رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 14 - جـ 2 - السبت 30/8/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الرابع عشر
الحزء الثاني
تم النشر السبت
30/8/2025
قرأ جاسر السؤال في عينيها، فارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة.
_متستغربيش، هما لقوا عروسة بديلة، هيجوزوا ابن عمك لـ بنت سالم، بيجولوا......(تظاهر بالتفكير)...وعد صوح إكدة؟
اهتزت نغم وكأنها تلقت صفعة غير مرئية.
هل سيضحون بوعد بهذه السهولة كما ضحوا بها فقط ليحافظوا على مظهرهم الاجتماعي؟ شعرت بالغثيان لم يكن الأمر يتعلق بها فقط، بل بمدى قسوة عائلتها واستعدادهم للتضحية بأي شخص في سبيل كبريائهم.
رأى جاسر أثر كلماته على وجهها، فرأى فيها الألم والصدمة، وبداية الإدراك هذه هي نقطة ضعفها الجديدة التي اكتشفها.
_بس ما دام هما بيعرفوا يلعبوا زين، يبجى لازم نلعب معاهم بنفس طريجتهم
جالي إن وعد دي... ممكن تدخل دايرة الانتقام هي كمان.
بدل ما نكسر الرفاعي في بنت واحدة بس، نكسره في الاتنين.
تجمد الدم في عروق نغم
ونظرت إليه برعب حقيقي، رعب لم تظهره من قبل.
كان خوفها على نفسها شيئًا، لكن خوفها على وعد كان شيئًا آخر تمامًا.
اقترب جاسر خطوة أخيرة، حتى كاد يلامسها خفض صوته إلى همس قاسٍ، لا يسمعه سواها.
_وأني جولت... إن ده يتوقف عليكي انتي.
حدقت فيه، عيناها تتوسلان دون كلام فتقدم منها ليمسك يدها بقوة آلمتها
_عندك خيارين يا بنت الرفاعي، ومفيش تالت ليهم.
قالها وهو يرفع يدها ويضغط على أصابعها ببطء، كأنه يسحق عظامها وعنادها معًا.
الخيار الأول: هتفضلي على تمردك وعنادك ده، وساعتها اعتبري إن وعد دخلت اللعبة دي رسميًا.
وكل ألم هرفض أشوفه في عنيكي، هشوف أضعافه في عنيها هي.
وكل إهانة هترفضيها، هي اللي هتدفع تمنها.
زاد من ضغطته، فظهر الألم على وجهها.
_أما الخيار التاني...
خفف قبضته قليلاً، لكن عينيه ظلتا قاسيتين.
_تكوني مرتي مش بالاسم بس، لأ... بالفعل تطيعي أوامري، وتجبلي وچودي، وتنسي إن ليكي كبرياء أو أهل
تكوني ملكي أنا وبس.
وفي المقابل... أني هنسى إن فيه واحدة اسمها وعد الرفاعي على وش الدنيا، وهتفضل بعيدة عن كل ده.
سحب يده وابتعد عنها، مانحًا إياها مساحة لتتنفس، ولتختار.
_القرار قرارك يا إما تضحي بكبريائك عشان تحميها، يا إما تضحي بيها هي عشان تحافظي على كبريائك.
استدار واتجه نحو الخزانة يخرج ملابس له، ثم أضاف بنبرة نهائية لا تقبل الجدال
_بكرة الصبح... عايز أشوف قررتي إيه.
دلف وأغلق الباب، تاركًا نغم في مواجهة خيارٍ أقسى من الموت.
لقد حاصرها ببراعة، لم يهددها هي، بل هددها بأكثر شخصٍ تحبه.
أدركت في تلك اللحظة أن جاسر التهامي لا يكسر العظام، بل يكسر الروح، وأنه قد وجد للتو المطرقة المثالية لتحطيم روحها.
لم يبالي بالقرابة بينهما وأنها من دمه، بل حتى هي اراد استخدامها في انتقامه، ومثل ذلك لا يقبل جدالا في قرار اتخذه.
❈-❈-❈
_بارك لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير
كانت هذه الجملة آخر ما نطق به المأذون في آخر عقد قران وهو سند ووعد.
تعالت الزغاريد من نساء العائلة أمام عروستين رغم فرحتهما إلا إنها ناقصة لم تكتمل
كان الجميع يسأل عن نغم وكانوا يخبروهم بأنها تعيد ترتيب غرف العروسين.
شعر مالك بأن روحه انسحبت منه بالفعل وهو يجلس مع الجميع والكل يحفزه ان يكون هو العريس المنتظر
اهتز جسده لولا يد أكمل التي دعمته
_اثبت يا مالك متخليش حد يلاحظ.
اقولك تعالى معايا..
وقف أكمل وهو يبارك
_ألف مبروك يا جماعة استئذن انا عشان الوقت آتاخر.
نظر إلى مالك
_تعالى وصلني لاني مش معايا عربية.
خرج مالك خلف أكمل، يشعر وكأن جدران المنزل تطبق على صدره.
كل زغرودة كانت كالسهم تخترق قلبه، وكل وجه مبتسم كان يذكره بالوجه الوحيد الذي أراد أن يراه سعيدًا بجانبه، لا بجانب أخيه.
الهواء في الخارج كان أبرد، لكنه لم يفعل شيئًا لإطفاء الحريق المشتعل في صدره.
سارا في صمت لعدة أمتار بعيدًا عن أضواء المنزل وضجيج الاحتفال، حتى وصلا إلى سيارة مالك الواقفة في الظلام.
لم يفتح مالك السيارة، بل استند بظهره إليها، ورفع رأسه نحو السماء المظلمة، في محاولة يائسة للبحث عن نسمة هواء لا تحمل رائحة هزيمته.
وقف أكمل بجانبه، لم يقل شيئًا في البداية، مانحًا صديقه لحظة ليلتقط أنفاسه المبعثرة كان يرى الارتجاف الخفيف في كتفيه، ويرى كيف يضغط على قبضة يده حتى ابيضت مفاصله.
_حاسس ان روحي بتنسحب مني.
نطقها مالك بصوت أجش، مكسور، وكأنه يلفظ سرًا سامًا
لم تكن مجرد كلمات، بل كانت اعترافًا كاملاً بعمق الألم الذي يعصف به.
لم يجد أكمل كلمات يواسي بها صديقه
_بكرة ربنا يعوضك باحسن منها.
ابتسم بمرارة وهو يفصح عن مشاعره
_كنت بحلم باليوم ده من يوم ما لجتها بتكبر جدامي على الدنيا، يا أكمل.
كل تفصيلة في الفرح ده، كل زينة، كل أغنية... كنت بتخيلها معاها هي.
كنت بعد الأيام عشان أطلب إيدها رسمي، مستني بس الوجت المناسب. وفي الآخر... تكون من نصيب أخويا.
أغمض عينيه بقوة، وكأن صورة روح بفستانها الأبيض بجانب أخيه محفورة خلف جفونه، تطعنه بلا رحمة.
_كنت بشوف الفرحة في عنيها وهي بتبص له؟ هي بتحبه يا أكمل... بتحبه بجد وده اللي بيجتلني لو كانت مغصوبة، لو كانت حزينة، كنت ممكن ألاجي لنفسي أي عذر عشان أتدخل، عشان أعمل أي حاچة بس سعيدة... سعيدة معاه هو.
وضع أكمل يده على كتف صديقه، ضغط عليها بقوة، لم تكن ضغطة مواساة رقيقة، بل ضغطة دعم وصلابة.
_أنا عارف... وعارف إن مفيش كلام في الدنيا هيخفف اللي أنت حاسس بيه دلوقت، الوجع ده لازم ياخد وقته معاك.
صمت أكمل للحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر جدية
_بس اللي لازم تعرفه يا مالك، إنك راجل.
والرجولة مش بس في إنك تاخد اللي بتحبها، الرجولة كمان في إنك تشوفها سعيدة وتتمنى لها الخير، حتى لو السعادة دي مش معاك.
أنت محبتهاش عشان تمتلكها، أنت حبيتها عشانها هي.
نظر مالك إلى صديقه، عيناه تلمعان بدموع محبوسة، دموع قهر ورجولة مدمرة.
_صعب... صعب جوي يا أكمل.
_عارف إنه صعب،
رد أكمل بحزم.
وهيفضل صعب لفترة بس أنت أقوى من كده.
النهاردة أنت وقفت زي الجبل وشوفت أخوك بيفرح، وشوفتها هي بتحقق حلمها أنت دعمتهم بصمتك، وده في حد ذاته قوة محدش يفهمها غير اللي مجربها.
دلوقتي دورك تدعم نفسك اركب عربيتك، وسوق... سوق لأي مكان بعيد اصرخ، طلع كل اللي جواك، بس لما ترجع... ترجع مالك اللي أعرفه اللي بيعرف يقف على رجليه تاني مهما كانت الوقعة شديدة.
نظر مالك إلى مفتاح السيارة في يده، ثم إلى الطريق المظلم أمامه كانت كلمات أكمل كمرساة في وسط عاصفة هوجاء لم تمحُ الألم، لكنها أعطته مسارًا ليتبعه، طريقًا للنجاة.
تطلع إلى أكمل وتمتم بامتنان لدعمه الدائم له
_أنت صاحب بجد يا أكمل.
_وأنت أخويا يا مالك يلا... اتحرك الليل لسه طويل.
فتح مالك باب السيارة، وجلس خلف المقود وبجواره أكمل لم ينظر خلفه، بل انطلق بالسيارة في قلب الظلام، تاركًا وراءه أضواء الفرح الذي كان من المفترض أن يكون فرحه، متجهًا نحو المجهول، مسلحًا بوجعه، وبدعم صديقٍ يعرف معنى الأخوة الحقيقية.
❈-❈-❈
قاد مالك سيارته بلا وجهة، يلتهم الإسفلت تحت عجلاتها كما يلتهم القهر روحه.
لم يكن يرى الطريق، بل كانت الصور تتراقص أمام عينيه بلا رحمة: ابتسامة روح الخجولة وهي تنظر إلى عدي، يد أخيه وهي تمسك بيدها، همسات المباركات، والزغاريد التي كانت تبدو وكأنها رثاء لأحلامه الميتة.
ابتعد عن أضواء القرية، وانطلق في طريق زراعي قديم، محاط بحقول القصب الشاهقة التي كانت تحجب عنه العالم، وتخلق له عزلة تامة
أخيرًا، أوقف السيارة في بقعة نائية، حيث لا يوجد سوى صمت الليل المطبق وصوت حفيف القصب الذي يشبه همسات الأشباح.
أطفأ المحرك وفجأة، غلفه صمتٌ يصم الآذان.
في هذا الصمت، لم يعد هناك ما يشتت انتباهه عن الألم.
انفجر السد الذي كان يبنيه طوال اليوم، وضرب بقبضتيه على عجلة القيادة بكل ما أوتي من قوة، مرة، ومرتين، وثلاث.
لييييييه؟!
صرخ بأعلى صوته، صرخة ممزقة خرجت من أعماق روحه، تردد صداها بين الحقول الخاوية لم تكن سؤالاً ينتظر إجابة، بل كانت تفريغًا لبركان من المشاعر المتضاربة: حب، غيرة، غضب، وحزن لا قرار له.
أسند رأسه على عجلة القيادة، وجسده يهتز من فرط الانفعال المكتوم لم يبكي، فالرجال في عالمه لا يبكون، لكن روحه كانت تنزف.
شعر بالخيانة، ليس من أخيه أو منها، بل من القدر نفسه لقد كان دائمًا الابن المطيع، الأخ السند، الصديق الوفي كان ينتظر دوره بصبر، يؤمن بأن الأشياء الجيدة تأتي لمن ينتظر والآن، أدرك بمرارة أن القدر لا يمنح مكافآت، بل يوزع أوراقه بعشوائية قاسية.
تذكر كل اللحظات المسروقة: نظرة خاطفة كان يظن أنها له، ابتسامة كان يعتقد أنها تخفي وعدًا، كلمة طيبة فسرها قلبه على أنها بداية لى قصة.
هل كان أحمقًا طوال هذا الوقت؟ هل كان يبني قصورًا من الرمال في رأسه، بينما كانت هي تبني حياتها مع شخص آخر، مع أخيه؟
الشعور بالقهر كان أشد من الحزن القهر من ضعفه، من عدم قدرته على الاعتراف بحبه في الوقت المناسب القهر من رؤية أخيه يحصل على كل شيء بسهولة، بينما هو يكافح ليجمع شتات نفسه لم يكن يكره أخاه، وهذا ما زاد من عذابه كان يحب عدي، لكنه في هذه اللحظة، كان يكره دوره في حياته، يكره كونه الأخ الذي يجب أن يفرح لسعادة أخيه بينما قلبه يتمزق.
فتح باب السيارة وخرج، وقف في مواجهة الظلام استنشق الهواء البارد المشبع برائحة التراب الندي، محاولاً أن يملأ به الفراغ الذي استقر في صدره.
نظر إلى السماء التي بلا نجوم، وشعر بأنه وحيد تمامًا.
خلاص... خلصت.
همس لنفسه، وكأنه يلقن قلبه حقيقة يجب أن يتقبلها.
القصة التي عاشها في خياله لسنوات، انتهت قبل أن تبدأ.
لم يكن بطلها، ولم يكن حتى شخصية ثانوية فيها. .
بقي واقفًا هناك لوقت طويل، لا يعرف كم من الزمن مر لم يكن هناك ما يفعله سوى أن يترك الألم يأخذ مجراه، أن يشعر به كاملاً، دون مقاومة كانت هذه ليلته، ليلة وداعه لحب حياته، وليلة مواجهته لأقسى حقيقة
❈-❈-❈
أما نغم فقد كانت منزوية في الغرفة
وقد كانت كلمات جاسر الأخيرة تتردد في رأسها كقرع طبول الحرب، كل كلمة تدق مسمارًا في نعش كبريائها.
انهارت على الأرض، لم تعد قدماها قادرتين على حملها لم تكن تبكي، كانت قد تجاوزت مرحلة الدموع.
كانت في مرحلة الصدمة الباردة، حيث يتجمد كل شيء في الداخل، ويتحول الشعور إلى كتلة ثقيلة من الجليد تستقر في الصدر.
"اتخلوا عني..."
همست بها في الفراغ، والكلمات تخدش حنجرتها وهي تخرج.
لم تكن مجرد فكرة، بل كانت حقيقة دامغة.
أهلها، عشيرتها، عمها الذي كانت تظن أنها قرة عينه، تخلوا عنها بسهولة مذهلة.
لم تكن خسارتهم خسارة ابنة، بل كانت مجرد خدش في كبريائهم عالجوه بسرعة، واستبدلوها كقطعة أثاث مكسورة.
لقد أقاموا الفرح، سيعيشون حياتهم، سيضحكون، بينما هي هنا، وحيدة، منبوذة، مجرد أداة في حرب لا ذنب لها فيها
لأول مرة في حياتها، شعرت بأنها يتيمة.
لو كان والدها على قيد الحياة ما تركها هكذا
شعرت بأنها بلا جذور، ورقة شجر اقتلعتها عاصفة عنيفة وألقت بها في أرض غريبة ومعادية.
كل ما كانت تؤمن به، كل ما كانت تستمد منه قوتها - اسمها، عائلتها، كرامتها - تبخر في لحظة، وتحول إلى سراب.
ثم جاء الإحساس الأشد فتكًا: الخوف على وعد
لقد استخدم جاسر ببراعة شيطانية نقطة ضعفها الوحيدة المتبقية.
لم يهددها هي، فهو يعلم أن روحها المتمردة قد تختار الموت على الخضوع.
لكنه هددها بروح أخرى بريئة.
وضع مصير وعد بين يديها، وحوّل حبها وقلقها على ابنة عمها إلى سلسلة يقيدها بها.
شعرت بالغثيان وهي تتخيل وعد، تلك الفتاة الرقيقة، تُلقى في نفس الجحيم الذي تعيشه.
كيف يمكنها أن تسمح بذلك؟ كيف يمكنها أن تعيش مع نفسها وهي تعلم أنها ضحت بوعد في سبيل كبرياء فارغ لم يعد له أي قيمة؟
وهنا، أدركت الحقيقة المرة.
لقد فاز جاسر
لم يفز لأنه الأقوى جسديًا، بل لأنه فهم النفس البشرية بعمق قاسٍ لقد جرّدها من كل شيء: عائلتها، حريتها، كبريائها، والآن هو يجردها حتى من خيار التمرد.
لم يعد أمامها خيار.
لم يعد الأمر يتعلق بالانتصار أو الهزيمة، بل باختيار أقل الخسائر فداحة.
كان عليها أن تبتلع كرامتها، وتدوس على ما تبقى من روحها، وتدخل إلى عرين الأسد طواعية، ليس كفريسة، بل كقربان.
في تلك اللحظة، في عمق وحدتها ويأسها، اتخذت قرارها. ستخضع. ستكون "زوجة" جاسر التهامي ستلعب دوره الذي رسمه لها.
لكن في قلبها المكسور، ولدت بذرة جديدة، بذرة مختلفة عن الكبرياء. بذرة باردة، صبورة، وحاقدة.
بذرة انتقام لم تعد موجهة ضد جاسر وحده، بل ضد الجميع ضد جاسر الذي سلبها حياتها، وضد أهلها الذين تخلوا عنها.
لقد ماتت نغم الرفاعي في تلك الليلة، ومن رمادها، بدأت تتشكل امرأة أخرى، امرأة لا تملك شيئًا لتخسره.
خرج جاسر من الحمام، والبخار يتبعه كشبحٍ عابر.
كان يرتدي بنطالاً منزلياً أسود فقط، تاركاً صدره العريض وقطرات الماء التي تسيل على عضلاته المشدودة ظاهرة للعيان، كأنه بتلك الطريقة يخبرها بأن ما يريده يكون
لم يكن مظهره يوحي بالراحة، بل بالقوة الخام كتمثال من صخر الجرانيت نُحت بدقة قاسية.
توقفت عيناه على نغم كانت تجلس على الأريكة الجلدية الداكنة، منكمشة على نفسها، تحدق في نقطة وهمية على الأرض لم تعد فيها تلك الشرارة من التحدي التي واجهته بها قبل قليل.
الآن، لم يكن يرى سوى صمت واستسلام ثقيل أدرك على الفور أنها تعيد حساباتها، وأنها وصلت إلى الحقيقة المرة: لا مفر.
لم يتحدث سار بخطوات بطيئة وثابتة نحو خزانة ملابسه، وكل حركة من حركاته كانت محسوبة وهادئة، كهدوء ما قبل العاصفة هذا الصمت المتعمد كان أشد وطأة من أي تهديد.
كان يتركها تغرق في أفكارها، ويترك الرعب يتسلل إلى قلبها ببطء.
قطعت نغم الصمت بصوتٍ خافت، بالكاد يُسمع، وكأنها تسأل نفسها أكثر مما تسأله هو.
"السواق..."
توقف جاسر عن ارتداء قميصه، وظهره ما زال مواجهاً لها عضلات ظهره القوية انقبضت قليلاً عند سماع الكلمة، لكنه لم يلتفت.
رفعت نغم رأسها قليلاً، وتابعت بصوتٍ أقوى هذه المرة، صوت يحمل بقايا أمل يائس في العثور على أي ذرة رحمة فيه.
_السواق اللي حاول... اللي سرقني... أنت رجعتلي حاجتي. عملت فيه إيه؟
كان سؤالها معلقاً في الهواء المتوتر.
كانت تأمل في إجابة تمنحها سبباً لتصدق أنه ليس شراً مطلقاً، ربما سلمه للشرطة؟ ربما لقنه درساً قاسياً؟ أي شيء إلا...
أنهى جاسر ارتداء قميصه، ثم استدار ببطء شديد ليواجهها، كانت عيناه باردتين كجليد القطب الشمالي، وخاليتين من أي تعبير، لم تكن هناك شفقة، ولا غضب، ولا حتى انتصار.
كان هناك فراغ مخيف.
اقترب منها بخطوة واحدة، ثم خطوة أخرى، حتى وقف أمامها مباشرة، شامخاً كجبل، يلقي بظله الطويل عليها.
انحنى قليلاً ليس في حركة ودودة، بل كحيوان مفترس يقترب من فريسته.
حبست نغم أنفاسها، وشعرت بقلبها يتوقف عن النبض وهو ينتظر رده.
نظر في عينيها مباشرة، وقال ببرود مطلق، ببطء، وكأنه يلقي بحكم لا رجعة فيه:
_جتلته.
سقطت الكلمة في صمت الغرفة كصخرة في بحيرة راكدة، محدثة تموجات من الرعب الصافي لم يرمش له جفن لم يتغير صوته.
قالها ببساطة كما لو كان يقول إنه شرب كوباً من الماء.
تجمدت نغم، واتسعت عيناها في صدمة ورعب، الهواء هرب من رئتيها.
استقام جاسر في وقفته الشامخة، وتابع بنفس النبرة الجليدية
_اللي بيفكر مجرد تفكير يجرب من حاچة تخص جاسر التهامي... مينفعش يعيش لحظة واحدة بعدها."
لم يكن يتباهى، لم يكن يهدد، كان يقرر حقيقة كونية من وجهة نظره.
في عالمه هو القانون، وهو القاضي، وهو الجلاد.
ونغم في تلك اللحظة، لم تكن مجرد فتاة، بل أصبحت "حاجة تخصه". وأدركت بحقيقة مرعبة أن هذا المصير الذي لقيه السائق، هو مصير أي شخص آخر يحاول الاقتراب منها، أو حتى مساعدتها لقد وضع حولها سياجاً من الموت.
يتبع