رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 1 - الثلاثاء 12/8/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الأول
تم النشر الثلاثاء
12/8/2025
مرت سنوات طويلة على تلك الليلة المشؤومة التي سالت فيها الدماء على قطعة الأرض الشاسعة، تلك الأرض التي كانت سببًا في صراع مرير بين عائلتين، وانتهت بمقتل اثنين منهما.
لم تكن تلك الحادثة مجرد جريمة عابرة، بل كانت شرارة أشعلت نارًا لم تنطفئ،
نارًا توارثتها الأجيال، لتصبح إرثًا ثقيلًا يحمله الأحفاد في كلتا العائلتين، عائلة القتيل وعائلة القاتل، نشأ الأطفال على قصص مشوهة، روايات محرفة عن الحقيقة، لكنها جميعًا تصب في بؤره واحدة: الا وهى الثأر.
لم يروا أجدادهم، لم يعيشوا تفاصيل الصراع الأول، لكنهم ورثوا الكراهية كجزء من جيناتهم. الأرض، تلك البقعة الترابية التي كانت يومًا مصدر خير، تحولت إلى رمز للدم المسفوك، إلى لعنة تلاحقهم.
عائلة منهم، التي فقدت عمودها الفقري في تلك الحادثة، عاشت في ظل حزن عميق ورغبة جامحة في الانتقام.
كبر الأحفاد وهم يستمعون إلى حكايات الجد المظلوم، وكيف غدر به من كان يومًا صديقه.
كانت تلك القصص تُروى لهم في ليالي الشتاء الباردة، على ضوء نار الراقيه، فتتغلغل في أرواحهم الصغيرة، وتزرع بذور الحقد.
لم يكن الثأر مجرد فكرة، بل كان واجبًا مقدسًا، دينً عليهم سداده.
ورأوا في الأرض فرصة لإعادة مجد العائلة، ولإثبات أن جدهم لم يكن مخطئًا.
أما العائلة الأخرى، فقد عاشت في ظل أن عليها التروي لأجل أحفادها، وأن الأخذ بالثأر مرة أخرى لن يجدي نفعا
وإن حاولوا إخفاءها.
كبر أحفادهم وهم يسمعون همسات عن جد ارتكب جريمة، لكنهم أيضًا سمعوا قصصًا عن حقه في الأرض، عن الظلم الذي وقع عليه. كانت الحقيقة ضبابية، مشوشة، لكنهم شعروا بعبء الماضي يلقي بظلاله عليهم.
بعضهم حاول نسيان الأمر، لكن البعض الآخر، خاصة الأقوى
فضل أن يأخذها بهوادة كي لا يصل الأمر إلى الحكومة وتأخذها عنوة لأنها حق مكتسب للدولة وحدها
وما هي إلا أطماع من عائلتين أرادوا أن يرتفعوا أكثر بأمتلاكها.
كانت العائلتان تعيشان في عالمين منفصلين، يفصل بينهما جدار سميك من الكراهية والشك. لم يكن هناك أي تواصل مباشر، فقط نظرات حادة، وكلمات مسمومة تُلقى من بعيد. لكن القدر، أو ربما لعنة الأرض، كان يخطط لجمعهم من جديد، ليس على طاولة الصلح، بل في ساحة صراع جديدة، صراع سيحدد مصير الأرض، ومصير الأجيال القادمة.
❈-❈-❈
لم تجف دموعها وهي مستلقية على الفراش في سكون تام
فقط دموعها التي تتساقط تخبر من يراها بأنها على قيد الحياة
ولما لا وقد جاء والدها ليأخذها عنوة من بيت حبيبها الذي بخل عليها الزمان بأن يتركها هانئة معه فيختطفه الموت من ثنايا روحها
وواصل الزمان بأن يفرض أحكامه عليها إما أن يأخذها والدها أم يحكموا عليهم بأن تتزوج أخيه..
وكلاهما يعد الموت بحد ذاته
خبط الباب ودخل عمها وكبير تلك العائلة العريقة التي تمتاز بحكمتها وترابطها
لكن هناك اشياء أخرى تلغى الحكمة وتظهر قوة لا يستهان بها..
اقترب منها وقلبه النازف على ولده يلتاع حزناً عليها، لكن عليه أن يتحلى بالصمود لأجل تلك العائلة التي تستند عليه رغم مشيبه
اليوم حضر أخيها ليأخذها هي وبناتها ولا احد يلومه على ذلك
فابنته في مقتبل العمر ولن تظل ولن يجوز بقاءها في بيت العائلة إلا بالزواج من أحدهم.
اغمضت ليل عينيها لتنفض باقي الدموع المتعلقة بأهدابها واعتدلت في فراشها عندما سألها وهدان
_كيفك يا غالية؟
اخذت نفس عميق تهدئ به من روعها وتمتمت بعذاب
_كيف ما انت شايف يا عمي، روحي بتنخلع مني واحدة واحدة.
جلس على حافة الفراش بجوارها يتطلع إليها بحزن
_بايدك إنك ترفضي وتفضلي معانا أهنه.
هزت راسها بألم
_ياريته كان ينفع بس مجدراش أكون سبب في تعاست غيري وكمان أجرب الناس ليا.
رد وهدان بحكمة
_بس هي موافجة….
قاطعته ليل بألم
_مجبرة يا عمي مش برضاها، صدجني واني مستحيل أكون سبب في عذابها.
_بس الأمور هي اللي بتحكم يا بنت أخوي، ابوكي وأخوكي دلوجت جاعدين مستنيينك عشان تمشي معاهم واني مش هجدر امانع لإن ده حجهم فالحل في يدك انتِ، يا توافجي تتجوزجي سالم، يا إما هيخدوكي وبنات ولدي يفارجوني.
ارچوكي يا بنتي توافجي.
_يا عمي ربنا وحده اللي يعلم اللي چوايا دلوجت بس لو وافجت أتزوچ سالم زي ما جولتلي هتحملني وزر اني مش جده.
لم يفهم وهدان مقصدها لذا سألها مستفهماً
_وزر ايه يا بنتي اللي بتجولي عليه؟ تجصدي ورد….
_لاه مش ورد، أني أجصد سالم نفسه، بعد عامر الله يرحمه زهدت الدنيا ومش هجبل إن حد تاني يلمسني بعده، ولو وافجت أتجوزسالم هيكون على الورج بس وبكدة هكون بحمل نفسي وزر كبير ربنا هيحاسبني عليه عشان إكدة هوافج ارحل من الدار وأروح أسكن عند أبوي.
تطلع إليها وهدان بتقدير لكنه أيضاً لا يقبل أن تظلم نفسها وهي بذلك السن الصغير فقال باعتراض
_بس يا بنتي انتِ لساتك صغاروجدامك….
قاطعته ليل بإصرار
_جدامي بنتين مطلوب مني اكون أب وأم ليهم غير إكدة لاه.
لم يستطيع وهدان الإعتراض على قرارها لذا وافقها قائلاً
_اللي تشوفيه يا بنتي وانا هتحدت مع سالم ولو جبل جرارك أخليه ياچي بنفسه ويرفع عنك الوزر ده وتعيشي معانا على إنك زوجة سالم بس ده يفضل سر بيناتنا محدش برانا يعرفه فهمتي.
تنهدت ليل باستسلام
_فهمت يا عمي.
خرج وهدان من غرفتها ثم توجه إلى غرفته بعد أن طلب من احد احفاده ان يبعث إليه بسالم دون ان ينتبه أحد.
دلف سالم ليسأل والده بقلق
_خير يا بوي؟
أشار له بالجلوس على الأريكة بجواره
_اجعد يا ولدي واسمعني زين.
جلس سالم وقد ازداد قلقه فقال وهدان
_دلوجت عدة مرات أخوك خلصت وأديك شايف عمك وابنه مصرين ياخدوها وانت خابر إني مجدرش اقعد يوم واحد بعيد عن ولاد عامر، وعشان إكدة أني طالب منك انت تتجوزها.
شعر سالم بالاحراج من والده نعم لقد أخبره عن ذلك القرار من قبل لكنه لم يقبل لأجل زوجته كما إن ليل هي بمثابة أخته الصغرى وأرملة أخيه ورفعت ليل عنه ذلك الحرج فلما يفتح والده معه ذلك الأمر مرة أخرى
_بس انت جولت انها رفضت.
_بس اجنعتها دلوجت يا ولدي ووافجت.
اخفض سالم رأسه لا يجد ما يقوله فتابع وهدان
_بس هي طلبت انه يكون چواز على الورج وخايفة يكون عليها وزر وعشان إكدة جيتلك عشان ترفعه عنيها وتاچي بنفسك معاي تجولها إنك موافج على جرارها وإنك بتعفيها عن حجوجك كزوج لها.
ارتاح سالم بذلك القرار وفي نفس الوقت رفعت من شأنها أمامه لذا رد بثبوت
_واني كمان ببريها من أي حج خلينا نروح دلوجت ونخلص كل حاجة مع عمي تحت.
ربت وهدان على كتف ولده وقال بفخر
_طول عمرك راچل يا سالم وكلمتك سيف يجطع في الحج ميهابوش.
امسك سالم يد والده يقبلها ورد بصدق
_احنا ولاد الحچ وهدان وكيف ما ربانا طلعنا، ربنا يطولنا في عمرك.
دلف وهدان مع ابنه فسأله حمدان أخيه
_اومال فين ليل انا بجالي ساعة مستنيها ومنزلتش ولا ردت عليا.
رد وهدان بتروي
_ليل باجية معانا يا حمدان لإن سالم رافض مرات أخوه وولاده يخرچوا برات دارهم.
تحدث حامد أخيها باندهاش يشوبه بعض الحدة
_كيف ده يا عمي وانت سيد من يفهم في الأصول؟
تطلع حمدان إلى ولده كأشارة منه للصمت فالتزم به حامد دون جدال
تطلع حمدان إلى أخيه وسأله رغم أن الأمر واضح أمامه لكنه أراد أن يسمعها بوضوح
_كيف ده يا أخوي.
_سالم رايد يتچوزها ويربي بنات أخوه في حضنه وهو أولى بيهم يا حمدان.
تطلع إلى سالم يبحث عن اي ضيق او استياء من ذلك القرار لكنه لم يجد سوى رضا منه
فسأله بمغزى
_أفهم من إكدة إن چوازك منيها عن اقتناع يا ولد أخوي ولا ده تقضية واجب لجل ولاد أخوك.
علم سالم بما أراد عمه الوصول إليه ويعلم إن أخبره بحقيقة الأمر سيرفض تلك الزيجة لذا كان عليه أن يكذب رغم صعوبة ذلك لكن انتشله من ذلك صالح أخيه
_لا يا عمي، الدين بيرفض الچواز المشروط وانا خابر زين إن لا أخوي ولا بنت عمي يعملوا إكدة.
لم يصدق حمدان حديثهم لأنه يعلم ابنته جيدًا ويعلم بأنها لن تقبل أن تكون لرجل آخر بعد زوجها عامر لكن إن أرادت ذلك فلتفعل ما تريد
_على خيرة الله
تطلع إلى حامد
_شيع حد يچيب المأذون يا ولدي.
رد وهدان
_اني هبعت حد من الرچالة اللي برة يچيبه.
عسران.
دخل احد الرجال وهو يسرع الخطى
_امرك يا حچ.
_روح بسرعة هات الحچ منصف وخبره أنه هيكون فيه كتب كتاب.
اومأ الرجل بطاعة
_حاضر مسافة الطريج.
❈-❈-❈
بعد انتهاء عقد القران دلف حمدان غرفة ابنته فوجدها جالسة على الأريكة تبكي في سكون
فقط دموع تتساقط بلا توقف.
آلمه قلبه على حالها ويعلم تمام العلم أنها غاضبة منه
لكنها لا تعلم أنه أب وهي ابنته ومدللته التي يخشى عليها من نسمات الهواء
_مش هتجومي ترحبي بأبوكي يا بنت أبوكي؟
مسحت دموعها وأخذت نفس عميق تهدئ به من روعها وتمتمت بعذاب
_البيت بيتك يا يابا.
تقدم ليجلس بجوارها وقال بعتاب
_البيت بيتي كيف وانتِ رافضة تبصيلي حتى.
تنهد بتعب
_يا بنتي انت خابرة زين معزتك عندي وخابرة زين إني مش بجدر اتحمل دمعة منيكي بس كان لازمن أعمل إكدة لإن دي الأصول. مينفعش يا بنتي تعيشي في البيت إكدة صدجيني انتِ اللي هتتعذبي وانتِ شايفة كل واحدة فيهم بتحاجي على چوزها منيكي..
تطلعت إليه بعتاب
_على أساس إن اللي عملته ده مش هيخلي مرات سالم تخاف مني؟
_عشان إكدة طلبت منك تهملي الدار وتعيشي معززة مكرمة في بيت ابوكي وبناتك هيتشالوا على الراس من فوج
_مينفعش يابا لأن عمي روحوا فيهم وهما اللي بيعوضوه عن غياب عامر مينفعش أبدًا أحرمه منيهم، خلاص اني اتجوزت سالم و عمي وعدني انه هيجلتزم بكلمته.
_خلاص يا غالية اللي تشوفيه ووقت ما تحتاچيني من غير ما تنادي هتلاجيني جدامك.
ابتسمت ليل رغم حزنها فربت والدها على كتفها بحنو ثم تركها وخرج
لن يقلق عليها بعد الآن فهي حقًا بين يد أمينة هي وبناتها.
رحل حمدان وولده وتطلع وهدان إلى ابنه الذي ظهر الشرود عليه
ولما لا وقد علمت زوجته وحبيبته الآن أنه خانها وتزوچ غيرها حتى لو كان صورياً
ربت وهدان على كتفه وقال بمغزى
_اطلع يا ولدي ريح حالك بس جبل ما تطلع أكد وعدك عشان تريح وترتاح.
اومأ سالم وانسحب بهدوء من المضيفة التي شاهدت أصعب موقف مر عليه بعد موت أخيه.
ولم يكن حال وهدان افضل من حاله
وهو يرى الدنيا تثقل كاهله يومًا بعد يوم بسبب جرم اقترفه يومًا وأخفاه عن الجميع
فإلى متى سيظل طي الكتمان..
❈-❈-❈
جذبت ليل الغطاء على طفلتيها بعد أن غفوا أخيرًا بعد وصلت نحيب يطالبون فيها بعودة أبيهم
ولصغر سنهم لم يستوعبوا بعد معنى الجنة التي احتوت أبيهم الذي قتل غدرًا
بل أصبحوا يبغضونها لأنها أخذت والدهم منهم ولم يتقبلوا أنها منزلة لا ينولها إلا من يستحقها عن جدارة.
طرق الباب فجذبت ليل حجابها تضعه حول رأسها وذهبت لتفتح الباب فتتفاجئ بسالم ابن عمها وأصبح الآن زوجها يقف قبالتها
لكن كعادته يغض بصره ما ان تظهر أمامه سواء زوجات أخيه أو أي أمرأة لا تحل له.
_كيفك يا مرات أخوي.
اهتزت نظراتها رغم أنه بث الاطمئنان بداخلها بكلمته لكن مجيئه في ذلك الوقت خاصة علمت أن وراءه أمر ما فردت بتلعثم
_بخير يا ابن عمي.
طمئنها سالم أكثر
_أني چاي في كلمتين وماشي وحجك عليا لو كنت جلجتك
رفع عينيه كي يرى وقع كلماته عليها
_انتِ لساتك في المكانة اللي حطيتي نفسك فيها من يوم ما بجيتي مرات أخويا الله يرحمه ومهما حوصل مفيش حاچة هتغير المكانة دي
أني چاي بس ابريكي من أي حجوج إلا حج إني أخوكي الكبير وأبو بناتك
غير إكدة مفيش حاچة اتغيرت
ومن النهاردة مكانتك هتكون أعلى بكتير وراحتك وراحت البنات أهم من راحتنا كلنا
خابر زين ان بناتنا أصيلة وتتاجل بالدهب بس اللي عملتيه ده رفع من شأنك عندينا أكتر.
لم تسعد ليل بذلك الاطراء فتمتمت بارتباك
_اني معملتش حاچة للي بتجوله ده..
قاطعها سالم بثقة
_لأ عملتي ورديتي الروح في أمي وأبويا اللي كانت روحهم متعلجة بولاد عامر اللي لو وفجتي عمي وهملتي الدار بيهم الله اعلم ايه اللي كان ممكن يچرالهم..
تنهد وتابع
_على العموم زي ما جولتلك ان حجي الوحيد عليكي إني أخوكي الكبير ووجت ما حد يمسك بكلمة خبرينى وانا أجيبلك حجك وحج بناتك حتى لو من ولدي نفسه، يلا تصبحي على خير.
أومأت له بصمت وقررت أن تبقى لأجل بناتها.
❈-❈-❈
في غرفة سالم
دلف سالم غرفته فيجدها جالسة على الفراش في سكون تام
هو يعلم جيدًا بأنها تعاني ويلات ما يحدث
فمازالت تظن بأنهم يحملوها ذنب مقتل ابنهم على يد عائلتها
ورغم أن الجميع لم يوجه إليها كلمة واحدة إلا أنها تتوارى منذ مع حدث لا تريد أن تخرج من غرفتها وترى أعين تنظر إليها بعتاب حتى وإن كان مخفيًا..
فكيف لها أن ترفض زواج زوجها من أرملة أخيه الذي قتل على يد عائلتها.
شعر سالم بآلامها ومع ما تعانيه تلك الحبيبة التي حارب الكون لأجلها فتقدم منها ليجلس بجوارها ويتمتم بصوته الرخو عندما اخفضت عينيها
_اهون عليكي تحرميني من الطلة في عنيكي اللي بترد فيا الروح وجت ما بشوفها؟
ظلت على وضعها لا تستطيع النظر إليه ولا إلى عتابه
فمن يعاتب من؟
رفع وجهها إليه بأنامله وأجبارها على النظر بعينيه الحانية
_خابر إنك زعلانة ومضايجة من اللي حوصل بس صدجيني غصبت عنينا…
قاطعته ورد بصوت معذب
_بس اني مليش حج ازعل من حاچة الوضع اللي انتو فيه ده سببه أهلي…..
قاطعها سالم بدوره لكن صوته يحمل حدة حاول تخفيفها
_أهلك هما احنا ملكيش أهل تاني وده اللي جولنا واتفجنا عليه وجت ما هملتيهم ودخلتي دارنا.
حاوط وجهها بكفيه وتابع بلهجة خفت حدتها وحل محلها جدية
_ورد أني مش كل شوية هعيد الكلمتين دول
انتي بجيتي من الرفاعية من وجت ما شوفتك ودخلتي جلبي
والجدر نصفنا واتچوزنا، وانتي خابرة زين إن الكل إهنه بيحبك وبيعتبرك واحدة منينا بلاش انتي تعيشي حالك بعذاب على الفاضي.
هزت راسها بنفي
_بس الضربة المرة دي كانت تجيلة جوي.
رد سالم يهون عليها
_واللي عمل إكدة اخد جزاءه، واخدنا بتارة بالج منانون، صحيح كنا رايدين ناخد تاره بادينا بس الحكومة اللي لحجته منينا وفي الاخر نصفتنا وبردت نارنا.
قطع حديثه عندما وجدها تخفض جفنيها وقد فهمت من كلامه بأن أخيها تم الحكم عليه
لم يجد الكلمات التي يخفف بها عنها وخاصة عندما وجدها تحاول كبت دموعها
لذا أخفى وجهها في صدره وكأنه بذلك يسمح لها بالبكاء
لن يلومها فتلك الدماء التي تجري بأوردتها مهما حاولت لن تصير ماء
فتركها تبكي على صدره تلتمس منه العزاء
فتظل طوال الليل تبكي حزناً وقهرًا على أنها لن تستطيع حتى أخذ عزاه..
❈-❈-❈
في الصباح الباكر
مازالت تلك الدموع تتساقط دون هوادة وظلت ساهدة طوال الليل تجابه تلك الرغبة بأن تراه وتودعه قبل أن يحتضنه التراب.
تعلم بأن ما تنوي فعله لن يمر مرور الكرام لكن ماذا تفعل بقلبها الذي يئن ألمًا ويطالب برؤية ووداع أخيها
رفعت عينيها لتنظر إلى سالم الذي غفى أخيرًا بعد أن ظل طوال الليل يخفف عنها
ابتسمت بحزن لذلك العوض الجميل والذي لم يحزنها يومًا بل ظل طوال فترة زواجهم يتفنن في إسعادها.
تسللت بروية من بين ذراعيه واخرجت وشاحها الأسود وأخفت به وجهها قبل أن تخرج من الغرفة وتغلق الباب بهدوء كي لا يشعر بها ذلك الذي ظنته نائمًا ولم يشعر بها.
❈-❈-❈
في منزل فايد التهامي
كان الصمت للرجال هو سيد الموقف عندما تقدمت السيارة من بوابة المنزل الكبير وقد أصطف الرجال على الجانبين إلا من ذلك الذي يقف أمام البوابة الداخلية
ينظر إلى تقدم السيارة حتى توقفت أمامه
لم يحرك ساكناً وانتظر تقدم أولاده عندما انفتح الباب الخلفي للسيارة وقاموا بحمل ذلك النعش الذي قسم قلبه نصفين لكنه ظل ثابتًا
مسيطرًا على وضعه عندما تقدم أولاده بالنعش واقفين به أمامه
توقفت عيناه على الذي احتوى جسد ابنه فيشرب من نفس الكأس الذي سقاه لغيره من قبل
وتساءل
هل انقسم قلبه لنصفين كما انقسم قلبه هو؟
هل انشق صدره بلا رأفة كما حدث معه الآن؟
هل تحجرت الدموع بعينيه كما تحجرت بعينه هو حتى تكاد تصيبه بالعمى؟
هل ظل ثابتًا متظاهرًا بالقوة أم رأف حاله به وترك لنفسه ولدموعه العنان؟
لم تعد تلك العصاه تتحمل ثقله وخذلته حينما كادت تهوى به على الأرض لولا يد ابنه
_اجمد يابا انت كبير التهامية وكبير التهامية ميجعش واصل.
بأعين واجمة تطلع فايد إلى إبنه فرآى فيهما إصرار يعرفه جيدًا
فقد عاشه يومًا في مقتبل عمره
لكن وقتها لم يكن يملك ما يخشى عليه
لكن الان لديه الكثير
ولن يواصل تلك المعركة الخاسرة لأجلهم.
سمح ليد ابنه أن تأخذه للداخل وخلفه ابنه المحمول على أكتاف رجال العائلة
بدأ النواح من نسوة العائلة ولم يستطيع أحد من الرجال ردعهم
صرخات وآلام
وحقد أيضًا يلتهم ذلك القلب القاسي والذي لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً
كانت الشمس حارقة، لكن البرودة كانت تسري في عروق ذلك الصغير الذي لم يتعد عمره عشرة أعوام.
كان يقف وسط جمع غفير من الرجال الذين ارتدوا السواد، وجوههم متجهمة كصخور الجبل، وهمساتهم كحفيف أوراق الشجر اليابسة.
كان الحقد يلتهم كل القلوب القاسية التي لا تعرف الرحمة إلى قلبها سبيلاً.
وفي المقابل، كانت هناك عيون بريئة، عيون جاسر الصغيرة، التي لا تعرف سبباً لكل ذلك سوى أن أباه قد مات.
مات بعد غياب استمر لأربعة أشهر، غياب قيل له فيه إن والده في رحلة عمل طويلة. كلما سأل عنه، كان يجيبه عمه صخر بأن والده "سقط في جحر الثعالب".
وعندما سأل جدته عن معنى ذلك، كانت تخبره بصوت مرتعش بأن "جحر الثعالب" هو سكن "الرفاعية".
اليوم، عاد والده لكنه لم يعد ماشياً على قدميه، بل عاد محمولاً في صندوق خشبي مغلق.
تقدم ذلك الصغير بخطوات مترددة من ذلك النعش، قلبه الصغير يخفق برعب وفضول. أراد أن يرى والده، أن يتأكد أنه هو لكن الصندوق كان مغلقاً بإحكام.
_ رايد تشوف أبوك؟
جاء الصوت من خلفه، صوت يعرفه جيداً ويهابه أكثر من أي شيء. صوت عمه صخر اهتزت نظرات جاسر حينما مال عليه صخر، وتابع بصوته الذي يشبه فحيح الأفعى، وهو يضع يده الثقيلة على كتفه الصغير:
_ شوفه زين... لأنها آخر مرة هتشوفه فيها.
أشار صخر لأحد الرجال، فتقدم وفتح الغطاء عن النعش ببطء.
حبس جاسر أنفاسه كان والده مستلقياً بالداخل، وجهه شاحب ومائل للزرقة، وعيناه مغلقتان كأنه نائم، لكنه نوم لا استيقاظ بعده.
لم يكن هناك أثر لجرح أو دم، لكن هالة الموت كانت تحيط به.
مال صخر أكثر، وأصبحت همساته السامة تنفث مباشرة في أذن الصغير
_ الرفاعية حرموك منيه، وحرموه منك. وهو كانت أمنية حياته يشوفك بتكبر جدام عنيه.
هما اللي قتلوه يا جاسر خدوه من وسطينا، وحكموا عليه بالموت، ورموه في السجن زي الكلاب، وفي الآخر... عدموه.
كانت كلمة "عدموه" ثقيلة ومرعبة، لم يفهم جاسر معناها بالكامل، لكنه فهم أنها تعني أنهم أخذوا حياة والده عمداً.
أكمل "صخر" بنفس النبرة الحاقدة
_ ملي عينيك منيه زين اشبع من شوفته جبل ما يهملك ويهملنا كلنا ويروح تحت التراب شوف عشان الصورة دي متفارجش خيالك أبداً. شوف عشان لما تكبر، تاخد بتار أبوك من كل واحد فيهم، من كبيرهم لصغيرهم.
كان جاسر ينظر إلى وجه أبيه الهادئ، ثم إلى وجه عمه الملتوي بالحقد، وعقله الصغير يحاول أن يستوعب.
وقال بصوت طفولي مرتعش.
_ بس... بس أبوي مبيقتلش حد.
ضحك "صخر" ضحكة قصيرة خالية من المرح.
_ أبوك كان راجل يا جاسر والرجالة بتدافع عن شرفها هما اللي استفزوه، هما اللي قتلوا جدك قبله، وأبوك خد بتاره. بس هما حكومتهم قوية، وقدروا ياخدوه بالحيلة والجانون الظالم بتاعهم.
هما اللي بدأوا، وإحنا اللي لازم ننهي.
وضع صخر يده تحت ذقن جاسر ورفع وجهه ليجبره على النظر إليه.
_ من النهاردة، مفيش لعب، مفيش صحاب، مفيش طفولة من النهاردة، إنت الراجل اللي هياخد بتار "التهامية". هتتعلم تمسك السلاح، وهتتعلم تبقى جاسي، وهتتعلم إن قلبك ده لازم يبقى حجر.
الرفاعية لازم يدفعوا التمن. ووعد عليا لخليك إنت اللي تاخد التمن ده بإيدك.
نظر جاسر مرة أخرى إلى جثة والده، ثم إلى عيني عمه المشتعلتين. في تلك اللحظة، مات شيء بداخل الطفل. ماتت البراءة، ومات الخوف، وحل محلهما بذرة سوداء من الكراهية، بذرة زرعها صخر بمهارة، ورواها بكلماته السامة.
لقد فهم جاسر درسه الأول في مدرسة الحياة القاسية. فهم أن العالم ليس مكاناً للضعفاء، وأن العدالة لا تأتي، بل تُنتزع.
وفي ذلك اليوم، أمام نعش والده، أقسم قسماً صامتاً، قسم طفل لا يفهم أبعاد كلماته، لكنه يشعر بثقلها.
أقسم أن يكبر، وأن يصبح قوياً، وأن يجعل "الرفاعية" يندمون على اليوم الذي ولدوا فيه.
❈-❈-❈
اهتزت نظراتها وتلعثمت خطواتها عندما اقتربت من منزل عائلتها، ذلك الحصن الذي تركته مرغمة منذ اثني عشر عاماً. كل حجر فيه، كل شجرة في حديقته، كل نافذة مغلقة، كانت تحمل ذكرى وتنبض بحياة قديمة.
كانت تعود إليه اليوم ليس كا إبنة، بل كغريبة، كشبح أتى من الماضي ليشارك في عزاء، ليلقي نظرة وداع أخيرة على أخيها.
دلفت من البوابة الخلفية الحديدية التي أصدرت صريراً خافتاً كأنها تتذكرها وتئن لعودتها.
توارت عن الأنظار، وسارت بمحاذاة الجدران، وقلبها يخفق بعنف مع كل خطوة.
كان المنزل يعج بالنساء اللواتي ارتدين السواد، أصوات بكائهن ونواحهن المكتوم تختلط مع تلاوة القرآن القادمة من مضيفة الرجال.
استطاعت أن تختبئ بين تلك الجموع، وجهها مغطى بطرحتها السوداء، عيناها تبحثان عن وجه واحد فقط بين كل هذه الوجوه الحزينة.
وجدتها.
كانت تجلس في قلب دائرة النحيب، على الأرض، امرأة قد حفر الزمن والتعب خطوطه على وجهها، وهدّ الحزن كاهلها.
كانت تلك المرأة التي تندب على رأسها بخفة، وتنوح بكلمات غير مفهومة، همهمات ألم كأنها تنعي مصابها وتسترجع كل مصائب عمرها في هذه الجلسة. كانت والدتها.
شَعرت ورد بحنين جارف يأخذها إليها، رغبة ملحة بأن تخترق كل هذه الحشود وتلقي بنفسها داخل أحضانها الدافئة، تلك الأحضان التي كانت ملجأها وأمانها.
أرادت أن تعوض ذلك الفقد الذي لازمها طوال اثني عشر عاماً من الغربة والوحشة.
تقدمت منها بخطوات بطيئة، كأنها تسير في حلم. تجاوزت النساء الجالسات، ولم يلتفت إليها أحد، فكلٌ غارق في حزنه. جلست أسفل قدمي والدتها، وضعت رأسها على ركبتيها، ودموعها التي حبستها طويلاً انهمرت أخيراً من عينيها، دموع اشتياق وحزن وندم. لم تستطع أن تنطق سوى بكلمة واحدة، كلمة كانت تختصر كل حكايتها.
_ أمّاي...
كانت الكلمة كهمسة، لكنها اخترقت ضجيج النواح ووصلت إلى قلب الأم. توقفت المرأة عن النحيب فجأة، وتجمد جسدها.
لقد فارقها هذا الصوت منذ أعوام، لكنه ظل محفوراً في ذاكرتها، في أحلامها، وفي كوابيسها.
رفعت رأسها ببطء شديد، بتردد دام للحظات بدت كأنها دهر. كل ثانية من هذا التردد كانت تنعش الأمل في قلب ورد. "ستعرفني، ستحتضنني، ستغفر لي".
لكن الأمل لم يدم طويلاً.
التقت الأعين. عيون الابنة المليئة بالدموع والرجاء، وعيون الأم التي كانت جافة وقاسية كصخرة.
تطلعت الأم إلى وجه ابنتها في وجوم تام، وجوم جليدي أخمد كل دفء في قلب ورد لم تكن نظرة شوق، ولا حتى نظرة عتاب.
كانت نظرة غريبة، باردة، تحمل اتهاماً صامتاً.
ثم، تحركت شفتاها، وقالت من بين أسنانها، بصوت حاد كشفرة سكين:
_ ليكي عين تاچي إهنه يا فاچرة؟
سقطت الكلمة على ورد كالصاعقة. "فاجرة". لم تكن تتوقع العتاب، اللوم، حتى الضرب.
لكن هذه الكلمة... هذه الكلمة جردتها من كل شيء. تجمعت العبرات في عينيها مرة أخرى، لكنها هذه المرة كانت عبرات انكسار وخذلان. تمتمت بصوت مبحوح، متشبثة بآخر خيط من الأمل:
_ أمّاي... أنا وردة... بنتك.
نظرت إليها الأم نظرة أخيرة مليئة بالقسوة والازدراء، ثم أشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى، وعادت إلى نواحها، لكن هذه المرة بصوت أعلى، كأنها لم تعد تنعي ابنها الميت فقط، بل أصبحت تنعي ابنتها التي عادت من الموت لتدنس حزنها، وتذكرها بعارها الذي لم يمت.
لم تيأس ورد ولامست يد والدتها لكنها
نهرتها وهي تدفعها من أمامها
_ متجوليش أماي أني مليش بنات، امشي غوري من اهنه.
اعتدلت ورد وتطلعت إليها برجاء
_لجل خاطر ربنا ياأما خليني اشوف أخوي.
اندفعت والدتها لتجذبها من ملابسها وتصيح بها
_أخوكي ده اللي مات على يد ولاد الرفاعية اللي رميتي نفسك في حضنهم، امشي من إهنه مش عايزة اشوف وشك.
جذبتها للخارج بقسوة ولم تبالي برجاء ابنتها برؤية أخيها حتى وصلت بها للباب الخلفي فتلقي بها وهي تقول بهدر
_روحي عند الرفاعية اللي جتلوا أخوكي واتذلي ليهم غوري يلا.
سقطت ورد على الأرض وهي تتألم من تلك السقطة والإهانة التي شعرت بها أمام نساء العائلة
وكل واحدة منهم تتهامس مع الأخرى
لملمت شتات أمرها ونهضت وهي تشعر بألم حاد في قدمها اليسرى.
_في إيه ياأماي؟ ايه الدوشة دي؟
اتسعت عين ورد بصدمة كبيرة عندما سمعت صوته مما جعل قلبها يهدر بعنف عندما وجه نظره إليها
كما حال والدتها الجمته الصدمة للحظات لكنها لم تأمل منه شيء
فقد أقسم يومًا إن رآها هنا سيقوم بقتلها دون أن يرف جفنه
هل جاء ذلك اليوم أم أن للقدر رأيٌ آخر..
يتبع