ولن يعودوا إلا قبل المساء، ولكن لا يعلم ألحسنِ حظهِ أنهم عادو باكرًا جدًا، أم لسوءٍ حظهِ..... 


_" نهاره أسود علي دماغ اللي خلفوه النهاردة ". 


أندفعَ كُلاً منهما يخرجون من السيارة بحركات سريعة، يهرولون للداخل متوعدين للفأر الذي أستغل غياب أسود الحيّ، ولكن حان الوقت لتدخل الفئران إلي جُحرهم لكن ليسَ قبل أن ينالوا ما يستحقون وأكثر..... 


_" سرنجة بسرعه، هات رجالتنا الباقيين، الحارة مش هتنام النهاردة..... ". 


صرخَ بها" فارس"الذي تأهبَ يُخرجُ سلاحهِ الناري من جيبِ سروالهِ، يُجهزهُ وقد نزعَ عنهُ سُترتهُ العُلويه، ليبقي فقط بقطعة ثياب خفيفة ذات أكمام قصيرة أظهرت عضلات جسدهِ الضخمة والمشدودة، فَـ سُترتهِ باهظة الثمن بالطبع لن يتركها تُلّوث بالدماء..... 


❈-❈-❈


مّرت فقط تقريباً رُبعِ ساعة خمسة عشرَ دقيقة، جلسَ فيهم هو بمكانهِ علي مقعدهِ المزركش أمام محل المشغولات الذهبية خاصتهُ لكن علي بعد مسافة قصيرة جدًا من أرض المعركة القائمة، عينيهِ تشبعت برؤية الخراب الذي حلّ بسيارة الأجهزة الكهربائية الجديدة.... أو كانت جديدة. 


الآن باتت خُردة بالمعني الحرفي، فَـ رجالهِ لم يبخلوا في تحطيمها، أنتفخَ صدرهِ يتفاخر بنصرٍ لم يُحرزهُ، أو كان له يدًا فيهِ، فقط مُتفرج جبان.....نفثَ دُخان سيجارتهِ يشّبع صدرهِ به، شهقَ فجأة وقد توقفَ الدُخان بحلقهِ أو بمعني أصح كاد يبتلعُ حنجرتهِ، أخذ يسعلُ بقوةٍ، عدة مرات مُتتالية، وقد أجتمعت الوان الطيفِ كُلها بوجههِ..... 


ما أن وقعت عينيهِ علي "فارس" الذي تقدمَ يندمجُ في الشجار القائم، يرافقهُ شقيقهِ "مهران"، أندفعوا بكاملِ قوتهم، وصدورهم تغلي غضبًا، يُشاهدونَ الأمر عن قُربٍ هذهِ المرة..... 


_" فين الرجالة؟ ". 


سألَ بهمجية ونبرة مُشبعة غضبًا يكفي لإحراق المكان بأكملهِ، تُرِكَ سؤالهِ مُعلقًا بالهواء دونَ أجابه، فأجتهُ الأجابة حاضرة هنالكَ عند مدخل الزقاق المُتَفرِع، تكتلت الأجساد حول بعضها البعض كعقدةٍ متشابكة من الفوض. 


أسلاحتهم الشعبية بينَ أيديهم منهم من حملَ عصيان غليظة، أن ضربت نالت من رأسِ احدهم ستُهشمهُ لفُتات، وآخرين يحملون أسلحة بيضاء حادة..... 


في أقل من الثانية كانَ جسدِ" مهران "ينخفضُ أرضًا بحركة سريعة مدروسة مُتفاديًا لكمة من أحدي رجال" ناصر"الذي بُهتت ملامحهِ هو الآخر ما أن رأهم بينهم، وجدهُ يقفُ مُستقيمًا من جديد يُطلقُ عليهِ سِهامِ نظراتهِ النارية


أرتعشت قبضة الآخر حولَ سلستهُ الحديدة الكبيرة، لكنه حاولَ أن يُظهر شجاعتهُ، وتجرأ ورفعها عليهِ قاصدًا ضربهِ، لكن الآخر كان ينتظر خطوتهِ بتانٍ، وبلمحِ البصر وجدَ الفتي جسده من الخلفِ يرتطم بصدرِ قوي، وأنقلبَ السحرُ علي الساحرِ ووجد السلسلة تلتفُ حولَ عُنقهِ كادت تخنقهُ، أبتسمَ "مهران" لشقيقهِ يقول بمرح في غير محلهِ بالمرة: 


_"نردهالك في الأفراح يا رجولة ". 


منحهُ الآخر أبتسامة قبلَ أن يزيد من حدة قبضتهِ علي عُنقِ الفتي، حتى كاد الآخر يلفظُ أنفاسهِ الأخيرة وقد ازرقت بشرتهِ، لكن الآخر تركه باللحظة الأخيرة، وتركهُ يسقطُ أرضًا كالذبيحة، يلهثُ يعنف يحاول التقاط انفاسه المنقبضة.... ضربَ كفهِ بكفِ شقيقهِ يحثه قائلاً: 


_" طير أنتَ هات الكلب ناصر... وأنا والرجالة هنا هنقوم بالواجب ". 


منحهُ أيماءه صغيرة قبل أن يمسحُ عرق جبهتهِ سريعًا قبل أن ينطلقُ إلي وجهتهِ، حانَ الوقت لتعود الجرذان إلي المصيدة.... 


بينما بالأعلي، تحديدًا بالشُرفات المفتوحة علي وسعها، تكتلت النساء يراقبن، أحداهن، تصرخُ بأسم أبناءها كي ينسحبوا بعيدًا، وأخري يدها علي فمها برُعبٍ....


شهقة عالية خرجت من شفاه " ابتسام" تبعتها بصراخها بصوتٍ عالي، ما أن رأت"مهران"هنالكَ قد قبض‌ بكلتا يداهِ علي مقدمة قميص شقيقها يجرهُ نحوهِ ويسدد له اللكمات برأسه، صاحت في أستهجان معاتبة اخاها وكانه سيسمعها من هنا: 


_"يخربيتك يا ناصر.... منا قولتلك أحنا مش قدهم طلعهم من دماغك، ولا كأني بتكلم". 


تراجعت عن الشُرفة سريعًا تلتقط حجابها لتضعهُ فوقَ رأسها بعشوائيه، مرددة في ذعر: 


_"جيب العواقب سليمة يا رب.... جيب العواقب سليمة". 


سحبت خُفها المنزلي سريعًا، وهرولت خارج الشقة بعد أن أغلقت الباب من خلفها، تصيحُ بأستهجان: 


_"منك لله يا ناصر، عامل لنا عداوة مع طوب الأرض، أدعي عليك بأي وأنتَ فيّك كُل العِبر... عديها علي خير يارب". 


علي حينِ غُرةٍ أستغلَ "ناصر" الجاثي علي رُكبتيهِ يلهث أثر ضربة عنيفة تلقاها في معدتهِ، أستغل أنشغال "مهران" بمُتابعة الأمور كيف تسير عندَ شقيقهِ، ومد يداهُ وسحبَ حجرًا ليسَ بكبيرٍ، وجده أمامه علي الأرص، وانقض بسُرعة علي وجهِ "مهران" وضربهُ بالحجرِ بعشوائية، فكانت الضربة من نصيب جبهتهِ تحديدًا أسفل حاجبيه الأيسر،الضربة باغتته.


ألم حارق انفجر في جبهته، تساقطت الدماء على حاجبه، غطت عينه للحظة. ضغط كفه على الجرح، لكنه شعر بسخونة الدم تتسرب من بين أصابعه. نَفَسه ثقيل... لكنه لم يتراجع زاد إحمرار عينيهِ وقد أشتدت قبصتهِ حتى أبيضت مفاصلهِ.


ركلهُ بقدمهِ ليسقط أرضًا بعد أن خارت قواهِ تمامًا، وقد وضعَ قدمه علي صدرهِ تحديدًا موضع قلبهِ، يصرخُ فيه: 


_"ده تمامك يا أبن بدران.... تمامك تستغل غيابنا يا واطي، عايز تتعارك، كنت جيت راجل لراجل، مش تتحامي في شوية نسوان ". 


لم ينطق بحرفٍ، ولا حتي ينظرُ لهُ، فقط مُمدد تختلط ثيابهُ بالأتربة من أسفلهِ، ركلهُ بقدمهِ الحُرة: 


_" بُص شُوف الحريم اللي بتتحامي فيهم ومسميهم رجالتك، يا.... "


صمتَ لثانية ترتفعُ زاوية فمهِ بشبح أبتسامة ساخرة: 


_"يا سيد المعلمين، ييجوا يشفوك تحت رجلي، في مكانك الأصلي ". 


ضغطَ بقوة أكبر علي صدره، صرخت هي برُعب، تهرول ناحيتهم، وقد انحنت علي شقيقها بالارض تتوسل" مهران "الذي تفاجئ بتواجدها: 


_" علشان خاطري هيموت في إيدك يا معلم..... أبوس أيدك، أعتبرهُ صبي من صُبيانك يا معلم وغلط واتأدب ". 


بالطبع كلماتها المهينة لم تروق لشقيقها الذي امتعضت ملامحه، وتمني لو كان قادرًا علي النهوض، وجذبها من شعرها علي ما تفوهت بهِ تلك‌ الغبية الرعناء، تابعها" مهران "بنظراتهِ الهادئة، لم يرمش لهُ جفنٍ ولم يتأثر، تابعت هي بنفس ذات النبرة المتوسلة، تحاول أبعاد ساقهِ القوية عن صدر شقيقها: 


_" بالله عليك يا معلم أرحمه.... هتموته في أيدك،أعتبره صبي من صُبيانك واعتقه لوجه الله ". 


رمقَهُ بإزدراء، يقول: 


_" ملوش الشرف أنه يتحط في مكانة صبياني يا يا أبلة أبتسام..... ". 


_" أبوس أيدك كفاية عليه كده،وسيبه ". 


صمتَ لدقيقة، قبل أن يحسم قرارهِ، وقد ابعد ساقهِ، ورجعَ بجسدهِ للخلفِ قائلاً بأحتقار بعد أن بصقَ بجانب" ناصر": 


_"علشان خاطرك بس يا ابلة..... شوف يا ناصر، مفيش غير الحريم اللي تتحامي فيهم اولهم رجالتك....و". 


لفَ برأسهِ للخلف يُشير إلي الرجال المتراكمين فوق بعضهم البعض بعد أن هُشمت عظامهم علي يد شقيقهِ ورجالهِم، من ثم أشار لشقيقتهِ التي اخذت تعاونه علي النهوض: 


_" أختك.... اللي لولاها مكنتش رحمتك ".


بعدما تركهُ" مهران" بناءً على توسلات شقيقته، انحنى نحوه ببطء، قبض على تلابيبه بقوة، وجذبه حتى كاد أنفاسهما تتداخل، عيناه تشعان ببرودٍ ينذر بعاصفة لم تهدأ بعد، وهمس له بصوت هادئ، لكنه مشحون بتهديد لا يقبل الشك:


""المرة دي عدّت عشانها... بس لو شوفتك بتنفخ صدرك تاني ولا بتحاول تأذي حد مننا، ساعتها لا هيبقى في رجالة تتحامي فيهم، ولا ستات يشفعولك."


احتدت أنفاس "ناصر"، وغليت الدماء في عروقه، لكنه ظل عاجزًا عن الحركة، جسده المتراخي لم يسعفه للرد، وكرامته الجريحة لم تجد مفرًا سوى أن تتجرع الهزيمة في صمت.


ألقى" مهران" عليه نظرةً ازدرائية، ثم أرخى قبضته فجأة، ليرتد جسد" ناصر "إلى الأرض في ارتطامٍ مهين، متكوّمًا على نفسه كما لو كان يحاول الاختباء من عيون الشامتين.


أما' ابتسام"، فكانت الدموع قد حفرت أخاديدها على وجنتيها، ترتجف أصابعها وهي تحاول إسناد شقيقها المتهالك، وحين رفعت رأسها، تلاقت نظراتها بنظرات مهران، توسّلت إليه دون كلمات، التمست في ملامحه شيئًا من الرحمة، لكنه لم يمنحها سوى نظرة باردة، قاسية، كأنها لم تكن، كأن توسلاتها لم تبلغ مسامعه قط.


❈-❈-❈


جلسَ علي الأريكة مُمدد، بجسد متكسر، كل خلية في جسده تأنٌ ألمًا، يضعُ كيسِ الثلج علي رأسهِ التي بدات بالتورم، أقتربت منهُ"ابتسام "تَرمقهِ بنظرات محتقرة، القت في وجههِ كيس الثلج الآخر، صرخُ مُتألمًا يصرخُ بها: 


_" أي يا حيوانه، ما تفتّحي، مش شيفاني مكسر". 


نفخت بتبرمٍ، وقد اراحت جسدها علي الكُرسي المجاور لهُ تعبث بأكمام عباءتها السوداء تقول بسُخرية: 


_"لما أنتَ مش قد المشاكل يا سبع البُرمبة، ماشي تشاكل مع خلق الله ليه؟ بتقول شكل للبيع ليه؟ ". 


زفرَ بغيظٍ، يضع كيس الثلج الآخر علي وجههِ يوبخها بغلظة: 


_" أنتِ تخرسي خالص، وتحمدي ربنا إني مقومتش لحد دلوقتي رميتك من البلكونة، بسبب القرف اللي قولتيه تحت ده". 


شهقت بغضب، تصرخُ في وجههِ بكلماتها: 


_"لا تصدق خُوفت، اللي يشوفك دلوقتي وأنتَ بتهددني ما يشوفك وأنت بتفرفر تحت رجل المعلم مهران، لولايا كان زمانك محصل أمك وأبوك، وأطلع عليك القرافة كل أسبوع، أحمد ربنا أنتَ أنه سابك ". 


زمجر ، يحاول أن يخفي أثر الكلمات التي سددتها إلى كبريائه، ثم تظاهر بالهدوء، وقال بنبرة متخاذلة:


_ "محدش يقدر يمسكني إلا لو أنا سمحتله... بس كنت حابب أخلص الموضوع بدل ما يبقى دم."

". 


انطلقت منها ضحكة طويلة، ضحكة مشبعة بالسخرية والاستخفاف، قبل أن تردّ بتهكمٍ واضح:


_"قُوم يا أخويا بُص لنفسك في المرايا بس كده.... ولا هتبُص ازاي وأنت متكسح كده زي الولايا ". 


_" بقولك أخرسي، صوتك بيعصبني". 


صاحَ بها بغضبٍ وقد أشتعلت عينيهِ ضيقًا وبغضًا، وعضلات وجههِ تشنجت من الألم الذي يشعرُ بهِ، نهضت هي بخفة، تقتربُ منه، ولكزتهُ بمرفقها في كَتِفهِ فصرخَ مرة أخري متألمًا: 


_"أتشّطر علي اللي مسح بكرامتك تراب الحتة كلها....ورجالة أي دي اللي بتتحامي فيها يا معلم ناصر؟ ده علي رأي المعلم مهران، دول شويه نسوان... بس والله ظلم النسوان، ده النسوان مش خِرعة كده ". 


أبتعدت عنهُ تتقدمُ بإتجاه المطبخ قائلة: 


_" هروح اعملك فرخة، تِرُم عضمك، بدل رميتك دي.... ". 


بصقَ في أثرها ما أن رحلت متوعدًا لها ولـ غريمهِ الوغد كما يَطلقُ عليهِ، مُتمنيًا لو لم تُنجب أمهِ هذه الغبية الرعناء، فهي تُشكلُ مصدر أزعاج مستمر لهِ، لو كان بيدهِ لكانَ القاها من الشرفة منذ زمن، وتخلصَ من ازعاجها وكلماتها اللازعة، لا تتركُ فرصة إلا ومارست فيها دور الأخت الكبيرة عليهِ، لتُشعرهُ أنه الفتي الصغير المتهور...... 


من داخل المطبخ، كان يسمع" ابتسام" تهمهم بلحن ما وهي تجهّز له الطعام. رغم إحساسه المتضخم بالغضب، لم يستطع كبح غيظه منها، لكنه كان منحوسًا بهذه المرأة الثرثارة التي لا تفوّت فرصة للنيل منه.


تحرّك في مكانه بصعوبة، يحاول أن يستعيد إحساسه بساقيه المتورمتين، لكنه ما إن حاول النهوض حتى لسعته آلام مفاصله كالسياط، فأطلق سُباب نائي تحت أنفاسه وأعاد جسده إلى الأريكة.


بعد دقائق، خرجت تحمل طبقًا كبيرًا، رائحة الطعام الساخن تعبق في المكان. وضعته أمامه على الطاولة الصغيرة، ثم جلست على الكرسي، متشابكة الذراعين، تحدّق به كما لو كانت تراقب فأر تجارب.


- "ها، هتقدر تاكل، ولا أقطع لك الأكل بالملعقة وأأكلك زي العيال الصغيرين؟"


نظر إليها نظرة نارية، لكنه لم يردّ، فقط مدّ يده ببطء نحو الطبق، متجاهلًا ألم ذراعه وهو يلتقط قطعة دجاج، يدسّها في فمه بنهم كأنه ينهش أكثر مما يأكل.


ابتسمت بسخرية، قبل أن تضع ساقًا فوق الأخرى، متكئة على المائدة، وعينيها تضيقان بمكر.


- "براحة مطلعش اللي عمله فيك مهران علي حتة الفرخة المسكينة ". 


ازدرد اللقمة في حلقه بصعوبة، لم يتضح إن كان ذلك بسبب الألم الذي ينهش جسده، أم بسبب الكلمات الساخرة التي تنهش كبرياءه. رفع عينيه إليها، كانت تراقبه بابتسامة جانبية، وكأنها تستمتع بمشهد انهياره البطيء.


تنفس بعمق، محاولًا تمالك أعصابه، ثم قال بصوت خفيض لكنه ينضح غضبًا مكبوتًا:


- "لو مش عاجبك، خدي أكلك وأخفي من وشي أحسن! ". 


تنهدت بقلة حيلة، تدعو له بالهداية العاجلة، متهور.. وارعن أيضا، باتت تشعر أنه تحولَ إلي مغنطيس، يجذب إليه المصائب من أطراف الارض. تخشي عليه من مصيرهِ القادم، بالرغم من كلماتها اللاذعة له، إلا أنها لا تستطع منع نفسها من الخوف عليه، تُظهر عكس ذلك نعم. 


لكن يظل الخوف ينهشها من الداخل، وكانه طفلها تخشي عليه من الحياة، ليته يعرف ذلك ويكف تهورًا


❈-❈-❈

" بعد مرور أسبوع". 


إضاءةُ الهاتفِ البيضاء سُلّطت على وجهها، لتُظهر شحوبَه بوضوح تحت أثر الضوء الباهت. لم تمضِ ثوانٍ حتى اختفت الإضاءة بعد أن أغلقت الهاتف بإرهاق، ووضعته جانبًا. فركت عينيها المُرهقتين، ثم رجعت برأسها تعتدل على الوسادة الحريرية أسفلَها.


كان الوقتُ متأخرًا، والجميعُ نائمون، بينما هي لم يغمض لها جفن. أرق... إرهاق... حُزن لا متناهٍ. لا تعلم أي شعور يعتريها تحديدًا، أم جميعهم معًا.


قد عادت قبل ساعتين من حفل عيد ميلاد صديقة لها. الحفلُ كان أكثر من رائع، أصدقاؤها جميعًا حاضرين، ومن المفترض أن تستمتع، لكن لا... في منتصف الحفل اجتاحتها رغبة قوية في الاختفاء. نعم، الاختفاء. تُريد المغادرة والعودة إلى غُرفتها. لم تُمهل نفسها وقتًا للتفكير.


انسحبت سريعًا دون أن تخبرهم حتى. هربت... من مَن؟ ومن ماذا؟ لا تعلم حقًا. فقط شعور بالغربة. المكان لا يناسبها. الأجواء باتت تتسبب في اختناقها وشعورها بالضيق. كلما جلست دقيقة إضافية، كان يتفاقم.


يعتريها معظمُ الوقت، إن لم يكن كله، أن هناك بداخلها شعورًا بالانتظار. تنتظر مَن؟ وماذا؟ لا تعلم. فقط تشعر بأن كل شيء يقع أسفل بند التأجيل. ربما هي أيضًا مؤجَّلة... 


مؤجَّلة لحياة أخرى تنتمي لها عوضًا عن هذه التي لا تناسبها بتاتًا. سيكون من الأمر الجيد أن يكون ذلك واقعيًا، وليس مجرد أحلام... أو أوهام يبنيها عقلها المُتمرّد على ما تعيشه.


سحبت الهاتف وتركته جانبًا على الكمود بجانب سريرها. لمحت الإطار الخشبي، المُعلَّق فيه صورة... لا، ليست مجرد صورة، بل حياة كانت تعشقها وسُلبت منها، وللآن لم تستطع أن تعتاد على تلاشيها من حولها. 


سحبت الإطار، وبعيون دامعة مسحت كل شبر منه. اشتاقت لها. ملامحها جميلة، بالرغم من سنّها وقتذاك، إلا أن جمالها الرقيق ظلّ مُحتفظًا به حتى رحيلها. تشبهها كثيرًا...


"وحشتيني، وحشتيني أوي يا ماما... أنا تائهة من غيرك. مش عارفة أنا مين ولا عايزة إيه..."


ضمت الإطار إلى صدرها تحتضنه بشوقٍ لا يموت بداخلها، يتجدّد كل ليلة. سمعت صوتَ طرقٍ على باب الغرفة. سريعًا ما أزالت الدموع العالقة بعينيها، وخبأت الإطار أسفل وسادتها:


"ادخل."


ثوانٍ، وتقدّم "حاتم" منها بهدوء، يمنحها ابتسامة صادقة بينما يقول:


"صاحيّة يا حبيبتي؟"


تنحنحت وهي تعتدل في الفراش، قائلة بنبرة واهنة حاولت قدر الإمكان أن تخرج متماسكة:


"آه يا حبيبي، اتفضل..."


أفسحت له مكانًا بجانبها. جلس يقابلها، وبنظرة أبوية تفحّص ملامح وجهها. كانت منطفئة، حزينة وكئيبة. تنهد بتعب هو الآخر، ولمح الأدوية خاصتها تحتل الكمود بإهمال:


"آمال قالت لي إنك مش بتاخدي علاجك... ممكن أعرف مش بتاخديه ليه؟"


نظرت للدواء بقهر قبل أن تقول:


"أنا مش عيانة يا بابا... أنا كويسة."


"لا يا علياء، الدكتور يا بنتي قال إنك لازم تستمري عليه لحد ما هي تقولك توقفيه."


خطّ رفيع من الدموع تكوّن ببُنيتيها، وبنظرة حزينة معاتبة قالت:


"حتى إنت يا بابا مصدّق إني مجنونة زي ما بيقولوا؟"

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة هاجر التركي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة