رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 15 - جـ 2 - الأحد 31/8/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الخامس عشر
الحزء الثاني
تم النشر الأحد
31/8/2025
أجبرتها بلطفها وإصرارها على تناول بضع ملاعق من الحساء الساخن، الذي بدأ يعيد الدفء إلى جسدها البارد.
_أحب بقى أعرفك بنفسي أنا زينة، بنت عم جاسر متجوزة وعايشة مع أهل جوزي، ومخلفة ولدين.
كانت زينة تتحدث كي تشغلها عن التفكير، وتجعلها تتناول طعامها دون أن تشعر.
قالت أم جاسر.
_اسمها زينة، وهي زينة أول ما جاسر خبرها، جات مع جوزها طوالي.
_معقول يا مرات عمي أتأخر عن مرات جاسر؟ أنتِ خابرة غلاوته عندي، وأكيد مرته هتكون بنفس غلاوته.
سخرت نغم في نفسها من مدحها لذلك الحاقد، وكأنها تتحدث عن شخص آخر، شخص لم يظلم ولم يقهر.
عندما لاحظت زينة نظرة الحزن العميقة في عيني نغم، أشفق قلبها عليها، فهي تعلم جيدًا مدى قسوة ابن عمها عندما يريد.
أبعدت نغم الملعقة بعيدًا وهي تقول.
_خلاص... شبعت مش قادرة تاني.
قالت أم جاسر.
_أنتِ مكلتيش حاجة يا بنتي.
ردت نغم بإرهاق.
_صدقيني، شبعت.
حملت زينة الصينية وهي تنهض، قائلة.
_خلاص معلش يا نغم، مضطرة أروح دلوقت عشان الولاد نايمين لوحدهم، ومردتش أصحي حماتي وأقلقها.
_كتر خيرك يا بنيتي، تعبناكي.
حملت زينة حقيبتها.
_لو احتاجتوني، كلموني على طول أول ما المحلول يخلص، اعملي زي ما قولتلك يا مرت عمي.
نظرت لنغم.
_المحلول ده هيخليكي تنامي، والصبح إن شاء الله هتكوني كويسة بعد إذنكم.
جذبت أم جاسر الغطاء على نغم، وقالت بحنان أمومي حقيقي.
_نامي دلوجت، والصبح هتكوني زينة.
شعرت نغم بالألفة معها، ألفة لم تكن تتوقعها، قبل أن تغمض عينيها، قالت برجاء طفولي.
_خليكي جنبي... متسيبنيش.
ربتت أم جاسر على يدها بحنان.
_أني چنبك يا بتي، متخافيش.
خرجت زينة من الغرفة، فتفاجأت بشروق تقف في الرواق، تنتظرها كصقر يتربص بفريسته وفور رؤيتها، سألتها بحدة.
_خير؟ مالها الهانم؟
تنهدت زينة، وقالت بهدوء.
_واحدة ودي ليلة دخلتها، تفتكري هيكون إيه؟
قطبت شروق جبينها بصدمة، وعيناها اتسعتا.
_تجصدي إيه؟
_أقصد اللي فهمتيه يظهر إن جاسر اتسرع شوية عن إذنك، أسلم على أمي قبل ما أمشي.
ذهبت زينة، وتركت شروق تنظر إلى باب الغرفة المغلق بسخط وحقد لقد وعدها والدها بأن تكون هي الأولى، بأن تكون هي زوجة جاسر لكن هذه اللعينة هذه الغريبة، سبقتها إليه، وسرقت منها كل شيء في ليلة واحدة شعرت بالنار تشتعل في صدرها، وأقسمت في سرها أن حياة هذه الوافدة الجديدة ستكون جحيم.
.......
_يعني لولا الهانم دي، مكنتيش جيتي شوفتي أمك.
قالتها الأم بامتعاض، فاقتربت زينة منها وجلست بجانبها، ثم قبلت يدها بابتسامة دافئة.
_غصب عني والله يا أمه أنتِ عارفة البيت والولاد، وكمان العيادة اللي فتحتها جديد حقيقي مبقاش عندي وقت خالص راسي دي هتنفجر من كتر التفكير.
نظرت إليها الأم بجانب عينيها، نظرة لم تخلُ من الشك ولكنها بدأت تلين أمام حنان ابنتها.
_ماشي، هصدجك المرة دي بس كنتي جبتي الولاد معاكي وبيتي وحشوني جوي.
نهضت زينة وهي تعدل من ملابسها.
_خليها مرة تانية، أكون فاضية لهم خالص أمشي أنا بقى عشان الولاد لوحدهم ووليد زمانه زهق.
خرجت زينة مع زوجها وليد وجاسر من باب المنزل الرئيسي
كان وليد رجلاً هادئ الطباع، يحترم زوجته ويقدر حكمتها تقدم نحو السيارة ليقوم بتشغيلها وتدفئتها في برد الليل، بينما وقفت زينة للحظات عند أعلى الدرج، بجوار جاسر
كان يقف كانه مجرد خيال أسود صامت، يراقب رحيلهم
لم تتردد، بل توجهت نحوه مباشرة، ووقفت أمامه.
_جاسر...
لم تكن نبرتها تحمل لومًا، بل عتابًا عميقًا، عتاب من تعرفه جيدًا وتخشى عليه من نفسه.
قاطعها بصوته البارد الحاسم، قبل أن تنطق بأي كلمة أخرى كان يعلم تمامًا ما تود قوله
_وفري أي حديت هتجوليه ملوش عازة أني واعي للي بعمله.
لكن زينة لم تكن كأي شخص آخر لم ترتعب من نبرته، بل ثبتت نظراتها في عينيه، وقالت بثقة هادئة كانت أقوى من أي صراخ.
_أنت مش واعي أنت غرقان
غرقان في تار قديم بيحرق فيك قبل ما يحرق فيهم أنت بتعاقب روح بريئة على ذنب معملتهوش، وفاكر إن ده انتصار.
تغيرت ملامح جاسر قليلًا، وظهرت ومضة خطيرة في عينيه من جرأتها لكنها تابعت دون خوف لأنها. تعلم معزتها في قلبه مهما أخفى ذلك
_البنت اللي فوق دي، شفت في عينيها حاجة انكسرت والكسر ده لو معلمش فيك أنت، يبقى قلبك خلاص مات ياريت بكرة متندمش على اللي بتعمله دلوقت
الندم لما بيجي متأخر بيكون أقسى من أي انتقام.
لم تنتظر منه ردًا استدارت بهدوء، ونزلت الدرج بخطوات ثابتة، واستقلت السيارة بجوار زوجها الذي كان يراقب المشهد الصامت عن بعد انطلقت السيارة، وهي تدعو في سرها أن ينجي الله نغم من جحيم ابن عمها، وأن ينجي ابن عمها من جحيمه الشخصي.
أما هو، فلم يتحرك من مكانه. ظلت كلماتها تتردد في أذنيه.
"أنت غرقان"
"قلبك خلاص مات"
"الندم".
لم يصعد إلى غرفته لم يستطع
لم يكن يخشى مواجهتها، بل كان يخشى مواجهة الصمت الذي سيجمعه بها في غرفة واحدة الصمت الذي سيجبره على سماع صوت أنفاسها، ورؤية ضعفها، وربما... الشعور بشيء لا يريد أن يشعر به.
استدار، وعاد إلى مكتبه المظلم أغلق الباب خلفه، واستلقى بكامل ملابسه على الأريكة الجلدية الباردة للمرة الثانية
أغمض عينيه، لكن صورة وجهها الشاحب وعينيها المطفأتين كانت محفورة خلف جفونه، ترفض أن تتركه بسلام.
ليس تعاطف أو لوم بل ليس هذا ما سعى إليه
يريد قوة يسيطر عليها وليس ذلك الضعف الذي يراه.
❈-❈-❈
في الصباح الباكر، تسللت خيوط الشمس الأولى إلى الغرفة، لتجد نغم تغط في نوم عميق بفعل المحلول كانت أم جاسر لا تزال بجانبها، لم تفارقها طوال الليل، تمسك بيدها وكأنها تحاول أن تنقل إليها بعضًا من الأمان الذي سُلب منها.
فتح جاسر باب الغرفة بهدوء، كانت ملامحه متجهمة كالعادة، لكن عينيه اتجهتا فورًا نحو السرير.
رأى والدته تجلس بجانب نغم، ورأى وجه نغم الشاحب الذي بدا أكثر هدوءًا وطفولة في نومها.
شعر بوخزة غريبة في صدره، مزيج من الذنب والمسؤولية، لكنه سرعان ما طرد هذا الشعور، مذكرًا نفسه بأن كل ما يفعله ضروري.
قال بصوت خافت حتى لا يوقظها.
_صباح الخير يا أمي.
رفعت والدته رأسها، وبدا الإرهاق واضحًا على وجهها.
نظرت إليه بعتاب صامت.
_صباح النور يا ولدي، محتاچ حاچة اعملهالك؟
هز جاسر رأسه بالنفي، ثم تقدم نحو السرير ووقف بالقرب منها، يتأملها من بعيد.
_زينة جالت إيه؟
_جالت ضغطها كان واطي من قلة الأكل والخوف، اديتها محلول ومقويات، بس يا جاسر...
ترددت ونس، ثم أكملت بحزم وحنان _البنت دي أمانة في رجبتك دلوجت، اللي بتعمله ده مش هيرضي ربنا ولا حد واصل.
نظر إليها جاسر بحدة خفيفة.
_أني واعي للي بعمله يا أمي ومحدش يجولي اعمل ايه.
قالت الأم بصوت خافت كي لا تستيقظ
_والبنت دي ذنبها إيه في حربكم؟
دي لحم ودم، وليها إحساس هتكسرها يا ولدي، ولو اتكسر هتخسرها.
لم يرد جاسر، بل استدار واخرج ملابس له من الخزانة ثم قال بفتور
_أني مسافر مصر دلوجت عندي قضية هخلصها واحتمال مرچعش النهاردة
مش هوصيكي عينك تكون عليها.
تنهدت بقلة حيلة
_توصل بالسلامة يا ولدي.
دلف المرحاض كي يبدل ملابسه
تاركًا كلمات والدته تتردد في أذنيه، لكنه كان قد قطع شوطًا طويلاً في طريق الانتقام، ولم يكن يعرف كيف يعود.
❈-❈-❈
استيقظ أكمل من نومه وهو يشعر براحة عجيبة
لا يشعر بها إلا في ذلك المنزل
منزل جده.
نهض بتثاقل وكم كان يود النوم أكثر لكن عليه أن ينهض لأجل جده الذي من المؤكد بأنه لم يتناول فطوره حتى الآن.
دلف المرحاض وابدل ملابسه ثم نزل ليجد جده جالساً في بهو المنزل ينتظره.
المنزل الكبير والبراح المريح لكنه كان يحمل صمتًا ثقيلًا، صمت الوحدة.
_صباحك كله خير يا جدي.
_صباح النور يا ولدي، ها نومت زين
قبّل أكمل يد جده، ثم جلس على الأريكة بجواره.
_كويس جداً انا قومت بمعجزه.
صب الجد كوبين من القهوة الذي كان يعدها لنفسه، وقدم أحدهما لحفيده.
_لسة متعود تشرب الجهوة جبل ما تفطر؟
أخذ الفنجان من يده
_هو انا جبته من برة، ما انا طالع زيك بحب القهوة قبل الفطار
ضحك قاسم
_واني النهاردة وصيت على فطار ملوكي هيعچبك جوي.
حسان.
دلف رجل في عقده الأربعيني يتقدم منه
_خير يا حچ.
_خلي چماعتك يچيبوا الفطار.
اوما الرجل ودلف للمطبخ كي يطلب من زوجته أن تقوم بتحضير السفرة
أما اكمل فسأل جده
_عامل ايه يا جدي؟
_هعمل ايه يا ولدي النهار طويل، والليل أطول.
بقضيه بين الأخبار والذكريات.
ثم صمت للحظة، ونظر إلى حفيده نظرة عميقة.
_بس أنت وشك فيه كلام رايد تجوله.
تنهد أكمل.
جده يقرأه دائمًا ككتاب مفتوح لكنه أراد أن يلاوع
_لا أبدًا مفيش بس مالك... صاحبي كان يوم صعب أوي عليه.
_عشان بنت عمه؟
سأل الجد بحكمة العارفين وتابع
_الحب وجعه واعر يا ولدي، بتمنى له يلاقي اللي يونس وحدته.
الوحدة دي... كربة، بتنهش في الروح جبل الجسد.
ساعات بجوم بالليل على صوت الكحة بتاعتي، وأبص حواليا، ملاجيش حد أجوله اديني كوباية مية، أفتح التلفزيون عشان أسمع صوت بني آدمين، بس بيفضل البيت فاضي.
نظر أكمل إلى جده، وشعر بقلبه ينقبض رأى في عينيه خوفًا لم يره من قبل، فقام بفتح الأمر معه
_يا جدي... أنا قولتلك ميت مرة سيبك من البيت ده وتعالى عيش معانا في القاهرة.
شقتنا كبيرة، وأوضتك هتبقى جاهزة، وأمي وأبويا هيفرحوا بيك، وأنا هبقى معاك.
ابتسم الجد ابتسامة باهتة وحزينة. _القاهرة؟ أعمل إيه في القاهرة يا أكمل؟ أنا عامل زي الشجرة العجوزة دي اللي في الچنينة، لو شلتني من أرضي، أموت .
هنا صحابي اللي فاضلين بنتقابل على المصطبة، وهنا الجامع اللي بصلي فيه من وأنا عيل، وهنا جبر جدتك اللي لازم أعدي عليه كل يوم أقرالها الفاتحة.
هناك هبجى سجين بين أربع حيطان، هبص من الشباك أشوف عمارات خرسانة بدل الزرع.
قال أكمل برجاء.
_بس هنا أنت لوحدك يا جدي
أنا بخاف عليك.
تنهد الجد تنهيدة طويلة، ووضع كوب القهوة جانباً.
_وأنا بخاف أموت لوحدي يا ولدي بخاف يجي أجلي ومحدش يحس بيا غير بعد أيام.
ده الخوف الوحيد اللي فاضلي في الدنيا.
مد يده المرتجفة وربت على قدم أكمل.
_بس ده قدري وأنا راضي بيه كفاية عليا إنك بتاجي تزورني كل ما تنزل البلد.
شوفتك دي بترد فيا الروح، وبتخليني أقدر أستحمل الوحدة كام شهر كمان.
نظر أكمل في عيني جده، ورأى عنادًا وحبًا للأرض لا يمكن كسره.
أدرك أنه لن يستطيع إقناعه أبدًا.
كل ما يمكنه فعله هو أن يكون هنا كلما استطاع، وأن يدعو الله ألا يتحقق خوف جده الأكبر أبدًا.
❈-❈-❈
اخترقت أشعة الشمس الحارقة زجاج السيارة، لتوقظ مالك من غفوته المتقطعة.
فتح عينيه ببطء، وشعر بألم حاد في رقبته وظهره من أثر النوم في وضعية غير مريحة.
للحظة، لم يدرك أين هو.
كل ما حوله كان حقول قصب صامتة، والسيارة التي أصبحت كفرن صغير تحت شمس الصباح.
ثم كالطوفان، عادت إليه ذكريات الليلة الماضية.
صوت المأذون، وهروبه إلى هذا المكان الموحش.
شعر بثقل الحقيقة يهبط على صدره من جديد، ثقل لم يخففه النوم، بل زادته قسوة الصباح وضوحًا.
مسح وجهه بيديه، وشعر بالخشونة الخفيفة لذقنه التي لم يحلقها، وبالإرهاق الذي استقر في كل خلية من جسده.
كان يشعر بالخواء، كأنه نسخة باهتة من نفسه.
في تلك اللحظة، انطلق صوت رنين حاد كسر الصمت، جاعلاً إياه ينتفض في مكانه.
كان هاتفه الذي ألقاه على المقعد المجاور يهتز بعنف.
نظر إلى الشاشة، فرأى اسم "أكمل" يضيء عليها.
تردد للحظة، لم يكن يريد التحدث إلى أي شخص.
كان يريد أن يظل في عزلته، في شرنقته من الألم.
لكنه يعلم أن أكمل لن يتركه، وأن قلقه حقيقي.
تنهد بعمق، وضغط على زر الرد بصوت أجش وبالكاد مسموع.
_...ألو.
جاء صوت أكمل قلقًا وسريعًا من الطرف الآخر.
مالك أنت فين يا ابني؟ قلقتني عليك رنيت عليك ميت مرة من بالليل ومبتردش.
أغمض مالك عينيه، مستندًا برأسه إلى مسند المقعد.
_أنا زين يا أكمل متجلجش.
رد أكمل بحدة.
_كويس إزاى وأنت مش في بيتك؟
ابوك لسة مكلمني وبيسأل عليك بيكلمك على الرقم اللي معاه غير متاح
أنت فين بالظبط؟
نظر مالك حوله إلى الحقول الممتدة. _في أي حتة؟!... مش عارف.
طريج زراعي جديم وخلاص.
صمت أكمل للحظة، وقد فهم كل شيء من نبرة صوت صديقه الفارغة.
خفف من حدة صوته، وتحدث بنبرة أكثر هدوءًا ودعمًا.
_طيب... اسمعني اللي حصل امبارح حصل، ومحدش يقدر يغيره.
بس النهاردة يوم جديد، وأنت لازم تقوم على رجلك مش هينفع تفضل حابس نفسك كده.
_أقوم أعمل إيه؟ مش قادر أمثل اكتر من إكدة.
قال أكمل بحزم.
_محدش طلب منك تمثل.
بس طلب منك تكون راجل زي ما أنت طول عمرك.
جدك في البيت سأل عليك، وأبوك وأمك زمانهم قلقانين.
حياتك مش هتقف عشان قلبك اتوجع.
الوجع ده بتاعك أنت لوحدك، محدش هيشيله عنك، بس العالم اللي بره لازم يمشي، وأنت لازم تمشي معاه.
تنهد مالك، وشعر بأن كلمات أكمل رغم قسوتها، هي الحقيقة التي يحتاجها.
_عايز مني إيه يا أكمل؟
_عايزك تدور العربية دي دلوقت، وترجع على بيتك
خد دش، وغير هدومك، وحاول تاكل أي حاجة وبعدها... روح لجدك الراجل الكبير ده محتاج يشوفك، وأنت محتاج تشوف حد بيحبك بجد ومبيطلبش منك غير إنك تكون بخير تقدر تعمل ده؟
صمت مالك طويلاً، يفكر في كلمات صديقه الذهاب إلى جدة... الفكرة بدت كمرساة في بحر هائج.
مكان هادئ، وحب غير مشروط، بعيدًا عن مسرحية الفرح والتهاني.
_ماشي.
قالها أخيرًا بصوت خافت.
ماشي يا أكمل هروح له.
_تمام طمني لما توصل.
أنهى أكمل المكالمة، وترك مالك مع الصمت مرة أخرى لكن هذه المرة، كان الصمت أقل وطأة وضع الهاتف جانبًا، وأدار مفتاح التشغيل.
زأر محرك السيارة، معلنًا عن نهاية ليلته الطويلة
قاد السيارة ببطء عائدًا من عزلته، ليس لأنه شُفي، بل لأنه أدرك أن أول خطوة للنجاة هي أن تجبر نفسك على الاستمرار في السير، حتى لو كانت قدماك تنزفان.
❈-❈-❈
استيقظت نغم على صوت همسات خافتة خارج باب غرفتها.
فتحت عينيها بتثاقل، وشعرت بأن جسدها أقل وهنًا من الأمس.
المحلول الذي أعطته لها زينة فعل فعله.
التفتت بجانبها، فلم تجد أم جاسر وشعرت بوخزة من الخيبة والوحدة تعود لتغزوها.
نهضت من السرير ببطء، واتجهت نحو الباب الذي كان مواربًا قليلاً.
ترددت للحظة، ثم دفعتها رغبة قوية لمعرفة ما يدور في هذا المنزل الغريب من خلال الفتحة الضيقة، رأت شروق تتحدث مع أم جاسر، في رواق الطابق العلوي.
_وبعدين يا مرت عمي يعني هتفضلي حابسة نفسك معاها في الأوضة أكدة.
قالت شروق بنبرة لا تخلو من الغيرة والامتعاض.
_سيبيها، هي مش عيلة صغيرة ولا تكونش عملت عليكي حبتين صعبت عليكي؟
ردت أم جاسر بحزم هادئ
_عيب يا شروق البنت تعبانة وبعدين دي مرات ولدى، وواجب اراعيها دي مبجاش لها حد غيرنا دلوجت.
ضحكت شروق بسخرية.
_ملهاش حد كيف وأهلها عايشين وبيعملولها فرح النهاردة... جصدي بيعملوا فرح بنت عمها، هما بس اللي فهموا إنها متستاهلش، وسابوها للي يستاهلها.
شعرت نغم وكأن صفعة جليدية قد أصابت وجهها.
سابوها للي يستاهلها.
كانت الكلمات قاسية وحادة، وتكشف عن مدى الكراهية التي تكنها لها شروق.
لم تكن مجرد غيرة، بل حقد دفين.
قالت أم جاسر بحدة
_اخرسي يا شروق ولمي لسانك.
جولتلك نغم مرات ولدى غصبت عنيكى وعن أي حدا.
مكانتها محفوظة، واللي هيفكر يمسها بكلمة، كأنه بيمسني أنا.
ازدادت الغيرة بقلب شروق
_ومالك بتتحمجي عليها إكدة، ما هو اني كمان هبجى مرات ابنك.
تراجعت نغم من أمام الباب قبل أن يتم اكتشافها، وعادت إلى السرير وقلبها يخفق بقوة.
لقد أدركت الآن أن معركتها في هذا المنزل لن تكون مع جاسر وحده
هناك أعداء آخرون يتربصون بها في الظل، ينتظرون أي فرصة للانقضاض عليها
لكن كلمات أم جاسر الأخيرة، رغم قسوة الموقف، منحتها بصيصًا ضئيلاً من الدعم في هذا المحيط المعادي.
❈-❈-❈
في مكان آخر، في منزل الرفاعي، كان الصباح مختلفًا تمامًا
كان المنزل يعج بالاستعدادات للفرح كانت الزينة تُعلّق، والطعام يُعد، لكن الأجواء كانت مشحونة بالتوتر.
لم تكن هناك فرحة حقيقية، بل مجرد تمثيلية متقنة للحفاظ على المظاهر.
في غرفتها، كانت وعد تجلس أمام المرآة، ترتدي فستان زفاف لم يكن لها.
كانت الفتاة التي ستصفف شعرها وتضع لها الزينة تعمل في صمت، تشعر بالجو المشحون.
كانت وعد تنظر إلى انعكاسها، لكنها لم ترَ نفسها.
رأت وجهًا شاحبًا، وعينين فارغتين، وروحًا مسلوبة الإرادة.
طرقت ورد الباب ودخلت، تحمل في يدها كوبًا من العصير.
_وعد ... لازم تشربي حاجة هتتعبي إكده يابتى.
نظرت وعد إلى والدتها عبر المرآة، وابتسمت ابتسامة باهتة ومكسورة.
_أني زينة يما متجلجيش
جلست ورد بجانبها، وأمسكت بيدها الباردة لتقول بحنان
_مش ده كان حلمك برضك، ايه اللي كسر فرحتك إكدة.
ابتسمت وعد بمرارة
_ مش بالطريجة دي ياما، كان نفسي في يكون باقتناع مش ضغط.
صمتت الاثنان، تتشاركان حزنًا وعجزًا واحدًا.
أما في غرفة روح
فقد ظهر الحزن جاليا على وجهها منذ أن تحدثت مع أختها
محاولات كثيرة للاتصال بها لكن دائمًا مغلق.
كسرت فرحتها وفرحة والدتها بهما وهي جالسة جانبا لا تستطيع حتى التظاهر بالفرح
وفي الخارج، بدأت أصوات الموسيقى تتعالى، معلنةً بدء مراسم الفرح الذي كان في حقيقته مأتمًا لقلبين؛ قلب نغم الوحيد في بيت عدوها، وقلب وعد الذي سيُزف إلى رجل لا يحبها، ثمنًا لكرامة زائفة.
يتبع